قوله تعالى : { في قلوبهم مرض } . شك ونفاق ، وأصل المرض الضعف ، وسمي الشك في الدنيا مرضاً لأنه يضعف الدين كالمرض يضعف البدن .
قوله تعالى : { فزادهم الله مرضاً } . لأن الآيات كانت تنزل تترى ، آية بعد آية ، كلما كفروا بآية ازدادوا كفراً ونفاقاً وذلك معنى قوله تعالى ( وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) قرأ ابن عامر وحمزة فزادهم بالإمالة ، وزاد حمزة إمالة زاد حيث وقع وزاغ وخاب وطاب وحاق وضاق ، والآخرون لا يميلونها .
قوله تعالى : { ولهم عذاب أليم } . مؤلم يخلص وجعه إلى قلوبهم .
قوله تعالى : { بما كانوا يكذبون } . ما للمصدر أي بتكذيبهم الله ورسوله في السر . قرأ الكوفيون يكذبون بالتخفيف أي بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين ، وإذا قيل قرأ الكسائي : قيل وغيض وجيء وحيل وسيق وسيئت بروم أوائلهن الضم ووافق أهل المدينة في : سيء وسيئت ، ووافق ابن عامر في سيق وحيل وسيء وسيئت لأن أصلها قول بضم القاف وكسر الواو ، مثل قتل وكذلك في أخواته فأشير إلى الضمة لتكون دالة على الواو المنقلبة وقرأ الباقون يكسر أوائلهن ، استثقلوا الحركة على الواو فنقلوا كسرتها إلى فاء الفعل وانقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها .
وقوله : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } والمراد بالمرض هنا : مرض الشك والشبهات والنفاق ، لأن{[42]} القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله : مرض الشبهات الباطلة ، ومرض الشهوات المردية ، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع ، كلها من مرض الشبهات ، والزنا ، ومحبة [ الفواحش و ]المعاصي وفعلها ، من مرض الشهوات ، كما قال تعالى : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } وهي شهوة الزنا ، والمعافى من عوفي من هذين المرضين ، فحصل له اليقين والإيمان ، والصبر عن كل معصية ، فرفل في أثواب العافية .
وفي قوله عن المنافقين : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين ، وأنه بسبب ذنوبهم السابقة ، يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وقال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وقال تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } فعقوبة المعصية ، المعصية بعدها ، كما أن من ثواب الحسنة ، الحسنة بعدها ، قال تعالى : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى }
ثم بين - سبحانه - العلة في خداعهم لله وللمؤمنين فقال : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } .
والمرض : العلة في البدن ونقيضه الصحة ، وقد يستعمل على وجه الاستعارة فيما يعرض للمرء فيخل بكمال نفسه ، كسوء العقيدة والحسد ، والبغضاء والنفاق ، وهو المراد هنا .
وسمي ما هم فيه من نفاق وكفر مرضا ، لكونه مانعا لهم من إدراك الفضائل . كما أن مرض الأبدان يمنعها من التصرف الكامل .
وجعل القرآن قلوبهم ظرفا للمرض ، للإٍشعار بأنه تمكن منها تمكناً شديداً كما يتمكن الظرف من المظروف فيه .
ثم أخبر- سبحانه- بأنهم بسبب سوء أعمالهم قد زادهم الله ضلالا وخسراً فقال : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } . لأنهم استمروا في نفاقهم وشكهم ، ومن سنة الله أن المريض إذا لم يعالج مرضه زاد لا محالة مرضه ، إذ المرض ينشئ المرض ، والانحراف يبدأ يسيراً ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد . والمعنى : أن هؤلاء المنافقين قد زادهم رجساً على رجسهم ، ومرضا على مرضهم ، وحسدا على حسدهم ، لأنهم عموا وصموا عن الحق ، ولأنهم كانوا يحزنون لأي نعمة تنزل بالمؤمنين . كما قال - تعالى : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال : { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } .
{ أَلِيمٌ } أي : مؤلم وموجع وجعاً شديدا . من ألم - كفرح - فهو ألم ، وآلمه يؤلمه إيلاما ، أي : أوجعه إيجاعاً شديدا .
والكذب : الإِخبار عن الشيء بخلاف الواقع . ولقد كان المنافقون كاذبين في قولهم " آمنا بالله وباليوم الآخر " وهم غير مؤمنين ، وجعلت الآية الكريمة العذاب الأليم مرتبا على كذبهم مع أنهم كفرة ، والكفر أكبر معصية من الكذب ، للإشعار بقبح الكذب ، وللتنفير منه بأبلغ وجه ، فهؤلاء المنافقون قد جمعوا الخستين ، الكفر الذي توعد الله مرتكبه بالعذاب العظيم ، والكذب الذي توعد الله مقترفة بالعقاب الأليم .
وعبر بقوله : { كَانُوا يَكْذِبُون } لإفادة تجدد الكذب وحدوثه منهم حيناً بعد حين ، وأن هذه الصفة هي أخص صفاتهم ، وأبرز جرائمهم .
ولكن لماذا يحاول المنافقون هذه المحاولة ؟ ولماذا يخادعون هذا الخداع
في طبيعتهم آفة . في قلوبهم علة . وهذا ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم . ويجعلهم يستحقون من الله أن يزيدهم مما هم فيه :
فالمرض ينشىء المرض ، والانحراف يبدأ يسيرا ، ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد . سنة لا تتخلف . سنة الله في الأشياء والأوضاع ، وفي المشاعر والسلوك . فهم صائرون إذن إلى مصير معلوم . المصير الذي يستحقه من يخادعون الله والمؤمنين :
{ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }
وأصل المرض : السقم ، ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان فأخبر الله جل ثناؤه أن في قلوب المنافقين مرضا . وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره عن مرض قلوبهم الخبر عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد ولكن لما كان معلوما بالخبر عن مرض القلب أنه معنىّ به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد استغنى بالخبر عن القلب بذلك والكناية عن تصريح الخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عمر بن لجأ :
وَسَبّحَتِ المَدِينَةُ لا تَلُمْها *** رأتْ قَمَرا بِسُوقِهِمُ نَهارا
يريد وسبح أهل المدينة . فاستغنى بمعرفة السامعين خبره بالخبر عن المدينة عن الخبر عن أهلها . ومثله قول عنترة العبسيّ :
هَلاّ سألْتِ الخَيْلَ يا ابنْةَ مالِكِ *** إنْ كُنْتِ جاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي
يريد : هلا سألت أصحاب الخيل ؟ ومنه قولهم : يا خيل الله اركبي ، يراد : يا أصحاب خيل الله اركبوا .
والشواهد على ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب ، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه . فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : في قُلُوبِهمْ مَرَضٌ إنما يعني في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله مرض وسقم . فاجتزأ بدلالة الخبر عن قلوبهم على معناه عن تصريح الخبر عن اعتقادهم . والمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه هو شكهم في أمر محمد ، وما جاء به من عند الله وتحيرهم فيه ، فلا هم به موقنون إيقان إيمان ، ولا هم له منكرون إنكار إشراك ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، كما يقال : فلان يمرض في هذا الأمر ، أي يضعف العزم ولا يصحح الروية فيه . وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك تظاهر القول في تفسيره من المفسرين ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شكّ .
وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : المرض : النفاق .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يقول : في قلوبهم شك .
حدثني يونس بن عبد الأعلَى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد في قوله : في قُلُوبِهِمْ مَرَض قال : هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد . قال : هم المنافقون .
حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد عن قتادة في قوله : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال : في قلوبهم ريبة وشك في أمر الله جل ثناؤه .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال : هؤلاء أهل النفاق ، والمرض الذي في قلوبهم الشكّ في أمر الله تعالى ذكره .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : وَمِنَ النّاس مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ حتى بلغ : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال المرض : الشك الذي دخلهم في الإسلام .
القول في تأويل قوله تعالى : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا .
قد دللنا آنفا على أن تأويل المرض الذي وصف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين : هو الشكّ في اعتقادات قلوبهم وأديانهم وما هم عليه في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر نبوّته وما جاء به مقيمون .
فالمرض الذي أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنه زادهم على مرضهم هو نظير ما كان في قلوبهم من الشك والحيرة قبل الزيادة ، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضه التي لم يكن فرضها قبل الزيادة التي زادها المنافقين من الشك والحيرة إذْ شكوا وارتابوا في الذي أحدث لهم من ذلك إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السالف من حدوده وفرائضه التي كان فرضها قبل ذلك ، كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذ آمنوا به ، إلى إيمانهم بالسالف من حدوده وفرائضه إيمانا . كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله : { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانا فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كافِرُونَ } فالزيادة التي زيدها المنافقون من الرجاسة إلى رجاستهم هو ما وصفنا ، والزيادة التي زيدها المؤمنون إلى إيمانهم هو ما بينا ، وذلك هو التأويل المجمع عليه . ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويل :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت . عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا قال : شكّا .
حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا يقول : فزادهم الله ريبة وشكا .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد عن قتادة : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا يقول : فزادهم الله ريبة وشكا في أمر الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا قال : زادهم رجسا . وقرأ قول الله عزّ وجلّ : { فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إلى رِجْسِهِمْ } قال : شرّا إلى شرّهم ، وضلالة إلى ضلالتهم .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضا قال زادهم الله شكا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ .
قال أبو جعفر : والأليم : هو الموجع ، ومعناه : ولهم عذاب مؤلم ، فصرف «مؤلم » إلى «أليم » ، كما يقال : ضرب وجيع بمعنى موجع ، والله بديع السموات والأرض بمعنى مبدع . ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :
أمِنْ رَيْحَانَةَ الدّاعِي السّمِيع *** يُؤَرّقُنِي وأصْحابي هُجُوعُ
بمعنى المُسْمِع . ومنه قول ذي الرمة :
وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُور شَمَرْدلات ٍ يصُدّ وُجُوهَها وَهَجٌ ألِيمُ
ويروى «يصك » ، وإنما الأليم صفة للعذاب ، كأنه قال : ولهم عذاب مؤلم . وهو مأخوذ من الألم ، والألم : الوجع . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع ، قال : الأليم : الموجع .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : الأليم ، الموجع .
وحدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله ألِيمٌ قال : هو العذاب الموجع ، وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع .
القول في تأويل قوله تعالى : بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ .
اختلفت القراءة في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : بِمَا كانُوا يَكْذِبُونَ مخففة الذال مفتوحة الياء ، وهي قراءة معظم أهل الكوفة . وقرأه آخرون : يُكَذّبُونَ بضم الياء وتشديد الذال ، وهي قراءة معظم أهل المدينة والحجاز والبصرة . وكأن الذين قرءوا ذلك بتشديد الذال وضم الياء رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذاب الأليم بتكذيبهم نبيهم محمدا صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وأن الكذب لولا التكذيب لا يوجب لأحد اليسير من العذاب ، فكيف بالأليم منه ؟
وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا وذلك أن الله عزّ وجلّ أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة بأنهم يكذبون بدعواهم الإيمان وإظهارهم ذلك بألسنتهم خداعا لله عزّ وجلّ ولرسوله وللمؤمنين ، فقال : { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَبِاليَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا } بذلك من قيلهم مع استسرارهم الشك والريبة ، وما يخدعون بصنيعهم ذلك إلا أنفسهم دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وما يشعرون بموضع خديعتهم أنفسهم واستدراج الله عزّ وجل إياهم بإملائه لهم في قلوبهم شك أي نفاق وريبة ، والله زائدهم شكّا وريبة بما كانوا يكذبون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم بألسنتهم : آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ وهم في قيلهم ذلك كَذَبة لاستسرارهم الشك والمرض في اعتقادات قلوبهم . في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، فأولى في حكمة الله جل جلاله أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم ، دون ما لم يجز له ذكر من أفعالهم إذ كان سائر آيات تنزيله بذلك نزل . وهو أن يفتتح ذكر محاسن أفعال قوم ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من أفعالهم ، ويفتتح ذكر مساوىء أفعال آخرين ثم يختم ذلك بالوعيد على ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم . فكذلك الصحيح من القول في الاَيات التي افتتح فيها ذكر بعض مساوىء أفعال المنافقين أن يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من قبائح أفعالهم ، فهذا مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا وشهادتها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا ، وأن الصواب من التأويل ما تأوّلنا من أن وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذاب الأليم على الكذب الجامع معنى الشك والتكذيب ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : { إذَا جاءَكَ المُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إنّكَ لَرَسُولُهُ واللّهُ يَشْهَدُ إنّ المُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ اتّخَذُوا أيمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدوّا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إنّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } والآية الأخرى في المجادلة : { اتّخَذوُا أيْمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدوّا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } فأخبر جلّ ثناؤه أن المنافقين بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون ، كاذبون . ثم أخبر تعالى ذكره أن العذاب المهين لهم على ذلك من كذبهم . ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارئون في سورة البقرة : وَلهُمْ عَذَابٌ أليِمٌ بِمَا كانُوا يُكذَبّوُنَ لكانت القراءة في السورة الأخرى : { والله يشهد إن المنافقين لمكذّبون } ، ليكون الوعيد لهم الذي هو عقيب ذلك وعيدا على التكذيب ، لا على الكذب .
وفي إجماع المسلمين على أن الصواب من القراءة في قوله : وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّ المُنافَقِينَ لَكاذِبُونَ بمعنى الكذب ، وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذاب الأليم على ذلك من كذبهم ، أوضح الدلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة : بما كَانُوا يَكْذِبُون بمعنى الكذب ، وأن الوعيد من الله تعالى ذكره للمنافقين فيها على الكذب حق ، لا على التكذيب الذي لم يجز له ذكر نظير الذي في سورة المنافقين سواء .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن «ما » من قول الله تبارك اسمه : بِمَا كانُوا يَكُذِبُون اسم للمصدر ، كما أن أن والفعل اسمان للمصدر في قولك : أحبّ أن تأتيني ، وأن المعنى إنما هو بكذبهم وتكذيبهم . قال : وأدخل «كان » ليخبر أنه كان فيما مضى ، كما يقال : ما أحسن ما كان عبد الله . فأنت تعجب من عبد الله لا من كونه ، وإنما وقع التعجب في اللفظ على كونه . وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك من قوله ويستخطئه ويقول : إنما ألغيت «كان » في التعجب لأن الفعل قد تقدمها ، فكأنه قال : «حسنا كان زيد » ، «وحسن كان زيد » يبطل «كان » ، ويعمل مع الأسماء والصفات التي بألفاظ الأسماء إذا جاءت قبل «كان » ووقعت «كان » بينها وبين الأسماء .
وأما العلة في إبطالها إذا أبطلت في هذه الحال فشبه الصفات والأسماء بفعل ويفعل اللتين لا يظهر عمل كان فيهما ، ألا ترى أنك تقول : «يقوم كان زيد » ، ولا يظهر عمل «كان » في «يقوم » ، وكذلك «قام كان زيد » . فلذلك أبطل عملها مع فاعل تمثيلاً بفعل ويفعل ، وأعملت مع فاعل أحيانا لأنه اسم كما تعمل في الأسماء . فأما إذا تقدمت «كان » الأسماء والأفعال وكان الاسم والفعل بعدها ، فخطأ عنده أن تكون «كان » مبطلة فلذلك أحال قول البصري الذي حكيناه ، وتأوّل قوله الله عزّ وجل : بِمَا كانُوا يَكذْبِوُنَ أنه بمعنى : الذي يكذبونه .
{ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } المرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به ويوجب الخلل في أفعاله . ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والضغينة وحب المعاصي ، لأنها مانعة من نيل الفضائل ، أو مؤدية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية . والآية الكريمة تحتلهما فإن قلوبهم كانت متألمة تحرقا على ما فات عنهم من الرياسة ، وحسدا على ما يرون من ثبات أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واستعلاء شأنه يوما فيوما ، وزاد الله غمهم بما زاد في إعلاء أمره وإشادة ذكره ، ونفوسهم كانت موصوفة بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم ونحوها ، فزاد الله سبحانه وتعالى ذلك بالطبع . أو بازدياد التكاليف وتكرير الوحي وتضاعف النصر ، وكان إسناد الزيادة إلى الله تعالى من حيث أنه مسبب من فعله وإسنادها إلى السورة في قوله تعالى { فزادتهم رجسا } لكونها سببا .
ويحتمل أن يراد بالمرض ما تداخل قلوبهم من الجبن والخور حين شاهدوا شوكة المسلمين وإمداد الله تعالى لهم بالملائكة ، وقذف الرعب في قلوبهم وبزيادته تضعيفه بما زاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصرة على الأعداء وتبسطا في البلاد .
{ ولهم عذاب أليم } أي مؤلم يقال ألم فهو أليم كوجع فهو وجيع ، وصف به العذاب للمبالغة كقوله :
{ بما كانوا يكذبون } قرأها عاصم وحمزة والكسائي ، والمعنى بسبب كذبهم ، أو ببدله جزاء لهم وهو قولهم آمنا . وقرأ الباقون { يكذبون } من كذبه لأنهم كانوا يكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام بقلوبهم ، وإذا خلوا إلى شياطينهم . أو من كذب الذي هو للمبالغة أو للتكثير مثل بين الشيء وموتت البهائم . أو من كذب الوحشي إذا جرى شوطا وقف لينظر ما وراءه فإن المنافق متحير متردد . والكذب : هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به . وهو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب حيث رتب عليه . وما روي إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات ، فالمراد التعريض . ولكن لما شابه الكذب في صورته سمي به .
استئناف محض لعَدِّ مساويهم ويجوز أن يكون بيانياً لجواب سؤال متعجب ناشىء عن سماع الأحوال التي وصفوا بها قبل في قوله تعالى : { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } [ البقرة : 9 ] فإن من يسمع أن طائفة تخادع الله تعالى وتخادع قوماً عديدين وتطمع أن خداعها يتمشى عليهم ثم لا تشعر بأن ضرر الخداع لاحق بها لطائفة جديرة بأن يتعجب من أمرها المتعجب ويتساءل كيف خطر هذا بخواطرها فكان قوله : { في قلوبهم مرض } بياناً وهو أن في قلوبهم خللاً تزايد إلى أن بلغ حد الأفن . ولهذا قدم الظرف وهو { في قلوبهم } للاهتمام لأن القلوب هي محل الفكرة في الخداع فلما كان المسؤول عنه هو متعلقها وأثرها كان هو المهتم به في الجواب . وتنوين { مرض } للتعظيم . وأطلق القلوب هنا على محل التفكير كما تقدم عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] .
والمرض حقيقة في عارض للمزاج يخرجه عن الاعتدال الخاص بنوع ذلك الجسم خروجاً غير تام وبمقدار الخروج يشتد الألم فإن تم الخروج فهو الموت ، وهو مجاز في الأعراض النفسانية العارضة للأخلاق البشرية عروضاً يخرجها عن كمالها ، وإطلاق المرض على هذا شائع مشهور في كلام العرب ، وتدبير المزاج لإزالة هذا العارض والرجوع به إلى اعتداله هو الطب الحقيقي ومجازي كذلك قال علقمة بن عبدة الملقب بالفحل :
فإن تسألوني بالنساءِ فإنني *** خبير بأدواء النساء طَبيب
فذكر الأدواء والطب لفساد الأخلاق وإصلاحها .
والمراد بالمرض في هاته الآية هو معناه المجازي لا محالة لأنه هو الذي اتصف به المنافقون وهو المقصود من مذمتهم وبيان منشأ مساوي أعمالهم .
ومعنى { فزادهم الله مرضاً } أن تلك الأخلاق الذميمة الناشئة عن النفاق والملازمة له كانت تتزايد فيهم بتزايد الأيام لأن من شأن الأخلاق إذا تمكنت أن تتزايد بتزايد الأيام حتى تصير ملكات كما قال المعلوط القُرَيْعي :
ورَجِّ الفتى للخير ما إنْ رأيتَه *** على السِّنِّ خيراً لا يزال يزيد
وكذلك القول في الشر ولذلك قيل : من لم يتحلم في الصغر لا يتحلم في الكبر ، وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل :
فإنك سوف تحلم أو تَنَاهَى *** إذا ماشِبْتَ أو شاب الغراب
وإنما كان النفاق موجباً لازدياد ما يقارنه من سيء الأخلاق لأن النفاق يستر الأخلاق الذميمة فتكون محجوبة عن الناصحين والمربين والمرشدين وبذلك تتأصل وتتوالد إلى غير حد فالنفاق في كتمه مساوىء الأخلاق بمنزلة كتم المريض داءه عن الطبيب ، وإليك بيان ما ينشأ عن النفاق من الأمراض الأخلاقية في الجدول المذكور هنا وأشرنا إلى ما يشير إلى كل خلق منها في الآيات الواردة هنا أو في آيات أخرى في هذا الجدول{[84]} :
الأمراض النفسانية الناشئة عن النفاق وما يتولد منها وتزايدها
1- الكذب : ( بما كانوا يكذبون )- ( ومن الناس من يقول آمنا ) –( وما هو بمؤمنين )
1-1-1 . العجب ( أنؤمن كما آمن السفهاء )
1-1-2 الغرور ( إنما نحن مصلحون )
1-2- . الجهل ( ولكن لا يعلمون )
1-3- . السفه : ( ألا إنهم هم السفهاء )
- . فساد الرأي ( في قلوبهم مرض ) .
2 . الخوف : ( لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله )
2- 1 . اللؤم : ( ويقبضون أيديهم )
1-1-2 . خون الأمانة ( إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما )
2-2 . العزلة : ( كما آمن الناس )
1-2-2 . جفاء الطبع : ( كما آمن السفها )
2- 3 . الجبن : ( يحسبون كل صيحة عليهم ) ( ليولن الأدبار ثم لا ينصرون )
2- 4 -1 . دوام الضلال ( وما هم بمؤمنين )
2- 4 - 2 . ازدياد النقائص ( فزادهم الله مرضا )
3 . الخداع : ( يخادعون الله والذين آمنوا )
3- 1 . عداوة الناس : ( قالوا إنا معكم ) ( لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء )
- أن يصير هزأة للناس ( الله يستهزئ بهم )
3- 2 : النكاية : ( وما يخادعون إلا أنفسهم )
- أن يصير هزأة للناس ( الله يستهزئ بهم )
3-3 . الفساد : ( ألا إنهم هم المفسدون )
اعلم أن هذه طباع تنشأ عن النفاق أو تقارنه من حيث هو ولا سيما النفاق في الدين فقد نبهنا الله تعالى لمذام ذلك تعليماً وتربية فإن النفاق يعتمد على ثلاث خصال وهي : الكذب القولي ، والكذب الفعلي وهو الخداع ، ويقارن ذلك الخوف لأن الكذب والخداع إنما يصدران ممن يتوقى إظهار حقيقة أمره وذلك لا يكون إلا لخوف ضر أو لخوف إخفاق سعي وكلاهما مؤذن بقلة الشجاعة والثبات والثقةِ بالنفس وبحسن السلوك ، ثم إن كل خصلة من هاته الخصال الثلاث الذميمة توكّد هنَوات أخرى ، فالكذب ينشأ عن شيء من البله لأن الكاذب يعتقد أن كذبه يتمشى عند الناس وهذا من قلة الذكاء لأن النبيه يعلم أن في الناس مثله وخيراً منه ، ثم البله يؤدي إلى الجهل بالحقائق وبمراتب العقول ، ولأن الكذب يعود فِكر صاحبه بالحقائق المحرَّفة وتشتبه عليه مع طول الاسترسال في ذلك حتى إنه ربما اعتقد ما اختلقه واقعاً ، وينشأ عن الأمرين السفه وهو خلل في الرأي وأَفَن في العقل ، وقد أصبح علماء الأخلاق والطب يعدون الكذب من أمراض الدماغ .
وأما نشأةُ العجب والغرور والكفر وفساد الرأي عن الغباوة والجهل والسفهِ فظاهرة ، وكذلك نشأة العزلة والجبن والتستر عن الخوف ، وأما نشأة عداوة الناس عن الخداع فلأن عداوة الأضداد تبدأُ من شعورهم بخداعه ، وتعقبها عداوة الأصحاب لأنهم إذا رأوا تفنن ذلك الصاحب في النفاق والخداع داخلهم الشك أن يكون إخلاصه الذي يظهره لهم هو من المخادعة فإذا حصلت عداوة الفريقين تصدى الناس كلهم للتوقي منه والنكاية به ، وتصدى هو للمكر بهم والفساد ليصل إلى مرامه ، فرمته الناس عن قَوس واحدة واجتنى من ذلك أن يصير هُزأة للناس أجمعين .
وقد رأيتم أن الناشىء عن مرض النفاق والزائد فيه هو زيادة ذلك الناشىء أي تأصله وتمكنه وتولد مذمات أخرى عنه ، ولعل تنكير ( مرض ) في الموضعين أشعر بهذا فإن تنكير الأول للإشارة إلى تنويعٍ أو تكثيرٍ ، وتنكيرَ الثاني ليشير إلى أن المزيد مرض آخر على قاعدة إعادةِ النكرةِ نكرةً .
وإنما أسندت زيادة مرض قلوبهم إلى الله تعالى مع أن زيادة هاته الأمراض القلبية من ذاتها لأن الله تعالى لما خلَق هذا التولُّد وأسبابه وكان أمراً خفياً نبه الناس على خطر الاسترسال في النوايا الخبيثة والأعمال المنكرة ، وأنه من شأنه أن يزيد تلك النوايا تمكناً من القلب فيعسر أو يتعذر الإقلاع عنها بعد تمكنها ، وأسندت تلك الزيادة إلى اسمه تعالى لأن الله تعالى غضب عليهم فأهملهم وشأنهم ولم يتداركهم بلطفه الذي يوقظهم من غفلاتهم لينبه المسلمين إلى خطر أمرها وأنها مما يعسر إقلاع أصحابها عنها ليكون حذرهم من معاملتهم أشد ما يمكن .
فجملة : { فزادهم الله مرضاً } خبرية معطوفة على قوله : { في قلوبهم مرض } واقعة موقع الاستئناف للبيان ، داخلةٌ في دفع التعجب ، أي إن سبب توغلهم في الفساد ومحاولتهم ما لا يُنال لأن في قلوبهم مرضاً ولأنه مرض يتزايد مع الأيام تزايداً مجعولاً من الله فلا طمع في زواله .
وقال بعض المفسرين : هي دعاءٌ عليهم كقول جبير بن الأضبط :
تَبَاعَد عني فَطْحَل إذْ دَعوتُه *** أَمِينَ فزادَ الله مَا بينَنا بُعدا
وهو تفسير غير حسن لأنه خلاف الأصل في العطف بالفاء ولأن تصدي القرآن لشتمهم بذلك ليس من دأبه ، ولأن الدعاء عليهم بالزيادة تنافي ما عهد من الدعاء للضالين بالهداية في نحو : « اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون » .
وقوله : { ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } معطوف على قوله : { فزادهم الله مرضاً } إكمالاً للفائدة فكمل بهذا العطف بيانُ ما جره النفاق إليهم من فساد الحال في الدنيا والعذاب في الآخرة . وتقديم الجار والمجرور وهو { لهم } للتنبيه على أنه خبر لا نعت حتى يستقر بمجرد سماع المبتدأ العلم بأن ذلك من صفاتهم فلا تلهو النفس عن تلقيه .
والأليم فَعيل بمعنى مفعول لأن الأكثر في هذه الصيغة أن الرباعي بمعنى مُفعَل وأصله عذاب مؤلَم بصيغة اسم المفعول أي مؤلَمٌ من يعذَّب به على طريقة المجاز العقلي لأن المؤلَم هو المعذب دون العذاب كما قالوا جَدّ جِدّه ، أو هو فعيل بمعنى فاعل من أَلِمَ بمعنى صار ذا ألَم ، وإما أن يكون فعيل بمعنى مفعِل أي مؤلِمْ بكسر اللام ، فقيل لم يثبت عن العرب في هذه المادة وثبت في نظيرها نحو الحَكيم والسميع بمعنى المسمِع كقول عمرو بن معديكرب :
وخيلٍ قد دَلَفْتُ لها بخيل *** تحيةُ بينهم ضرب وَجِيع
أي موجع ، واختلف في جواز القياس عليه والحق أنه كثير في الكلام البليغ وأن منع القياس عليه للمولدين قصد منه التباعد عن مخالفة القياس بدون داع لئلا يلتبس حال الجاهل بحال البليغ فلا مانع من تخريج الكلام الفصيح عليه .
وقوله : { بما كانوا يكذبون } الباء للسببية . وقرأ الجمهور ( يُكذِّبون ) بضم أوله وتشديد الذال . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح أوله وتخفيف الذال أي بسبب تكذيبهم الرسول وإخبارَه بأنه مرسل من الله وأن القرآن وحي الله إلى الرسول ، فمادة التفعيل للنسبة إلى الكذب مثل التعديل والتجريح ، وأما قراءة التخفيف فعلى كذبهم الخاص في قولهم : { آمنا بالله } [ البقرة : 8 ] وعلى كذبهم العام في قولهم : { إنما نحن مصلحون } [ البقرة : 11 ] فالمقصود كذبهم في إظهار الإيمان وفي جعل أنفسهم المصلحين دون المؤمنين .
والكذب ضد الصدق ، وسيأتي عند قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة المائدة ( 103 ) . و ( ما ) المجرورة بالباء مصدرية ، والمصدر هو المنسبك من كان أي الكون .