أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه السورة الكريمة أن يبلغ الناس ما أوحى إليه من استماع الجن إلى قراءته ، واستجابتهم لدعوته ، وإخبارهم بما كان من سفهائهم وصالحيهم ، وما كان من قعودهم لاستراق السمع ثم طردهم عنه الآن ، وعرضت آيات السورة للمستقيمين على طريقة الإسلام والمعرضين عنه ، وتحدثت عن خلوص المساجد والعبادة لله وحده وعن دعوة الرسول إلى الله ، والتفاف الجن حوله ، وحددت ما لا يملكه الرسول من الأمور وما يملكه ، وحذرت العاصين لله ورسوله من جهنم وخلودهم فيها .
وذكرت في ختامها أن الله مختص بعلم الغيب ، ويطلع عليه من يصطفيه من خلقه ليكون رسولا ، ويحفظ الوحي بحراس حتى يبلغه الناس تاما والله يعلمه كذلك .
1 - قل يا - محمد - لأمتك : أوحى الله إلىَّ أن جماعة من الجن قد استمعوا إلى قراءتي للقرآن ، فقالوا لقومهم : إنا سمعنا قرآناً بديعاً لم نسمع مثله من قبل ، يدعو إلى الهدى والصواب ، فآمنا - بالقرآن الذي سمعناه - ولن نشرك مع ربنا - الذي خلقنا وربانا - أحداً في عبادته .
{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا }
أي : { قُلْ } يا أيها الرسول للناس { أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } صرفهم الله [ إلى رسوله ] لسماع آياته لتقوم عليهم الحجة [ وتتم عليهم النعمة ] ويكونوا نذرا{[1243]} لقومهم . وأمر الله رسوله أن يقص نبأهم على الناس ، وذلك أنهم لما حضروه ، قالوا : أنصتوا ، فلما أنصتوا فهموا معانيه ، ووصلت حقائقه إلى قلوبهم ، { فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } أي : من العجائب الغالية ، والمطالب العالية .
1- سورة " الجن " من السور المكية الخالصة ، وتسمى بسورة [ قل أوحي . . . ] ، وعدد آياتها ثمان وعشرون آية بلا خلاف ، وكان نزولها بعد سورة " الأعراف " وقبل سورة " يس " وقد سبقها في ترتيب النزول ثمان وثلاثون سورة ، إذ هي السورة التاسعة والثلاثون –كما ذكر السيوطي- .
أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة الثانية والسبعون .
2- والمتدبر لهذه السورة الكريمة ، يراها قد أعطتنا صورة واضحة عن عالم الجن ، فهي تحكي أنهم أعجبوا بالقرآن الكريم ، وأن منهم الصالح ومنهم غير الصالح ، وأنهم لا يعلمون الغيب ، وأنهم أهل للثواب والعقاب ، وأنهم لا يملكون النفع لأحد ، وأنهم خاضعون لقضاء الله –تعالى- فيهم .
كما أن هذه السورة قد ساقت لنا ألوانا من سنن الله التي لا تتخلف ، والتي منها : أن الذين يستقيمون على طريقه يحيون حياة طيبة في الدنيا والآخرة . .
كما أنها لقنت النبي صلى الله عليه وسلم الإجابات التي يرد بها على شبهات المشركين وأكاذيبهم ، وساقت له ما يسليه عن سفاهاتهم ، وما يشرح صدره ، ويعينه على تبليغ رسالة ربه . .
ويبدو أن نزول هذه السورة الكريمة كان في حوالي السنة العاشرة ، أو الحادية عشرة ، من البعثة –كما سنرى ذلك من الروايات- ، وأن نزولها كان دفعة واحدة . .
قد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات روايات منها ما أخرجه الشيخان والترمذى ، عن ابن عباس أنه قال : " انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه ، عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : مالكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما ذاك إلا لشئ حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذى حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربهما ، فمر النفر - من الجن - الذى أخذوا نحو تهامة ، عامدين إلى سوق عكاظ ، فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم بنخلة يصلى بأصحابه صلاة الصبح ، فلما سمعوا القرآن ، استمعوا إليه وقالوا : هذا الذى حال بيننا وبين خبر السماء " .
فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا ، إنا سمعنا قرآنا عجبا ، يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا آحدا ، وأنزل الله - تعالى - على نبيه { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } .
وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أتانى داعى الجن ، فذهبت معهم ، فقرأت عليهم القرآن . . "
وهناك رواية ثالثة لابن إسحاق ملخصها : أنه لما مات أبو طالب ، خرج النبى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من أهلها ويدعوهم إلى الإِيمان . . فأغروا به سفهاءهم ، يسبونه ويستهزئون به . .
فانصرف صلى الله عليه وسلم عنهم ، حتى إذا كان ببطن نخلة - هو موضع بين مكة والطائف - قام يصلى من الليل ، فمر به نفر من جن نصيبين - وهو موضع قرب الشام - فاستمعوا إليه ، فلما فرغ من صلاته ، ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا ، فقص الله - تعالى - خبرهم عليه . .
وهناك روايات أخرى فى عدد هؤلاء الجن ، وفى الأماكن التى التقوا فيها مع النبى صلى الله عليه وسلم وفيما قرأه الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ، وفيمن كان معه من الصحابة خلال التقائه بهم . .
ويبدو لنا من مجموع الروايات ، أن لقاء النبى صلى الله عليه وسلم بالجن قد تعدد ، وأنهم تارة استمعوا إليه صلى الله عليه وسلم دون أن يراهم ، وتارة التقى بهم وقرأ عليهم القرآن .
قال الآلوسى : وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ، ويجمع بذلك بين اختلاف الروايات فى عددهم وفى غير ذلك . وذكر ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين .
قال القرطبى : واختلف أهل العلم فى أصل الجن . فعن الحسن البصرى : أن الجن ولد إبليس ، والإِنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء فى الثواب والعقاب ، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولى الله ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان .
وعن ابن عباس : أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين ومنهم المؤمن والكافر ، والشياطين هم ولد إبليس ، لا يموتون إلا مع إبليس . .
وقال بعض العلماء : عالم الجن من العوالم الكونية ، كعالم الملائكة وقد أخبر الله - تعالى - أنه خلقه من مارج من نار ، أى : أن عنصر النار فيه هو الغالب ، وأنه يرى الأناسى وهم لا يرونه ، أى : بصورته الجبلية ، وإن كان يرى حين يتشكل بأشكال أخرى ، كما رئى جبريل حين تشكل بشكل آدمى .
وأخبر - سبحانه - بأن الجن قادرون على الأعمال الشاقة . وأن الله سخر الشياطين لسليمان يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل . .
وأخبر بأن من الجن مؤمنين ، وأن منهم شياطين متمردين ، ومن هؤلاء إبليس اللعين .
ولم يختلف أهل الملل فى وجودهم ، بل اعترفوا به كالمسلمين ، وإن اختلفوا فى حقيقتهم ، ولا تلازم بين الوجود والعلم بالحقائق ، ولا بينه وبين الرؤية بالحواس ، فكثير من الأشياء الموجودة لا تزال حقائقها مجهولة ، وأسرارها محجوبة ، وكثير منها لا يرى بالحواس . ألا ترى الروح - وهى مما لا شك فى وجودها فى الإِنسان والحيوان - لم يدرك كنهها أحد ولم يرها أحد ، وغاية ما علم من أمرها بعض صفاتها وآثارها . .
وقد بعث النبى صلى الله عليه وسلم إلى الجن ، كما بعث إلى الإِنس ، فدعاهم إلى التوحيد ، وأنذرهم وبلغهم القرآن ، وسيحاسبون على الأعمال يوم الحساب كما يحاسب الناس ، فمؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم وكل ذلك جاء صريحا فى القرآن والسنة . .
وقد افتتح - سبحانه - السورة الكريمة بأمر النبى صلى الله عليه وسلم بأن يقول الناس ما حدث من الجن عند سماعهم للقرآن . فقال : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } .
وفى هذا الأمر دلالة على أن المأمور به شئ هام ، يستدعى من السامعين التيقظ والانتباه ، والامتثال للمأمور به ، وتصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به .
والنفر : الجماعة من واحد إلى عشرة ، وأصله فى اللغة الجماعة من الإِنس فأطلق على الجماعة من الجن وعلى وجه التشبيه .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - للناس ، إن الله - تعالى - قد أخبرك عن طريق أمين وحيه جبريل : أن جماعة من الجن قد استمعوا إليك وأنت تقرأ القرآن . .
فقالوا - على سبيل الفرح والإِعجاب لما سمعوا - : { إِنَّا سَمِعْنَا } من الرسول صلى الله عليه وسلم { قُرْآناً عَجَباً } أى : إنا سمعنا قرآنا جليل الشأن ، بديع الأسلوب ، عظيم القدر .
هذا القرآن { يهدي إِلَى الرشد } أى : إلى الخير والصواب والهدى { فَآمَنَّا بِهِ } إيمانا حقا ، لا يخالطه شك أو ريب { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } أى : فآمنا بما اشتمل عليه هذا الكتاب من دعوة إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، ولن نشرك معه فى العبادة أحدا كائنا من كان هذا الحد .
والمقصود من أمره صلى الله عليه وسلم بذلك ، دعوة مشركى قريش إلى الإِيمان بالحق الذى جاء به صلى الله عليه وسلم كما آمن جماعة من الجن به ، وإعلامهم بأن رسالته صلى الله عليه وسلم تشمل الجن والإِنس .
وضمير " أنه " للشأن ، وخبر " أن " جملة { استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } ، وتأكيد هذا الخبر بأن ، للاهتمام به لغرابته . ومفعول " استمع " محذوف لدلالة قوله : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } عليه .
ووصفهم للقرآن بكونه { قُرْآناً عَجَباً . يهدي إِلَى الرشد } يدل على تأثرهم به تأثرا شديدا ، وعلى إعجابهم العظيم بنظمه المتقن ، وأسلوبه الحكيم ، ومعانيه البديعة . . ولذا أعلنوا إيمانهم به بدون تردد ، كما يشعر بذلك التعبير بالفاء فى قوله : { فَآمَنَّا بِهِ . . . } .
والتعبير بقوله - تعالى - : { فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا . . } يحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم ، أو لإِخوانهم الذين رجعوا إليهم ، كما فى قوله - تعالى - فى سورة الأحقاف : { قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } ويحتمل أنهم قالوا ذلك فى أنفسهم على سبيل الإِعجاب ، كما فى قوله - تعالى - : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } بل إننا نرجح أن قولهم هذا قد شمل كل ذلك ، لأن هذا هو الذى يتناسب مع إعجابهم بالقرآن الكريم ، ومع حرصهم على إيمان أكبر عدد منهم به .
ثم حكى - سبحانه - أن هذا النفر من الجن بعد استماعهم إلى القرآن وإيمانهم به ، أخذوا فى الثناء على الخالق - عز وجل - فقال حكاية عنهم : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدا } .
ولفظ " وأن " قد تكرر فى هذه السورة الكريمة أكثر من عشرمرات ، تارة بالإِضافة إلى ضمير الشأن ، وتارة بالإِضافة إلى ضمير المتكلم .
ومن القراء السبعة من قرأة بفتح الهمزة ، ومنهم من قرأه بكسرها ، فمن قرأ { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا . . . } بالفتح فعلى أنه معطوف على محل الجار والمجرور فى قوله { فَآمَنَّا بِهِ . . . } فكأنه قيل : فصدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا . . ومن قرأ بالكسر فعلى أنه معطوف على المحكى بعد القول ، أى : قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا ، وقالوا : إنه تعالى جد ربنا . .
قال الجمل فى حاشيته ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا . . . } قرأه حمزة والكسائى وأبو عامر وحفص بفتح " أنّ " وقرأه الباقون بالكسر .
وتلخيص هذا أن " أنّ " المشددة فى هذه السورة على ثلاثة أقسام : قسم ليس معه واو العطف ، فهذا لا لخلاف بين القراء فى فتحه أو كسره ، على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية ، كقوله { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع . . . } لا خلاف فى فتحه لوقوعه موقع المصدر ، وكقوله : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } لا خلاف فى كسره لأنه محكى بالقول .
القسم الثانى أن يقترن بالواو ، وهو أربع عشرة كلمة ، إحداها : لا خلاف فى فتحها ، وهى قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ . . . } وهذا هو القسم الثالث . والثانية وهى قوله : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله . . . } كسرها ابن عامر وأبو بكر وفتحها الباقون .
والاثنتا عشرة الباقية ، فتحها بعضهم ، وكسرها بعضهم وهى قوله : - تعالى - : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا . . . } وقوله : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ . . . . } { وَأَنَّا ظَنَنَّآ . . . } { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ . . . } { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ . . . } { وَأَنَّا لَمَسْنَا . . . } { وَأَنَّا كُنَّا . . . } { وَأَنَّا لاَ ندري . . . . } { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون . . . } { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى . . . } { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } .
وقوله : { تعالى } من التعالى وهو شدة العلو . و { جَدُّ رَبِّنَا } الجد - بفتح الجيم - العظمة والجلال .
قال القرطبى : الجد فى اللغة : العظمة والجلال ، ومنه قول أنس : كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد فى عيوننا . أى : عظم . فمعنى جد ربنا : عظمته وجلاله .
وقيل معنى " جد ربنا . . " غناه ، ومنه قيل للحظ جد ، ورجل مجدود ، أى : محظوظ . وفى الحديث : " ولا ينفع ذا الجد منك الجد " أى : ولا ينفع ذا الغنى منك غناه ، وإنما تنفعه الطاعة . .
وجملة { مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدا } بيان وتفسير لما قبله .
أى : آمنا به - سبحانه - إيمانا حقا ، وصدقنا نبيه فيما جاءنا به من عنده ، وصدقنا - أيضا - أن الحال والشأن تعالى وتعاظم جلال ربنا ، وتنزه فى ذاته وصفاته ، عن أن يكون له شريك فى ملكه . أو أن تكون له صاحبة أو أن يكون له ولد ، كما زعم الزاعمون من الكافرين الجاهلين .
وفى هذا القول من هذا النفر من الجن ، رد على أولئك المشركين الذين كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله - تعالى - ، وأنهم - أى الملائكة - جاءوا عن طريق مصاهرته - سبحانه - للجن ، كما حكى عنهم - سبحانه - ذلك فى قوله : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ . سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ }
سورة الجن مكية وآيتها ثمان وعشرون
هذه السورة تبده الحس - قبل أن ينظر إلى المعاني والحقائق الواردة فيها - بشيء آخر واضح كل الوضوح فيها . . إنها قطعة موسيقية مطردة الإيقاع ، قوية التنغيم ، ظاهرة الرنين ؛ مع صبغة من الحزن في إيقاعها ، ومسحة من الأسى في تنغيمها ، وطائف من الشجى في رنينها ، يساند هذه الظاهرة ويتناسق معها صور السورة وظلالها ومشاهدها ، ثم روح الإيحاء فيها . وبخاصة في الشطر الأخير منها بعد انتهاء حكاية قول الجن ، والاتجاه بالخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هذا الخطاب الذي يثير العطف على شخص الرسول في قلب المستمع لهذه السورة ، عطفا مصحوبا بالحب وهو يؤمر أن يعلن تجرده من كل شيء في أمر هذه الدعوة إلا البلاغ ، والرقابة الإلهية المضروبة حوله وهو يقوم بهذا البلاغ : ( قل : إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا . . قل : إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا . . قل : إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ، إلا بلاغا من الله ورسالاته ، ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ، حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا . . قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ، عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، وأحاط بما لديهم ، وأحصى كل شيء عددا ) . .
وذلك كله إلى جانب الإيقاع النفسي للحقائق التي وردت في حكاية قول الجن ، وبيانهم الطويل المديد . وهي حقائق ذات ثقل ووزن في الحس والتصور ؛ والاستجابة لها تغشى الحس بحاله من التدبر والتفكير ، تناسب مسحة الحزن ورنة الشجى المتمشية في إيقاع السورة الموسيقي !
وقراءة هذه السورة بشيء من الترتيل الهادئ ، توقع في الحس هذا الذي وصفناه من المسحة الغالبة عليها . .
فإذا تجاوزنا هذه الظاهرة التي تبده الحس ؛ إلى موضوع السورة ومعانيها واتجاهها فإننا نجدها حافلة بشتى الدلالات والإيحاءات .
إنها ابتداء شهادة من عالم آخر بكثير من قضايا العقيدة التي كان المشركون يجحدونها ويجادلون فيها أشد الجدل ، ويرجمون في أمرها رجما لا يستندون فيه إلى حجة ، ويزعمون أحيانا أن محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] يتلقى من الجن ما يقوله لهم عنها ! فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها ؛ وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئا . والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلا حين سمعوه من محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فهالهم وراعهم ومسهم منه ما يدهش ويذهل ، وملأ نفوسهم وفاض حتى ما يملكون السكوت على ما سمعوا ، ولا الإجمال فيما عرفوا ، ولا الاختصار فيما شعروا . فانطلقوا يحدثون في روعة المأخوذ ، ووهلة المشدوه ، عن هذا الحادث العظيم ، الذي شغل السماء والأرض والإنس والجن والملائكة والكواكب . وترك آثاره ونتائجه في الكون كله ! . . وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشرية حتما .
ثم إنها تصحيح لأوهام كثيرة عن عالم الجن في نفوس المخاطبين ابتداء بهذه السورة ، وفي نفوس الناس جميعا من قبل ومن بعد ؛ ووضع حقيقة هذا الخلق المغيب في موضعها بلا غلو ولا اعتساف . فقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعتقدون أن للجن سلطانا في الأرض ، فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر ، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض ، فقال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه . . ثم بات آمنا ! كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب وتخبر به الكهان فيتنبأون بما يتنبأون . وفيهم من عبد الجن وجعل بينهم وبين الله نسبا ، وزعم له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة !
والاعتقاد في الجن على هذا النحو أو شبهه كان فاشيا في كل جاهلية ، ولا تزال الأوهام والأساطير من هذا النوع تسود بيئات كثيرة إلى يومنا هذا ! ! !
وبينما كانت الأوهام والأساطير تغمر قلوب الناس ومشاعرهم وتصوراتهم عن الجن في القديم ، وما تزال . . نجد في الصف الآخر اليوم منكرين لوجود الجن أصلا ، يصفون أي حديث عن هذا الخلق المغيب بأنه حديث خرافة . .
وبين الإغراق في الوهم ، والإغراق في الإنكار ، يقرر الإسلام حقيقة الجن ، ويصحح التصورات العامة عنهم ، ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم :
فالجن لهم حقيقة موجودة فعلا وهم كما يصفون أنفسهم هنا : ( وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ) . . ومنهم الضالون المضلون ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون : ( وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا ، وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا ) . . وهم قابلون للهداية من الضلال ، مستعدون لإدراك القرآن سماعا وفهما وتأثرا : ( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا ) . . وأنهم قابلون بخلقتهم لتوقيع الجزاء عليهم وتحقيق نتائج الإيمان و الكفر فيهم : ( وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ، فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا . وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون ، فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ، وأما القاسطون ، فكانوا لجهنم حطبا ) . . وأنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم بل يرهقونهم : ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) . . وأنهم لا يعلمون الغيب ، ولم تعد لهم صلة بالسماء : وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ، وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا . . وأنهم لا صهر بينهم وبين الله - سبحانه وتعالى - ولا نسب : ( وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ) . . وأن الجن لا قوة لهم مع قوة الله ولا حيلة : ( وأنا ظننا أن لن نعجزالله في الأرض ولن نعجزه هربا ) . .
وهذا الذي ذكر في هذه السورة عن الجن بالإضافة إلى ما جاء في القرآن من صفات أخرى كتسخير طائفة من الشياطين لسليمان - وهم من الجن - وأنهم لم يعلموا بموته إلا بعد فترة ، فدل هذا على أنهم لا يعلمون الغيب : فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين . .
ومثل قوله تعالى عن خصيصة من خصائص إبليس وقبيله - وهو من الجن - غير أنه تمحض للشر والفساد والإغراء : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم . . وما يدل عليه من أن كيان الجن غير مرئي للبشر ، في حين أن كيان الإنس مرئي للجن .
هذا بالإضافة إلى ما قرره في سورة الرحمن عن المادة التي منها كيان الجن والمادة التي منها كيان الإنسان في قوله : ( خلق الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلق الجان من مارج من نار ) . . يعطي صورة عن ذلك الخلق المغيب ، تثبت وجوده ، وتحدد الكثير من خصائصه ؛ وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير ، العالقة بالأذهان عن ذلك الخلق ، وتدع تصور المسلم عنه واضحا دقيقا متحررا من الوهم والخرافة ، ومن التعسف في الإنكار الجامح كذلك !
وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون . أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقا ، فلا أدري علام يبنون هذا الإنكار ، بصيغة الجزم والقطع ، والسخرية من الاعتقاد بوجوده ، وتسميته خرافة !
ألأنهم عرفوا كل ما في هذا الكون من خلائق فلم يجدوا الجن من بينها ? ! إن أحدا من العلماء لا يزعم هذا حتى اليوم . وإن في هذه الأرض وحدها من الخلائق الحية لكثيرا مما يكشف وجوده يوما بعد يوم ، ولم يقل أحد إن سلسلة الكشوف للأحياء في الأرض وقفت أو ستقف في يوم من الأيام !
ألأنهم عرفوا كل القوى المكنونة في هذا الكون فلم يجدوا الجن من بينها ? ! إن أحدا لا يدعي هذه الدعوى . فهناك قوى مكنونة تكشف كل يوم ؛ وهي كانت مجهولة بالأمس . والعلماء جادون في التعرف إلى القوى الكونية ، وهم يعلنون في تواضع قادتهم إليه كشوفهم العلمية ذاتها ، أنهم يقفون على حافة المجهول في هذا الكون ، وأنهم لم يكادوا يبدأون بعد !
ألأنهم رأوا كل القوى التي استخدموها ، فلم يروا الجن من بينها ? ! ولا هذه . فإنهم يتحدثون عن الكهرب بوصفه حقيقة علمية منذ توصلوا إلى تحطيم الذرة . ولكن أحدا منهم لم ير الكهرب قط . وليس في معاملهم من الأجهزة ما يفرزون به كهربا من هذه الكهارب التي يتحدثون عنها !
ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود الجن ? ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمح لإنسان يحترم عقله أن يجزم بشيء ? ألأن هذا الخلق المسمى الجن تعلقت به خرافات شتى وأساطير كثيرة ? إن طريقنا في هذه الحالة هو إبطال هذه الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم ، لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس ، بلا حجة ولا دليل ! ومثل هذا الغيب ينبغي تلقي نبئه من المصدر الوحيد الموثوق بصحته ، وعدم معارضة هذا المصدر بتصورات سابقة لم تستمد منه . فما يقوله هو كلمة الفصل في مثل هذا الموضوع .
والسورة التي بين أيدينا - بالإضافة إلى ما سبق - تساهم مساهمة كبيرة في إنشاء التصور الإسلامي عن حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، ثم عن هذا الكون وخلائقه ، والصلة بين هذه الخلائق المنوعة .
وفي مقالة الجن ما يشهد بوحدانية الله ، ونفي الصاحبة والولد ، وإثبات الجزاء في الآخرة ؛ وأن أحدا من خلق الله لا يعجزه في الأرض ولا يفلت من يديه ويفوته ، فلا يلاقي جزاءه العادل . وتتكرر بعض هذه الحقائق فيما يوجه للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من الخطاب : ( قل : إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا ) . . ( قل : إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ) . . وذلك بعد شهادة الجن بهذه الحقيقة شهادة كاملة صريحة .
كما أن تلك الشهادة تقرر أن الألوهية لله وحده ، وأن العبودية هي أسمى درجة يرتفع إليها البشر : ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا ) . . ويؤكد السياق هذه الحقيقة فيما يوجه للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من خطاب : ( قل : إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ) . .
والغيب موكول لله وحده ؛ لا تعرفه الجن : ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) . . ولا تعرفه الرسل إلا ما يطلعهم الله عليه منه لحكمة يعلمها : ( قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا . عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ، إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا . . . ) . .
" أما العباد والعبيد في هذا الكون ، فقد علمتنا السورة أن بين بعضها والبعض الآخر مشاركات ومنافذ ، ولو اختلف تكوينها ، كالمشاركات التي بين الجن والإنس ، مما حكته السورة وحكاه القرآن في مواضع أخرى . فالإنسان ليس بمعزل - حتى في هذه الأرض - عن الخلائق الأخرى . وبينه وبينها اتصال وتفاعل في صورة من الصور . وهذه العزلة التي يحسها الإنسان بجنسه - بله العزلة الفردية أو القبلية أو القومية - لا وجود لها في طبيعة الكون ولا في واقعه . وأحرى بهذا التصور أن يفسح في شعور الإنسان بالكون وما يعمره من أرواح وقوى وأسرار . قد يجهلها الإنسان ، ولكنها موجودة بالفعل من حوله ، فهو ليس الساكن الوحيد لهذا الكون كما يعن له أحيانا أن يشعر ! !
ثم إن هناك ارتباطا بين استقامة الخلائق على الطريقة ، وتحركات هذا الكون ونتائجها ، وقدر الله في العباد : ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه . ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ) . . وهذه الحقيقة تؤلف جانبا من التصور الإسلامي للارتباطات بين الإنسان والكون وقدر الله .
وهكذا تمتد إيحاءات السورة إلى مساحات ومسافات وأبعاد وآماد واسعة بعيدة ، وهي سورة لا تتجاوز الثماني والعشرين آية ، نزلت في حادثة معينة ومناسبة خاصة . .
فأما هذا الحادث الذي أشارت إليه السورة . حادث استماع نفر من الجن للقرآن . فتختلف بشأنه الروايات . قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه : " دلائل النبوة " : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بنعبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا إسماعيل القاضي ، أخبرنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " ما قرأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على الجن ولا رآهم . انطلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، أرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ? فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فانطلقوا يضربون مشارق الأرض و مغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء . فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا إليه ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) . . وأنزل الله على نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] : ( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) . . وإنما أوحي إليه قول الجن " [ ورواه البخاري عن مسدد بنحو هذا ، وأخرجه مسلم عن شيبان ابن فروخ عن أبي عوانة بهذا النص ] .
فهذه رواية . وهناك رواية أخرى . . قال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود وهو ابن أبي هند ، عن عامر ، قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليلة الجن ? قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود - رضي الله عنه - فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليلة الجن ? قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ذات ليلة ، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقيل : استطير ? اغتيل ? قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فلما أصبحنا إذا هو ، جاء من قبل حراء . قال : فقلنا : يا رسول الله ، فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فقال : " أتاني داعي الجن ، فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن " . قال : " فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم " وسألوه الزاد فقال : " كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم " . قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم " . .
وهناك رواية أخرى عن ابن مسعود أنه كان تلك الليلة مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن إسناد الرواية الأولى أوثق . فنضرب عن هذه وأمثالها . . ومن الروايتين الواردتين في الصحيحين يتبين أن ابن عباس يقول : إن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لم يعرف بحضور النفر من الجن ، وأن ابن مسعود يقول : إنهم استدعوه . ويوفق البيهقي بين الروايتين بأنهما حادثان لا حادث واحد .
وهناك رواية ثالثة لابن اسحق قال :
" ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب ، فخرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم من قومه ، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل ، فخرج إليهم وحده " .
" قال ابن اسحق : فحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي قال : لما انتهى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة : " ياليل بن عمرو بن عمير ، ومسعود بن عمرو بن عمير ، وحبيب بن عمرو بن عمير . . . وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح . فجلس إليهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فدعاهم إلى الله ، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه . فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة [ أي يمزقها ] إن كان الله أرسلك ! وقال الآخر : أما وجد الله أحدا يرسله غيرك ? وقال الثالث : والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام . ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك . فقام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من عندهم وقد يئس من خير ثقيف . وقد قال لهم - فيما ذكر لي - : " إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني " . وكره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يبلغ قومه عنه ، فيذئرهم [ أي يحرشهم ] ذلك عليه ! "
" فلم يفعلوا ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس ، وألجأوه إلى حائط [ أي بستان ] لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة - وهما فيه - ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب [ أي طاقة من قضبان الكرم ] فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف . . . فلما اطمأن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال - فيما ذكر لي - : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ? إلى بعيد يتجهمني ? أم إلى عدو ملكته أمري ? إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " " . .
" قال : فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي تحركت له رحمهما ، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له : عداس . فقال له " خذ قطفا من هذا العنب ، فضعه في هذا الطبق ، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه . ففعل عداس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثم قال له : كل . فلما وضع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيه يده قال : " بسم الله " ثم أكل . فنظر عداس في وجهه ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد . فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس ? وما دينك ? " قال : نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى . فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ? " فقال عداس : وما يدريك ما يونس ابن متى ? فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " ذاك أخي . كان نبيا وأنا نبي " فأكب عداس على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقبل رأسه ويديه وقدميه . قال : يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك ! فلما جاءهما عداس قالا له : ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ? قال : يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا . لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي . قالا له : ويحك يا عداس ! لا يصرفنك عن دينك ، فإن دينك خير من دينه ! "
" قال : ثم إن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انصرف من الطائف راجعا إلى مكة ، حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي . فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى ، وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن أهل نصيبين ، فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا . فقص الله خبرهم عليه [ صلى الله عليه وسلم ] قال الله عز وجل : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن إلى قوله ( ويجركم من عذاب أليم ) . وقال تبارك وتعالى : ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن )إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة .
وقد علق ابن كثير في تفسيره على رواية ابن أسحاق هذه فقال : " هذا صحيح . ولكن قوله : إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر . فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المذكور . وخروجه [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف كان بعد موت عمه . وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره . والله أعلم " .
وإذا صحت رواية ابن إسحاق عن أن الحادث وقع عقب عودة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من الطائف ، مكسور الخاطر من التصرف اللئيم العنيد الذي واجهه به كبراء ثقيف ، وبعد ذلك الدعاء الكسير الودود لربه ومولاه ، فإنه ليكون عجيبا حقا من هذا الجانب . أن يصرف الله إليه ذلك النفر من الجن ، وأن يبلغه ما فعلوا وما قالوا لقومهم ، وفيه من الدلالات اللطيفة الموحية ما فيه . .
وأيا كان زمان هذا الحادث وملابساته فهو أمر ولا شك عظيم . عظيم في دلالاته وفيما انطوى عليه . وفيما أعقبه من مقالة الجن عن هذا القرآن وعن هذا الدين . . فلنمض مع هذا كله كما يعرضه القرآن الكريم .
( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا ، وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا ، وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا . وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا . وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ) . .
والنفر ما بين الثلاثة والتسعة كالرهط . وقيل كانوا سبعة .
وهذا الافتتاح يدل على أن معرفة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بأمر استماع الجن له ، وما كان منهم بعد أن سمعوا القرآن منه . . كانت بوحي من الله سبحانه إليه ، وإخبارا عن أمر وقع ولم يعلم به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن الله أطلعه عليه . وقد تكون هذه هي المرة الأولى ، ثم كانت هناك مرة أو مرات أخرى قرأ النبي فيها على الجن عن علم وقصد . ويشهد بهذا ما جاء بشأن قراءته [ صلى الله عليه وسلم ] سورة الرحمن " أخرجه الترمذي بإسناده - عن جابر رضي الله عنه قال : " خرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن إلى آخرها ، فسكتوا . فقال : " لقد قرأتها على الجن فكانوا أحسن ردودا منكم . كنت كلما أتيت على قوله تعالى : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ? )قالوا : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد " . . وهذه الرواية تؤيد رواية ابن مسعود - رضي الله عنه التي سبقت الإشارة إليها في المقدمة .
ولا بد أن هذه المرة التي تحكيها هذه السورة هي التي تحكيها آيات الأحقاف : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . فلما حضروه قالوا : أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا : يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ، مصدقا لما بين يديه ، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء ، أولئك في ضلال مبين ) . .
فإن هذه الآيات - كالسورة - تنبئ عن وهلة المفاجأة بهذا القرآن للجن ، مفاجأه أطارت تماسكهم ، وزلزلت قلوبهم ، وهزت مشاعرهم ، وأطلقت في كيانهم دفعة عنيفة من التأثر امتلأ بها كيانهم كله وفاض ، فانطلقوا إلى قومهم بنفوس محتشدة مملوءة فائضة بما لا تملك له دفعا ، ولا تملك عليه صبرا ، قبل أن تفيضه على الآخر ينفي هذا الأسلوب المتدفق ، النابض بالحرارة والانفعال ، وبالجد والاحتفال في نفس الأوان ، وهي حالة من يفاجأ أول مرة بدفعة قوية ترج كيانه ، وتخلخل تماسكه ، وتدفعه دفعا إلى نقل ما يحسه إلى نفوس الآخرين في حماسة واندفاع ، وفي جد كذلك واحتفال !
فأول ما بدههم منه أنه( عجب )غير مألوف ، وأنه يثير الدهش في القلوب ، وهذه صفة القرآن عند من يتلقاه بحس واع وقلب مفتوح ، ومشاعر مرهفة ، وذوق ذواق . . عجب ! ذو سلطان متسلط ، وذو جاذبية غلابة ، وذو إيقاع يلمس المشاعر ويهز أوتار القلوب . . عجب ! فعلا . يدل على أن أولئك النفر من الجن كانوا حقيقة يتذوقون !
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ أَنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ فَقَالُوَاْ إِنّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِيَ إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَن نّشرِكَ بِرَبّنَآ أَحَداً * وَأَنّهُ تَعَالَىَ جَدّ رَبّنَا مَا اتّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } .
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد أوحى الله إليّ أنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ هذا القرآن فَقالُوا لقومهم لما سمعوه إنّا سَمِعْنا قُرْآنا عَجَبا يَهْدِي إلى الرّشْدِ يقول : يدلّ على الحقّ وسبيل الصواب فآمَنّا بِهِ يقول : فصدّقناه وَلَن نُشْرِكَ برَبّنا أحَدا من خلقه .
وكان سبب استماع هؤلاء النفر من الجنّ القرآن ، كما :
حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا أبو هشام ، يعني المخزومي ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنّ ولا رآهم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، عامدين إلى سوق عكاظ ، قال : وقد حِيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأُرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأُرسلت علينا الشهب ، فقالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، قال : فانطلقوا فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حدث ، قال : فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، يتتبعون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر المساء قال : فانطلق النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة ، وهو عامد إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر قال : فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء قال : فهنالك حين رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا إنا سَمِعْنا قرآنا عَجَبا يَهْدِي إلى الرّشْدِ فآمَنّا بِه وَلَنْ نُشْركَ بِرَبّنا أحَدا قال : فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : قُلْ أُوْحِيَ إليّ أنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ وإنما أوحي إليه قول الجنّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن ورقاء ، قال : قدم رهط زوبعة وأصحابه مكة على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسمعوا قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم انصرفوا ، فذلك قوله : وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِن يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوه قالُوا أنْصِتُوا قال : كانوا تسعة فيهم زوبعة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : قُلْ أُوْحِيَ إليّ أنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ هو قول الله وإذ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ لم تُحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم حرست السماء الدنيا ، ورُميت الشياطين بالشهب ، فقال إبليس : لقد حدث في الأرض حدث ، فأمر الجنّ فتفرّقت في الأرض لتأتيه بخبر ما حدث . وكان أوّل من بُعث نفر من أهل نصِيبين وهي أرض باليمن ، وهم أشراف الجنّ وسادتهم ، فبعثهم إلى تهامة وما يلي اليمن ، فمضى أولئك النفر ، فأتوا على الوادي وادي نخلة ، وهو من الوادي مسيرة ليلتين ، فوجدوا به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة فسمعوه يتلو القرآن فلما حضروه ، قالوا : أنصتوا ، فلما قُضِيَ ، يعني فُرِغ من الصلاة ، وَلّوْا إلى قومهم منذرين ، يعني مؤمنين ، لم يعلم بهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يشعر أنه صُرِف إليه ، حتى أنزل الله عليه : قُلْ أُوْحِيَ إليّ أنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ .
بسم الله الرحمن الرحيم قل أوحي إلي وقرىء أحي وأصله وحى من وحى إليه فقلبت الواو همزة لضمتها ووحى على الأصل وفاعله أنه استمع نفر من الجن والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة و الجن أجسام عاقلة خفية يغلب عليهم النارية أو الهوائية وقيل نوع من الأرواح المجردة وقيل نفوس بشرية مفارقة عن أبدانها وفيه دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله به رسوله فقالوا لما رجعوا إلى قومهم إنا سمعنا قرآنا كتابا عجبا بديعا مباينا لكلام الناس في حسن نظمه ودقة معناه وهو مصدر وصف به للمبالغة .
قرأ جمهور الناس «قل أوحي إلي » من أوحى يوحي . وقرأ أبو أُناس جوية بن عائذ : «قل أوحى إلي » ، من وحى يحي ووحى وأوحى ، بمعنى واحد ، وقال العجاج : «وحى لها القرار فاستقرت »{[11355]} . وقرأ أيضاً جوية فيما روى عنه الكسائي ، «قل أحي » أبدلت الواو همزة كما أبدلوها في وسادة وإسادة ، وغير ذلك وكذلك قرأ ابن أبي عبلة{[11356]} ، وحكى الطبري عن عاصم أنه كان يكسر كل ألف في السورة من «أن » و «إن » إلا قوله تعالى : { وأن المساجد لله } [ الجن : 18 ] . وحكي عن أبي عمرو أنه يكسر من أولها إلى قوله { وإن لو استقاموا على الطريقة } [ الجن : 16 ] فإنه كان يفتح همزة وما بعدها إلى آخر السورة . فعلى ما حكي يلزم أن تكون الهمزة مكسورة في قوله «إنه استمع » ، وليس ما ذكر بثابت . وذكر أبو علي الفارسي أن ابن كثير وأبا عمرو فتحا أربعة أحرف من السورة وكسرا غير ذلك { أنه استمع } ، { وإن لو استقاموا } [ الجن : 16 ] ، { وإن المساجد } [ الجن : 18 ] ، { وإنه لما قام } [ الجن : 19 ] ، وأن نافعاً وعاصماً في رواية أبي بكر والمفضل وافقا في الثلاثة وكسرا { وإنه لما قام } [ الجن : 19 ] مع سائر ما في السورة . وذكر أن ابن عامر وحمزة والكسائي كانوا يقرأون كل ما في السورة بالفتح إلا ما جاء بعد قول أو فاء جزاء ، وكذلك حفص عن عاصم ، فترتب إجماع القراء على فتح الألف من { أنه استمع } و «أن لو استقاموا » «وأن المساجد » . وذكر الزهراوي عن علقمة أنه كان يفتح الألف في السورة كلها . واختلف الناس في الفتح من هذه الألفات وفي الكسر اختلافاً كثيراً يطول ذكره وحصره وتقصي معانيه . قال أبو حاتم : أما الفتح فعلى { أوحي } ، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله . وأما الكسر فحكاية وابتداء وبعد القول . وهؤلاء النفر من الجن هم الذين صادفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ببطن نخلة في صلاة الصبح وهو يريد عكاظ{[11357]} . وقد تقدم قصصهم في سورة الأحقاف في تفسير قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن }{[11358]} [ الأحقاف : 29 ] .
وقول الجن : { إنا سمعنا } الآيات ، هو خطاب منهم لقومهم الذين ولوا إليهم منذرين ، و { قرآناً عجباً } معناه ذا عجب ، لأن العجب مصدر يقع من سامع القرآن لبراعته وفصاحته ومضمناته ، وليس نفس القرآن هو العجب .
سميت في كتب التفسير وفي المصاحف التي رأيناها ومنها لكوفي المكتوب بالقيروان في القرن الخامس { سورة الجن } . وكذلك ترجمها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه ، وترجمها البخاري في كتاب التفسير { سورة قل أوحي ألي } .
واشتهر على ألسنة المكتبين والمتعلمين في الكتاتيب القرآنية باسم { قل أوحي } .
ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور التي لها أكثر من اسم ووجه التسميتين ظاهر .
ويظهر أنها نزلت في حدود سنة عشر من البعثة . ففي الصحيحين وجامع الترمذي من حديث ابن عباس أنه قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وأنه استمع فريق من الجن إلى قراءته فرجعوا إلى طائفتهم فقالوا { إنا سمعنا قرآنا عجبا } وأنزل اله على نبيه { قل أوحي ألي أنه أستمع نفر من الجن } .
وذكر ابن إسحاق أن نزول هذه السورة بعد سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف ، أي وذلك يكون في سنة عشر بعد البعثة وسنة ثلاث قبل الهجرة .
وقد عدت السورة الأربعين في نزول السور نزلت بعد الأعراف وقبل يس~ .
واتفق أهل العدد على عد آيها ثمانا وعشرين .
إثبات كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن دعوته بلغت إلى جنس الجن وإفهامهم فهم معان من القرآن الذي استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وفهم ما يدعوا إليه من التوحيد والهدى ، وعلمهم بعظمة الله وتنزيهه عن الشريك والصاحبة والولد .
وإبطال عبادة ما يبعد من الجن .
وإبطال الكهانة وبلوغ علم الغيب إلى غير الرسل الذين يطلعهم الله على ما يشاء .
وإثبات أن لله خلقا يدعون الجن وأنهم أصناف منهم الصالحون ومنهم دون ذلك بمراتب ، وتضليل الذين يقولون على الله ما لم يقله ، والذين يعبدون الجن ، والذين ينكرون البعث ، وأن الجن لا يفلتون من سلطان الله تعالى .
وتعجبهم من الإصابة برجوم الشهب المانعة من استراق السمع ، وفي المراد من هذا المنع والتخلص من ذلك إلى ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من في شأن القحط الذي أصاب المشركين لشركهم ولمنعهم مساجد الله ، وإنذارهم بأنهم سيندمون على تألبهم على النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولتهم منهم العدول عن الطعن في دينهم .
افتتاح السورة بالأمر بالقول يشير إلى أن ما سيذكر بعده حدث غريب وخاصة بالنسبة للمشركين الذين هم مظنة التكذيب به كما يقتضيه قوله : { كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً } [ الجن : 7 ] حسبما يأتي .
أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يُعلم المسلمين وغيرهم بأن الله أوحَى إليه وقوع حدث عظيم في دعوته أقامه الله تكريماً لنبيئه وتنويهاً بالقرآن وهو أن سخر بعضاً من النوع المسمى جنّاً لاستماع القرآن وألهمهم أو علَّمهم فهم ما سمعوه واهتداءهم إلى مقدار إرشاده إلى الحق والتوحيد وتنزيه الله والإِيمان بالبعث والجزاء فكانت دعوة الإسلام في أصولها بالغة إلى عالم من العوالم المغيبة لا علاقة لموجوداته بالتكاليف ولا بالعقائد بل هو عالم مجبول أهله على ما جبلوا عليه من خير أو شر لا يعدُو أحدُهم في مدة الدنيا جِبلتَه فيكون على معيارها مصيرُه الأبدي في الحياة الآخرة ولذلك لم يَبعث إليهم بشرائع .
وقد كشف الله لهذا الفريق منهم حقائق من عقيدة الإِسلام وهديه ففهموه .
هذا العالَم هو عالم الجنّ وهو بحسب ما يستخلص من ظواهر القرآن ومن صحاح الأخبار النبوية وحَسَنها نوع من المجردات أعني الموجودات اللطيفة غير الكثيفة ، الخفية عن حاسة البصر والسمع ، منتشرة في أمكنة مجهولة ليست على سطح الأرض ولا في السماوات بل هي في أجواء غير محصورة وهي من مقولة الجوهر من الجواهر المجردات أي ليست أجساماً ولا جسمانيات بل هي موجودات روحانية مخلوقة من عنصر ناري ولها حياة وإرَادة وإدراك خاص بها لا يُدرى مَداه . وهذه المجردات النارية جنس من أجناس الجواهر تحتوي على الجن وعلى الشياطين فهما نوعان لجنس المجردات النارية لها إدراكات خاصة وتصرفات محدودة وهي مغيبة عن الأنظار ملحقة بعالم الغيب لا تراها الأبصار ولا تدركها أسماع الناس إلاّ إذا أوصل الله الشعور بحركاتها وإراداتها إلى البشر على وجه المعجزة خرقاً للعادة لأمر قضاه الله وأراده .
وبتعاضد هذه الدلائل وتناصرها وإن كان كل واحد منها لا يعدو أنه ظني الدلالة وهي ظواهر القرآن ، أو ظني المتن والدلالة وهي الأحاديث الصحيحة ، حصل ما يقتضي الاعتقاد بوجود موجودات خفية تسمى الجن فتفسَّر بذلك معاني آيات من القرآن وأخبار من السنة .
وليس ذلك مما يدخل في أصول عقيدة الإِسلام ولذلك لم نكفر منكري وجود موجودات معيّنة من هذا النوع إذ لم تثبت حقيقتها بأدلة قطعية ، بخلاف حال من يقول : إن ذكر الجن لم يذكر في القرآن بعد عِلْمِه بآيات ذكره .
وأما ما يروى في الكتب من أخبار جزئية في ظهورهم للناس وإتيانهم بأعمال عجيبة فذلك من الروايات الخيالية .
وإنا لم نلق أحداً من أثبات العلماء الذين لقيناهم من يقول : إنه رأى أشكالهم أو آثارهم وما نجد تلك القصص إلاّ على ألسنة الذين يسرعون إلى التصديق بالأخبار أو تغلب عليهم التخيلات .
وإن كان فيهم من لا يتهم بالكذب ولكنه مما يضرب له مثل قول المعري :
فظهور الجن للنبيء صلى الله عليه وسلم تارات كما في حديث الجني الذي تفلت ليفسد عليه صلاته هو من معجزاته مثل رؤيته الملائكة ورؤيته الجنة والنار في حائط القبلة وظهور الشيطان لأبي هريرة في حديث زكاة الفطر .
وقد مضى ذكر الجن عند قوله : { وجعلوا لله شركاء الجن } في سورة الأنعام ( 100 ) ، وقوله : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس } في سورة الأعراف ( 179 ) .
والذين أمر الرسول بأن يقول لهم أنه أوحي إليه بخبر الجن : هم جميع الناس الذين كان النبي يبلغهم القرآن من المسلمين والمشركين أراد الله إبلاغهم هذا الخبر لما له من دلالة على شرف هذا الدين وشرف كتابه وشرف من جاء به ، وفيه إدخال مسرة على المسلمين وتعريض بالمشركين إذ كان الجن قد أدركوا شرف القرآن وفهموا مقاصده وهم لا يعرفون لغته ولا يدركون بلاغته فأقبلوا عليه ، والذين جاءهم بلسانهم وأدركوا خصائص بلاغته أنكروه وأعرضوا عنه .
وفي الإِخبار عن استماع الجن للقرآن بأنه أوحي إليه ذلك إيماء إلى أنه ما علم بذلك إلاّ بإخبار الله إياه بوقوع هذا الاستماع ، فالآية تقتضي أن الرسول لم يعلم بحضور الجن لاستماع القرآن قبل نزول هذه الآية .
وأما آية الأحقاف ( 29 ) { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن } الآيات فتذكير بما في هذه الآية أو هي إشارة إلى قصة أخرى رواها عبد الله بن مسعود وهي في « صحيح مسلم » في أحاديث القراءة في الصلوات ولا علاقة لها بهذه الآية .
وقوله : { أنه استمع نفر من الجن } في موضع نائب فاعل { أوحي } أي أوحي إلي استماع نفر . وتأكيد الخبر الموحَى بحرف ( أن ) للاهتمام به لغرابته .
وضمير { أنه } ضمير الشأن وخبره جملة { استمع نفر من الجن } وفي ذلك زيادة اهتمام بالخبر الموحى به .
ومفعول { استمع } محذوف دل عليه { إنَّا سمعنا قرآنا } ، أي استمع القرآن نفر من الجن .
والنفَر : الجماعة من واحد إلى عشرة وأصله في اللغة لجماعة من البشر فأطلق على جماعة من الجن على وجه التشبيه إذ ليس في اللغة لفظ آخر كما أطلق رجال في قوله : { يعوذون برجال من الجن } [ الجن : 6 ] على شخوص الجن . وقولهم : { إنا سمعنا قرآنا عجباً } قالوه لبعض منهم لم يحضر لاستماع القرآن ألهمهم الله أن ينذروهم ويرشدوهم إلى الصلاح قال تعالى في سورة الأحقاف ( 29 ، 30 ) { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً } الآيات .
ومعنى القَول هنا : إبلاغُ مرادهم إلى من يريدون أن يبلِّغوه إليهم من نوعهم بالكيفية التي يتفاهمون بها ، إذ ليس للجن ألفاظ تجري على الألسن فيما يظهر ، فالقول هنا مستعار للتعبير عما في النفس مثل قوله تعالى : { قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل : 18 ] فيكون ذلك تكريماً لهذا الدِّين أن جعل الله له دعاة من الثقلين .
ويجوز أن يكون قولاً نفسياً ، أي خواطر جالت في مدركاتهم جولان القول الذي ينبعث عن إرادةِ صاحب الإِدراك به إبلاغَ مدركاته لغيره ، فإن مثل ذلك يعبر عنه بالقول كما في بيت النابغة يتحدث عن كلب صيد :
قالتْ له النفسُ إني لا أرى طمعاً *** وإن مولاك لم يَسلم ولم يَصِد
ومنه قوله تعالى : { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } [ المجادلة : 8 ] .
وتأكيد الخبر ب ( أنَّ ) لأنهم أخبروا به فريقاً منهم يشكون في وقوعه فأتوا في كلامهم بما يفيد تحقيق ما قالوه وهو الذي يعبر عن مثله في العربية بحرف ( إن ) .
ووصف القرآن بالعجب وصف بالمصدر للمبالغة في قوة المعنى ، أي يعجب منه ، ومعنى ذلك أنه بديع فائق في مفاده .
وقد حصل لهم العلم بمزايا القرآن بانكشاف وهبهم الله إياه . قال المازري في « شرح صحيح مسلم » « لا بد لمن آمن عند سماع القرآن أن يعلم حقيقة الإِعجاز وشروط المعجزة ، وبعد ذلك يقع العلم بصدق الرسول ؛ فإما أن يكون الجن قد علموا ذلك أو عَلِموا من كتب الرسل المتقدمة ما دلهم على أنه هو النبي الأمّي الصادق المبشر به » اهـ . وأنا أقول : حصل للجن علم جديد بذلك بإلهام من الله لأدلة كانوا لا يشعرون بها إذ لم يكونوا مطالبين بمعرفتها ، وأن فهمهم للقرآن من قبيل الإِلهام خلقه الله فيهم على وجه خرق العادة كرامة للرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن .
والإِيمان بالقرآن يقتضي الإِيمان بمن جاء به وبمن أنزله ولذلك قالوا { ولن نشرك بربنا أحداً .
وقد حصل لهؤلاء النفر من الجن شرف المعرفة بالله وصفاته وصِدق رسوله وصدق القرآن وما احتوى عليه مَا سَمعوه منه فصاروا من خيرة المخلوقات ، وأُكرموا بالفوز في الحياة الآخرة فلم يكونوا ممن ذَرْأَ الله لجهنم من الجن والإِنس .
ومتعلق { استمع } محذوف دل عليه قوله بعده { فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً .