غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم مَّتَٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَيۡرَ إِخۡرَاجٖۚ فَإِنۡ خَرَجۡنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِي مَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعۡرُوفٖۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (240)

238

الحكم الثامن عشر : عدة الوفاة بوجه آخر { والذين يتوفون منكم } الآية . من قرأ { وصية } بالرفع ف { وصية } مبتدأ وخبره { لأزواجهم } وجاز وقوع النكرة مبتدأ لتخصيصه بما تخصص منهم وصية ، أو وصية الذين يتوفون وصية ، أو الذين يتوفون أهل وصية إلى الحول ، وكل هذه الوجوه جائز حسن . ومن قرأ بالنصب فعلى تقدير فليوصوا وصية أو يوصون وصية مثل " أنت سير البريد " أي أنت تسير سير البريد أو ألزم الذين يتوفون منكم وصية متاعاً نصب على المصدر على معنى فليوصوا لهن وصية وليمتعوهن متاعاً . والتقدير : جعل الله لهن ذلك متاعاً لأن ما قبله من الكلام يدل عليه ، أو نصب على الحال ، أو نصب بالوصية و{ غير إخراج } نصب على المصدر المؤكد كقولك " هذا القول غير ما تقول " أو بدل من { متاعاً } أو حال من الأزواج أي غير مخرجات . والمعنى أن حق الذين يتوفون منكم عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعده حولاً كاملاً أي ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن . وأكثر المفسرين على أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله { أربعة أشهر وعشراً } [ البقرة : 234 ] أو نسخ ما زاد منه على هذا المقدار بالإرث الذي هو الربع والثمن لقوله صلى الله عليه وسلم " ألا لا وصية لوارث " وعن علي عليه السلام وابن عمر أن لها النفقة وإن كانت حائلاً . وأما السكنى فعند أبي حنيفة وأصحابه لا سكنى لهن وهو قول علي وابن عباس وعائشة ، واختاره المزني قياساً على النفقة في مقابلة التمكين ولا تمكين . وأما السكنى فلتحصين الماء وهو موجود ، وعند الشافعي لهن ذلك على الأظهر وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وأم سلمة ، ووافقه مالك والثوري وأحمد . وبناء الخلاف على خبر فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قالت : فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي ما أنزلني بمنزل يملكه فقال : نعم . فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد أو في الحجرة دعاني فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله . فحمل بعضهم الأمر الثاني على النسخ وآخرون على الاستحباب . وعن مجاهد أنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشراً وإن اختارت السكنى في داره والأخذ من ماله وتركته فعدتها الحول . قال : وإنما نزلنا الآية على هذين التقديرين لتكون كل واحدة منهما معمولاً بها . وعن أبي مسلم : إنكم تضيفون الوصية إلى حكم الله تعالى فيلزمكم القول بالنسخ ، ونحن نضيف الحكم إلى الزوج حتى يصير معنى الآية : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وقد وصوا وصية لأزواجهم بالنفقة والسكنى حولاً . فهذا المجموع شرط وجوابه فإن خرجن - أي قبل ذلك - وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى { فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف } أي نكاح صحيح ، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة . والسبب فيه أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولاً ، وكانوا يوجبون على المرأة الاعتداد بالحول ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب . ويؤكده ما روت زينب بنت أبي سلمة قالت : سمعت أمي أم سلمة تقول : " جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول : لا . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول " .

قال حميد : فقلت لزينب : وما ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ فقالت : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً أي بيتاً صغيراً ، ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيباً حتى يمر بها سنة ، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتقتض به . قال مالك : أي تمسح به جلدها فقلما تقتض بشيء إلا مات ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد بما شاءت من طيب أو غيره ، فلا جناح عليكم يا أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من التزين والإقدام على النكاح . ومن قطع نفقتهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول ومن ترك منعهن من الخروج لأن مقامها حولاً في بيت زوجها ليس بواجب عليها . وإنما قال ههنا { من معروف } منكراً لأن المراد بوجه من الوجوه التي لهن أن يأتينه . وأما في الآية السابقة فإنه أراد بالوجه المعروف من الشرع . ويمكن أن يقال : إن تلك الآية متأخرة في النزول عن هذه بإجماع المفسرين فلهذا نكر أولاً ، ثم عرف لأن النكرة إذا تكررت صارت معرفة قال سبحانه : { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } [ المزمل : 16 ] .