39- ومن دلائل قدرته - تعالى - أنك ترى - يا من يستطيع أن يرى - الأرض يابسة ، فإذا أنزلنا عليها الماء تحرَّكت للإنبات ، إن الذي أحيا الأرض بعد موتها لخليق أن يحيى الموتى من الحيوان ، إنه على كل شيء تام القدرة{[201]} .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ } الدالة على كمال قدرته ، وانفراده بالملك والتدبير والوحدانية ، { أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً } أي : لا نبات فيها { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ } أي : المطر { اهْتَزَّتْ } أي : تحركت بالنبات { وَرَبَتْ } ثم : أنبتت من كل زوج بهيج ، فيحيي به العباد والبلاد .
{ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا } بعد موتها وهمودها ، { لَمُحْيِي الْمَوْتَى } من قبورهم إلى يوم بعثهم ، ونشورهم { إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فكما لم تعجز قدرته عن إحياء الأرض بعد موتها ، لا تعجز عن إحياء الموتى .
ثم بين - سبحانه - آية أخرى من آياته الدالة على وجوب إخلاص العبادة له فقال { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ . . }
و { خَاشِعَةً } أى ، يابسة جدبة ، خشعت الأرض ، إذا أجدبت لعم نزول المطر عليها وقوله : { اهتزت } أى : تحركت بالنبات قبل بروزه منها وبعد ظهوره على سطحها و { وَرَبَتْ } أى : انفتخت وعلت ، لأن النبات إذا قارب الظهور ترى الأرض ، ارتفعت له ، ثم تشققت عنه . يقال : ربا الشئ إذا زاد وعلا وارتفع ، ومنه الربوة للمكان المرتفع من الأرض .
أى : ومن آياته - تعالى - الدالة على وجوب العبادة له وحده ، أنك - أيها العاقل - ترى الأرض يابسة جامدة ، فإذا أنزلنا عليها بقدرتنا المطر ، تحركت بالنبات ، وارتفعت بسببه ، ثم تصدعت عنه .
وعنى - سبحانه - هنا بقوله { خَاشِعَةً } لأن الحديث عن وجوب السجود لله - تعالى - وحده ، والحديث عن السجود والطاعة يناسبه الخشوع .
وفى سورة الحج قال - سبحانه - : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً . . } لأن الحديث هناك كان عن البعث ، وعن إمكانيته ، فناسب أن يعبر بالهمود الذى يدل على فقدان الحياة .
قال - تعالى - { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ . . . } وقوله - تعالى - : { إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } بيان لمظاهر قدرته - عز وجل - .
أى : إن الذى أحياها بنزول المطر عليها ، ويخرج النبات منها ، لقادر عن أن يحيى الموتى عن طريق البعث والنشور ، إنه - سبحانه - على كل شئ قدير .
ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . إن الذي أحياها لمحيي الموتي ، إنه على كل شيء قدير . .
ونقف لحظة أمام دقة التعبير القرآني في كل موضع . فخشوع الأرض هنا هو سكونها قبل نزول الماء عليها . فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . وكأنما هي حركة شكر وصلاة على أسباب الحياة . ذلك أن السياق الذي وردت فيه هذه الآية سياق خشوع وعبادة وتسبيح ، فجيء بالأرض في هذا المشهد ، شخصاً من شخوص المشهد ، تشارك فيه بالشعور المناسب وبالحركة المناسبة . .
ونستعير هنا صفحة من كتاب " التصوير الفني في القرآن " عن التناسق الفني في مثل هذا التعبير :
" عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر . وقبل تفتحها بالنبات ، مرة بأنها( هامدة ) ، ومرة بأنها( خاشعة ) . وقد يفهم البعض أن هذا مجرد تنويع في التعبير . فلننظر كيف وردت هاتان الصورتان :
" لقد وردتا في سياقين مختلفين على هذا النحو :
" وردت( هامدة )في هذا السياق : ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث ، فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة . لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ؛ ثم نخرجكم طفلاً ، ثم لتبلغوا أشدكم ؛ ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ، لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً . وترى الأرض هامدة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ) . .
ووردت( خاشعة )في هذا السياق : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ، واسجدوا لله الذي خلقهن ، إن كنتم إياه تعبدون . فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار ، وهم لا يسأمون . ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) .
" وعند التأمل السريع في هذين السياقين ، يتبين وجه التناسق في( هامدة )و( خاشعة ) . إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج ؛ فمما يتسق معه تصوير الأرض( هامدة )ثم تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج . وإن الجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع وسجود ، يتسق معه تصوير الأرض( خاشعة )فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت .
؛ ثم لا يزيد على الاهتزاز والإرباء هنا ، الإنبات والإخراج ، كما زاد هناك ، لأنه لا محل لها في جو العبادة والسجود . ولم تجىء ( اهتزت وربت )هنا للغرض الذي جاءتا من أجله هناك . إنهما تخيلان حركة للأرض بعد خشوعها . وهذه الحركة هي المقصودة هنا ، لأن كل ما في المشهد يتحرك حركة العبادة ، فلم يكن من المناسب أن تبقى الأرض وحدها خاشعة ساكنة ، فاهتزت لتشارك العابدين المتحركين في المشهد حركتهم ، ولكي لا يبقى جزء من أجزاء المشهد ساكناً ، وكل الأجزاء تتحرك من حوله . وهذا لون من الدقة في تناسق الحركة المتخيلة يسمو على كل تقدير ؛ الخ . الخ .
ونعود إلى النص القرآني فنجد أن التعقيب في نهاية الآية يشير إلى إحياء الموتى ، ويتخذ من إحياء الأرض نموذجاً ودليلاً :
( إن الذي أحياها لمحيي الموتى ، إنه على كل شيء قدير ) . .
ويتكرر في القرآن عرض مثل هذا المشهد واتخاذه نموذجاً للإحياء في الآخرة ، ودليلاً كذلك على القدرة . ومشهد الحياة في الأرض قريب من كل قلب ، لأنه يلمس القلوب قبل أن يلمس العقول ، والحياة حين تنبض من بين الموات ، توحي بالقدرة المنشئة إيحاء خفياً ينبض في أعماق الشعور . والقرآن يخاطب الفطرة بلغتها من أقرب طريق .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ إِنّ الّذِيَ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَىَ إِنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : ومن حجج الله أيضا وأدلته على قدرته على نشر الموتى من بعد بلاها ، وإعادتها لهيئتها كما كانت من بعد فنائها أنك يا محمد ترى الأرض دارسة غبراء ، لا نبات بها ولا زرع ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمِنْ آياتِهِ أنّكَ تَرَى الأرْضَ خاشِعَةً : أي غبراء متهشمة .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي وَمِنْ آياتِهِ أنّكَ تَرَى الأرْضَ خاشِعَةً قال : يابسة متهمشة .
فإذَا أنْزَلْنا عَلَيْها المَاءَ اهْتَزّتْ يقول تعالى ذكره : فإذا أنزلنا من السماء غيثا على هذه الأرض الخاشعة اهتزت بالنبات ، يقول : تحرّكت به ، كما :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : اهتّزت قال : بالنبات .
وَرَبَتْ يقول : انتفخت ، كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَرَبَتْ انتفخت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فإذَا أنْزَلْنا عَلَيْها المَاءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ يعرف الغيث في سحتها وربوها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَرَبَتْ للنبات ، قال : ارتفعت قبل أن تنبت .
وقوله : إنّ الّذِي أحْياها لَمُحْيِ المَوْتَى يقول تعالى ذكره : إن الذي أحيا هذه الأرض الدارسة فأخرج منها النبات ، وجعلها تهتزّ بالزرع من بعد يبسها ودثورها بالمطر الذي أنزل عليها ، القادر أن يحيي أموات بني آدم من بعد مماتهم بالماء الذي ينزل من السماء لإحيائهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كما يحيي الأرض بالمطر ، كذلك يحيي الموتى بالماء يوم القيامة بين النفختين .
يعني بذلك تأويل قوله : إنّ الّذِي أحْياها لَمُحْيِ المَوْتى .
وقوله : إنّهُ على كُلّ شَيُءٍ قَدِيرٌ يقول تعالى ذكره : إن ربك يا محمد على إحياء خلقه بعد مماتهم وعلى كل ما يشاء ذو قدرة لا يعجز شيء أراده ، ولا يتعذّر عليه فعل شيء شاءه .
ثم ذكر تعالى آية منصوبة ليعتبر بها في أمر البعث من القبور ، ويستدل بما شوهد من هذه على ما لم يشاهد بعد من تلك ، وهي آية يراها عياناً كل مفطور على عقل . وخشوع الأرض هو ما يظهر عليها من استكانة وشعث بالجدب وصيلم السموم{[10086]} فهي عابسة كما الخاشع عابس يكاد يبكي ، والماء المنزل : هو المطر ، واهتزاز الأرض : هو تخلخل أجزائها بالماء وتشققها للنبات . وربوها : هو انتفاخها بالماء وعلو سطحها به .
وقرأ الجمهور : «وربت » . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «وربأت » : بألف مهموزة ، ورواها الرؤاسي عن أبي عمرو ، وهو أيضاً بمعنى : علت وارتفعت ، ومنه الربيئة ، وهو الذي يرتفع حتى يرصد للقوم ثم ذكر تعالى بالأمر الذي ينبغي أن يقاس على هذه الآية والعبرة ، وذلك إحياء الموتى .
وقوله تعالى : { إنه على كل شيء قدير } عموم ، والشيء في اللغة : الموجود .