اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم مَّتَٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَيۡرَ إِخۡرَاجٖۚ فَإِنۡ خَرَجۡنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِي مَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعۡرُوفٖۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (240)

قرأ ابن كثير ، ونافع{[3984]} ، والكسائي ، وأبو بكرٍ ، عن عاصم : " وَصِيَّةٌ " بالرفع والباقون : بالنصب . وفي رفع { الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ } ثمانية أوجهٍ ، خمسةٌ منها على قراءة من رفع " وَصِيَّةً " ، وثلاثةٌ على قراءة من نصب " وصيةٌ " ؛ فأوّل الخمسة ، أنه مبتدأ ، و " وَصِيَّةٌ " مبتدأ ثانٍ ، وسوَّغ الابتداء بها كونها موصوفة تقديراً ؛ إذ التقدير : " وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ " أو " مِنْهُمْ " ؛ على حسب الخلاف فيها : أهي واجبةٌ من الله تعالى ، أو مندوبةٌ للأزواج ؟ و " لأَزْوَاجِهِمْ " خبر المبتدأ الثاني ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول ، وفي هذه الجملة ضمير الأول ، وهذه نظير قولهم : " السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ " تقديره : " مَنَوَانِ مِنْهُ " ، وجعل ابن عطية المسوِّغ للابتداء بها كونها في موضع تخصيص ؛ قال : " كما حَسُنَ أَنْ يرتفع : " سَلاَمٌ عَلَيْكَ " و " خَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ " ؛ لأنها موضع دعاءٍ " قال شهاب الدين : وفيه نظرٌ .

الثاني : أن تكون " وَصِيَّةٌ " مبتدأ ، و " لأَزْوَاجِهِمْ " صفتها ، والخبر محذوفٌ ، تقديره : فعليهم وصيةٌ لأزواجهم ، والجملة خبر الأوَّل .

الثالث : أنها مرفوعة بفعل محذوفٍ ، تقديره : كتب عليهم وصيَّةٌ و " لأَزْوَاجِهِمْ " صفةٌ ، والجملة خبر الأول أيضاً ؛ ويؤيِّد هذا قراءة عبد الله : " كُتِبَ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ " وهذا من تفسير المعنى ، لا الإعراب ؛ إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل .

الرابع : أن " الَّذِينَ " مبتدأٌ ، على حذف مضافٍ من الأول ، تقديره : ووصيَّةُ الذين .

الخامس : أنه كذلك إلا أنه على حذف مضافٍ من الثاني ، تقديره : " وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أَهْلُ وَصيَّةٍ " ذكر هذين الوجهين الزمخشريُّ ، قال أبو حيان : " ولا ضرورة تدعونا إلى ذلك " .

فهذه الخمسة الأولى التي على رفع " وَصِيَّةٌ " . وأمَّا الثلاثة التي على قراءة النصب في " وَصِيَّةٌ " :

فأحدها : أنه فاعل فعل محذوفٍ ، تقديره : وليوص الذين ، ويكون نصب " وَصِيَّةٌ " على المصدر .

الثاني : أنه مرفوع بفعل مبني للمفعول يتعدَّى لاثنين ، تقديره : " وأُلْزِمَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ " ويكون نصب " وَصِيَّةً " على أنها مفعولٌ ثانٍ ل " أُلْزِمَ " ، ذكره الزمخشريُّ ، وهو والذي قبله ضعيفان ؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل .

الثالث : أنه مبتدأٌ ، وخبره محذوف ، وهو الناصب لوصية ، تقديره : والذين يتوفون يوصون وصيَّة ، وقدره ابن عطية : " لِيُوصُوا " و " وَصِيَّةً " منصوبةٌ على المصدر أيضاً ، وفي حرف عبد الله : " الوَصِيَّةُ " رفعاً بالابتداء ، والخبر الجارُّ بعدها ، أو مضمرٌ أي : فعليهم الوصية ، والجارُّ بعدها حالٌ ، أو خبرٌ ثانٍ ، أو بيانٌ .

قوله تعالى : " مَتَاعاً " في نصبه سبعة أوجهٍ :

أحدها : أنَّه منصوبٌ بلفظ " وَصِيَّة " لأنها مصدرٌ منونٌ ، ولا يضرُّ تأنيثها بالتاء ؛ لبنائها عليها ؛ فهي كقوله : [ الطويل ]

فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ *** عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ{[3985]}

والأصل : وصية بمتاع ، ثم حذف حرف الجرِّ ، اتساعاً ، فنصب ما بعده ، وهذا إذا لم تجعل " الوصيَّة " منصوبةٌ على المصدر ؛ لأن المصدر المؤكَّد لا يعمل ، وإنما يجيء ذلك حال رفعها ، أو نصبها على المفعول ؛ كما تقدَّم تفصيله .

والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ ، إمَّا من لفظه ، أي : متِّعوهنَّ متاعاً ، أي : تمتيعاً ، أو من غير لفظه ، أي : جعل الله لهنَّ متاعاً .

الثالث : أنه صفةٌ لوصية .

الرابع : أنه بدل منها .

الخامس : أنه منصوبٌ بما نصبها ، أي : يوصون متاعاً ، فهو مصدر أيضاً على غير الصدر ؛ ك " قَعَدْتُ جُلُوساً " ، هذا فيمن نصب " وَصِيَّةً " .

السادس : أنه حالٌ من الموصين : أي ممتَّعين أو ذوي متاعٍ .

السابع : أنه حالٌ من أزواجهم ، [ أي ] : ممتَّعاتٍ أو ذوات متاعٍ ، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانت الوصية من الأزواج .

وقرأ أُبيٌّ : " مَتَاعٌ لأَزْوَاجِهِمْ " بدل " وَصِيَّةٌ " ، وروي عنه " فَمَتَاعٌ " ، ودخول الفاء في خبر الموصول ؛ لشبهه بالشرط ، وينتصب " مَتَاعاً " في هاتين الروايتين على المصدر بهذا المصدر ، فإنه بمعنى التمتيع ؛ نحو : " يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ لَكَ ضَرْباً شَدِيداً " ، ونظيره : { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء :63 ] ، و " إِلَى الحَوْلِ " متعلِّقٌ ب " مَتَاع " أو بمحذوفٍ ؛ على أنه صفة له .

قوله تعالى : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } في نصبه ستة أوجهٍ :

أحدها : أنه نعتٌ ل " مَتَاعاً " .

الثاني : أنه بدلٌ منه .

الثالث : أنه حالٌ من الزوجات ، أي : غير مخرجات .

الرابع : أنه حالٌ من الموصين ، أي : غير مخرجين .

الخامس : أنه منصوب على المصدر ، تقديره : لا إخراجاً ، قاله الأخش{[3986]} .

السادس : أنه على حذف حرف الجرِّ ، تقديره : من غير إخراجٍ ، قاله أبو البقاء{[3987]} ، قال شهاب الدين : وفيه نظر .

فصل في المراد بقوله " غير إخراج "

معنى قوله : " غَيْرَ إِخْرَاجٍ " أي : ليس لأولياء الميِّت ووارثي المنزل ؛ إخراجها ، " فَإِنْ خَرَجْنَ " أي : باختيارهن قبل الحول { فلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُم } ، أي : لا حرج على وليِّ أحدٍ وُلِّيَ ، أو حاكم ، أو غيره ؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولاً .

وقيل : لا جناح في قطع النّفقة عنهن ، أو لا جناح عليهنَّ في التشرُّف إلى الأزواج ، إذ قد انقطعت عنهنَّ مراقبتكم أيُّها الورثة ، ثم عليها أنها لا تتزوج قبل انقضاء العدَّة بالحول أو لا جناح في تزويجهنَّ بعد انقضاء العدّة ، لأنه قال : " بالمَعْرُوفِ " ، وهو ما يوافق الشرع .

و { اللهُ عَزِيزٌ } صفةٌ تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحدَّ في هذه النازلة ، في إخراج المرأة ، وهي لا تريد الخروج " حَكِيمٌ " ، أي مُحْكِمٌ لما يريد من أمور عباده والله أعلم .

قوله : { فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبر " لا " وهو " عَلَيْكُمْ " من الاستقرار ، والتقدير : لا جناح مستقرٌّ عليكم فيما فعلن في أنفسهنَّ ، و " مَا " موصولةٌ اسميةٌ ، والعائد محذوف ، تقديره : فعلنه ، و " مِنْ مَعْرُوفٍ " متعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنه حالٌ من ذلك العائد المحذوف ، وتقديره : فيما فعلنه كائناً من معروفٍ .

وجاء في هذه الآية " مِن مَّعْرُوفٍ " نكرةً مجرورةً ب " مِنْ " ، وفي الآية قبلها " بِالمَعْرُوفِ " معرَّفاً مجروراً بالباء ؛ لأنَّ هذه لام العهد ؛ كقولك : " رَأَيْتُ رَجُلاً فَأَكْرَمْتُ الرَّجُلَ " إلاَّ أنَّ هذه ، وإن كانت متأخِّرةً في اللفظ ، فهي متقدِّمة في التنزيل ، ولذلك جعلها العلماء منسوخةً بها ، إلا عند شذوذٍ ، وتقدَّم نظائر هذه الجمل ، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيها .

فصل في سبب النزول

في هذه الآية ثلاثة أقوالٍ :

الأول : وهو اختيار جمهور المفسرين أنها منسوخةٌ ، قالوا : نزلت الآية في رجل من أهل الطائف ، يقال له : حكيم بن الحرث ، هاجر إلى المدينة ، وله أولاد ، ومعه أبواه وامرأته ، فمات ، فأنزل الله هذه الآية ؛ فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم والديه ، وأولاده ميراثه ، ولم يعط امرأته شيئاً ، وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً كاملاً{[3988]} ، وكانت عدَّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً ، كاملاً ، وكانت عدَّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً ، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول ، وكان نفقتها وسكناها واجبةً في مال زوجها تلك السَّنة ، ما لم يخرج ، ولم يكن لها الميراث ، فإن خرجت من بيت زوجها ، سقطت نفقتها ، وكان على الرجل أن يوصي بها ، فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث ، فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالرُّبع ، والثُّمن ، ونسخ عدَّة الحول ب { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } .

قال ابن الخطيب : دلَّت هذه الآية على وجوب أمرين :

أحدهما : وجوب النفقة ، والسُّكنى من مال الزَّوج ، سواءٌ قراءة " وَصِيَّةٌ ووصِيَّةً " بالرفع ، أو بالنصب .

والثاني : وجوب الاعتداد ، ثم نسخ الله تعالى هذين الحكمين ، أمّا الوصية بالنفقة ، والسكنى ، فلثبوت ميراثها بالقرآن ، والسنة ، دلَّت على أنَّه لا وصيَّة لوارثٍ ، فصار مجموع القرآن والسنَّة ناسخاً لوجوب الوصيَّة لها بالنفقة والسكنى في الحول .

أمَّا وجوب العدة في الحول ، فنسخ بقوله : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة :234 ] .

القول الثاني : وهو قول مجاهد : أنَّ الله تعالى أنزل في عدَّة المتوفى عنها زوجها آيتين :

إحداهما : قوله { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ آية :234 ] ، والأخرى هذه الآية ؛ فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين ، فنقول : إنَّها إن لم تختر السُّكنى في دار زوجها ، والأخذ من ماله ، وتركته ؛ فعدَّتها هي الحول ، قال ابن الخطيب : وتنزيل{[3989]} الآيتين على هذين التَّقديرين أولى ؛ حتى يكون كل منهما معمولاً به ، والجمع بين الدَّليلين ، والعمل بهما أولى من اطراح أحدهما ، والعمل بالآخر .

القول الثالث : قال أبو مسلم الأصفهاني{[3990]} : معنى الآية : أنَّ من يتوفَّى منكم ، ويذرون أزواجاً ، وقد وصّوا وصيَّة لأزواجهم ، بنفقة الحول ، وسكنى الحول ، فإن خرجن قبل ذلك ، وخالفن وصيَّة أزواجهنَّ ، بعد أن يقمن أربعة أشهرٍ وعشراً ؛ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروفٍ ، أي : نكاحٌ صحيحٌ ؛ لأن إقامتهنَّ بهذه الوصيَّة غير لازمة .

قال{[3991]} : والسَّبب : أنَّهم كانوا في الجاهليَّة يوصون بالنَّفقة ، والسُّكنى حولاً كاملاً ، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أنَّ ذلك غير واجبٍ ، وعلى هذا التَّقدير ، فالنَّسخ زائلٌ ، واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ :

أحدها : أنَّ النَّسخ خلاف الأصل ؛ فوجب المصير إلى عدمه ، بقدر الإمكان .

الثاني : أنَّ النَّاسخ يكون متأخِّراً عن المنسوخ في النُّزول ، وإذا كان متأخِّراً عنه في النُّزول ، يجب أن يكون متأخِّراً عنه في التِّلاوة ، وهو إن كان جائزاً في الجملة إلاَّ أنَّ قولنا يعدّ من سوء التَّرتيب ، وتنزيه كلام الله واجبٌ بقدر الإمكان ، ولمَّا كانت هذه الآية متأخِّرةً عن تلك في التِّلاوة ؛ كان الأولى ألاّ يحكم بكونها منسوخةً بتلك .

الثالث : أنَّه ثبت عند الأصوليِّين متى وقع التَّعارض بين التَّخصيص ، والنَّسخ ، كان النَّسخ أولى ، وهاهنا إن خصَّصنا هاتين الآيتين بحالتين على ما هو قول مجاهد ؛ اندفع النَّسخ ، فكان قول مجاهد أولى من التزام النَّسخ من غير دليلٍ ، وأمَّا على قول أبي مسلم ، فيكون أظهر ؛ لأنكم تقولون : تقدير الآية : فعليهم وصيَّةٌ لأزواجهم ، أو تقديرها : فليوصوا وصيَّةً ، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى ، وأبو مسلم يقول : بل تقدير الآية : والذين يتوفون منكم ، ولهم وصيَّةٌ لأزواجهم ، أو تقديرها : وقد أوصوا وصيَّةً لأزواجهم فهو يضيف هذا الكلام إلى الزَّوج ، وإذا كان لا بدَّ من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضمارنا ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكره أبو مسلمٍ ؛ لم يلزم تطرُّق النَّسخ إلى الآية ، فيكون أولى .

وإذا ثبت هذا فنقول : الآية من أولها إلى آخرها ، تكون جملةً واحدةً شرطيَّةً ، فالشَّرط هو قوله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فهذا كلُّه شرطٌ والجزاء هو قوله : { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } فهذا تقرير قول أبي مسلمٍ .

قال ابن الخطيب{[3992]} : وهو في غاية الصِّحَّة ، وعلى تقدير باقي المفسِّرين ، فالمعنى : والذين يتوفَّون منك أيُّها الرِّجال ، ويذرون زوجاتٍ فليوصوا وصيَّةٌ ، وكتب عليكم الوصيَّة بأن تمتِّعوهنَّ متاعاً ، أي : نفقة سنةٍ لطعامها ، وكسوتها ، وسكناها ، غير مخرجين لهن ، فإن خرجن من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة ، فلا جناح عليكم يا أولياء الميِّت ، فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف ، يعني : التَّزين للنِّكاح ، ولرفع الجناح عن الرِّجال ، وجهان :

أحدهما : لا جناح عليكم في ترك منعهنّ من الخروج ؛ لأنَّ مقامها في بيت زوجها حولاً ، غير واجبٍ عليها ، فخيَّرها الله تعالى بين : أن تقيم حولاً ، ولها النَّفقة والسُّكنى ، وبين أن تخرج إلى أن نسخت بأربعة أشهر وعشراً .

فإن قيل : إن الله تعالى ذكر الوفاة ، ثم أمرنا بالوصيَّة ، فكيف يوصي المتوفى ؟ !

فالجواب أنَّ معناه : والذين يقاربون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا ، فجعل المقاربة للوفاة عبارة عنها .

وقيل : إنّ هذه الوصيّة يجوز أن تكون مضافةً إلى الله تعالى ، بمعنى : " أمره ، وتكليفه " ، كأنَّه قيل : وصيّة من الله لأزواجهم ، كقوله : { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء :11 ] .

فصل

المعتدَّة من فرقة الوفاة ، لا نفقة لها ، ولا كسوة حاملاً كانت ، أو حائلاً .

وروي عن عليٍّ ، وابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ لها النَّفقة إذا كانت حاملاً{[3993]} ، وعن جابر ، وابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنهما قالا : لا نفقة لها ، حسبها الميراث ، وهل تستحقُّ السُّكنى ؟ قال عليٌّ ، وابن عباس ، وعائشة - رضي الله عنهم - : لا تستحقُّ السُّكنى ، وهذا مذهب أبي حنيفة والمزنيّ .

وقال عمر ، وابن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وأمُّ سلمة : إنها تستحقُّ السُّكنى ، وبه قال مالك ، والثَّوريُّ ، وأحمد .

واحتجَّ كلٌّ من الطائفتين بخبر فريعة بنت مالك ، أخت أبي سعيدٍ الخدريِّ ، قتل زوجها ؛ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّي أرجع إلى أهلي ، فإنَّ زوجي ما تركني في منزل يملكه ؛ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " نَعَمْ " ، فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد ، أو في الحجرة دعاني فقال : " امْكُثِي في بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ " {[3994]} ، فاختلفوا في تنزيل هذا الحديث .

فقيل : لم يوجب في الابتداء ، ثمَّ أوجب ؛ فصار الأوَّل منسوخاً .

وقيل : أمرها بالمكث في بيتها أجراً على سبيل الاستحباب ، لا على سبيل الوجوب .

واحتجَّ المزنيُّ على أنَّه لا سكنى لها فقال : أجمعنا على أنَّه لا نفقة لها ؛ لأنَّ الملك انقطع بالموت ، فكذلك السُّكنى بدليل : أنهم أجمعوا على أنَّ من وجب له نفقةً ، وسكنى عن ولد ووالد على رجلٍ ؛ فمات ؛ انقطعت نفقتهم ، وسكناهم ؛ لأنّ ماله صار ملكاً للوارث ، فكذا هاهنا .

وأجيب بأنَّه لا يمكن قياس السُّكنى على النفقة ؛ لأنَّ المطلقة ثلاثاً تستحقُّ السُّكنى بكلِّ حالٍ ، ولا تستحقُّ النَّفقة لنفسها عند المزنيّ . ولأن النَّفقة وجبت في مقابلة التَّمكين من الاستمتاع ، ولا يمكن هاهنا ، وأمَّا السُّكنى وجبت لتحصين النساء ، وهو موجودٌ هاهنا فافترقا .


[3984]:- انظر: حجة القراءات 138، والحجة 2/341، وشرح الطيبة 4/106، وشرح شعلة 292، والعنوان 74، وإتحاف فضلاء البشر 1/442.
[3985]:- تقدم برقم 1116.
[3986]:- ينظر: معاني القرآن للأخفش 178.
[3987]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/101.
[3988]:- أخرجه إسحاق بن راهويه في "تفسيره" عن مقاتل بن حيان كما في "الدر المنثور" (1/550).
[3989]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/135.
[3990]:- ينظر: المصدر السابق.
[3991]:- ينظر: المصدر السابق.
[3992]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/135.
[3993]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/135.
[3994]:- أخرجه مالك في "الموطأ" (2/591) رقم (87) وأبو داود (2300) والترمذي (1/227) والنسائي (2/113) وابن ماجه (2031) وأحمد (6/370، 420-421) وابن أبي شيبة (5/184) والدارمي (2/ 168)، والشافعي (1704) والبيهقي (7/ 434). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.