قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } اختلفوا فيهما فقال عكرمة : هم صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله ، وقال أبو عبيدة : هما كل معبود يعبد من دون الله . قال الله تعالى { أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل :36 ] ، وقال عمر : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان : وهو قول الشعبي ، ومجاهد . وقيل : الجبت الأوثان ، والطاغوت شياطين الأوثان ، ولكل صنم شيطان يعبر عنه فيغتر به الناس ، وقال محمد بن سيرين ومكحول : الجبت : الكاهن ، والطاغوت : الساحر . وقال سعيد بن جبير وأبو العالية : الجبت : الساحر بلسان الحبشة ، والطاغوت : الكاهن . وروي عن عكرمة : الجبت بلسان الحبشة : شيطان . وقال الضحاك : الجبت : حيي بن أخطب ، والطاغوت : كعب بن الأشرف . دليله قوله تعالى : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } [ النساء :60 ] أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسن بن بشران ، أنا إسماعيل ابن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن عوف العبدي ، عن حيان ، عن قطن بن قبيصة ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { العيافة والطرق والطيرة من الجبت } .
وقيل : الجبت كل ما حرم الله ، والطاغوت كل ما يطغي الإنسان .
قوله تعالى : { ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } .
قال المفسرون : خرج كعب بن الأشرف في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل كعب على أبي سفيان ، فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش ، فقال أهل مكة : إنكم أهل الكتاب ، ومحمد صاحب كتاب ، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم ، فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين ، وآمنوا بهما ، ففعلوا ذلك ، فذلك قوله تعالى : { يؤمنون بالجبت والطاغوت } . ثم قال كعب لأهل مكة : ليجئ منكم ثلاثون ومنا ثلاثون ، فنلزق أكبادنا بالكعبة ، فنعاهد رب هذا البيت لنجهدن على قتال محمد ففعلوا . ثم قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أميون لا نعلم ، فأينا أهدى طريقا ؟ نحن أم محمد ؟ قال كعب : اعرضوا علي دينكم ؟ فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء ، ونسقيهم الماء ، ونقري الضيف ، ونفك العاني ، ونصل الرحم ، ونعمر بيت ربنا ، ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه ، وقطع الرحم ، وفارق الحرم ، وديننا القديم ، ودين محمد الحديث . فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد وأصحابه ، فأنزل الله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } ، يعني : كعباً وأصحابه { يؤمنون بالجبت والطاغوت } . يعني : الصنمين . { ويقولون للذين كفروا } أبي سفيان وأصحابه { هؤلاء أهدى من الذين آمنوا } محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ( سبيلاً ) ديناً .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا }
وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أن أخلاقهم الرذيلة وطبعهم الخبيث ، حملهم على ترك الإيمان بالله ورسوله ، والتعوض عنه بالإيمان بالجبت والطاغوت ، وهو الإيمان بكل عبادة لغير الله ، أو حكم بغير شرع الله .
فدخل في ذلك السحر والكهانة ، وعباده غير الله ، وطاعة الشيطان ، كل هذا من الجبت والطاغوت ، وكذلك حَمَلهم الكفر والحسد على أن فضلوا طريقة الكافرين بالله -عبدة الأصنام- على طريق المؤمنين فقال : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي : لأجلهم تملقا لهم ومداهنة ، وبغضا للإيمان : { هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } أي : طريقا . فما أسمجهم وأشد عنادهم وأقل عقولهم " كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم ؟ " هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من العقلاء ، أو يدخل عقلَ أحد من الجهلاء ، فهل يُفَضَّل دين قام على عبادة الأصنام والأوثان ، واستقام على تحريم الطيبات ، وإباحة الخبائث ، وإحلال كثير من المحرمات ، وإقامة الظلم بين الخلق ، وتسوية الخالق بالمخلوقين ، والكفر بالله ورسله وكتبه ، على دين قام على عبادة الرحمن ، والإخلاص لله في السر والإعلان ، والكفر بما يعبد من دونه من الأوثان والأنداد والكاذبين ، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق ، حتى البهائم ، وإقامة العدل والقسط بين الناس ، وتحريم كل خبيث وظلم ، والصدق في جميع الأقوال والأعمال ، فهل هذا إلا من الهذيان ، وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس وأضعفهم عقلا ، وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق ، وهذا هو الواقع ، ولهذا قال تعالى عنهم : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } أي : طردهم عن رحمته وأحل عليهم نقمته . { وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } أي : يتولاه ويقوم بمصالحه ويحفظه عن المكاره ، وهذا غاية الخذلان .
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك لونا آخر من رذائلهم وقبائحهم التى تدعو إلى مزيد من التعجيب من أحوالهم . والتحقير فى شأنهم فقال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً } .
روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : ما جاء عن ابن عباس أن حيى بن أخطب وكعب بن الأشرف خرجا إلى مكة فى جمع من اليهود ليخالفوا قريشا على حرب النبى صلى الله عليه وسلم . فنزل كعب على أبى سفيان فأحسن مثواه . ونزلت اليهود فى دور قريش . فقال أهل مكة لليهود : إنكم أهل كتاب ومحمد صلى الله عليه وسلم صاحب كتاب فلا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم . فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما ففعلوا . ثم قال كعب : يا أهل مكة ليجئ منا ثلاثون ومنكم ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت على قتال محمد صلى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك . فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق نحن أم محمد ؟ قال كعب : اعرضوا على دينكم .
فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكرماء ، ونسقيهم اللبن ، ونقرى الضيف ، ونفك العانى ، ونصل الرحم ، ونعمر بيت ربنا ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمد صلى الله عليه وسلم فارق دين أبائه وقطع الرحم وفارق الحرم ، وديننا القديم ودين محمد الحديث .
فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية .
والجنب فى الأصل : اسم صنم ثم استعمل فى كل معبود سوى الله - تعالى - .
والطاغوت : يطلق على كل باطل وعلى كل ما عبد من دون الله ، أو كل من دعا إلى ضلالة . أى : يصدقون بأنهما آلهة ويشركونهما فى العبادة مع الله - تعالى - . أو يطيعونهما فى الباطل .
قال ابن جرير : والصواب من القول فى تأويل { يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت } أن يقال : يصدقون بمعبودين من دون الله ، ويتخذونها إلهين ، وذلك أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضوع له ، كائنا ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان .
وقوله { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } بيان لما نقطوا به من زور وبهتان . أى : ويقولون ارضاء للذين كفروا وهم مشركو مكة . هؤلاء فى شركهم وعبادتهم للجبت والطاغوت ، { أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً } أى أقوم طريقا ، وأحسن دينا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم .
واللام فى قوله { لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } لام العلة . أى : يقولون لأجل الذين كفروا . .
والإِشارة بقوله { هَؤُلاءِ أهدى } إلى الذين كفروا .
وإيراد النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعنوان الإِيمان ، ليس من قبل القائلين ، بل من جهة الله تعالى ، تعريفا لهم بالوصف الجميل ، وتحقيرا لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح الصفات .
ويمضي السياق في التعجيب من أمر أولئك الذين يزكون أنفسهم . . بينما هم يؤمنون بالباطل وبالأحكام التي لا تستند إلى شرع الله ، وليس لها ضابط منه يعصمها من الطغيان : " الجبت والطاغوت " وبينما هم يشهدون للشرك والمشركين بأنهم أهدى من المؤمنين بكتاب الله ومنهجه وشريعته ، ويحمل عليهم - بعد التعجيب من أمرهم ، وذكر هذه المخازي عنهم - حملة عنيفة ؛ ويرذلهم ترذيلا شديدا ؛ ويظهر كامن طباعهم من الحسد والبخل ؛ والأسباب الحقيقية التي تجعلهم يقفون هذا الموقف إلى جانب انحرافهم عن دين إبراهيم - الذي يفخرون بالانتساب إليه - وينهي هذه الحملة بتهديدهم بجهنم . ( وكفى بجهنم سعيرًا ) .
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، يؤمنون بالجبت والطاغوت ، ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ! أولئك الذين لعنهم الله . ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا . أم لهم نصيب من الملك ؟ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا . أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ؛ وآتيناهم ملكا عظيما . فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه ؛ وكفى بجهنم سعيرًا . .
لقد كان الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، أولى الناس أن يتبعوا الكتاب ؛ وأن يكفروا بالشرك الذي يعتنقه من لم يأتهم من الله هدى ؛ وأن يحكموا كتاب الله في حياتهم ، فلا يتبعوا الطاغوت - وهو كل شرع لم يأذن به الله ، وكل حكم ليس له من شريعة الله سند - ولكن اليهود - الذين كانوا يزكون أنفسهم ، ويتباهون بأنهم أحباء الله - كانوا في الوقت ذاته يتبعون الباطل والشرك باتباعهم للكهانة وتركهم الكهان والأحبار يشرعون لهم ما لم يأذن به الله . وكانوا يؤمنون بالطاغوت ؛ وهو هذا الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله . . وهو طاغوت لما فيه من طغيان - بادعاء الإنسان إحدى خصائص الألوهية - وهي الحاكمية - وبعدم انضباطه بحدود من شرع الله ، تلزمه العدل والحق . فهو طغيان ، وهو طاغوت ؛ والمؤمنون به والمتبعون له ، مشركون أو كافرون . . يعجب الله من أمرهم ، وقد أوتوا نصيبا من الكتاب ، فلم يلتزموا بما أوتوه من الكتاب !
ولقد كانوا يضيفون إلى الإيمان بالجبت والطاغوت ، موقفهم في صف المشركين الكفار ، ضد المؤمنين الذين آتاهم الله الكتاب أيضا :
ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا . .
قال ابن إسحاق . حدثني محمد بن أبى محمد ، عن عكرمة - أو عن سعيد بن جبير - عن ابن عباس . قال : " كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة ، حيي بن أخطب ، وسلام بن الحقيق ، وأبو رافع ، والربيع بن الحقيق ، وأبو عامر ، ووحوح بن عامر ، وهودة بن قيس . فأما وحوح وأبو عامر وهودة ، فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير . . فلما قدموا على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود ، وأهل العلم بالكتاب الأول . فاسألوهم : أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم . فقالوا : دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه . فأنزل الله - عز وجل - : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ) . . . إلى قوله عز وجل : ( وآتيناهم ملكا عظيما ) . . وهذا لعن لهم ، وإخبار بأنه لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة . لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين . وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم . وقد أجابوهم ، وجاءوا معهم يوم الأحزاب ؛ حتى حفر النبي [ ص ] وأصحابة حول المدينة الخندق ، وكفى الله شرهم
( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا . وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا ) .
وكان عجيبا أن يقول اليهود : إن دين المشركين خير من دين محمد ومن معه ، وإن المشركين أهدى سبيلا من الذين آمنوا بكتاب الله ورسوله [ ص ] ولكن هذا ليس بالعجيب من اليهود . . إنه موقفهم دائما من الحق والباطل ، ومن أهل الحق وأهل الباطل . . إنهم ذوو أطماع لا تنتهي ، وذوو أهواء لا تعتدل ، وذوو أحقاد لا تزول ! وهم لا يجدون عند الحق وأهله عونا لهم في شيء من أطماعهم وأهوائهم وأحقادهم . إنما يجدون العون والنصرة - دائما - عند الباطل وأهله . ومن ثم يشهدون للباطل ضد الحق ؛ ولأهل الباطل ضد أهل الحق !
هذه حال دائمة ، سببها كذلك قائم . . وكان طبيعيا منهم ومنطقيا أن يقولوا عن الذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا !
وهم يقولونها اليوم وغدا . إنهم يشوهون بوسائل الدعاية والإعلام التي في أيديهم كل حركة إسلامية ناجحة على ظهر الأرض ؛ ويعينون عليها أهل الباطل لتشويهها وتحطيمها - بالضبط كما كانوا يعينون مشركي قريش ويستنصرون بهم في الوقت ذاته - لتشويه الحركة الإسلامية الأولى وتحطيمها .
ولكنهم أحيانا - لخبثهم ولتمرسهم بالحيل الماكرة ولملابسات العصر الحديث - قد لا يثنون ثناء مكشوفا على الباطل وأهله . بل يكتفون بتشويه الحق وأهله . ليعينوا الباطل على هدمه وسحقه . ذلك أن ثناءهم المكشوف - في هذا الزمان - أصبح متهما ، وقد يثير الشبهات حول حلفائهم المستورين ، الذين يعملون لحسابهم ، في سحق الحركات الإسلامية في كل مكان . .
بل لقد يبلغ بهم المكر والحذق أحيانا ، أن يتظاهروا بعداوة وحرب حلفائهم ، الذين يسحقون لهم الحق وأهله . ويتظاهروا كذلك بمعركة كاذبة جوفاء من الكلام . ليبعدوا الشبهة تماما عن أخلص حلفائهم ، الذين يحققون لهم أهدافهم البعيدة !
ولكنهم لا يكفون أبدا عن تشويه الإسلام وأهله . . لأن حقدهم على الإسلام ، وعلى كل شبح من بعيد لأى بعث إسلامي ، أضخم من أن يداروه . . ولو للخداع والتمويه !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب}، وذلك أن كعب بن الأشرف اليهودي، وكان عربيا من طيئ، وحيي بن أخطب، انطلقا في ثلاثين من اليهود إلى مكة بعد قتال أُحُد، فقال أبو سفيان بن حرب: إن أحب الناس إلينا من يعيننا على قتال هذا الرجل، حتى نفنى أو يفنوا، فنزل كعب على أبي سفيان، فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال كعب لأبي سفيان: ليجيء منكم ثلاثون رجلا، ومنا ثلاثون رجلا، فنلصق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد رب هذا البيت، لنجتهدن على قتال محمد، ففعلوا ذلك. قال أبو سفيان لكعب بن الأشرف: أنت امرؤ من أهل الكتاب تقرأ الكتاب، فنحن أهدى أم ما عليه محمد؟ فقال: إلى ما يدعوكم محمد؟ قال: إلى أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، قال: فأخبروني ما أمركم؟ وهو يعلم ما أمرهم، قالوا: ننحر الكوماء، ونقري الضيف، ونفك العاني، يعني الأسير، ونسقى الحجيج الماء، ونعمر بيت ربنا، ونصل أرحامنا، ونعبد إلهنا ونحن أهل الحرم، فقال كعب: أنت والله أهدى مما عليه محمد، فأنزل الله عز وجل: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب}، يقول: أعطوا حظا من التوراة، {يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا} من أهل مكة {هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا}، يعني طريقا...
الطاغوت: ما عبد من دون الله... وسمعت من يقول: الجبت: الشيطان...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ألم تر بقلبك يا محمد إلى الذين أعطوا حظا من كتاب الله، فعلموه "يؤمنون بالجبت والطاغوت": يصدّقون بالجبت والطاغوت ويكفرون بالله، وهم يعلمون أن الإيمان بهما كفر والتصديق بهما شرك.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الجبت والطاغوت؛
فقال بعضهم: هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله.
وقال آخرون: الجبت: الأصنام. والطاغوت: تراجمة الأصنام، الذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس.
وزعم رجال أن الجبت: الكاهن. والطاغوت: رجل من اليهود يدعى كعب بن الأشرف، وكان سيد اليهود.
وقال آخرون: الجبت: السحر. والطاغوت: الشيطان. وقال آخرون: الجبت: الساحر. والطاغوت: الشيطان. وقال آخرون: الجبت: الساحر. والطاغوت: الكاهن. وقال آخرون: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن. والصواب من القول في تأويل: {يُؤْمِنُونَ بالجبْتِ وَالطّاغُوتِ} أن يقال: يصدّقون بمعبودين من دون الله يعبدونهما من دون الله، ويتخذونهما إلهين. وذلك أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله، أو طاعة أو خضوع له، كائنا ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان.
وإذ كان ذلك كذلك وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها كانت معظمة بالعبادة من دون الله فقد كانت جبوتا وطواغيت، وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولاً منهما ما قالا في أهل الشرك بالله، وكذلك حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، لأنهما كانا مطاعين في أهل ملتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين.
{وَيَقُولُونَ للّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِن الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}: ويقولون للذين جحدوا وحدانية الله ورسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {هَؤلاء} يعني بذلك: هؤلاء الذين وصفهم الله بالكفر {أهْدَى}: أقوم وأعدل {مِنَ الّذِينَ آمَنُوا}: من الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم {سَبِيلاً}: طريقا. وإنما ذلك مثل. ومعنى الكلام: إن الله وصف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة والإذعان له بالطاعة في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما، وأنهم قالوا: إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به، وإن دين أهل التكذيب لله ولرسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق لله ولرسوله، وذكر أن ذلك من صفة كعب بن الأشرف، وأنه قائل ذلك.
وقال آخرون: بل هذه الصفة جماعة من اليهود منهم حيي بن أخطب، وهم الذين قالوا للمشركين ما أخبر الله عنهم أنهم قالوه لهم.
وأولى الأقوال بالصحة في ذلك قول من قال: إن ذلك خبر من الله جلّ ثناؤه عن جماعة من أهل الكتاب من اليهود، وجائز أن يكون حييا وآخر معه، إما كعبا وإما غيره.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
طاغوتُ كلِّ أحدٍ نَفسُه وهواه جِبْتُه... فمن لاحظ شخصاً أو طالع سبباً أو عرَّجَ على عِلَّةٍ أو أطاع هوىً، فذلك جبته وطاغوته. وأصحاب الجبت والطاغوت يستوجبون اللعن؛ وهو الطرد عن بساط العبودية، والحجاب عن شهود الربوبية.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وهذا دليل على شدة معاندة اليهود؛ حيث فضلوا المشركين على المسلمين، مع علمهم أنهم لم يؤمنوا بشيء من الكتب، وأن المسلمين آمنوا بالكتب المتقدمة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما عجب من كذبهم دلَّ عليه بقوله: {ألم تر} وكان الأصل: إليهم، ولكنه قال -لزيادة التقريع والتوبيخ والإعلام بأن كفرهم عناد لكونه عن علم -: {إلى الذين} وعبر ب"إلى" دلالة على بعدهم عن الحضرات الشريفة {أوتوا نصيباً من الكتاب} أي الذي هو الكتاب في الحقيقة لكونه من الله {يؤمنون بالجبت} وهو الصنم والكاهن والساحر والذي لا خير فيه وكل ما عبد من دون الله {والطاغوت} وهو اللات والعزى والكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله؛ وكل هذه المعاني تصح إرادتها هنا، وهي مما نهي عنه في كتابهم- وأصله ومداره مجاوزة الحد عدواناً، وهو واحد وقد يكون جمعاً، قال سبحانه وتعالى أوليائهم الطاغوت يخرجونهم} [البقرة: 257] والحال أن أقل نصيب من الكتاب كافٍ في النهي عن ذلك وتكفير فاعله. ولما دل على ضلالهم دل على إضلالهم بقوله -معبراً بصيغة المضارع دلالة على عدم توبتهم -: {ويقولون للذين كفروا} ودل بالتعبير بالإشارة دون الخطاب على أنهم يقولون ذلك فيهم حتى في غيبتهم، حيث لا حامل لهم على القول إلا محض الكفر فقال: {هؤلاء} أي الكفرة العابدون للأصنام {أهدى} أي أقوم في الهداية {من الذين آمنوا} أي أوقعوا هذه الحقيقة، فيفهم ذمهم بالتفضيل على الذين يؤمنون ومن فوقهم من باب الأولى {سبيلاً *} مع أن في كتابهم من إبطال الشرك وهدمه وعيب مدانيه وذمه في غير موضع تأكيداً أكيداً و أمراً عظيماً شديداً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} الاستفهام للتعجيب من هذه الحال من أحوالهم كما سبق نظيره في الآية التي افتتحت بمثل ما افتتحت به للتعجيب من ضلالهم في أنفسهم وإرادتهم إضلال المؤمنين. و (الجبت) قال بعض اللغويين أصله الجبس فقلبت السين تاء ومعناه فيهما الرديء الذي لا خير فيه. وأطلق على السحر وعلى الساحر وعلى الشيطان وقيل أنه حبشي الأصل، روي عن ابن عباس وابن جبير وأبي العالية أنه الساحر وفي رواية عن ابن عباس ومجاهد أنه الأصنام، وعن عمر ومجاهد في رواية أخرى وابن زيد أنه السحر، و (الطاغوت) من مادة الطغيان وتقدم تفسيره في آية الكرسي من الجزء الثالث بأنه كل ما تكون عبادته والإيمان به سببا للطغيان والخروج عن الحق من مخلوق يعبد، ورئيس يقلد، وهوى يتبع، وقد روي عن عمر ومجاهد أن الطاغوت الشيطان، وعن ابن عباس أن الطاغوت هم الناس الذين يكونون بين يدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس، وقيل الطاغوت الكهان، وقيل الجبت والطاغوت صنمان كانا لقريش وأن بعض اليهود سجدوا لهما مرضاة لقريش واستمالة لهم ليتحدوا معهم على قتال المسلمين، وفي حديث قطن ابن قبيصة عن أبيه مرفوعا عند أبي داود:"العيافة والطيرة والطرق من الجبت" وفسر العيافة بالخط وهو ضرب الرمل، وتطلق العيافة على التفاؤل والتشاؤم بما يؤخذ من الألفاظ بطريق...
والطيرة التشاؤم وأصله من زجر الطير، والطرق هو الضرب بالحصا أو الودع أو حب الفول أو الرمل لمعرفة البخت وما غاب من أحوال الإنسان. وهذه الأمور كلها من الدجل والحيل فالمعنى الجامع للفظ الجبت هو الدجل والأوهام والخرافات، والمعنى الجامع للفظ الطاغوت هو ما تقدم آنفا عن تفسير آية الكرسي من مثارات الطغيان.
ومعنى الآية ألم ينته علمك أيها الرسول أو ألم تنظر إلى حال هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب كيف حرموا هدايته فهم يؤمنون بالجبت والطاغوت وينصرون أهلها من المشركين على المؤمنين المصدقين بنبوة أنبيائهم وحقية أصل كتبهم {ويقولون للذين كفروا} أي لأجلهم وفي شأنهم والحكاية عنهم {هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} أي يقولون إن المشركين أهدى وأرشد طريقا في الدين من المؤمنين الذين اتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي السياق في التعجيب من أمر أولئك الذين يزكون أنفسهم.. بينما هم يؤمنون بالباطل وبالأحكام التي لا تستند إلى شرع الله، وليس لها ضابط منه يعصمها من الطغيان: "الجبت والطاغوت "وبينما هم يشهدون للشرك والمشركين بأنهم أهدى من المؤمنين بكتاب الله ومنهجه وشريعته، ويحمل عليهم -بعد التعجيب من أمرهم، وذكر هذه المخازي عنهم- حملة عنيفة؛ ويرذلهم ترذيلا شديدا؛ ويظهر كامن طباعهم من الحسد والبخل؛ والأسباب الحقيقية التي تجعلهم يقفون هذا الموقف إلى جانب انحرافهم عن دين إبراهيم -الذي يفخرون بالانتساب إليه- وينهي هذه الحملة بتهديدهم بجهنم. (وكفى بجهنم سعيرًا).
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا! أولئك الذين لعنهم الله. ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا. أم لهم نصيب من الملك؟ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا. أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة؛ وآتيناهم ملكا عظيما. فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه؛ وكفى بجهنم سعيرًا..
لقد كان الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، أولى الناس أن يتبعوا الكتاب؛ وأن يكفروا بالشرك الذي يعتنقه من لم يأتهم من الله هدى؛ وأن يحكموا كتاب الله في حياتهم، فلا يتبعوا الطاغوت -وهو كل شرع لم يأذن به الله، وكل حكم ليس له من شريعة الله سند- ولكن اليهود -الذين كانوا يزكون أنفسهم، ويتباهون بأنهم أحباء الله- كانوا في الوقت ذاته يتبعون الباطل والشرك باتباعهم للكهانة وتركهم الكهان والأحبار يشرعون لهم ما لم يأذن به الله. وكانوا يؤمنون بالطاغوت؛ وهو هذا الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله.. وهو طاغوت لما فيه من طغيان -بادعاء الإنسان إحدى خصائص الألوهية- وهي الحاكمية -وبعدم انضباطه بحدود من شرع الله، تلزمه العدل والحق. فهو طغيان، وهو طاغوت؛ والمؤمنون به والمتبعون له، مشركون أو كافرون.. يعجب الله من أمرهم، وقد أوتوا نصيبا من الكتاب، فلم يلتزموا بما أوتوه من الكتاب!
ولقد كانوا يضيفون إلى الإيمان بالجبت والطاغوت، موقفهم في صف المشركين الكفار، ضد المؤمنين الذين آتاهم الله الكتاب أيضا:
ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا..
قال ابن إسحاق. حدثني محمد بن أبى محمد، عن عكرمة- أو عن سعيد بن جبير -عن ابن عباس. قال: "كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة، حيي بن أخطب، وسلام بن الحقيق، وأبو رافع، والربيع بن الحقيق، وأبو عامر، ووحوح بن عامر، وهودة بن قيس. فأما وحوح وأبو عامر وهودة، فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير.. فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتاب الأول. فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم. فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله- عز وجل -: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب)... إلى قوله عز وجل: (وآتيناهم ملكا عظيما).. وهذا لعن لهم، وإخبار بأنه لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة. لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين. وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم. وقد أجابوهم، وجاءوا معهم يوم الأحزاب؛ حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابة حول المدينة الخندق، وكفى الله شرهم
(ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا. وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا).
وكان عجيبا أن يقول اليهود: إن دين المشركين خير من دين محمد ومن معه، وإن المشركين أهدى سبيلا من الذين آمنوا بكتاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولكن هذا ليس بالعجيب من اليهود.. إنه موقفهم دائما من الحق والباطل، ومن أهل الحق وأهل الباطل.. إنهم ذوو أطماع لا تنتهي، وذوو أهواء لا تعتدل، وذوو أحقاد لا تزول! وهم لا يجدون عند الحق وأهله عونا لهم في شيء من أطماعهم وأهوائهم وأحقادهم. إنما يجدون العون والنصرة -دائما- عند الباطل وأهله. ومن ثم يشهدون للباطل ضد الحق؛ ولأهل الباطل ضد أهل الحق!
هذه حال دائمة، سببها كذلك قائم.. وكان طبيعيا منهم ومنطقيا أن يقولوا عن الذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا!
وهم يقولونها اليوم وغدا. إنهم يشوهون بوسائل الدعاية والإعلام التي في أيديهم كل حركة إسلامية ناجحة على ظهر الأرض؛ ويعينون عليها أهل الباطل لتشويهها وتحطيمها -بالضبط كما كانوا يعينون مشركي قريش ويستنصرون بهم في الوقت ذاته- لتشويه الحركة الإسلامية الأولى وتحطيمها.
ولكنهم أحيانا -لخبثهم ولتمرسهم بالحيل الماكرة ولملابسات العصر الحديث- قد لا يثنون ثناء مكشوفا على الباطل وأهله. بل يكتفون بتشويه الحق وأهله. ليعينوا الباطل على هدمه وسحقه. ذلك أن ثناءهم المكشوف -في هذا الزمان- أصبح متهما، وقد يثير الشبهات حول حلفائهم المستورين، الذين يعملون لحسابهم، في سحق الحركات الإسلامية في كل مكان..
بل لقد يبلغ بهم المكر والحذق أحيانا، أن يتظاهروا بعداوة وحرب حلفائهم، الذين يسحقون لهم الحق وأهله. ويتظاهروا كذلك بمعركة كاذبة جوفاء من الكلام. ليبعدوا الشبهة تماما عن أخلص حلفائهم، الذين يحققون لهم أهدافهم البعيدة!
ولكنهم لا يكفون أبدا عن تشويه الإسلام وأهله.. لأن حقدهم على الإسلام، وعلى كل شبح من بعيد لأى بعث إسلامي، أضخم من أن يداروه.. ولو للخداع والتمويه!
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} قد رأيت أيها النبي الأمين متعجبا مستغربا حال الذين أوتوا حظا من الكتاب، وعلموا بعض علم الرسالات الإلهية، يؤمنون بأردأ العقائد والأخلاق، وبالطغيان والظلم والاندفاع نحو الشر. فالجبت هنا هو الرديء من الأفكار، وهو الرديء من الأشياء، فهؤلاء يؤمنون بأردأ الأوهام، ويؤمنون مع ذلك بالطغيان والسيطرة الظالمة، ولذلك يخنعون لكل ذي سلطان، ويضعون ظهورهم لكل راكب، ويطغون على كل عادل لا يذل ولا يؤذى!! وعبر هنا بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، وفي مقام آخر خاطبهم بقوله: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم... (47)} (النساء)، وذلك لأنهم أنزلت عليهم كتب الرسالة الأولى لنبيهم، فبمقتضاها يدعون إلى الإيمان، ولذا عبر بالكتاب كله لا ببعضه، فهم في هذا المقام يخاطبون بمقتضى الكتاب الذي نزل على رسولهم. أما هنا فيذكر حقيقة أمرهم، وهو أنهم نسوا حظا مما ذكروا به. ومن جهة أخرى فإن نيلهم أقل قدر من علم الكتاب يتنافى مع إيمانهم بأتفه الأوهام، وإيمانهم بالظلم والطغيان، واعتبارهما سبيلا للعيش في الحياة، فهم ظالمون يرضون بالظلم يقع عليهم، ويتنافى علم الكتاب مع ممالأتهم لعبدة الأوثان على أهل التوحيد، فيقولون في المشركين هؤلاء أهدى طريقا من المؤمنين، وهذا قول الله تعالى: {ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} والذين كفروا هنا هم المشركون، أي أنهم يقولون لأجل إرضاء الذين كفروا وأشركوا وعبدوا الأوثان: هؤلاء في شركهم وعبادتهم غير الله تعالى أرشد طريقا، وسبيلهم هو سبيل الهداية، أما سبيل الذين آمنوا بالله وحده، ولم يشركوا به غيره، وأذعنوا لأحكام الله تعالى في أوامره ونواهيه، فليس هو سبيل الرشاد...
{أوتوا نصيبا من الكتاب}: يعني عندهم صلة وعلاقة بالسماء وبالرسل، وبالكتب المنزلة من السماء على الرسل التي تحمل مناهج الله، ولو كانوا أناسا ليس لهم مثل هذا الحظ لكان كلامهم هذا معقولا لانقطاع أسباب السماء عنهم. إنما هؤلاء عندهم نصيب من الكتاب، وأولى مهمات الكتب السماوية أن تربط المخلوق بالخالق، وربط المخلوق بالخالق هو تربيب لقدرات المخلوق وتنميتها؛ لأن أسباب الله في الكون قد تعز عليك، وقد تقفر يدك منها. فإذا لم يكن لك إله تلجأ إليه عند عزوف الأسباب انهرت، وربما فارقت حياتك منتحرا، لكن المؤمن بالله ساعة تمتنع عنه أسبابه يقول: لا تهمني الأسباب، لأن عندي المسبب...
ويوضح ربنا: يا محمد انظر لعجائبهم؛ إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، ومع ذلك فعداوتهم لك ووقوفهم أمام دينك وأمام النور الذي جئت به، جعلهم ينسون نصيبهم من الكتاب، ويؤمنون بالجبت والطاغوت؛ وهم القوم أنفسهم الذين كانوا يقولون للعرب قديما: إنه سيأتي نبي منكم نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. لكن هاهم أولاء يذهبون ويؤمنون بالطاغوت والجبت، فهل عند مثل هؤلاء شيء من الدين؟.
إن الحق سبحانه يريد أن يطمئن رسول الله بأن هؤلاء انعزلوا عن مدد السماء، فإن نشب بينك وبينهم حرب أو خلاف فاعلم أن الله قد تخلى عنهم لأنهم تركوا النصيب من الكتاب الذي أوتوه. وإياك أن يأتي في بالك أن هؤلاء أصحاب كتاب.
إن الحق يطمئن رسوله أنه سبحانه قد تخلى عنهم وأن الله ناصرك يا محمد فلا يغرنك أنهم أصحاب مال او اصحاب علم او أصحاب ثروات، فكل هذا إلى زوال؛ لأن حظهم من السماء قد انقطع؛ ولأن الشرك قد حازهم وملكهم وضمهم إليه وقد جعلوا العداوة لك والانضمام إلى الكفار الذين كانوا يستفتحون عليهم، ببعثك ورسالتك، ثمنا لأن يتركوا الإيمان.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِن الآية الأُولى من الآيتين الحاضرتين تعكس بملاحظة ما ذكر في سبب النزول قريباً صفة أُخرى من صفات اليهود الذميمة، وهي أنّهم لأجل الوصول إِلى أهدافهم كانوا يداهنون كل جماعة من الجماعات، حتى أنّهم لكي يستقطبوا المشركين سجدوا لأصنامهم، وتجاهلوا كل ما قرؤوه في كتبهم، أو علموا به حول صفات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعظمة الإِسلام، بل وذهبوا بغية إِرضاء المشركين إِلى ترجيح عقيدة الوثنيين بما فيها من خرافات وتفاهات وفضائح على الإِسلام الحنيف، مع أنّ اليهود كانوا من أهل الكتاب، وكانت المشتركات بينهم وبين الإِسلام تفوق بدرجات كبيرة ما يجمعهم مع الوثنيين، ولهذا يقول سبحانه في هذه الآية مستغرباً: (ألم تر إلى الذين أتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطّاغوت) وهي الأصنام؟
ولكنّهم لا يقتنعون بهذا، ولا يقفون عند هذا الحدّ، بل: (ويقولون للذين كفروا هؤلاءِ أهدى من الذين آمنوا سبيلا).
استعملت لفظة «الجبت» في هذه الآية من القرآن الكريم خاصّة، وهو اسم جامد لا تعريف له في اللغة العربية، ويقال أنّه يعني «السّحر» أو «السّاحر» أو «الشّيطان» بلغة أهل الحبشة، ثمّ دخل في اللغة العربية واستعمل بهذا المعنى، أو بمعنى الصنم أو أي معبود غير الله في هذه اللغة، ويقال: أنه في الأصل «جبس» ثمّ أبدل «س» إِلى «ت».
وأمّا لفظة «الطّاغوت» فقد استعملت في ثمانية موارد من القرآن الكريم، وهي كما قلنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير لدى الحديث عن الآية (256) من سورة البقرة صيغة مبالغة من مادة الطغيان، بمعنى التعدي وتجاوز الحدّ، ويطلق على كل شيء موجب لتجاوز الحدّ (ومنها الأصنام) ولهذا يسمى الشيطان، والصنم والحاكم الجبار المتكبر، وكل معبود سوى الله، وكل مسيرة تنتهي إِلى غير الحق، طاغوتاً.