قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } . قال أكثر المفسرين هم اليهود والنصارى . وقال بعضهم : المبتدعة من هذه الأمة ، وقال أبو أمامة رضي الله عنه : هم الحرورية بالشام . قال عبد الله بن شداد : وقف أبو أمامة وأنا معه على رأس الحرورية بالشام فقال : هم كلاب النار ، كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم ، ثم قرأ ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) إلى قوله تعالى ( أكفرتم بعد إيمانكم ) .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عبد الله بن عمير عن عبد الله بن الزبير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة ، فإن الشيطان مع الفذ ، وهو من الاثنين أبعد " .
ثم نهاهم عن التشبه بأهل الكتاب في تفرقهم واختلافهم ، فقال : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } ومن العجائب أن اختلافهم { من بعد ما جاءهم البينات } الموجبة لعدم التفرق والاختلاف ، فهم أولى من غيرهم بالاعتصام بالدين ، فعكسوا القضية مع علمهم بمخالفتهم أمر الله ، فاستحقوا العقاب البليغ ، ولهذا قال تعالى : { وأولئك لهم عذاب عظيم }
وبعد أن أمرهم الله - تعالى - بالمواظبة على الدعوة إلى الخير ، عقب ذلك بنهيهم عن التفرق والاختلاف فقال : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات } .
أى : ولا تكونوا أيها المؤمنون كأولئك اليهود والنصارى وغيرهم من الذين تفرقوا شيعا وأحزابا ، وصار { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } واختلفوا فيما بينهم اختلافا شنيعا ، وقد ترتب على ذلك أن كفر بعضهم بعضا ، وقاتل بعضهم بعضا ، وزعم كل فريق منهم أنه على الحق وغيره على الباطل ، وأنه هو وحده الذى يستطيع أن يدرك ما في الكتب السماوية من حقائق ، وهو وحده الذى يستطيع تفسيرها تفسيرا سليما .
ولقد كان تفرقهم هذا واختلافهم { مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات } أى الآيات والحجج والبراهين الدالة على الحق ، والداعية إلى الاتحاد والوئام لا إلى التفرق والاختلاف .
وقوله : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ } معطوف على قوله { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ } ويرجع إلى قوله من قبل واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } لما فيه من تمثيل حال التفرق فى أبشع صوره المعروفة لديهم من مطالعة أحوال اليهود وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يفضى إلى التفرق والاختلاف إذ يترتب على هذا الترك أن تكثر المنازعات والأهواء والمظالم ، وتنشق الأمة بسبب ذلك انشقاقا شديدا .
والمقصود بهذا النهى إنما هو التفرق والاختلاف فى أصول الدين وأسسه ، أما الفروع التى لا يصادم الخلاف فيها نصا صحيحا من نصوص الدين فلا تندرج تحت هذا النهى ، فنحن نرى أن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم والتابعين من بعدهم قد اختلفوا فيما بينهم فى بعض المسائل التى لا تخالف نصا صحيحا من نصوص الشريعة وتأولها كل واحد أو كل فريق منهم على حسب فهمه الذى أداه إليه اجتهاده .
ومن الأحاديث التى ذمت الاختلاف فى الدين ما رواه أبو داود والإمام أحمد عن أبى عامر عبد الله بن يحيى قال : " حججنا مع معاوية بن أبى سفيان ، فلما قدمنا مكة قام حين صلى الظهر فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أهل الكتابين افترقوا فى دينهم على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه المة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعنى الأهواء - كلها فى النار إلا واحدة - وهي الجماعة - وأنه سيخرج فى أمتى أقوام تجارى بهم تلك الأهواء ، كما يتجارى الكلب بصاحبه . لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاءكم به نبيكم - صلى الله عليه وسلم - لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به " .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان سوء عاقبة المتفرقين ، والمختلفين فى الحق فقال { وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أى وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الذميمة لهم عذاب عظيم بسبب تفرقهم واختلافهم الباطل .
فأنت ترى أن القرآن الكريم قد نهى المؤمنين عن التفرق والاختلاف بأبلغى تعبير وألطف إشارة ، وذلك بأن بين لهم حسن عاقبة المعتصمين بحبل الله دون أن يتفرقوا ، وما بشر به - سبحانه - المواظبين على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من أنهم هم المفلحون الفائزون .
ثم بين لهم بعد ذلك سوء عاقبة التفرقة والاختلاف الذى وقع فيه من سبقهم من اليهود والنصارى وكيف أنه ترتب على تفرقهم واختلافهم أن كفر بعضهم بعضا . وقاتل بعضهم بعضا ، ورمى بعضهم بعضا بالزيغ والضلال .
هذا فى الدنيا ، أما في الآخرة فلهؤلاء المتفرقين والمختلفين العذاب العظيم من الله - تعالى - فالقرآن قد أتى بالأوامر ومعها الأسباب التى تدعو إلى الاستجابة لها ، وأتى بالنواهي ومعها كذلك الأسباب التى تحمل على البعد عنها .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت مسلكا من مسالك اليهود الخبيثة لكيد الإسلام والمسلمين ، ووبختهم على ذلك توبيخا موجعا ، وفضحتهم على مر العصور والدهور ، وحذرت المؤمنين من شرورهم ، وأرشدتهم إلى ما يعصمهم من كيدهم وذكرتهم بنعم الله الجليلة عليهم ، وأمرتهم بالمواظبة على الدعوة إلى الخير . ونهتهم عن التفرق والاختلاف لكى يسعدوا فى دينهم ودنياهم .
ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف ؛ وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله قبلها - من أهل الكتاب - ثم تفرقوا واختلفوا ، فنزع الله الراية منهم ، وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية . . فوق ما ينتظرهم من العذاب ، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه :
( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) .
ثم قال تعالى : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ]{[5461]} } ينهى هذه الأمة أن تكون كالأمم الماضية في تفرقهم واختلافهم ، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صَفْوان ، حدثني أزْهَر بن عبد الله الْهَوْزَنِي{[5462]} عن أبي عامر عبد الله بن لُحَيٍّ{[5463]} قال : حججنا مع معاوية بن أبي سفيان ، فلما قدمنا مكة قام حين صلى [ صلاة ]{[5464]} الظهر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ أهْلَ الْكَتَابَيْنِ افْتَرَقُوا في دِينِهِمْ عَلَى ثنتيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وإنَّ هذِهِ الأمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً - يعني الأهواء - كُلُّهَا فِي النَّار إلا وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارى بِهِمْ تِلْكَ الأهْواء ، كَمَا يَتَجَارى الكَلبُ بصَاحِبِهِ ، لا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إلا دَخَلَهُ . واللهِ - يَا مَعْشَر العَربِ - لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جاء بِهِ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم لَغَيْرُكم{[5465]} مِن النَّاسِ أحْرَى ألا يَقُومَ بِهِ " .
وهكذا رواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى ، كلاهما عن أبي المغيرة - واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي - به ، وقد رُوي هذا الحديث من طرق{[5466]} .
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ تَفَرّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُوْلََئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولا تكونوا يا معشر الذين آمنوا كالذين تفرّقوا من أهل الكتاب ، واختلفوا في دين الله وأمره ونهيه ، من بعد ما جاءهم البينات ، من حجج الله ، فيما اختلفوا فيه ، وعلموا الحقّ فيه ، فتعمدوا خلافه ، وخالفوا أمر الله ، ونقضوا عهده وميثاقه ، جراءة على الله ، وأولئك لهم : يعني ولهؤلاء الذين تفرّقوا ، واختلفوا من أهل الكتاب ، من بعد ما جاءهم عذاب من عند الله عظيم . يقول جل ثناؤه : فلا تفرّقوا يا معشر المؤمنين في دينكم تفرّق هؤلاء في دينهم ، ولا تفعلوا فعلهم ، وتستنوا في دينكم بسنتهم ، فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِما جاءَهُمُ البَيّناتُ } قال : هم أهل الكتاب ، نهى الله أهل الإسلام أن يتفرّقوا ويختلفوا ، كما تفرّق واختلف أهل الكتاب ، قال الله عزّ وجلّ : { وأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا } ونحو هذا في القرآن أمر الله جلّ ثناؤه المؤمنين بالجماعة ، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِما جاءَهُمُ البَيّناتُ وأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } قال هم اليهود والنصارى .
{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } كاليهود والنصارى اختلفوا في التوحيد والتنزيه وأحوال الآخرة على ما عرفت . { من بعد ما جاءهم البينات } الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه . والأظهر أن النهي فيه مخصوص بالتفرق في الأصول دون الفروع لقوله عليه السلام " اختلاف أمتي رحمة " . ولقوله عليه السلام " من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد " . { وأولئك لهم عذاب عظيم } وعيد للذين تفرقوا وتهديد على التشبه بهم .
على هذه الاعتبارات تجري الاعتبارات في قوله : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا } كما سيأتي .
إنّ الدعوة إلى الخير تتفاوت : فمنها ما هو بيّن يقوم به كلّ مسلم ، ومنها ما يحْتاج إلى علم فيقوم به أهله ، وهذا هو المسمّى بفرض الكفاية ، يعني إذا قام به بعض النَّاس كفَى عن قيام الباقين ، وتتعيَّن الطائفة الَّتي تقوم بها بتوفّر شروط القيام بمثل ذلك الفعل فيها . كالقوة على السلاح في الحرب ، وكالسباحة في إنقاذ الغريق ، والعلم بأمور الدّين في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، وكذلك تَعيّن العدد الَّذي يكفي للقيام بذلك الفعل مثل كون الجيش نصفَ عدد جيش العدوّ ، ولمَّا كان الأمر يستلزم متعلِّقاً فالمأمور في فرض الكفاية الفريق الّذين فيهم الشروط ، ومجموعُ أهل البلد ، أو القبيلة ، لتنفيذ ذلك ، فإذا قام به العدد الكافي ممّن فيهم الشروط سقط التكليف عن الباقين ، وإذا لم يقوموا به كان الإثم على البلد أو القبيلة ، لسكوت جميعهم ، ولتقاعس الصَّالحين للقيام بذلك ، مع سكوتهم أيضا ثمّ إذا قام به البعض فإنَّما يُثاب البعض خاصّة .
ومعنى الدعاء إلى الخير الدعاء إلى الإسلام ، وبثّ دعوة النّبيء صلى الله عليه وسلم فإنّ الخير اسم يجمع خصال الإسلام : ففي حديث حذيفة بن اليَمان « قلت : يا رسول الله إنّا كنّا في جاهلية وشَرّ فجاءَنا الله بهذا الخيْرِ فهل بعد هذا الخير من شرّ » الحديث ، ولذلك يكون عطف الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عليه من عطف الشيء على مغايره ، وهو أصل العطف . وقيل : أريد بالخير ما يشمل جميع الخيرات ، ومنها الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، فيكون العطف من عطف الخاصّ على العامّ للاهتمام به .
وحذفت مفاعيل يَدعون ويأمرون وَيَنهَوْن لقصد التَّعميم أي يَدعون كلّ أحد كما في قوله تعالى : { واللَّهُ يدعو إلى دار السَّلام } [ يونس : 25 ] .
والمعروف هو ما يعرف وهو مجاز في المقبول المرضي به ، لأنّ الشيء إذا كان معروفاً كان مألوفاً مقبولاً مرضيّاً به ، وأريد به هنا ما يُقبل عند أهل العقول ، وفي الشَّرائع ، وهو الحقّ والصلاح ، لأنّ ذلك مقبول عند انتفاء العوارض .
والمنكر مجاز في المكروه ، والكُرْه لازم للإنكار لأنّ النكر في أصل اللِّسان هو الجهل ومنه تسمية غير المألوف نكرة ، وأريد به هنا الباطل والفساد ، لأنَّهما من المكروه في الجبلّة عند انتفاء العوارض .
والتَّعريف في ( الخير والمعروف والمنكر ) تعريف الاستغراق ، فيفيد العموم في المعاملات بحسب ما ينتهي إليه العلم والمقدرة فيُشبه الاستغراق العرفي .
ومن المفسّرين من عيّن جعل ( مِن ) في قوله تعالى : { ولتكن منكم أمة } للبيان ، وتأوّل الكلام بتقدير تقديممِ البيان على المبيَّن فيَصِير المعنى : ولتكن أمَّة هي أنتم أي ولتكونوا أمَّة يدعون محاولة للتسويَّة بين مضمون هذه الآية ، ومضمون قوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف } [ آل عمران : 110 ] الآية . ومساواة معنيي الآيتين غير متعيّنة لِجواز أن يكون المراد من خير أمَّة هاته الأمَّة ، الَّتي قامت بالأمر بالمعروف ، على ما سنبيِّنه هنالك .
والآية أوجبت أن تقوم طائفة من المسلمين بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، ولا شكّ أن الأمر والنَّهي من أقسام القول والكلام ، فالمكلّف به هو بيان المعروف ، والأمر به ، وبيان المنكر ، والنَّهي عنه ، وأمَّا امتثال المأمورين والمنهيين لذلك ، فموكول إليهم أو إلى ولاة الأمور الَّذين يحملونهم على فعل ما أمروا به ، وأمَّا ما وقع في الحديث : « من رأى منكم منكراً فَلْيُغَيِّرْه بيدِه ، فإنْ لم يَسْتَطِعْ فبِلِسانه فإن لم يستطع فبقلبه » فذلك مرتبةُ التغيير ، والتَّغييرُ يكون باليد ، ويكون بالقلب ، أي تمنّى التَّغيير ، وأمَّا الأمر والنَّهي فلا يكونان بهما .
والمعروف والمنكر إن كانا ضروريين كان لكلّ مسلم أن يأمر وينهى فيهما ، وإن كانا نظريَّيْن ، فإنَّما يقوم بالأمر والنَّهي فيهما أهل العلم .
وللأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر شروط مبيّنة في الفقه والآداب الشرعية ، إلاّ أنِّي أنبِّه إلى شرط ساء فهم بعض النَّاس فيه وهو قول بعض الفقهاء : يشترط أن لا يجرّ النَّهي إلى منكر أعظم . وهذا شرط قد خرم مزيّة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، واتّخذه المسلمون ذريعة لترك هذا الواجب . ولقد ساء فهمهم فيه إذا مراد مشترطِه أن يتحقَّق الآمر أنّ أمره يجرّ إلى منكر أعظم لاَ أن يخاف أو يتوهّم إذ الوجوب قطعي لا يعارضه إلاّ ظنّ أقوى .
ولمّا كان تعيين الكفاءة للقيام بهذا الفرض ، في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، لتوقّفه على مراتب العلم بالمعروف والمنكر ، ومراتب القدرة على التَّغيير ، وإفهام النَّاس ذلك ، رأَى أيمة المسلمين تعيين ولاة للبحث عن المناكر وتعيين كيفية القيام بتغييرها ، وسمّوا تلك الولاية بالحسبة ، وقد أولى عمر بن الخطَّاب في هاته الولاية أم الشَفاء ، وأشهر من وليها في الدولة العبَّاسيَّة ابن عائشة ، وكان رجلاً صلباً في الحق ، وتسمّى هذه الولاية في المغرب ولاية السوق وقد وليها في قرطبة الإمام محمَّد بن خالد بن مَرْتَنِيل القرطبي المعروف بالأشجّ من أصحاب ابن القاسم توفِّي سنة 220 . وكانت في الدولة الحفصيَّة ولاية الحسبة من الولايات النبيهة وربَّما ضمّت إلى القضاء كما كان الحال في تونس بعد الدولة الحفصيَّة .
وجملة { وأولئك هم المفلحون } معطوفة على صفات أمَّة وهي الَّتي تضمّنتها جُمَلُ { يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } والتقدير : وهم مفلحون : لأن الفلاح لمّا كان مسبّباً على تلك الصفّات الثلاث جعل بمنزلة صفة لهم ، ويجوز جعل جملة { وأولئك هم المفلحون } حالاً من أمَّة ، والواو للحال .
والمقصود بشارتهم بالفلاح الكامل إن فعلوا ذلك . وكان مقتضى الظاهر فصل هذه الجملة عمّا قبلها بدون عطف ، مثل فصل جملة { أولئك على هدى من ربِّهم } [ البقرة : 5 ] لكن هذه عُطفت أو جاءت حالاً لأن مضمونها جزاء عن الجمل الَّتي قبلها ، فهي أجدر بأن تُلحق بها .
ومفاد هذه الجملة قصر صفة الفلاح عليهم ، فهو إمّا قصر إضافي بالنّسبة لمن لم يقم بذلك مع المقدرة عليه وإمّا قصر أريد به المبالغة لعدم الاعتداد في هذا المقام بفلاح غيرهم ، وهو معنى قصد الدّلالة على معنى الكمال .
وقوله : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا } معطوف على قوله : { ولتكن منكم أمة } وهو يرجع إلى قوله قبلُ : { ولا تفرقوا } [ آل عمران : 103 ] لما فيه من تمثيل حال التفرّق في أبشع صوره المعروفة لديهم من مطالعة أحوال اليهود . وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يفضي إلى التفرّق والاختلاف إذ تكثر النزعات والنزغات وتنشقّ الأمَّة بذلك انشقاقاً شديداً .
والمخاطب به يجري على الاحتمالين المذكورين في المخاطب بقوله : { ولتكن منكم أمة } مع أنّه لا شكّ في أن حكم هذه الآية يعمّ سائر المسلمين : إمَّا بطريق اللَّفظ ، وإمَّا بطريق لَحْن الخطاب ، لأن المنهي عنه هو الحالة الشبيهة بحال الَّذين تفرّقوا واختلفوا .
وأريد بالّذين تفرّقوا واختلفوا الَّذين اختلفوا في أصول الدّين ، من اليهود والنَّصارى ، من بعد ما جاءهم من الدلائل المانعة من الاختلاف والافتراق . وقدّم الافتراق على الاختلاف للإيذان بأن الاختلاف علّة التفرّق وهذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام وذكر الأشياء مع مقارناتها ، وفي عكسه قوله تعالى : { واتقوا اللَّه ويعلمكم اللَّه } [ البقرة : 282 ] .
وفيه إشارة إلى أنّ الاختلاف المذموم والَّذي يؤدّي إلى الافتراق ، وهو الاختلاف في أصول الدّيانة الَّذي يفضي إلى تكفير بعض الأمَّة بعضاً ، أو تفسيقه ، دون الاختلاف في الفروع المبنيّة على اختلاف مصالح الأمَّة في الأقطار والأعصار ، وهو المعبّر عنه بالاجتهاد . ونحن إذا تقصّينا تاريخ المذاهب الإسلاميَّة لا نجد افتراقاً نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف في العقائد والأصول ، دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشَّريعة .
والبيِّنات : الدلائل الَّتي فيها عصمة من الوقوع في الاختلاف لو قيضت لها أفهام .
وقوله : { وأولئك لهم عذاب عظيم } مقابل قوله في الفريق الآخر : { وأولئك هم المفلحون } فالقول فيه كالقول في نظيره ، وهذا جزاء لهم على التفرّق والاختلاف وعلى تفريطهم في تجنّب أسبابه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وعظ الله المؤمنين لكي لا يتفرقوا ولا يختلفوا كفعل أهل الكتاب، فقال: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} في الدين بعد موسى، فصاروا أديانا {من بعد ما جاءهم البينات}، يعني البيان، {وأولئك لهم عذاب عظيم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولا تكونوا يا معشر الذين آمنوا كالذين تفرّقوا من أهل الكتاب، واختلفوا في دين الله وأمره ونهيه، من بعد ما جاءهم البينات، من حجج الله، فيما اختلفوا فيه، وعلموا الحقّ فيه، فتعمدوا خلافه، وخالفوا أمر الله، ونقضوا عهده وميثاقه، جراءة على الله، وأولئك لهم: يعني ولهؤلاء الذين تفرّقوا، واختلفوا من أهل الكتاب، من بعد ما جاءهم عذاب من عند الله عظيم. يقول جل ثناؤه: فلا تفرّقوا يا معشر المؤمنين في دينكم تفرّق هؤلاء في دينهم، ولا تفعلوا فعلهم، وتستنوا في دينكم بسنتهم، فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} لأن التفريق هو سبيل الشيطان بقوله: {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] {من بعد ما جاءهم البينات} والبينات هي الحجج التي أتى بها، ويحتمل بيان ما في كتابهم من صفة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وبعثه الشريف، ويحتمل {تفرقوا} عما نهج الله لهم، وأوضح لهم الرسل، فأبدعوا لأنفسهم الأديان بالأهواء، فحذرنا ذلك، وعرفنا أن الخير كله في اتباع من جعله الله بحجة له ودليلا عليه وداعيا إليه، ولا قوة إلا بالله، {وأولئك لهم عذاب عظيم} دل هذا أن السبيل هو الذي يدعو الشيطان إليها...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(من بعد ما جاءهم البينات) معناه من بعد ما نصبت لهم الأدلة، ولا يدل ذلك على عناد الجميع، لأن قيام البينات إنما يعلم بها الحق إذا نظر فيها واستدل بها على الحق، فإن قيل: إذا كان التفرق في الدين هو الاختلاف فيه، فلم ذكر الوصفان؟ قلنا: لأن معنى "تفرقوا "يعني بالعداوة واختلفوا في الديانة، فمعنى الصفة الأولى مخالف لمعنى الصفة الثانية...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
206- المراد به تفرق الآراء واختلاف المذاهب في معاني كتاب الله وأصول الشريعة. [الإحياء: 2/243-244]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البينات} الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق.
الأول: أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بين في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أن أهل الكتاب حسدوا محمدا صلى الله عليه وسلم واحتالوا في إلقاء الشكوك والشبهات في تلك النصوص الظاهرة، ثم إنه تعالى أمر المؤمنين بالإيمان بالله والدعوة إلى الله، ثم ختم ذلك بأن حذر المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب، وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة الرافعة لدلالة هذه النصوص فقال: {ولا تكونوا} أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات {كالذين تفرقوا واختلفوا} من أهل الكتاب {من بعد ما جاءهم} في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة، فعلى هذا الوجه تكون الآية من تتمة جملة الآيات المتقدمة.
والثاني: وهو أنه تعالى لما أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك مما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادرا على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغالين، ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الألفة والمحبة بين أهل الحق والدين، لا جرم حذرهم تعالى من الفرقة والاختلاف لكي لا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية من تتمة الآية السابقة فقط.
المسألة الثانية: قوله {تفرقوا واختلفوا} فيه وجوه:
الأول: تفرقوا واختلفوا بسبب اتباع الهوى وطاعة النفس والحسد، كما أن إبليس ترك نص الله تعالى بسبب حسده لآدم.
الثاني: تفرقوا حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضا دون بعض، فصاروا بذلك إلى العداوة والفرقة...
قال بعضهم {تفرقوا واختلفوا} معناهما واحد وذكرهما للتأكيد وقيل: بل معناهما مختلف، ثم اختلفوا فقيل: تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين، وقيل: تفرقوا بسبب استخراج التأويلات الفاسدة من تلك النصوص، ثم اختلفوا بأن حاول كل واحد منهم نصرة قوله ومذهبه.
والثالث: تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسا في بلد، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل...
ثم قال تعالى: {وأولئك لهم عذاب عظيم} يعني الذين تفرقوا لهم عذاب عظيم في الآخرة بسبب تفرقهم، فكان ذلك زجرا للمؤمنين عن التفرق.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
الأظهر أن النهي فيه مخصوص بالتفرق في الأصول دون الفروع...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمر بذلك أكده بالنهي عما يضاده معرضاً بمن نزلت هذه الآيات فيهم من أهل الكتاب مبكتاً لهم بضلالهم واختلافهم في دينهم على أنبيائهم فقال: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا} بما ابتدعوه في أصول دينهم وبما ارتكبوه من المعاصي، فقادهم ذلك ولا بد إلى التخاذل والتواكل والمداهنة التي قصدوا بها المسالمة فجرتهم إلى المصارمة. ولما كان التفرق ربما كان بالأبدان فقط مع الاتفاق في الآراء بيَّن أن الأمر ليس كذلك فقال: {واختلفوا} بما أثمر لهم الحقد الحامل على الاتصاف بحالة من يظن أنهم جميع وقلوبهم شتى. ولما ذمهم بالاختلاف الذي دل العقل على ذمه زاد في تقبيحه بأنهم خالفوا فيه بعد نهي العقل واضح النقل فقال: {من} أي وابتدأ اختلافهم من الزمان الذي هو من {بعد ما جاءهم} وعظمه بإعرائه عن التأنيث {البينات} أي بما يجمعهم ويعليهم ويرفعهم ويوجب اتفاقهم وينفعهم، فأرداهم ذلك الافتراق وأهلكهم. ولما كان التقدير: فأولئك قد تعجلوا الهلاك في الدنيا فهم الخائبون، عطف عليه قوله: {وأولئك} أي البعداء البغضاء {لهم عذاب عظيم} أي في الدار الآخرة بعد عذاب الدنيا باختلافهم منابذين لما من شأنه الجمع، والآية من الاحتباك: إثبات "المفلحون "أولاً يدل على "الخاسرون" ثانياً، والعذاب العظيم ثانياً يدل على النعيم المقيم أولاً...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات} أي الآياتُ الواضحةُ المبينةُ للحق للاتفاق عليه واتحادِ الكلمة، فالنهيُ متوجهٌ إلى المتصدِّين للدعوة أصالةً وإلى أعقابهم تَبَعاً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى بأن تكون منا أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وبين أن أولئك هم المفلحون دون سواهم لأنهم هم الذين يقيمون الدين ويحفظون سياجه وبهم تتحقق الوحدة المقصودة منه- نهانا عن التفرق والاختلاف الذي يذهب بتلك الوحدة ويتعذر معه القيام بتلك الدعوة الصالحة... فهذه الآية متممة لقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله) وما بعدها فالاعتصام بحبل الله هو الأصل، وبه يكون الاجتماع والاتحاد الذي يجعل الأمة كالشخص الواحد، والدعوة إلى الخير هي التي تغذو هذه الوحدة وتمدها وتنميها؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقوم به أمة قوية هو الذي يحفظها ويؤيدها ويشد أزرها. قال الأستاذ الإمام: إن هذه الآية كالدليل على أنه يجب أن تكون وجهة الأمة الداعية الآمرة الناهية واحدة، لأن الذين سبقوهم ما أفلحوا لعدم وحدتهم. كأنه يقول: لا يمكن أن تتكون فيكم أمة للدعوة والأمر والنهي إلا إذا اجتمعت على مقصد واحد فالترتيب في الآيات طبيعي، إذ من البديهي أن المتفقين في المقصد لا يختلفون اختلافا ضارا ينافيه، وإنما يقع الاختلاف بعد التفرق في المقاصد والتباين في الأهواء بذهاب كل إلى تأييد مقصده وإرضاء هواه فيه. والاختلاف في الرأي لأجل تأييد المقصد المتفق عليه لا يضر بل ينفع وهو طبيعي لا مندوحة عنه...
وقوله تعالى: (من بعد ما جاءهم البينات) يفيد أن الإنسان لا يؤاخذ على ترك الحق أو اتباع الباطل إلا إذا تبين له ذلك حتى يتبين أو صار بحيث تبين له لو نظر فيه؛ والجهل ليس بعذر بعد البيان، كما هو المقرر عند العقلاء والحكام في كل مكان. قال تعالى في المتفرقين المختلفين بعد مجيء البينات (وأولئك لهم عذاب عظيم) فهذا الوعيد يقابل الوعد الكريم في الآية التي قبل هذه الآية بقوله تعالى في الداعين إلى الخير الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر "وأولئك هم المفلحون "فالفلاح في ذلك الوعد يشمل الفوز بخير الدنيا والآخرة. والعذاب في هذا الوعيد يشمل خسران الدنيا والآخرة. قال الأستاذ الإمام ما معناه: أما عذاب الدنيا فهو أن المتفرقين المختلفين الذين اتبعوا أهواءهم، وحكموا في دينهم آراءهم، يكون بأسهم بينهم شديدا فيشقى بعضهم ببعض، ثم يبتلون بالأمم الطامعة في الضعفاء فتذيقهم الخزي والنكال، وتسلبهم عزة الاستقلال، وأما عذاب الآخرة فقد بين الله في كتابه أنه أشد من عذاب الدنيا وأبقى...
ذلك العذاب العظيم يكون للمتفرقين المختلفين (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف؛ وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله قبلها -من أهل الكتاب- ثم تفرقوا واختلفوا، فنزع الله الراية منهم، وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية.. فوق ما ينتظرهم من العذاب، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إنّ الدعوة إلى الخير تتفاوت: فمنها ما هو بيّن يقوم به كلّ مسلم، ومنها ما يحْتاج إلى علم فيقوم به أهله، وهذا هو المسمّى بفرض الكفاية، يعني إذا قام به بعض النَّاس كفَى عن قيام الباقين، وتتعيَّن الطائفة الَّتي تقوم بها بتوفّر شروط القيام بمثل ذلك الفعل فيها. كالقوة على السلاح في الحرب، وكالسباحة في إنقاذ الغريق، والعلم بأمور الدّين في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وكذلك تَعيّن العدد الَّذي يكفي للقيام بذلك الفعل مثل كون الجيش نصفَ عدد جيش العدوّ، ولمَّا كان الأمر يستلزم متعلِّقاً فالمأمور في فرض الكفاية الفريق الّذين فيهم الشروط، ومجموعُ أهل البلد، أو القبيلة، لتنفيذ ذلك، فإذا قام به العدد الكافي ممّن فيهم الشروط سقط التكليف عن الباقين، وإذا لم يقوموا به كان الإثم على البلد أو القبيلة، لسكوت جميعهم، ولتقاعس الصَّالحين للقيام بذلك، مع سكوتهم أيضا ثمّ إذا قام به البعض فإنَّما يُثاب البعض خاصّة.
ومعنى الدعاء إلى الخير الدعاء إلى الإسلام، وبثّ دعوة النّبيء صلى الله عليه وسلم فإنّ الخير اسم يجمع خصال الإسلام: ففي حديث حذيفة بن اليَمان « قلت: يا رسول الله إنّا كنّا في جاهلية وشَرّ فجاءَنا الله بهذا الخيْرِ فهل بع د هذا الخير من شرّ» الحديث، ولذلك يكون عطف الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عليه من عطف الشيء على مغايره، وهو أصل العطف. وقيل: أريد بالخير ما يشمل جميع الخيرات، ومنها الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، فيكون العطف من عطف الخاصّ على العامّ للاهتمام به.
... والمنكر مجاز في المكروه، والكُرْه لازم للإنكار لأنّ النكر في أصل اللِّسان هو الجهل ومنه تسمية غير المألوف نكرة، وأريد به هنا الباطل والفساد، لأنَّهما من المكروه في الجبلّة عند انتفاء العوارض.
والتَّعريف في (الخير والمعروف والمنكر) تعريف الاستغراق، فيفيد العموم في المعاملات بحسب ما ينتهي إليه العلم والمقدرة فيُشبه الاستغراق العرفي.
... والآية أوجبت أن تقوم طائفة من المسلمين بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ولا شكّ أن الأمر والنَّهي من أقسام القول والكلام، فالمكلّف به هو بيان المعروف، والأمر به، وبيان المنكر، والنَّهي عنه، وأمَّا امتثال المأمورين والمنهيين لذلك، فموكول إليهم أو إلى ولاة الأمور الَّذين يحملونهم على فعل ما أمروا به، وأمَّا ما وقع في الحديث: « من رأى منكم منكراً فَلْيُغَيِّرْه بيدِه، فإنْ لم يَسْتَطِعْ فبِلِسانه فإن لم يستطع فبقلبه» فذلك مرتبةُ التغيير، والتَّغييرُ يكون باليد، ويكون بالقلب، أي تمنّى التَّغيير، وأمَّا الأمر والنَّهي فلا يكونان بهما.
والمعروف والمنكر إن كانا ضروريين كان لكلّ مسلم أن يأمر وينهى فيهما، وإن كانا نظريَّيْن، فإنَّما يقوم بالأمر والنَّهي فيهما أهل العلم.
وللأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر شروط مبيّنة في الفقه والآداب الشرعية، إلاّ أنِّي أنبِّه إلى شرط ساء فهم بعض النَّاس فيه وهو قول بعض الفقهاء: يشترط أن لا يجرّ النَّهي إلى منكر أعظم. وهذا شرط قد خرم مزيّة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، واتّخذه المسلمون ذريعة لترك هذا الواجب. ولقد ساء فهمهم فيه إذا مراد مشترطِه أن يتحقَّق الآمر أنّ أمره يجرّ إلى منكر أعظم لاَ أن يخاف أو يتوهّم إذ الوجوب قطعي لا يعارضه إلاّ ظنّ أقوى.
ولمّا كان تعيين الكفاءة للقيام بهذا الفرض، في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، لتوقّفه على مراتب العلم بالمعروف والمنكر، ومراتب القدرة على التَّغيير، وإفهام النَّاس ذلك، رأَى أيمة المسلمين تعيين ولاة للبحث عن المناكر وتعيين كيفية القيام بتغييرها، وسمّوا تلك الولاية بالحسبة، وقد أولى عمر بن الخطَّاب في هاته الولاية أم الشَفاء، وأشهر من وليها في الدولة العبَّاسيَّة ابن عائشة، وكان رجلاً صلباً في الحق، وتسمّى هذه الولاية في المغرب ولاية السوق وقد وليها في قرطبة الإمام محمَّد بن خالد بن مَرْتَنِيل القرطبي المعروف بالأشجّ من أصحاب ابن القاسم توفِّي سنة 220. وكانت في الدولة الحفصيَّة ولاية الحسبة من الولايات النبيهة وربَّما ضمّت إلى القضاء كما كان الحال في تونس بعد الدولة الحفصيَّة.
وجملة {وأولئك هم المفلحون} معطوفة على صفات أمَّة وهي الَّتي تضمّنتها جُمَلُ {يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} والتقدير: وهم مفلحون: لأن الفلاح لمّا كان مسبّباً على تلك الصفّات الثلاث جعل بمنزلة صفة لهم، ويجوز جعل جملة {وأولئك هم المفلحون} حالاً من أمَّة، والواو للحال.
والمقصود بشارتهم بالفلاح الكامل إن فعلوا ذلك. وكان مقتضى الظاهر فصل هذه الجملة عمّا قبلها بدون عطف، مثل فصل جملة {أولئك على هدى من ربِّهم} [البقرة: 5] لكن هذه عُطفت أو جاءت حالاً لأن مضمونها جزاء عن الجمل الَّتي قبلها، فهي أجدر بأن تُلحق بها.
ومفاد هذه الجملة قصر صفة الفلاح عليهم، فهو إمّا قصر إضافي بالنّسبة لمن لم يقم بذلك مع المقدرة عليه وإمّا قصر أريد به المبالغة لعدم الاعتداد في هذا المقام بفلاح غيرهم، وهو معنى قصد الدّلالة على معنى الكمال.
وقوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا} معطوف على قوله: {ولتكن منكم أمة} وهو يرجع إلى قوله قبلُ: {ولا تفرقوا} [آل عمران: 103] لما فيه من تمثيل حال التفرّق في أبشع صوره المعروفة لديهم من مطالعة أحوال اليهود. وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يفضي إلى التفرّق والاختلاف إذ تكثر النزعات والنزغات وتنشقّ الأمَّة بذلك انشقاقاً شديداً.
والمخاطب به يجري على الاحتمالين المذكورين في المخاطب بقوله: {ولتكن منكم أمة} مع أنّه لا شكّ في أن حكم هذه الآية يعمّ سائر المسلمين: إمَّا بطريق اللَّفظ، وإمَّا بطريق لَحْن الخطاب، لأن المنهي عنه هو الحالة الشبيهة بحال الَّذين تفرّقوا واختلفوا.
وأريد بالّذين تفرّقوا واختلفوا الَّذين اختلفوا في أصول الدّين، من اليهود والنَّصارى، من بعد ما جاءهم من الدلائل المانعة من الاختلاف والافتراق. وقدّم الافتراق على الاختلاف للإيذان بأن الاختلاف علّة التفرّق وهذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام وذكر الأشياء مع مقارناتها، وفي عكسه قوله تعالى: {واتقوا اللَّه ويعلمكم اللَّه} [البقرة: 282].
وفيه إشارة إلى أنّ الاختلاف المذموم والَّذي يؤدّي إلى الافتراق، وهو الاختلاف في أصول الدّيانة الَّذي يفضي إلى تكفير بعض الأمَّة بعضاً، أو تفسيقه، دون الاختلاف في الفروع المبنيّة على اختلاف مصالح الأمَّة في الأقطار والأعصار، وهو المعبّر عنه بالاجتهاد. ونحن إذا تقصّينا تاريخ المذاهب الإسلاميَّة لا نجد افتراقاً نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف في العقائد والأصول، دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشَّريعة.
والبيِّنات: الدلائل الَّتي فيها عصمة من الوقوع في الاختلاف لو قيضت لها أفهام.
وقوله: {وأولئك لهم عذاب عظيم} مقابل قوله في الفريق الآخر: {وأولئك هم المفلحون} فالقول فيه كالقول في نظيره، وهذا جزاء لهم على التفرّق والاختلاف وعلى تفريطهم في تجنّب أسبابه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} بعد أن بيّن سبحانه وجوب الاعتصام بحبل الله، وأن الاعتصام به مدعاة الوحدة والقوة والاجتماع على الحق، وبين طريقه وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أخذ سبحانه وتعالى يشير إلى نتائج التفرق، ناهيا عنه محذرا منه، مبيّنا نتائجه في الدنيا والآخرة، وأول نتائج التفرق هي العمى عن الحق مع وضوحه وقيام البينات عليه، فقال سبحانه: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا} نهى سبحانه وتعالى بهذا عن التفرق بأبلغ تعبير، وألطف إشارة، فقد كان النهي عن أن يكونوا كمن سبقوهم في التفرق، وذلك نهي مع الدليل الموجب للنهي، والغاية التي ترتبت على النهي عنه، وذلك بالإشارة إلى ما كان ممن سبقوهم؛ إذ تفرقوا أحزابا وشيعا كل حزب بما لديهم فرحون، فتفرق اليهود طوائف، وتفرق النصارى طوائف مثلهم، وكل طائفة تكفر الأخرى، أو ترميها بالزيغ والضلال، وقد ترتب على التفرق وتوزع أهوائهم ومنازعهم أن اختلفوا في إدراك الكتاب مع وضوحه، ومع ما جاءهم من البينات الموضحة المبينة التي قامت مثبتة للحق، وهو واحد لا يتعدد، وإن ذلك فيه بيان نتيجة التفرق، وهو الاختلاف مع وجود الحق، وهو تأكيد لمضمون النهي؛ لأنه إذا كان التفرق مؤديا إلى استبهام الحق أمام المختلفين مع وضوحه في ذاته، فإن الافتراق في ذاته أمر قبيح، وإن هذه الصيغة فوق ذلك فيها الاعتبار بمن سبقوا، ووضع صورة واقعية لنتائج الافتراق، ولذا كان قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا} أكثر معاني من (ولا تتفرقوا)، وهي في هذا المقام أبلغ وأبين، ولأن الآيات السابقة فيها كلام عن أحوال اليهود والنصارى، ومناقضتهم للحقائق الإسلامية، ومحاولتهم تضليل المسلمين عن الحق الصريح، فكان من المناسب أن يشار إلى حالهم، ونتائج تفرقهم، وإعراضهم عن الحق بعد إذ تبين لهم.
وقد يقول قائل: إن الاختلاف يؤدي إلى التفرق مع ظاهر الآية أن الافتراق هو الذي أدى إلى الاختلاف، ونقول في ذلك: عن الاختلاف الذي لا ينشأ عن التفرق ولا يؤدي إليه هو اختلاف تفكير، ولا بد أن يصل فيه المختلفون إلى الحق ولا يضلون، وأما الاختلاف الذي يؤدي إلى الافتراق، فهو بلا شك يؤدي إلى الضلال، ويترتب عنه ضلال مع وجود بينات الحق؛ إذ التفرق معناه انحياز كل جماعة إلى ناحية وفرق معين، وكذلك السابق على الاختلاف، فإنه يكون نوعا من تحكم الهوى، أو العصبية النسبية، أو العصبية الإقليمية، فيكون كل تفكير تحت سلطان هذه العصبية، فلا تستقيم الحقائق، ولا تدركها العقول، مع قيام البينات.
وقد بين سبحانه نتائج هذا الضلال في الآخرة، فقال سبحانه: {وأولئك لهم عذاب عظيم}.
أي أولئك الذين فرقتهم الهواء فضلوا ولم يدركوا الحق مع قيام البينات عليه لهم عذاب عظيم في الآخرة، وهذا التهديد الشديد مقابل للنتيجة الحسنة التي تكون ثمرة التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهي الثابتة بقوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون5} [البقرة].فالافتراق نتيجته خسران في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وينهى القرآن عن السير في خطّ التفرّق والاختلاف الذي يؤدّي إلى انهيار المجتمعات وابتعادها عن خطّ الاستقامة، من خلال ما يُحدثه من التمزّق الأخلاقي والسقوط الاجتماعي، الذي يفقد فيه المجتمع توازنه الفكري والعملي، فيسيطر عليه المترفون الذين يعملون على إضلال النَّاس وإسقاط قيمهم الروحيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاقتصاديّة لمصلحة امتيازاتهم الظالمة، أو يتولى أمره المستكبرون والكافرون الظالمون فيبتعدون به عن خطّه المستقيم وإيمانه القويم: [ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا] فلم يلتقوا على قاعدةٍ فكريةٍ واحدة على مستوى العقيدة والمفاهيم العامّة والتصوّر الشامل الدقيق للأشياء، بل أخذ كلّ واحد منهم بشيء من الأفكار المختلفة التي يُناقض بعضها بعضاً، ما يؤدّي إلى التنافر والتنازع والضلال، [من بعد ما جاءهم البيِّنات] فاختاروا الكفر على الإيمان بعد قيام الحجّة عليهم من اللّه سبحانه بالدلائل الواضحة والبيِّنات القوية، [وأولئك لهم عذابٌ عظيمٌ] جزاء تمرّدهم على اللّه وانحرافهم عن خطِّه المستقيم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الفرقة بعد الاتحاد من شيم النصارى واليهود:
تقتضي أهمية الوحدة أن يركز القرآن الكريم ويؤكد عليها مرّة بعد أخرى، ولذا يذكر بأهمية الاتحاد، ويحذر من تبعات الفرقة والنفاق وآثارها المشؤومة، بقوله (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات).
إن هذه الآية تحذر المسلمين من أن يتبعوا كالأقوام السابقة مثل اليهود والنصارى سبيل الفرقة والاختلاف بعد أن جاءتهم البينات وتوحدت صفوفهم عليها، فيكسبوا بذلك العذاب الأليم.
إنه في الحقيقة يدعو المسلمين إلى أن يعتبروا بالماضي، ويتأملوا في حياة السابقين، وما آلوا إليه من المصير المؤلم، بسبب الاختلاف والتشتت.
إنها لفتة تاريخية من شأنها أن توقفنا على ما ينتظر كلّ أُمة من سوء العواقب إذا هي سلكت سبيل النفاق، وتفرقت بعد ما توحدت، وتشتّتت بعد ما تجمعت.
إن إصرار القرآن الكريم في هذه الآيات على اجتناب الفرقة والنفاق إنما هو تلميح إلى أن هذا الأمر سيقع في المجتمع الإسلامي مستقبلاً، لأن القرآن لم يحذّر من شيء أو يصر على شيء إلاَّ وكان ذلك إشارة على وقوعه في المستقبل.
ولقد تنبأ الرسول الأكرم بهذه الحقيقة وأخبر المسلمين عنها، بصراحة إذ قال:
«إن أمة موسى افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت أمة عيسى بعده على اثنتين وسبعين فرقة، وأن أمتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين فرقة».
والظاهر أن عدد (70) إشارة إلى الكثرة فهو عدد تكثيري، لا عدد إحصائي، فالرواية تعني أن فرقة واحدة فقط بين اليهود والنصارى هي المحقّة الناجية، وفرقاً كثيرة في النار، وهكذا الحال في المسلمين، وربّما يزداد عدد اختلافات المسلمين على ذلك.
ولذا أشار القرآن الكريم بما أخبر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً إلى ما يقع بين المسلمين بعد وفاته من الاختلاف والفرقة، والخروج عن الطريق المستقيم الذي لا يكون إلاَّ طريقاً واحداً، والانحراف عن جادة الحقّ في العقائد الدينية، بل ويذهب المسلمون في هذا الاختلاف إلى حد تكفير بعضهم بعضاً، وشهر السيوف، والتلاعن والتشاتم، وهدر النفوس، واستحلال الدماء والأموال، بل ويبلغ الاختلاف بينهم أن يلجأ بعض المسلمين إلى الكفّار، وإلى مقاتلة الأخ أخاه.
وبهذا تتبدل الوحدة التي كانت من أسباب تفوق المسلمين السابقين ونجاحهم إلى النفاق والاختلاف والتشرذم والتمزق، وتنقل حياتهم السعيدة إلى حياة شقية، وتحلّ الذلة محل العزّة، والضعف مكان القوة وتتبدد العظمة السامية، وينتهي المجد العظيم.
أجل إن الذين يسلكون سبيل الاختلاف بعد الوحدة، والفرقة بعد الاتحاد سيكون لهم عذاب أليم.
إنّه ليس من شكّ في أن نتيجة الاختلاف والفرقة لن تكون سوى الذلة والانكسار، فذلك هو سر سقوط الأُمم وذلتها، إنه الاختلاف والتشتت، والنفاق والتدابر.
إن المجتمع الذي تحطمت وحدته بسبب الفرقة، وتفتت تماسكه بسبب الاختلاف، سيتعرض لا محالة لغزو الطامعين، وستكون حياته عرضة لأطماع المستعمرين، بل ومسرحاً لتجاوزاتهم، وما أشد هذا العذاب، وما أقسى هذه العاقبة؟ أجل تلك هي عاقبة النفاق والاختلاف في الدنيا.
وأما عذاب الآخرة فهو كما وصفه الله تعالى في القرآن الكريم أشد وأخزى. فذلك هو ما ينتظر المفرّقين المختلفين، وذلك هو ما يجب أن يتوقعه كلّ من حبذ النفاق على الاتفاق، والتدابر على التآلف، والتشتت على الاجتماع... خزي في الدنيا، وعذاب أخزى في الآخرة.