16- وقد آل الملك والحكم من داود إلى سليمان ابنه ، وقال : يا أيها الناس عُلِّمنا لغة الطير ، وأوتينا كثيرا مما نحتاج إليه في سلطاننا : إن هذه النعم لهي الفضل الواضح الذي خصنا الله به{[165]} .
قوله تعالى : { وورث سليمان داود } ، نبوته وعلمه وملكه دون سائر أولاده ، وكان لداود تسعة عشر ابناً ، وأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك ، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين . وقال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبداً من سليمان ، وكان سليمان شاكراً لنعم الله تعالى . { وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير } سمى صوت الطير منطقاً لحصول الفهم منه ، كما يفهم من كلام الناس . روي عن كعب قال : صاح ورشان عند سليمان عليه السلام ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : إنه يقول لدوا للموت وابنوا للخراب ، وصاحت فاختة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا ، قال : إنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح طاووس ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : كما تدين تدان ، وصاح هدهد ، فقال : أتدرون ما يقول هذا ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : من لا يرحم لا يرحم ، وصاح صرد ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، قال : وصاحت طوطوى ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنها تقول : كل حي ميت وكل جديد بال ، وصاح خطاف ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : قدموا خيراً تجدوه ، وهدرت حمامة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه ، وصاح قمري ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : سبحان ربي الأعلى ، قال : والغراب يدعو على العشار ، والحدأة تقول : كل شيء هالك إلا الله ، والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه ، والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس ، والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده ، والضفدعة تقول : سبحان المذكور بكل لسان . وعن مكحول قال : صاح دراج عند سليمان ، فقال : هل تدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : الرحمن على العرش استوى . وعن فرقد السنجي قال مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ فقالوا الله ونبيه أعلم ، قال يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء . وروي أن جماعة من اليهود قالوا لابن عباس : إنا سائلوك عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمنا وصدقنا ، قال : سلوا تفقهاً ولا تسألوا تعنتاً ، قالوا : أنبأناما يقول القنبر في صفيره ، والديك في صعيقه ، والضفدع في نقيقه ، والحمار في نهيقه ، والفرس في صهيله ، وماذا يقول الزرزور والدراج . قال : نعم ، أما القنبر فيقول : اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد ، وأما الديك فيقول : اذكروا الله يا غافلين ، وأما الضفدع فيقول : سبحان المعبود في لجج البحار ، وأما الحمار فيقول : اللهم العن العشار ، وأما الفرس فيقول : إذا التقى الصفان : سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، وأما الزرزور فيقول : اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق ، وأما الدراج فيقول : الرحمن على العرش استوى ، قال : فأسلم اليهود وحسن إسلامهم . وروي عن عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي قال : " إذا صاح النسر قال : يا ابن آدم ، عش ما شئت آخره الموت ، وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس أنس ، وإذا صاح القنبر قال : إلهي العن مبغضي آل محمد ، وإذا صاح الخطاف ، قرأ : الحمد لله رب العالمين ، ويمد الضالين كما يمد القارئ " . قوله تعالى : { وأوتينا من كل شيء } يؤتى الأنبياء والملوك ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا والآخرة . وقال مقاتل : يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والرياح ، { إن هذا لهو الفضل المبين } الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا .
وروى أن سليمان عليه السلام أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر ، ملك جميع أهل الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع ، وأعطي على ذلك منطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة .
فلما مدحهما مشتركين خص سليمان بما خصه به لكون الله أعطاه ملكا عظيما وصار له من الماجريات ما لم يكن لأبيه صلى الله عليهما وسلم فقال : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } .
أي : ورث علمه ونبوته فانضم علم أبيه إلى علمه ، فلعله تعلم من أبيه ما عنده من العلم مع ما كان عليه من العلم وقت أبيه كما تقدم من قوله ففهمناها سليمان ، وقال شكرا لله وتبجحا بإحسانه وتحدثا بنعمته : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ } فكان عليه الصلاة [ والسلام ] يفقه ما تقول وتتكلم به كما راجع الهدهد وراجعه ، وكما فهم قول النملة للنمل كما يأتي وهذا لم يكن لأحد غير سليمان عليه الصلاة والسلام .
{ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } أي : أعطانا الله من النعم ومن أسباب الملك ومن السلطنة والقهر ما لم يؤته أحدا من الآدميين ، ولهذا دعا ربه فقال : { وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي } {[590]} فسخر الله له الشياطين يعملون له كل ما شاء من الأعمال التي يعجز عنها غيرهم ، وسخر له الريح غدوها شهر ورواحها شهر .
{ إِنَّ هَذَا } الذي أعطانا الله وفضلنا واختصنا به { لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } الواضح الجلي فاعترف أكمل اعتراف بنعمة الله تعالى .
والمراد بالوراثة فى قوله - تعالى - : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ . . . } وراثة العلم والنبوة والملك . أى : وورث سليمان داود فى نبوته وعلمه وملكه .
قال ابن كثير : " وقوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } : أى : فى الملك والنبوة وليس المراد وراثة المال ، إذ لو كان كذلك ، لم يخص سليمان وحده من ين سائر أولاد داود .
. . ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة فإن الأنبياء لا تورث أموالهم ، أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " .
ثم حكى - سبحانه - ما قاله سليمان على سبيل التحدث بنعم الله عليه ، فقال - تعالى - : { وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ . . } .
أى : وقال سليمان - عليه السلام - على سبيل الشكر لله - تعالى - : يأيها الناس : علمنا الله - تعالى - بفضله وإحسانه فهم ما يريده كل طائر إذا صوت أو صاح ، وأعطانا - سبحانه - من كل شىء نحتاجه وننتفع به فى ديننا أو دنيانا .
وقدم نعمة تعليمه منطق الطير ، لأنها نعمة خاصة لا يشاركه فيها غيره ، وتعتبر من معجزاته - عليه السلام - .
وقيل : إنه علم منطق جميع الحيوانات ، وإنما ذكر الطير لأنه أظهر فى النعمة ، ولأن الطير كان جندا من جنده ، يسير معه لتظليله من الشمس .
قال الآلوسى : " والجملتان - علمنا منطق الطير ، وأوتينا من كل شىء - كالشرح للميراث .
وعن مقاتل : أنه أريد بما أوتيه النبوة والملك وتسخير الجن والإنس والشياطين والريح .
وعن ابن عباس : هو ما يريده من أمر الدنيا والآخرة " .
وعبر عن نعم الله - تعالى - عليه بنون العظمة فقال { أُوتِينَا } ولم يقل أوتيت ، للإشعار بأنه عبد من عباد الله المطاعين ، الذين سخر لهم جنوداً من الجن والإنس والطير ، ليكونوا فى خدمته ، وليستعملهم فى وجوه الخير فى فى وجوه الشر ، فهو لم يقل ذلك على سبيل التباهى والتعالى ، وإنما قاله على سبيل التحدث بنعمى الله .
وإسم الإشارة فى قوله - تعالى - : { إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } يعود إلى ما أعطاه الله - تعالى - إياه من العلم والملك وغيرهما .
أى : إن هذا الذى أعطانا إياه من العلم والملك ، وكل شىء تدعو إليه الحاجة ، لهو الفضل الواضح ، والإحسان الظاهر منه - عز وجل - .
وبعد تلك الإشارة إلى الإنعام بمنة العلم على داود وسليمان ، وحمدهما لله ربهما على منته وعرفانهما بقدرها وقيمتها يفرد سليمان بالحديث :
( وورث سليمان داود . وقال : يا أيها الناس علمنا منطق الطير ، وأوتينا من كل شيء . إن هذا لهو الفضل المبين ) . .
وداود أوتي الملك مع النبوة والعلم . ولكن الملك لا يذكر في صدد الحديث عن نعمة الله عليه وعلى سليمان . إنما يذكر العلم . لأن الملك أصغر من أن يذكر في هذا المجال !
( وورث سليمان داود )والمفهوم أنها وراثة العلم ، لأنه هو القيمة العليا التي تستأهل الذكر . ويؤكد هذا إعلان سليمان في الناس : ( قال : يا أيها الناس علمنا منطق الطير ، وأوتينا من كل شيء ) . . فيظهر ما علمه من منطق الطير ويجمل بقية النعم مع إسنادها إلى المصدر الذي علمه منطق الطير . وليس هو داود . فهو لم يرث هذا عن أبيه . وكذلك ما أوتيه من كل شيء إنما جاءه من حيث جاءه ذلك التعليم .
( يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء ) . . يذيعها سليمان - عليه السلام - في الناس تحدثا بنعمة الله ، وإظهارا لفضله ، لا مباهاة ولا تنفجا على الناس . ويعقب عليها ( إن هذا لهو الفضل المبين )فضل الله الكاشف عن مصدره ، الدال على صاحبه . فما يملك تعليم منطق الطير لبشر إلا الله . وكذلك لا يؤتي أحدا من كل شيء - بهذا التعميم - إلا الله .
وللطيور والحيوان والحشرات وسائل للتفاهم - هي لغاتها ومنطقها - فيما بينها . والله سبحانه خالق هذه العوالم يقول : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم )ولا تكون أمما حتى تكون لها روابط معينة تحيا بها ، ووسائل معينة للتفاهم فيما بينها . و ذلك ملحوظ في حياة أنواع كثيرة من الطيور والحيوان والحشرات . ويجتهد علماء هذه الأنواع في إدراك شيء من لغاتها ووسائل التفاهم بينها عن طريق الحدس والظن لا عن الجزم واليقين . فأما ما وهبه الله لسليمان - عليه السلام - فكان شأنا خاصا به على طريق الخارقة التي تخالف مألوف البشر . لا على طريق المحاولة منه والاجتهاد لتفهم وسائل الطير وغيره في التفاهم ، على طريق الظن والحدس ، كما هو حال العلماء اليوم . . .
أحب أن يتأكد هذا المعنى ويتضح لأن بعض المفسرين المحدثين ممن تبهرهم انتصارات العلم الحديث يحاولون تفسير ما قصه القرآن عن سليمان - عليه السلام - في هذا الشأن بأنه نوع من إدراك لغات الطير والحيوان والحشرات على طريقة المحاولات العلمية الحديثة . وهذا إخراج للخارقة عن طبيعتها ، وأثر من آثار الهزيمة والانبهار بالعلم البشري القليل ! وإنه لأيسر شيء وأهون شيء على الله ، أن يعلم عبدا من عباده لغات الطير والحيوان والحشرات ، هبة لدنية منه ، بلا محاولة ولا اجتهاد . وإن هي إلا إزاحة لحواجز النوع التي أقامها الله بين الأنواع . و هو خالق هذه الأنواع !
على أن هذا كله لم يكن إلا شقا واحدا للخارقة التي أتاحها الله لعبده سليمان . أما الشق الآخر فكان تسخير طائفة من الجن والطير لتكون تحت إمرته ، وطوع أمره ، كجنوده من الإنس سواء بسواء . والطائفة التي سخرها له من الطير وهبها إدراكا خاصا أعلى من إدراك نظائرها في أمة الطير .
يبدو ذلك في قصة الهدهد الذي أدرك من أحوال ملكة سبأ وقومها ما يدركه أعقل الناس وأذكاهم وأتقاهم . وكان ذلك كذلك على طريق الخارقة والإعجاز . .
حقيقة إن سنة الله في الخلق جرت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه ، ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان ؛ وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة في سلسلة التناسق الكوني العام . وإنها خاضعة - كحلقة مفردة - للناموس العام ، الذي يقتضي وجودها على النحو الذي وجدت به .
وحقيقة إن الهدهد الذي يولد اليوم ، هو نسخة من الهدهد الذي وجد منذ ألوف أو ملايين من السنين ، منذ أن وجدت الهداهد . وإن هناك عوامل وراثة خاصة تجعل منه نسخة تكاد تكون طبق الأصل من الهدهد الأول . ومهما بلغ التحوير فيه ، فهو لا يخرج من نوعه ، ليرتقي إلى نوع آخر . . وإن هذا - كما يبدو - طرف من سنة الله في الخلق ، ومن الناموس العام المنسق للكون .
ولكن هاتين الحقيقتين الثابتتين لا تمنعان أن تقع الخارقة عندما يريدها الله خالق السنن والنواميس . وقد تكون الخارقة ذاتها جزءا من الناموس العام ، الذي لا نعرف أطرافه . جزءا يظهر في موعده الذي لا يعلمه إلا الله ، يخرق المألوف المعهود للبشر ، ويكمل ناموس الله في الخلق والتناسق العام . وهكذا وجد هدهد سليمان ، وربما كل الطائفة من الطير التي سخرت له في ذلك الزمان .
ونعود من هذا الاستطراد إلى تفصيل قصة سليمان بعد وراثته لداود وإعلانه ما حباه الله به من علم وتمكين وإفضال
وقوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } أي : في الملك والنبوة ، وليس المراد وراثَةَ المال ؛ إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود ، فإنه قد كان لداود مائةُ امرأة . ولكن المراد بذلك وراثةُ الملك والنبوة ؛ فإن الأنبياء لا تورث أموالهم ، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في قوله ]{[21982]} : نحن معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة{[21983]}-{[21984]} .
وقوله{[21985]} : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ }{[21986]} ، أي : أخبر سليمان بنعم الله عليه ، فيما وهبه له من الملك التام ، والتمكين العظيم ، حتى إنه سَخَّر له الإنس والجن والطير . وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضًا ، وهذا شيء لم يُعطَه أحد من البشر - فيما علمناه - مما أخبر الله به ورسوله . وَمَنْ زعم من الجهلة والرّعاع أنّ الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود - كما يتفوه به كثير من الناس - فهو قولٌ بلا علم . ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة ؛ إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم ، ويعرف ما تقول ، فليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا ، بل لم تزل{[21987]} البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خُلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال . ولكن الله ، سبحانه وتعالى ، كان قد أفهم سليمان ، عليه السلام ، ما يتخاطب به الطيور في الهواء ، وما تنطق{[21988]} به الحيوانات على اختلاف أصنافها ؛ ولهذا قال : { عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } أي : مما يحتاج إليه الملك ، { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } أي : الظاهر البين لله علينا .
قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كان داود ، عليه السلام ، فيه غيرة شديدة ، فكان إذا خرج أغلقت الأبواب ، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع " . قال : " فخرج ذات يوم وأغلقت{[21989]} الأبواب ، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار ، فإذا رجل قائم وسط الدار ، فقالت لِمَنْ في البيت : من أين دخل هذا الرجل ، والدار مغلقة ؟ والله لنفتضحن بداود ، فجاء داود ، عليه السلام ، فإذا الرجل قائم وسط الدار ، فقال له داود : من أنت ؟ قال : الذي لا يهاب الملوك ، ولا يمتنع من الحجاب . فقال داود : أنت والله إذًا ملك الموت . مرحبًا بأمر الله ، فتزمل داود ، عليه السلام ، مكانه حتى قبضت نفسه ، حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس ، فقال سليمان ، عليه السلام ، للطير : أظلي على داود ، فأظلت عليه الطير حتى أظلمت عليهما الأرض ،
فقال لها سليمان : اقبضي جناحا جناحا " قال أبو هريرة : يا رسول الله ، كيف فعلت الطير ؟ فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، وغلبت عليه يومئذ المضرَحية{[21990]}-{[21991]} .
قال أبو الفرج بن الجَوْزيّ : المَضْرَحيّة{[21992]} النسور الحُمر .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَأَيّهَا النّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَيْءٍ إِنّ هََذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } .
يقول تعالى ذكره : وَوَرِثَ سُلَيْمانُ أباه دَاوُدَ العلم الذي كان آتاه الله في حياته ، والمُلك الذي كان خصه به على سائر قومه ، فجعله له بعد أبيه داود سائر ولد أبيه . وَقالَ يا أيّها النّاس عُلّمْنا مَنْطِقَ الطّيْرِ يقول : وقال سليمان لقومه : يا أيها الناس علمنا منطق الطير ، يعني فهمنا كلامها وجعل ذلك من الطير كمنطق الرجل من بني آدم إذ فهمه عنها ، وقد :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب وَقالَ يا أيّها النّاسُ عُلّمْنا مَنْطِقَ الطّيْر قال : بلغنا أن سليمان كان عسكره مئة فرسخ : خمسة وعشرون منها للإنس ، وخمسة وعشرون للجنّ وخمسة وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاث مئة صريحة ، وسبع مئة سرية ، فأمر الريح العاصف فرفعته ، وأمر الرّخاء فسيرته فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض : إني قد أردت أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح فأخبرته . وقوله : وأُوتينا مِنْ كلّ شَيْءٍ يقول : وأُعطينا ووُهب لنا من كلّ شيء من الخيرات إنّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ يقول : إن هذا الذي أوتينا من الخيرات لهو الفضل على جميع أهل دهرنا المبين ، يقول : الذي يبين لمن تأمّله وتدبره أنه فضل أُعطيناه على من سوانا من الناس .
{ وورث سليمان داود } النبوة أو العلم أو الملك بأن قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر . { وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء } تشهيرا لنعمة الله وتنويها بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير وغير ذلك من عظائم ما أوتيه ، والنطق والمنطق في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا كان أو مركبا وقد يطلق لكل ما يصوت به على التشبيه ، أو التبع كقولهم نطقت الضمير مفردا كان أو مركبا وقد يطلق لكل ما يصوت به على التشبيه أو التبع كقولهم نطقت الحمامة ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد ، فإن الأصوات الحيوانية من حيث إنها تابعة للتخيلات منزلة منزلة العبارات سيما وفيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض بحيث يفهمها ما من جنسه ، ولعل سليمان عليه الصلاة والسلام مهما سمع صوت حيوان علم بقوته القدسية التخيل الذي صوته والغرض الذي توخاه به . ومن ذلك ما حكي أنه مر ببلبل يصوت ويترقص فقال : يقول إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء ، وصاحت فاختة فقال : إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا ، فلعله كان صوت البلبل عن شبع وفراغ بال وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلب ، والضمير في { علمنا } { وأوتينا } له ولأبيه عليهما الصلاة والسلام أوله وحده على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة ، والمراد { من كل شيء } كثرة ما أوتي كقولك : فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء . { إن هذا لهو الفضل المبين } الذي لا يخفى على أحد .
{ وورث سليمان } ملكه ومنزلته من النبوءة بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فسمي ميراثاً تجوزاً ، وهذا نحو قولهم : العلماء ورثة الأنبياء ، وحقيقة الميراث في المال والأنبياء لا تورث أموالهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة » ، ويحتمل قوله عليه السلام «إنا معشر الأنبياء لا نورث »{[1]} أن يريد به أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم وإن كان فيهم من ورث ماله كزكرياء على أشهر الأقوال فيه ، وهذا كما تقول : إنا معشر المسلمين إنما شغلنا العبادة ، فالمراد أن ذلك فيه فعل الأكثر ، ومنه ما حكى سيبويه أنا معشر العرب أقرى الناس لضيف . وقوله { علمنا منطق الطير } إخبار بنعمة الله عندهما في أن فهمهما من أصوات الطير المعاني التي نفوسها ، وهذا نحو ما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يسمع أصوات الحجارة بالسلام وسليمان عليه السلام حكى عن البلبل أنه قال : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء إلى كثير من هذا النوع وقال قتادة والشعبي وغيره : إنما كان هذا الأمر في الطير خاصة والنملة طائر قد يوجد له الأجنحة ، قال الشعبي : وكذلك كانت هذه القائلة ذات جناحين ، وقالت فرقة : بل كان في جميع الحيوان وإنما ذكر الطير لأنه كان جنداً من جنود سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص لكثرة مداخلته ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد أمْر الطير ، والنمل حيوان فطن قويّ شمام جداً يدخر القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت ويشق الكزبرة بأربع قطع لأنها تنبت إذا قسمت شقين ويأكل في عامه نصف ما جمع ، ويستبقي سائره عُدَّه ، وقوله { وأوتينا من كل شيء } معناه يصلح لنا ونتمناه وليست على العموم ، ثم ردد شكر فضل الله تعالى .
طوى خبر ملك داود وبعض أحواله إلى وفاته لأن المقصود هو قصة سليمان كما قدمناه آنفاً . وقد كان داود ملكاً على بني إسرائيل ودام ملكه أربعين سنة وتوفي وهو ابن سبعين سنة .
فخلفه سليمان فهو وارث ملكه والقائم في مقامه في سياسة الأمة وظهور الحكمة ونبوءة بني إسرائيل والسمعة العظيمة بينهم . فالإرث هنا مستعمل في معناه المجازي وهو تشبيه الأحوال الجليلة بالمال وتشبيه الخلفة بانتقال ملك الأموال لظهور أن ليس غرض الآية إفادة من انتقلت إليه أموال داود بعد قوله : { ولقد آتينا داوود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضَّلنا } [ النمل : 15 ] فتعين أن إرث المال غير مقصود فإنه غرض تافه .
وقد كان لداود أحدَ عشر ولداً فلا يختص إرثُ ماله بسليمان وليس هو أكبرهم ، وكان داود قد أقام سليمان ملكاً على إسرائيل . وبهذا يظهر أن ليس في الآية ما يحتج به لجواز أن يورث مال النبي ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا نُورث ما تركنَا صدقة " ، وظاهره أنه أراد من الضمير جماعة الأنبياء وشاع على ألسنة العلماء : إنا أو نَحن معاشرَ الأنبياء لا نورث ، ولا يعرف بهذا اللفظ ، ووقع في كلام عمر بن الخطاب مع العباس وعلي في شأن صدقة النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر : « أنشدكما الله هل تعلمان أن رسول الله قال : لا نُورث ما تركنا صدقة ، يريد رسولُ الله نفسَه » وكذلك قالت عائشة ، فإذا أخذنا بظاهر الآية كان هذا حكماً في شرع من قبلنا فينسخ بالإسلام ، وإذا أخذنا بالتأويل فظاهر . وقد أجمع الخلفاء الراشدون وغيرهم على ذلك ، خلافاً للعباس وعلي ، ثم رجعا حين حاجهما عمر . والعلة هي سدّ ذريعة خطور تمني موت النبي في نفس بعض ورثته .
{ وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين }
قال سليمان هذه المقالة في مجمع عظيم لأن لهجة هذا الكلام لهجة خطبته في مجمع من الناس الحاضرين مجلسه من الخاصة والسامعين من العامة . فهذه الجملة متضمنة شكر الله تعالى ما منحه من علم ومُلك ، وليقدر الناس قدره ويعلموا واجب طاعته إذ كان الله قد اصطفاه لذلك ، وأطلعه على نوايا أنفر الحيوان وأبعده عن إلف الإنسان وهو الطير ، فما ظنك بمعرفة نوايا الناس من رعيته وجنده فإن تخطيط رسوم الملك وواجباته من المقاصد لصلاح المملكة بالتفاف الناس حول ملكهم وصفاء النيات نحوه ، وبمقدار ما يحصل ذلك من جانبهم يكون التعاون على الخير وتنزل السكينة الربانية ، فلما حصل من جانب سليمان الاعتراف بهذا الفضل لله تعالى فقد أدى واجبه نحو أمته فلم يبق إلا أن تؤدي الأمة واجبها نحو مَلِكها ، كما كان تعليم فضائل النبوة من مقاصد الشارع ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
« أنا سيِّد ولدِ آدم ولا فخر » أي أقوله لقصد الإعلام بواجب التقادير لا لقصد الفخر على الناس ، ويعلموا واجب طاعته .
وعِلم منطق الطير أوتيه سليمان من طريق الوحي بأن أطلعه الله على ما في تقاطيع وتخاليف صفير الطيور أو نعيقها من دلالة على ما في إدراكها وإرادتها . وفائدة هذا العلم أن الله جعله سبيلاً له يهتدي به إلى تعرف أحوال عالمية يسبق الطير إلى إدراكها بما أودع فيه من القُوى الكثيرة ، وللطير دلالة في تخاطب أجناسها واستدعاء أصنافها والإنباء بما حولها ما فيه عون على تدبير ملكه وسياسة أمته ، مثل استخدام نوع الهدهد في إبلاغ الأخبار وردها ونحو ذلك .
ووراء ذلك كله انشراحُ الصدر بالحكمة والمعرِفة لكثير من طبائع الموجودات وخصائصها . ودلالة أصوات الطير على ما في ضمائرها : بعضُها مشهور كدلالة بعض أصواته على نداء الذكور لإناثها ، ودلالة بعضها على اضطراب الخوف حين يمسكه مُمسك أو يهاجمه كاسر ، ووراء ذلك دلالات فيها تفصيل ، فكل كيفية من تلك الدلالات الإجمالية تنطوي على تقاطيع خفية من كيفيات صوتية يخالف بعضها بعضاً فيها دلالات على أحوال فيها تفضيل لما أجملته الأحوال المجملة ، فتلك التقاطيع لا يهتدي إليها الناس ولا يطلع عليها إلا خالقها ، وهذا قريب من دلالة مخارج الحروف وصفاتها في لغة من اللغات وفكّها وإدغامها واختلاف حركاتها على معاننٍ لا يهتدي إليها مَن يعرف تلك اللغة معرفة ضعيفة ولم يتقن دقائقها . مثل أن يسمع ضَلَلْت وظَللت ، فالله تعالى اطلع سليمان بوحي على مختلف التقاطيع الصوتية التي في صفير الطير وأعلمه بأحوال نفوس الطير عندما تصفر بتلك التقاطيع ، وقد كان الناس في حيرة من ذلك كما قال المعري :
أَبَكَتْ تِلكمُ الحمامةُ أمْ غَنّ *** تْ على غصن دوحها الميَّاد
وقال صاحبنا الشاعر البليغ الشيخ عبد العزيز المسعودي من أبيات في هذا المعنى :
فمن كان مسروراً يراه تَغنياً *** ومن كان محزوناً يقول ينوح
والاقتصار على منطق الطير إيجاز لأنه إذا عَلِم منطق الطير وهي أبعد الحيوان عن الركون إلى الإنسان وأسرعها نفوراً منه ، علم أن منطق ما هو أكثر اختلاطاً بالإنسان حاصل له بالأحرى كما يدل عليه قوله تعالى فيما يأتي قريباً : { فتبسّم ضَاحكاً من قولها } [ النمل : 19 ] ، فتدل هذه الآية على أنه علِّم منطق كل صنف من أصناف الحيوان . وهذا العلم سماه العرب علم الحُكْل ( بضم الحاء المهملة وسكون الكاف ) قال العجاج وقيل ابنه رؤبة :
لو أَنني أوتيتُ علم الحُكْل *** عِلْم سليمان كَلامَ النمل
أو أنني عُمِّرت عُمْر الحِسْل *** أو عُمر نُوح زَمَن الفِطَحْل
وعُبر عن أصوات الطير بلفظ { منطق } تشبيهاً له بنطق الإنسان من حيث هو ذو دلالة لسليمان على ما في ضمائر الطير ، فحقيقة المنطق الصوتُ المشتمل على حروف تدل على معان .
وضمير { عُلِّمنا أُوتينا } مراد به نفسه ، جاء به على صيغة المتكلم المشارك ؛ إما لقصد التواضع كأنَّ جماعة عُلموا وأُوتوا وليس هو وحده كما تقدم في بعض احتمالات قوله تعالى آنفاً : { وقالا الحمد لله الذي فضّلنا } [ النمل : 15 ] ، وإما لأنه المناسب لإظهار عظمة الملك ، وفي ذلك تهويل لأمر السلطان عند الرعية ، وقد يكون ذلك من مقتضى السياسة في بعض الأحوال كما أجاب معاوية عُمر رضي الله عنهما حين لقيه في جند ( وأبهة ) ببلاد الشام فقال عمر لمعاوية « أَكِسْرَوِيَّةً يا معاوية ؟ فقال معاوية : إنا في بلاد من ثغور العدوّ فلا يرهبون إلا مثل هذا . فقال عمر : خَدعة أريب أو اجتهادُ مصيب لا آمرك ولا أنهاك » فترك الأمرَ لعهدة معاوية وما يتوسمه من أساليب سياسة الأقوام .
والمراد ب { كل شيء } كل شيء من الأشياء المهمة ففي { كل شيء } عمومان عموم { كلّ } وعموم النكرة وكلاهما هنا عموم عرفي ، ف { كلّ } مستعملة في الكثرة و { شيء } مستعمل في الأشياء المهمة مما له علاقة بمقام سليمان ، وهو كقوله تعالى فيما حكى عن أخبار الهدهد . { وأوتِيَتْ من كل شيء } [ النمل : 23 ] ، أي كثيراً من النفائس والأموال . وفي كل مقام يحمل على ما يناسب المتحدث عنه .
والتأكيد في { إن هذا لهو الفضل المبين } بحرف التوكيد ولامه الذي هو في الأصل لام قسم وبضمير الفصل مقصود به تعظيم النعمة أداء للشكر عليها بالمستطاع من العبارة .
و { الفضل } : الزيادة من الخير والنفع . و { المبين } : الظاهر الواضح .