37- فتقبل الله مريم نذراً لأمها ، وأجاب دعاءها ، فأنبتها نباتاً حسناً ، وربَّاها في خيره ورزقه وعنايته تربية حسنة مقومة لجسدها ، وشأنه أن يرزق من يشاء من عباده رزقاً كثيراً ، كلما دخل عليها زكريا في معبدها وجد عندها رزقاً غير معهود في وقته . قال - متعجباً - : يا مريم من أين لك هذا الرزق ؟ قالت : هو من فضل الله ، وجعل زكريا - عليه السلام - كافلا لها . وكان رزقها بغير عدد ولا إحصاء .
قوله تعالى : { فتقبلها ربها بقبول حسن } أي قبل الله مريم من حنة مكان المحرر ، وتقبل بمعنى قبل ورضي ، والقبول مصدر قبل يقبل قبولاً ، مثل الولوغ والوزوع ، ولم يأت غير هذه الثلاثة ، وقيل : معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها .
قوله تعالى : { وأنبتها نباتاً حسناً } معناه : وأنبتها فنبتت نباتاً حسناً ، وقيل : هذا مصدر على غير الصدر أي المصدر ، وكذلك قوله ( فتقبلها ربها بقبول حسن ) ومثله سائغ ، كقولك تكلمت كلاماً ، وقال جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ( فتقبلها ربها بقبول حسن ) أي سلك بها طريق السعداء ( وأنبتها نباتاً حسناً ) يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان ، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في العام .
قوله تعالى : { وكفلها زكريا } . قال أهل الأخبار :أخذت حنة مريم حين ولدتها فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فتنافس فيها الأحبار لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحقكم بها ، عندي خالتها ، فقالت له الأحبار : لا نفعل ذلك فإنها لو تركت لأحق الناس لتركت لأمها التي ولدتها ، لكنا نقترع عليها فتكون عند من خرج سهمه ، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلاً إلى نهر جار . قال السدي : هو نهر الأردن ، فألقوا أقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء فصعد فهو أولى بها وقيل : كان على كل قلم اسم واحد منهم . وقيل : كانوا يكتبون التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم في الماء فارتد قلم زكريا فارتفع فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت في النهر ، قاله محمد بن إسحاق وجماعة ، وقيل جرى قلم زكريا مصعداً إلى أعلى الماء ، وجرت أقلامهم بجري الماء ، وقال السدى وجماعة : بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين ، وجرت أقلامهم في جرية الماء ، فسهمهم وقرعهم زكريا ، وكان رأس الأحبار ونبيهم ، فذلك قوله تعالى : ( وكفلها زكريا ) . قرأ حمزة وعاصم والكسائي " كفلها " بتشديد الفاء ، فيكون زكريا في محل النصب ، أي ضمنها الله زكريا وضمها إليه بالقرعة ، وقرأ الآخرون بالتخفيف فيكون زكريا في محل الرفع ، أي ضمها زكريا إلى نفسه وقام بأمرها ، وهو زكريا بن أذن بن مسلم ، بن صدوق ، من أولاد سليمان ، بن داود عليهما السلام ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " زكريا " مقصوراً والآخرون يمدونه ، فلما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها بيتاً واسترضع لها ، وقال محمد بن إسحاق : ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محراباً في المسجد وجعل بابه في وسطها لا يرقى إليها إلا بالسلم ، مثل باب الكعبة ، لا يصعد إليها غيره ، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم .
قوله تعالى : { كلما دخل عليها زكريا المحراب } . وأراد بالمحراب الغرفة ، والمحراب أشرف المجالس ومقدمها ، وكذلك هو من المسجد ، ويقال للمسجد أيضاً محراب ، قال المبرد : لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرجة ، وقال الربيع ابن أنس : كان زكريا إذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب فإذا دخل عليها فتحها .
قوله تعالى : { وجد عندها رزقاً }أي فاكهة في غير حينها ، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف .
قوله تعالى : { قال يا مريم أنى لك هذا } قال أبو عبيدة : معناه من أين لك هذا ؟ وأنكر بعضهم عليه وقال : معناه من أي جهة لك هذا ؟ لأن " آنى " للسؤال عن الجهة " وأين " لسؤال عن المكان .
قوله تعالى : { قالت هو من عند الله } أي من قطف الجنة ، وقال أبو الحسن : إن مريم من حين ولدت لم تلقم ثدياً قط ، كان يأتيها رزقها من الجنة فيقول لها زكريا : أنى لك هذا ؟ فتقول : هو من عند الله ، تكلمت وهي صغيرة .
قوله تعالى : { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } . وقال محمد بن إسحاق : ثم أصابت بني إسرائيل أزمة وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها فخرج على بني إسرائيل فقال : يا بني إسرائيل تعلمون والله لقد كبرت سني ، وضعفت عن حمل مريم بنت عمران ، فأيكم يكفلها بعدي ؟ قالوا : والله لقد جهدنا وأصابنا من السنة ما ترى ، فتدافعوها بينهم ثم لم يجدوا من حملها بداً فتقارعوا عليها بالأقلام فخرج السهم على رجل نجار من بني إسرائيل يقال له : يوسف بن يعقوب ، وكان ابن عم مريم فحملها فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه ، فقالت له : يا يوسف أحسن بالله الظن فإن الله سيرزقنا ، فجعل يوسف يزرق بمكانها منه فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها ، فإذا أدخله عليها في الكنيسة أنماه الله ، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلاً من الرزق ليس بقدر ما يأتيها به يوسف ، فيقول : ( يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) .
قال أهل الأخبار : فلما رأى ذلك زكريا قال : إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب لقادر على أن يصلح زوجتي ، ويهب لي ولداً في غير حينه على الكبر ، فطمع في الولد ، وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد .
{ فتقبلها ربها بقبول حسن } أي : جعلها نذيرة مقبولة ، وأجارها وذريتها من الشيطان { وأنبتها نباتًا حسنًا } أي : نبتت نباتا حسنا في بدنها وخلقها وأخلاقها ، لأن الله تعالى قيض لها زكريا عليه السلام { وكفلها } إياه ، وهذا من رفقه بها ليربيها على أكمل الأحوال ، فنشأت في عبادة ربها وفاقت النساء ، وانقطعت لعبادة ربها ، ولزمت محرابها أي : مصلاها فكان { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا } أي : من غير كسب ولا تعب ، بل رزق ساقه الله إليها ، وكرامة أكرمها الله بها ، فيقول لها زكريا { أنى لك هذا قالت هو من عند الله } فضلا وإحسانا { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } أي : من غير حسبان من العبد ولا كسب ، قال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب } وفي هذه الآية دليل على إثبات كرامات الأولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت الأخبار بذلك ، خلافا لمن نفى ذلك ، فلما رأى زكريا عليه السلام ما من الله به على مريم ، وما أكرمها به من رزقه الهنيء الذي أتاها بغير سعي منها ولا كسب ، طمعت نفسه بالولد ، فلهذا قال تعالى :
تلك هى بعض الكلمات الطيبات والدعوات الخاشعات ، التي توجهت بها امرأة عمران إلى ربها عندما أحست بالحمل في بطنها وعندما وضعت حملها حكاها القرآن بأسلوبه البليغ المؤثر ، فماذا كانت نتيجتها ؟
كانت نتيجتها أن أجاب الله دعاءها وقبل تضرعها ، وقد حكى - سبحانه - ذلك بقوله : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } .
والفاء في قوله : { فَتَقَبَّلَهَا } تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإجابة ، والضمير يعود إلى مريم . والتقبل - كما يقول الراغب - قبول الشيء على وجه يقتضي ثوابا كالهداية ونحوها . وإنما قال - سبحانه - { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ } ولم يقل بتقبل : للجمع بين الأمرين : التقبل الذى هو الترقي فى القبول ، والقبول الذى يقتضى الرضا والإثابة " .
والمعنى : أن الله - تعالى - تقبل مريم قبولا مباركا وخرق بها عادة قومها ، فرضى أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته كالذكور ، مع كونها أنثى وفاء بنذر الأم التقية التى قالت { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } .
{ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } أى رباها تربية حسنة ، وصانها من كل سوء ، فكان حالها كحال النبات الذى ينمو في الأرض الصالحة حتى يؤتي ثماره الطيبة .
وهكذا قيض الله - تعالى - لمريم كل ألوان السعادة الحقيقية ، فقد قبلها لخدمة بيته مع أنها أنثى ، وأنشأها حسنة بعيدة عن كل نقص خُلُقي أو خَلْقي ، وهيأ لها وسائل العيش الطيب من حيث لا تحتسب . فقد قال - تعالى - { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
قوله { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أى ضمها إلى زكريا ، لأن الكفالة في أصل معناها الضم .
أي ضمها الله - تعالى - إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها .
وقرئ { وَكَفَّلَهَا } بتخفيف الفاء . وبرفع { زَكَرِيَّا } على أنه فاعل . وعلى هذه القراءة تنطق كلمة زكريا بالمد قبل الهمزة فقط أى " زكرياء " .
أما على القراءة الأولى فيجوز في زكريا المد والقصر .
وزكريا هو أحد أنبياء بنى إسرائيل وينتهى نسبة إلى سليمان بن داود - عليهما السلام - وكان متزوجا بخالة مريم ، وقيل كان متزوجا بأختها .
وكانت كافلته لها نتيجة اقتراع بينه وبين من رغبوا في كفالتها من سدنة بيت المقدس ، يدل على ذلك قوله - تعالى - { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } قال صاحب الكشاف : " روى أن " حنة " حين ولدت مريم ، لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار وهم في بيت المقدس ، فقال لهم : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم " .
فقال لهم زكريا : أنا أحق بها عندى خالتها فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها ، فانطلقوا إلى نهر وألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها " .
وقوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } بيان لكفالة الله - تعالى - لرزقها ورضاه عنها ، ورعايته لها .
والمحراب موضع العالي الشريف والمراد به الغرفة التي تتخذها مريم مكانا لعبادتها فى المسجد . سمى بذلك لأنه مكان محاربى الشيطان والهوى .
قال الألوسي ما مخلصه : " والمحراب - على ما روي عن ابن عباس - غرقة بنيت لها في بيت المقدس ، وكانت لا يصعد إليها إلا بسلم . وقيل المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب . وقيل المراد به أشرف مواضع المسجد ومقدمها وهو مقام الإمام من المسجد أصله مفعال : صيغة مبالغة - كمطعان - فسمى به المكان ، لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه و " كلما " ظرف على أن " ما " مصدرية ، والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت ، والعائد محذوف والعامل فيها جوابها .
والمعنى : كل زمان دخل عليها أو كل وقت دخل عليها فيه " وجد عندها رزقا " أى أصاب ولقى بحضرتها ذلك أو وجد ذلك كائنا بحضرتها . أخرجه بن جرير عن الربيع قال : " أنه كان لا يدخل أحد سوى زكريا فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف " والتنوين في { رِزْقاً } للتعظيم . . .
وهذا دليل على قدرة الله - سبحانه - على كل شىء ، وعلى رعايته لمريم ، فقد رزقها - سبحانه - من حين لا تحتسب ، ودليل على وقوع الكرامة أوليائه - تعالى - .
ولقد كان وجود هذا الرزق عند مريم دون أن يعرف زكريا - عليه السلام - مصدره مع أنه لا يدخل عليها أحد سواه كان ذلم محل عجبه ، لذا حكى القرآن عنه : { قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا } أى من أين لك هذا الرزق العظيم الذى لا أعرف سببه ومصدره . و { أنى } هنا بمعنى من أين .
والجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا قال زكريا عند مشاهدة هذا الرزق ؟ فكان الجواب : قال يا مريم من أين لك هذا .
ولقد كانت إجابة مريم على زكريا تدل على قوة إيمانها ، وصفاء نفسها . فقد أجابته بقولها - كما حكى القرآن عنها - { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } أى : قالت له إن هذا الزرق من عند الله - تعالى - فهو الذى رزقني إياه وسافه إلى بقدرته النافذة .
وقوله - تعالى - { إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } جملة تعليلية . أى : إن الله تعالى ، يرزق من يشاء أن يرزقه رزقا واسعا عظيما لا يحده حد ، ولا تجرى عليه الأعداد التي تنتهى ، فهو - سبحانه - لا يحاسبه محاسب ، ولا تنقص خزائنه من أى عطاء مهما كثر وعظم .
وهذه الجملة الكريمة يحتمل أنها من كلام الله - تعالى - فتكون مستأنفة ، ويحتمل أنها من كلامها الذى حكاه القرآن عنها ، فتكون تعليلية في محل نصب داخلة تحت القول .
هذا وفى تلك الآيات التى حكاها القرآن عن مريم وأمها نرى كيف يعمل الإيمان عمله في القلوب فينقيها ويصفيها ويحررها من رق العبودية لغير الله الواحد القهار وكيف أن الله تعالى ، يتقبل دعاء عباده الصالحين ، وينبتهم نباتا حسنا ، ويرعاهم برعايته ، يزرقهم من حيث لا يحتسبون .
( فتقبلها ربها بقبول حسن ، وأنبتها نباتا حسنا ) . .
جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم ، وهذا التجرد الكامل في النذر . . وإعدادا لها أن تستقبل نفخة الروح ، وكلمة الله ، وأن تلد عيسى - عليه السلام - على غير مثال من ولادة البشر .
أي جعل كفالتها له ، وجعله أمينا عليها . . وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي . من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل .
ونشأت مباركة مجدودة . يهيىء لها الله من رزقه فيضا من فيوضاته :
( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا . قال : يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .
ولا نخوض نحن في صفة هذا الرزق كما خاضت الروايات الكثيرة . فيكفي أن نعرف أنها كانت مباركة يفيض من حولها الخير ويفيض الرزق من كل ما يسمى رزقا . حتى ليعجب كافلها - وهو نبي - من فيض الرزق . فيسألها : كيف ومن أين هذا كله ؟ فلا تزيد على أن تقول في خشوع المؤمن وتواضعه واعترافه بنعمة الله وفضله ، وتفويض الأمر إليه كله :
و من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب . .
وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه ، واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه . والتواضع في الحديث عن هذا السر ، لا التنفج به والمباهاة ! كما أن ذكر هذه الظاهرة غير المألوفة التي تثير عجب نبي الله زكريا . هي التمهيد للعجائب التي تليها في ميلاد يحيى وميلاد عيسى . .
يخبر ربنا{[4967]} أنه تقبلها من أمها نذيرة ، وأنه { وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } أي : جعلها شكلا مليحا ومنظرا بهيجا ، ويَسر لها أسباب القبول ، وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم الخير والعلم والدين . ولهذا{[4968]} قال : { وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا } وفي قراءة : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } بتشديد الفاء ونصب زكريا على المفعولية ، أي جعله كافلا لها .
قال ابن إسحاق : وما ذاك إلا أنها كانت يتيمة . وذكر غيره أن بني إسرائيل أصابتهم سَنَةُ جَدْب ، فكفل زكريا مريم لذلك . ولا منافاة بين القولين . والله أعلم .
وإنما قدر الله كون زكريا كافلها لسعادتها ، لتقتبس منه علما جما نافعًا وعملا صالحًا ؛ ولأنه كان زَوْجَ خالتها ، على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير [ وغيرهما ]{[4969]} وقيل : زوج أختها ، كما ورد في الصحيح : " فإذا بِيحيى{[4970]} وعِيسَى ، وَهُمَا ابْنَا الخَالَةِ " ، وقد يُطْلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضا تَوسُّعا ، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها . وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في عمارة بنت حمَْزَةَ أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي طالب وقال : " الخَالَةُ بِمَنزلَةِ الأمِّ " {[4971]} .
ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلالتها في محل عبادتها ، فقال : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا } قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبو الشعثاء ، وإبراهيم النخَعيّ ، والضحاك ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وعطية العَوْفي ، والسُّدِّي [ والشعبي ]{[4972]} يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف . وعن مجاهد { وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا } أي : علما ، أو قال : صحفًا فيها علم . رواه ابن أبي حاتم ، والأول أصح ، وفيه دلالة على كرامات الأولياء . وفي السنة لهذا نظائر كثيرة . فإذا رأى زكريا هذا عندها { قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا } أي : يقول من أين لك هذا ؟ { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سَهْل بن زنْجَلة ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا عبد الله ابن لَهِيعَة ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام أيامًا لم يَطْعَمْ طعاما ، حتى شَقّ ذلك عليه ، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئًا ، فأتى فاطمة فقال : " يا بُنَيَّة ، هَلْ عِنْدَكِ شَيْء آكُلُهُ ، فَإِنَّي جَائِع ؟ " فقالت : لا والله بأبي أنتَ وأمّي . فلما خَرَج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم ، فأخذته منها فوضعته في جَفْنَةٍ لها ، وقالت : والله لأوثرن بهذا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[4973]} على نفسي ومن عندي . وكانوا جميعًا محتاجين إلى شبعة طعام ، فبعثت حَسَنا أو حُسَينا إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[4974]} فرجع إليها فقالت له : بأبي وأمي{[4975]} قد أتى الله بشيء فخَبَّأتُه لك . قال : " هَلُمِّي يا بُنيَّة " قالت : فأتيته بالجفنة . فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزًا ولحمًا ، فلما نظرَتْ إليها بُهِتتْ وعرفَتْ أنها بركة من الله ، فحمدَت الله وصلَّت على نَبِيِّهِ ، وقدّمَتْه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم . فلما رآه حمد الله وقال : " مِنْ أيْنَ لَكِ هَذَا يَا بُنَية ؟ " فقالت{[4976]} يا أبت ، { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فحمد الله وقال : " الحَمْدُ للهِ الَّذي جَعَلَكِ - يا بُنَيّة - شَبيهَة بسيدةِ{[4977]} نِساء بَنيِ إسْرَائيلَ ، فَإنَّها كَانَتْ إذَا رَزَقَهَا اللهُ شَيْئًا فَسُئِلَتْ عَنْهُ قَالَتْ : { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عَلِي{[4978]} ثم أكل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأكل علي ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين ، وجميع أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم وأهل بيته جميعًا حتى شبعوا . قالت : وبقيت الجفنة كما هي ، فأوسعت ببقيتها{[4979]} على جميع الجيران ، وجعل الله فيها بركة وخيرا كثيرا{[4980]} .
{ فَتَقَبّلَهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا كُلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَمَرْيَمُ أَنّىَ لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
يعني بذلك جل ثناؤه : تقبل مريم من أمها حنة بتحريرها إياها للكنيسة وخدمتها ، وخدمة ربها بقبول حسن ، والقبول : مصدر من قبلها ربها . فأخرج المصدر على غير لفظ الفعل ، ولو كان على لفظه لكان : فتقبلها ربها تقبلاً حسنا ، وقد تفعل العرب ذلك كثيرا أن يأتوا بالمصادر على أصول الأفعال وإن اختلفت ألفاظها في الأفعال بالزيادة ، وذلك كقولهم : تكلم فلان كلاما ، ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل : تكلم فلان تكلما ، ومنه قوله : { وأنْبَتَها نَباتا حَسَنا } ولم يقل : إنباتا حسنا . وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : لم نسمع العرب تضمّ القاف في قبول ، وكان القياس الضمّ لأنه مصدر مثل الدخول والخروج ، قال : ولم أسمع بحرف آخر في كلام العرب يشبهه .
حدثت بذلك عن أبي عبيد ، قال : أخبرني اليزيدي عن أبي عمرو .
وأما قوله : { وأنْبَتَها نَباتا حَسَنا } فإن معناه : وأنبتها ربها في غذائه ورزقه نباتا حسنا حتى تمت فكملت امرأة بالغة تامة . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال الله عزّ وجلّ : { فَتَقَبّلَهَا رَبّهَا بِقَبولٍ حَسَنٍ } قال : تقبل من أمها ما أرادت بها للكنيسة وآجرها فيها { وَأَنْبَتَهَا } ، قال : نبتت في غذاء الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا } .
اختلفت القراء في قراءة قوله : { وَكَفّلَهَا } ، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز والمدينة والبصرة : «وكَفَلَها » مخففة الفاء بمعنى : ضمها زكريا إليه ، اعتبارا بقول الله عزّ وجلّ : { يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَم } . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين : { وَكَفّلَها زَكَرِيّا } بمعنى : وكفّلها الله زكريا .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ : { وكَفّلَها } مشددة الفاء بمعنى : وكفّلها الله زكريا ، بمعنى : وضمها الله إليه¹ لأن زكريا أيضا ضمها إليها بإيجاب الله له ضمها إليه بالقرعة التي أخرجها الله له ، والاَية التي أظهرها لخصومه فيها ، فجعله بها أولى منهم ، إذ قرع فيها من شاحّه فيها . وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومه في مريم إذ تنازعوا فيها أيهم تكون عنده ، تساهموا بقداحهم فرموا بها في نهر الأدرن ، فقال بعض أهل العلم : رتَب قِدْحُ زكريا ، فقام فلم يجر به الماء وجرى بقداح الاَخرين الماء ، فجعل الله ذلك لزكريا أنه أحقّ المتنازعين فيها . وقال آخرون : بل صعد قدح زكريا في النهر ، وانحدرت قداح الاَخرين مع جرية الماء وذهبت ، فكان ذلك له علما من الله في أنه أولى القوم بها . وأيّ الأمرين كان من ذلك فلا شكّ أن ذلك كان قضاء من الله بها لزكريا على خصومه بأنه أولاهم بها ، وإذا كان ذلك كذلك ، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضم الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تشاحهم فيها واختصامهم في أولاهم بها .
وإذا كان ذلك كذلك كان بيّنا أن أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد «كفلّها » . وأما ما اعتلّ به القارئون ذلك بتخفيف الفاء من قول الله : { أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَم } وأن موجب صحة اختيارهم التخفيف في قوله : { وَكَفّلَهَا } فحجة دالة على ضعف احتيال المحتجّ بها . وذلك أنه غير ممتنع ذو عقل من أن يقول قائل : كفل فلان فلانا فكفله فلان ، فكذلك القول في ذلك : ألقى القوم أقلامهم أيهم يكفل مريم ، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام .
وكذلك اختلفت القراء في قراءة «زكريا » ، فقرأته عامة قراء المدينة بالمدّ ، وقرأته عامة قراء الكوفة بالقصر . وهما لغتان معروفتان وقراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين ، وليس في القراءة بإحداهما خلاف لمعنى القراءة الأخرى ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب .
غير أن الصواب عندنا إذا مدّ «زكريا » ، أن ينصب بغير تنوين ، لأنه اسم من أسماء العجم لا يُجْرَى ، ولأن قراءتنا في «كفّلها » بالتشديد وتثقيل الفاء ، فزكرياء منصوب بالفعل الواقع عليه . وفي زكريا لغة ثالثة لا تجوز القراءة بها لخلافها مصاحف المسلمين وهو «زكريّ » بحذف المدّة والياء الساكنة ، تشبهه العرب بالمنسوب من الأسماء فتنوّنه ، وتجريه في أنواع الإعراب مجاري ياء النسبة .
فتأويل الكلام : وضمها الله إلى زكريا ، من قول الشاعر :
*** فَهُوَ لِضُلاّلِ الهَوَامِ كافِلُ***
يراد أنه لما ضلّ من متفرّق النعم ومنتشره ، ضامّ إلى نفسه وجامعٌ . وقد رُوي :
*** فَهُوَ لِضُلاّلِ الهَوَافِي كافِلُ ***
بمعنى أنه لما ندّ فهرب من النعم ضامّ ، من قولهم : هفا الظليم : إذا أسرع الطيران ، يقال منه للرجل : ما لك تكفل كل ضالة ؟ يعني به : تضمها إليك وتأخذها .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة في قوله : { إِذْ يُلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } قال : ألقوا أقلامهم فجرت بها الجِرْيَة إلا قلم زكريا صاعدا ، فكفلها زكريا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { وكَفّلَهَا زَكَرِيّا } قال : ضمها إليه . قال : ألقوا أقلامهم ، يقول عصيهم . قال : فألقوها تلقاء جرية الماء ، فاستقبلت عصا زكريا جرية الماء فقرعهم .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال الله عزّ وجلّ : { فَتَقَبَلّهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَهَا نَباتا حَسَنا } فانطلقت بها أمها في خِرَقها يعني أمّ مريم بمريم حين ولدتها إلى المحراب وقال بعضهم : انطلقت حين بلغت إلى المحراب وكان الذين يكتبون التوراة إذا جاءوا إليهم بإنسان يجربونه اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه ، وكان زكريا أفضلهم يومئذٍ وكان بينهم ، وكانت خالة مريم تحته . فلما أتوا بها اقترعوا عليها ، وقال لهم زكريا : أنا أحقكم بها تحتي خالتها ، فأبوا . فخرجوا إلى نهر الأردن ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها ، أيهم يقوم قلمه فيكفلها . فجرت الأقلام وقام قلم زكريا على قُرْنَته كأنه في طين ، فأخذ الجارية¹ وذلك قول الله عزّ وجلّ : { وَكَفَلَهَا زَكَرِيّا } فجعلها زكريا معه في بيته ، وهو المحراب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا } يقول : ضمها إليه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا } قال : سهمهم بقلمه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال : كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم . قال : فتشاحّ عليها أحبارهم ، فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها . قال قتادة : وكان زكريا زوج أختها فكفلها ، وكانت عنده وحضنها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة أنه أخبره ، عن عكرمة ، وأبي بكر عن عكرمة ، قال : ثم خرجتْ بها يعني أمّ مريم بمريم في خِرَقها تحملها إلى بتي الكاهن بن هارون أخي موسى بن عمران ، قال : وهم يومئذٍ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فإني حررتها وهي ابنتي ، ولا يدخل الكنيسة حائض ، وأنا لا أردّها إلى بيتي ! فقالوا : هذه ابنة إمامنا وكان عمران يؤمهم في الصلاة وصاحب قربانهم . فقال زكريا : ادفعوها إليّ فإن خالتها عندي ! قالوا : لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا . فذلك حين اقترعوا فاقترعوا بأقلامهم عليها ، بالأقلام التي يكتبون بها التوراة ، فقرعهم زكريا فكفلها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جعلها زكريا معه في محرابه ، قال الله عزّ وجلّ : { وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا } . قال حجاج : قال ابن جريج : الكاهن في كلامهم : العالم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا } بعد أبيها وأمها ، يذكرها باليتم . ثم قصّ خبرها وخبر زكريا .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير قوله : { وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا } قال : كانت عنده .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير قوله : { وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا } قال : جعلها زكريا معه في محرابه .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { فَتَقَبَلّهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَهَا نَباتا حَسَنا } وتقارعها القوم ، فقرع زكريا ، فكفلها زكريا .
وقال آخرون : بل كان زكريا بعد ولادة حنة ابنتها مريم كفلها بغير اقتراعٍ ولا استهامٍ عليها ولا منازعة أحد إياه فيها . وإنما كفلها لأن أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة ، وعند زكريا خالتها إيشاع ابنة فاقوذ¹ وقد قيل : إن اسم أم يحيى خالة عيسى : أشيع .
حدثنا بذلك القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبئي أن اسم أمّ يحيى : أشيع .
فضمها إلى خالتها أمّ يحيى ، فكانت إليهم ومعهم ، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذر أمها التي نذرت فيها . قالوا : والاقتراع فيها بالأقلام ، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة إصابتهم ضعف زكريا عن حمل مؤنتها ، فتدافعوا حمل مؤنتها ، لا رغبة منهم ، ولا تنافسا عليها وعلى احتمال مؤنتها . وسنذكر قصتها على قول من قال ذلك إذا بلغنا إليها إن شاء الله تعالى .
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق .
فعلى هذا التأويل تصحّ قراءة من قرأ : «وَكَفَلَها زَكَرِيّا » بتخفيف الفاء لو صحّ التأويل . غير أن القول متظاهر من أهل التأويل بالقول الأول إن استهام القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها ، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سهمه منها فالجا على سهام خصومه فيها ، فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف .
القول في تأويل قوله تعالى : { كُلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أن زكريا كان كلما دخل عليها المحراب بعد إدخاله إياها المحراب ، وجد عندها رزقا من الله لغذائها . فقيل : إن ذلك الرزق الذي كان يجده زكريا عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا الحسن بن عطية ، عن شريك ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا } قال : وجد عندها عنبا في مِكْتَلٍ في غير حينه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد في قوله : { كُلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا } قال : العنب في غير حينه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : { وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا } قال : فاكهة في غير حينها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو إسحاق الكوفي ، عن الضحاك : أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، يعني في قوله : { وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقا } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أخبرنا هشيم ، عن بعض أشياخه ، عن الضحاك ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا من سمع الحكم بن عتيبة يحدّث ، عن مجاهد ، قال : كان يجد عندها العنب في غير حينه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقا } قال : عنبا وجده زكريا عند مريم في غير زمانه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد في قوله : { وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقا } قال : فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { كُلّما دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا } قال : كنا نحدّث أنها كانت تؤتى بفاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا } قال : وجد عندها ثمرة في غير زمانها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : جعل زكريا دونها عليها سبعة أبواب ، فكان يدخلها عليها ، فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء .
حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : جعلها زكريا معه في بيت وهو المحراب ، فكان يدخل عليها في الشتاء ، فيجد عندها فاكهة الصيف ، ويدخل في الصيف فيجد عندها فاكهة الشتاء .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقا } قال : كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { كُلّما دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا } قال : وجد عندها ثمار الجنة ، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني بعض أهل العلم : أن زكريا كان يجد عندها ثمرة الشتاء في الصيف ، وثمرة الصيف في الشتاء .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن ، قال : كان زكريا إذا دخل عليها يعني على مريم المحراب وجد عندها رزقا من السماء من الله ، ليس من عند الناس . وقالوا : لو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده لم يسألها عنه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن زكريا كان إذا دخل إليها المحراب وجد عندها من الرزق فضلاً عما كان يأتيها به الذي كان يمونها في تلك الأيام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : كفلها بعد هلاك أمها ، فضمها إلى خالتها أم يحيى ، حتى إذا بلغت ، أدخولها الكنيسة لنذر أمها الذي نذرت فيها ، فجعلت تنبت وتزيد ، قال : ثم أصابت بني إسرائيل أزمة ، وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها ، فخرج على بني إسرائيل ، فقال : يا بني إسرائيل أتعلمون ، والله لقد ضعفت عن حمل ابنة عمران ! فقالوا : ونحن لقد جهدنا وأصابنا من هذه السنة ما أصابكم . فتدافعوها بينهم ، وهم لا يرون لهم من حملها بدّا . حتى تقارعوا بالأقلام ، فخرج السهم بحملها على رجل من بني إسرائيل نجار يقال له جريج ، قال : فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه ، فكانت تقول له : يا جريج أحسن بالله الظنّ ، فإن الله سيرزقنا ! فجعل جريج يرزق بمكانها ، فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها ، فإذا أدخلها عليها وهي في الكنيسة أنماه الله وكثره ، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلاً من الرزق وليس بقدر ما يأتيها به جريج ، فيقول : يا مريم أنى لك هذا ؟ فتقول : هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب .
وأما المحراب : فهو مقدم كل مجلس ومصلى ، وهو سيد المجالس وأشرفها وأكرمها ، وكذلك هو من المساجد ، ومنه قول عديّ بن زيد :
كَدُمَى العاجِ في المَحارِيب أو كالْبَيْضِ في الروضِ زهره مُسْتنيرُ
والمحاريب جمع محراب ، وقد يجمع على محارب .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنّى لَكَ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : قال زكريا يا مريم : أنى لك هذا ؟ من أيّ وجه لك هذا الذي أرى عندك من الرزق ، قالت مريم مجيبة له : هو من عند الله ، تعني أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها وأعطاها ، وإنما كان زكريا يقول ذلك لها لأنه كان فيما ذكر لنا يغلق عليها سبعة أبواب ، ويخرج ثم يدخل عليها ، فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، فكان يعجب مما يرى من ذلك ، ويقول لها تعجبا مما يرى : أنى لك هذا ؟ فتقول : من عند الله .
حدثني بذلك المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني بعض أهل العلم ، فذكر نحوه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { يا مَرْيَمُ أنّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } قال : فإنه وجد عندها الفاكهة الغضة حين لا توجد الفاكهة عند أحد ، فكان زكريا يقول : يا مريم أنى لك هذا ؟
وأما قوله : { إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِساب } فخبر من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقه بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبده ، لأنه جل ثناؤه لا ينقص سوقه ذلك إليه ، كذلك خزائنه ، ولا يزيد إعطاؤه إياه ، ومحاسبته عليه في ملكه ، وفيما لديه شيئا ، ولا يعزب عنه علم ما يرزقه ، وإنما يحاسب من يعطي ما يعطيه من يخشى النقصان من ملكه ، بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف ومن كان جاهلاً بما يعطى على غير حساب .
{ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا }
تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإجابة ، وضمائر النصب لمريم . ومعنى تقبلها : تقبل تحريرها لخدمة بيت المقدس ، أي أقام الله مريم مقام منقطع لله تعالى ، ولم يكن ذلك مشروعاً من قبل .
وقوله : { بقبول حسن } الباء فيه للتأكيد ، وأصل نظم الكلام : فتقبّلها قبولاً حسناً ، فأدخلت الباء على المفعول المطلق ليصير كالآلَة للتقبل فكأنه شيء ثانٍ ، وهذا إظهار للعناية بها في هذا القبول ، وقد عرف هذا القبول بوحي من الله إلى زكرياء بذلك ، وأمره بأن يكفلها زكرياء أعظم أحبارهم ، وأن يوحى إليه بإقامتها بعد ذلك لخدمة المسجد ، ولم يكن ذلك للنساء قبلها ، وكل هذا إرهاصٌ بأنه سيكون منها رسول ناسخ لأحكام كثيرة من التوراة ؛ لأنّ خدمة النساء للمسجد المقدّس لم تكن مشروعة .
ومعنى : { وأنبتها نباتاً حسناً } : أنشأها إنشاء صالحاً ، وذلك في الخلق ونزاهة الباطن ، فشبه إنشاؤها وشبابها بإنبات النبات الغضّ على طريق الاستعارة ، ( ونبات ) مفعول مطلق لأنبَت وهو مصدر نبت وإنما أجري على أنبت للتخفيف .
عُدَّ هذا في فضائل مريم ، لأنه من جملة ما يزيد فضلها لأنّ أبا التربية يكسب خلقه وصلاحه مُربّاه .
وزكرياء كاهن إسرائيلي اسمه زكرياء من بني أَبِيَّا بن باكر بن بنيامين من كَهَنة اليهود ، جاءته النبوءة في كبره وهو ثاني من اسمه زكرياء من أنبياء بني إسرائيل وكان متزوجاً امرأةً من ذرية هارون اسمها ( اليصابات ) وكانت امرأته نسيبَة مريم كما في إنجيل لوقا قيل : كانت أختها والصحيح أنّها كانت خالتها ، أو من قرابة أمها ، ولما ولدت مريم كان أبوها قد مات فتنازع كفالتها جماعة من أحْبار بني إسرائيل حرصاً . على كفالة بنت حبرهم الكبير ، واقترعوا على ذلك كما يأتي ، فطارت القرعة لزكرياء ، والظاهر أنّ جعل كفالتها للأحبار لأنّها محررة لخدمة المسجد فيلزم أن تربّى تربيَةً صالحة لذلك .
وقرأ الجمهور : { وكَفَلها زكرياءُ } بتخفيف الفاء من كفَلها أي تولَّى كفالتها ، وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : وكَفّلها بتشديد الفاء أي أنّ الله جعل زكرياء كافلاً لها ، وقرأ الجمهور زكرياء بهمزة في آخره ، ممدوداً وبرفع الهمزة . وقرأه حمزة ، والكسائي وحفص عن عاصم ، وخلفٌ : بالقصر ، وقرأه أبو بكر عن عاصم : بالهمز في آخره ونصب الهمزة .
{ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
دل قوله : { كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقاً } على كلام محذوف ، أي فكانت مريم ملازِمة لخدمة بيت المقدس ، وكانت تتعبد بمكان تتخذه بها مِحراباً ، وكان زكرياء يتعهد تعبدها فيرى كرامةً لها أنّ عندها ثِماراً في غير وقت وجود صنفها .
و { كلّما } مركّبة من ( كُلَ ) الذي هو اسم لعموم ما يضاف هو إليه ، ومن ( مَا ) الظرفية وصلتِها المقدّرةِ بالمصدر ، والتّقدير : كلّ وقتِ دُخولِ زَكرياء عليها وجد عندها رزقاً .
وانتصب كل على النيابة عن المفعول فيه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } في سورة [ البقرة : 25 ] .
فجملة وجد عندها رزقاً حال من زكرياء في قوله { وكفَلها زكرياء } [ آل عمران : 36 ] .
ولك أن تجعل جملة { وجد عندها رزقاً } بدلَ اشتمال من جملة { وكفّلها زكريّاء } .
والمحراب بناء يتّخذه أحد ليخلو فيه بتعبده وصلاته ، وأكثر ما يتخذ في علوّ يرتقي إليه بسلّم أو درج ، وهو غير المسجد . وأطلق على غير ذلك إطلاقات ، على وجه التشبيه أو التوسّع كقول عمر بن أبي ربيعة :
دمْيةٌ عند راهب قسيس *** صوّرُوها في مذبح المحراب
أراد في مذبح البيعةِ ، لأنّ المحراب لا يجعل فيه مذبح . وقد قيل : إنّ المحراب مشتق من الحَرْب لأن المتعبّد كأنّه يحارب الشيطان فيه ، فكأنّهم جعلوا ذلك المكان آلة لمِحرَب الشيطان .
ثم أطلق المحراب عند المسلمين على موضع كشكل نصف قبّة في طول قامة ونصف يجعل بموضع القبلة ليقف فيه الإمام للصلاة . وهو إطلاق مولد وأول محراب في الإسلام محراب مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم صنع في خلافة الوليد بن عبد الملك ، مدةَ إمارة عُمَر بن عبد العزيز على المدينة . والتعريف في { المحراب } تعريف الجنس ويعلم أنّ المراد محراب جعلته مريم للتعبّد .
و ( أنّى ) استفهام عن المكان ، أي من أين لك هذا ، فلذلك كان جواب استفهامه قوله : { من عند الله } .
واستفهام زكرياءَ مريمَ عن الرزق لأنه في غير إبَّانِه ووقتِ أمثاله . قيل : كان عِنباً في فصل الشتاء . والرزق تقدم آنفاً عند قوله : { يرزق من يشاء بغير حساب } .
وجملة { إنّ الله يرزق من يشاء } من كلام مريم المحكي .
والحساب في قوله : { بغير حساب } بمعنى الحصر لأنّ الحساب يقتضي حصر الشيء المحسوب بحيث لا يزيد ولا ينقص ، فالمعنى إنّ الله يرزق من يريد رزقه بما لا يعرف مقداره لأنه موكول إلى فضل الله .