الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم مَّتَٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَيۡرَ إِخۡرَاجٖۚ فَإِنۡ خَرَجۡنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِي مَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعۡرُوفٖۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (240)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ } فيه ثمانية أوجهٍ ، أحدُها : أنه مبتدأ ، و " وصيةًٌ " مبتدأٌ ثانٍ ، وسَوَّغَ الابتداءَ بها كونُها موصوفةً تقديراً ، إذ التقديرُ : " وصيةٌ من الله " أو " منهم " على حَسَبِ الخلافِ فيها : أهي واجبةٌ من الله أو مندوبةٌ للأزواج ؟ و " لأزواجِهم " خبرُ المبتدأ الثاني فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، والمبتدأُ الثاني وخبرُهُ خبرُ الأولِ . وفي هذه الجملةِ ضميرُ الأولِ . وهذه نظيرُ قولِهِم : " السمنُ مَنَوانِ بدرهمٍ " تقديرُهُ : مَنَوانِ منه ، وجَعَلَ ابنُ عطية المسوِّغَ للابتداء بها كونَها في موضِعِ تخصيصٍ . قال : " كما حَسُنَ أَنْ يرتفعَ : " سلامٌ عليك " و " خيرٌ بين يديك " لأنها موضعُ دعاءٍ " وفيه نظرٌ .

والثاني : أن تكونَ " وصيةٌ " مبتدأٌ ، و " لأزواجِهم " صفتَها ، والخبرُ محذوفٌ ، تقديرُهُ : فعليهم وصيةٌ لأزواجِهم ، والجملةُ خبرُ الأول .

والثالث : أنها مرفوعةٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : كُتِبَ عليهم وصيةٌ ، و " لأزواجهم " صفةٌ ، والجملةُ خبرُ الأولِ أيضاً . ويؤيِّد هذا قراءةُ عبدِ الله : " كُتِبَ عليهم وصيةٌ " وهذا من تفسيرِ المعنى لا الإِعرابِ ، إذ ليس هذا من المواضعِ التي يُضْمَرُ فيها الفعْلُ .

الرابع : " أن " الذينَ " مبتدأٌ على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ تقديرُهُ : ووصيةُ الذين .

والخامسُ : أنه كذلك إلا أنه على حَذْفِ مضاف من الثاني : تقديرُهُ : " والذين يُتَوَفَّوْنَ أهلُ وصية " ذكر هذين الوجهين الزمخشري . قال الشيخ : " ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك " .

وهذه الأوجُهُ الخمسةُ فيمنَ رَفَع " وصيةٌ " ، وهم ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، والباقونَ يَنْصِبُونها ، وارتفاعُ " الذين " على قراءتهم فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه فاعلُ فعلٍ محذوفٍ تقديرُهُ : وَلْيُوصِ الذين ، ويكون نصبُ " وصية " على المصدر . والثاني : أنه مرفوعٌ بفعلٍ مبني للمفعولِ يتعدَّى لاثنين ، تقديرُه : وأُلْزِم الذين يُتَوَفَّوْنَ/ ويكونُ نصبُ " وصية " على أنها مفعولٌ ثانٍ لألْزِمَ ، ذكره الزمخشري . وهو والذي قبلَه ضعيفان ؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل . والثالث : أنه مبتدأٌ وخبرُهُ محذوفٌ ، وهو الناصبُ لوصية تقديرُهُ : والذين يُتَوَفَّوْنَ يُوصُون وصيةً ، وقَدَّرَهُ ابنُ عطية : " لِيوصوا " ، و " وصيةً " منصوبةٌ على المصدرِ أيضاً . وفي حرفِ عبد الله : " الوصيةُ " رفعاً بالابتداء والخبرُ الجارُّ بعدها ، أو مضمرٌ أي : فعليهم الوصيةُ : والجارُّ بعدَها حالٌ أو خبرٌ ثانٍ أو بيان .

قوله : { مَّتَاعاً } في نصبِهِ سبعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه منصوبٌ بلفظِ " وصية " لأنها مصدرٌ منونٌ ، ولا يَضُرُّ تأنيثُها بالتاءِ لبنائِها عليها ، فهي كقولِهِ :

فلولا رجاءُ النصر مِنْكَ ورهبةٌ *** عقابَك قد كانوا لنا كالموارِدِ

والأصلُ : وصيةٌ بمتاعٍ ، ثم حُذِفَ حرفُ الجَرِّ اتساعاً ، فَنُصِبَ ما بعدَه ، وهذا إذا لم تَجْعَلِ " الوصية " منصوبةً على المصدرِ ، لأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ ، وإنما يجيء ذلك حالَ رفعِها أو نصبِها على المفعولِ كما تقدَّم تفصيلْهُ .

والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ : إمَّا من لفظِهِ أي : مَتِّعوهن متاعاً أي : تمتيعاً ، أو من غير لفظهِ أي : جَعَل اللَّهُ لهنَّ متاعاً . والثالث : أنه صفةٌ لوصيةٍ ، والرابع : أنه بدلٌ منها . الخامس : أنه منصوبٌ بما نصبَها أي : يُوصُون متاعاً ، فهو مصدرٌ أيضاً على غير الصدر ك " قَعَدْتُ جُلوساً " ، هذا فيمن نَصَبَ " وصية . السادس : أنه حالٌ من الموصين : أي مُمَتَّعين أو ذوي مَتاعٍ . السابع : أنه حالٌ من أزواجهم ، أي : ممتعاتٍ أو ذواتِ متاع ، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانتِ الوصيةُ من الأزواج .

وقرأ أُبَيّ : " متاعٌ لأزواجِهِم " بدلَ " وصيةٌ " ، ورُوي عنه " فمتاعٌ " ، ودخولُ الفاءِ في خبرِ الموصولِ لشبهِهِ بالشرطِ ، وينتصِبُ " متاعاً " في هاتين الروايتين على المصدرِ بهذا المصدر ، فإنه بمعنى التمتيع ، نحو : " يعجبني ضربٌ لك زيداً ضرباً شديداً " ونظيرُه : { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] و " إلى الحَوْلِ " متعلِّقٌ ب " مَتاع " أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ له .

قوله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } في نصبِهِ ستةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه نعتٌ ل " متاعاً " . الثاني : أنه بدلٌ منه . الثالث : أنه حالٌ من الزوجات أي : غيرَ مخرجاتٍ . الرابع : أنه حالٌ من الموصين ، أي : غيرَ مُخْرَجين . الخامس : أنه منصوب على المصدر تقديرُهُ : لا إخراجاً قاله الأخفش . السادس : أنه على حذفِ حرفِ الجرِّ ، تقديرُهُ : مِنْ غيرِ إخراجٍ ، قاله أبو البقاء ، وفيه نظر .

قوله : { فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبرُ " لا " وهو " عليكم " من الاستقرارِ ، والتقديرُ : لا جُنَاح مستقرٌّ عليكم فيما فَعَلْنَ في أنفسِهِنَّ . و " ما " موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ تقديرُهُ : فَعَلْنَهُ . و " مِنْ معروف " متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من ذلك العائِد المحذوفِ تقديرُهُ . فيما فَعَلْنَه كائناً من معروف .

وجاء في هذه الآية " من معروفٍ " نكرةً مجرورةٌ ب " مِنْ " ، وفي الآيةِ قبلها " بالمعروفِ " مُعَرَّفاً مجروراً بالباء لأنَّ هذه لامُ العهدِ ، كقولك : " رأيتُ رجلاً فأكرمْتُ الرجلَ " إلاَّ أنَّ هذه وإنْ كانت متأخرةً في اللفظ فهي مُقَدَّمةٌ في التنزيل ، ولذلك جَعَلَها العلماء منسوخةً بها إلا عند شذوذ . وتقدَّم نظائر هذه الجملِ ، فلا حاجة إلى إعادةِ الكلامِ فيها .