الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم مَّتَٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَيۡرَ إِخۡرَاجٖۚ فَإِنۡ خَرَجۡنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِي مَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعۡرُوفٖۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (240)

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } يا معشر الرجال { وَيَذَرُونَ } ويتركون { أَزْوَاجاً } زوجات .

قال الكسائي : أكثر ما تقول العرب للمرأة زوجة ، ولكن في القرآن زوج { وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ } قرأ الحسن وأبو عمرو وأبو عامر والأعمش وحمزة ( وصيّة ) بالنصب على معنى فليوصوا وصية ، وقرأ الباقون بالرفع على معنى كُتب عليهم الوصية ، وقيل : معناه لأزواجهم وصية ، وقيل : ولتكن وصية ، ودليل هذه القراءة قراءة عبد الله : كُتبت عليهم وصية لأزواجهم .

وقرأ أُبي : ويذرون أزواجاً متاع لأزواجهم ، قال أبو عبيد : ومع هذا رأينا هذا المعنى كلّها في القرآن رفعاً مثل قوله { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } ، { فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ } ونحوهما . { مَّتَاعاً } نصب على المصدر أي متّعوهنّ متاعاً ، وقيل : جعل الله عزّ وجلّ ذلك لهنّ متاعاً ، وقيل : نصب على الحال ، وقيل : نصب بالوصية كقوله { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً } [ البلد : 14-15 ] . والمتاع : النفقة سنة لطعامها وكسوتها أو سكناها أو ما تحتاج إليه { إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } نصب على الحال ، وقيل : بنزع حرف الصفة أي من غير إخراج .

فأما تفسير الآية وحكمها ، فقال ابن عباس وسائر المفسرين : نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف يقال له : حكيم بن الحرث هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته فمات ، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط امرأته غير أنّه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا ، وذلك أن الرجل كان إذا مات وترك امرأة اعتدّت سنة في بيت زوجها لا تخرج ، فإذا كان الحول خرجت ورمت كلباً ببعرة تعني بذلك أن قعودها بعد زوجها أهون عليها من بعرة رُمي بها كلب ، وقد ذكر ذلك الشعراء في شعرهم ، قال لبيد :

والمرملات إذا تطاول عامها

وكان سكناها ونفقتها واجبة في مال زوجها هذه السنة ما لم تخرج ، وكان ذلك حظّها من تركة زوجها ، ولم يكن لها الميراث ، وإنْ خرجت من بيت زوجها فلا نفقة لها ، وكان الرجل يوصي بذلك ، وكان كذلك حتى نزلت آية المواريث فنسخ الله نفقة الحول بالربع والثمن ، ونسخ عدة الحول بقوله { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } قال الله تعالى { فَإِنْ خَرَجْنَ } يعني من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } يا أولياء الميت { فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } يعني التشوق للنكاح ، وفي معنى رفع الجناح عن الرجال بفعل النساء وجهان :

أحدهما : لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهنّ إذا خرجن قبل انقضاء الحول .

والوجه الآخر : لا جناح عليكم في ترك منعهنّ من الخروج لأن مقامها حولا في بيت زوجها غير واجب عليها ، خيّرها الله في ذلك إلى أن نسخت أربعة أشهر وعشراً ، لأن ذلك لو كان واجباً عليها ما كان على أولياء الزوج منعها من ذلك ، فرفع الله الجناح عنهم وعنها ، وأباح لها الخروج إن شاءت ، ثم نسخ النفقة بالميراث ، ومقام السنة بأربعة أشهر وعشراً { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *