قوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو ، وعاصم و يعقوب { ويثبت } بالتخفيف وقرأ الآخرون بالتشديد . واختلفوا في معنى الآية : فقال سعيد بن جبير ، و قتادة : يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ، ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه وقال ابن عباس : يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة . وروينا عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين ، أو خمس وأربعين ليلة ، قيقول : يا رب أشقي أم سعيد ؟ فيكتبان ، فيقول : أي رب أذكر أم أنثى ؟ فيكتبان ، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ، ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص " .
وعن عمر وابن مسعود- رضي الله عنهما - أنهما قالا : يمحو السعادة والشقاوة أيضا ، ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء . وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول : اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبت علي الشقاوة فامحني ، وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب . ومثله عن ابن مسعود . وفي بعض الآثار : أن الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فترد إلى ثلاثة أيام ، والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيمد إلى ثلاثين سنة . أخبرنا عبد الواحد المليحي .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أن أبا منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد ابن زنجويه ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث بن سعد ، حدثني زياد بن محمد الأنصاري ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينزل الله عز وجل في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل ، فينظر في الساعة الأولى منهن في أم الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت " . وقيل : معنى الآية : إن الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم ، فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ، مثل قوله : أكلت ، شربت ، دخلت ، خرجت ، ونحوها من كلام هو صادق فيه ، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب ، هذا قول الضحاك و الكلبي . وقال الكلبي : يكتب القول كله ، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب . وقال عطية عن ابن عباس : هو الرجل يعمل بطاعة الله عز وجل ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو ، والذي يثبت : الرجل يعمل بطاعة الله ، فيموت وهو في طاعة الله عز وجل فهو الذي يثبت . وقال الحسن : يمحو الله ما يشاء أي : من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجئ أجله إلى أجله . وعن سعيد بن جبير قال : يمحو الله ما يشاء من ذنوب العباد فيغفرها ويثبت ما يشاء فلا يغفرها . وقال عكرمة : يمحو الله ما يشاء من الذنوب بالتوبة ، ويثبت بدل الذنوب حسنات ، كما قال الله تعالى : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } [ الفرقان-70 ] ، وقال السدي : يمحو الله ما يشاء يعني القمر { ويثبت } يعني الشمس ، بيانه قوله تعالى : { فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة } [ الإسراء-12 ] . وقال الربيع : هذا في الأرواح يقبضها الله تعالى عند النوم ، فمن أراد موته محاه فأمسكه ، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه ، بيانه قوله عز وجل : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } الآية [ الزمر-42 ] ، { وعنده أم الكتاب } ، أي : أصل الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير . وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : هما كتابان : كتاب سوى أم الكتاب ، يمحو منه ما يشاء ويثبت ، وأم الكتاب الذي لا يغير منه شيء . وعن عطاء عن ابن عباس قال : إن لله تعالى لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام ، من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت ، لله فيه كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } . وسأل ابن عباس كعبا عن أم الكتاب ؟ فقال : علم الله ، ما هو خالق ، وما خلقه عاملون .
{ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ } من الأقدار { وَيُثْبِتُ } ما يشاء منها ، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير لأن ذلك محال على الله ، أن يقع في علمه نقص أو خلل ولهذا قال : { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } أي : اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء ، فهو أصلها ، وهي فروع له وشعب .
فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب ، كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة ، ويجعل الله لثبوتها أسبابا ولمحوها أسبابا ، لا تتعدى تلك الأسباب ، ما رسم في اللوح المحفوظ ، كما جعل الله البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق ، وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر ، وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببا للسلامة ، وجعل التعرض لذلك سببا للعطب ، فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته ، وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك مظهرا من مظاهر شمول قدرته ، وسعة علمه ، وعظيم حكمته فقال : { يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } .
وقوله : { يمحوا } من المحو وهو إذهاب أثر الشئ بعد وجوده .
وقوله : { ويثبت } من المحو وهو إذهاب أثر الشئ بعد وجوده .
وقوله : { ويثبت } من الإِثبات وهو جعل الشئ ثابتا قارا في مكان ما .
وأم الكتاب : أصل الكتاب والمراد بأم الكتاب : اللوح المحفوظ ، أو علمه - سبحانه - المحيط بكل شئ .
قال الفخر الرازى : " والعرب تسمى كل ما يجرى مجرى الأصل للشئ أمٍّا له ومنه أمٌّ الرأس للدماغ ، وأم القرى لمكة ، وكل مدينة فهى أُم لما حولها من القرى فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب " .
والمعنى : يمحو الله - تعالى - ما يشاء محوه ، ويثبت ما يريد إثباته من الخير أو الشر ومن السعادة أو الشقاوة ، ومن الصحة أو المرض ، ومن الغنى أو الفقر ، ومن غير ذلك مما يتعلق بأحوال خلقه .
وعنده - سبحانه - الأصل الجامع لكل ما يتعلق بأحوال هذا الكون .
قال - تعالى - : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ . . . } وقال - تعالى - : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } وللمفسرين في معنى هذه الآية كلام طويل ، لخصه الإِمام الشوكانى تلخيصا حسنا فقال :
قوله - سبحانه - : { يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } أى يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه ، وظاهر النظم القرآنى العموم في كل شئ مما في الكتاب ، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر . . ويبدل هذا بهذا ، ويجعل هذا مكان هذا . لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وقتادة وغيرهم .
وقيل الآية خاصة بالسعادة والشقاوة . وقيل يمحو ما يشساء من ديوان الحفظة ، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب .
وقيل " يمحو ما يشاء من الشرائع فينسخه ، ويثبت ما لا يشاء فلا ينسخه . . والأول أولى كما تفيده " ما " في قوله " ما يشاء " من العموم مع تقدم ذكر الكتاب في قوله " لكل أجل كتاب " ومع قوله " وعنده أم الكتاب " أى أصله وهو اللوح المحفوظ .
فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم ، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجرى فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته .
وهذا لا ينافى ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله " جفَّ القلم " وذلك لأن المحو والإِثبات هو من جملة ما قضاه - سحبانه - .
وقيل : إن أم الكتاب هو علم الله - تعالى - : بما خلق وبما هو خالق .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمّ الْكِتَابِ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : يمحو الله ما يشاء من أمور عباده ، فيغيرّه ، إلاّ الشقاء والسعادة فإنهما لا يغيران . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا بحر بن عيسى ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ قال : يدبر الله أمر العباد فيمحو ما يشاء ، إلاّ الشقاءَ والسعادة والموت .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ قال : كلّ شيء غير السعادة والشقاء ، فإنهما قد فُرِغ منهما .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا يزيد ، وحدثنا أحمد ، قال حدثنا أبو أحمد ، عن سفيان ، عن ابن أبي ليلى عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس يقول : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ قال : إلاّ الشقاء والسعادة ، والموت والحياة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين وقبيصة قالا : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قوله : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ قال : قال ابن عباس : إلاّ الحياة والموت ، والشقاء والسعادة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ قال : يقدر الله أمر السنة في ليلة القدر ، إلاّ الشقاء والسعادة والموت والحياة .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال : إلاّ الحياة والموت والسعادة والشقاوة فإنهما لا يتغيران .
حدثنا عمرو قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا معاذ بن عقبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، قال : قلت لمجاهد : إن كنتَ كتبتني سعيدا فأثبتني ، وإن كنتَ كتبتني شقيّا فامحني قال : الشقاء والسعادة قد فُرغ منهما .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور ، عن مجاهد : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال : ينزل الله كلّ شيء في السنة في ليلة القدر ، فيمحو ما يشاء من الاَجال والأرزاق والمقادير ، إلاّ الشقاء والسعادة ، فإنهما ثابتان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، قال : سألت مجاهدا فقلت أرأيت دعاء أحدنا يقول : اللهمّ إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم ، وإن كان في الأشقياء فامحُه واجعله في السعداء ؟ فقال : حسن . ثم أتيته بعد ذلك بحول أو أكثر من ذلك ، فسألته عن ذلك ، فقال : إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إنّا كُنّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلّ أمْرٍ حَكِيمٍ قال : يُقْضَى في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة ، ثم يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء . فأما كتاب الشقاء والسعادة فهو ثابت لا يغير .
وقال آخرون : معنى ذلك : أن الله يمحو ما يشاء ويُثبت من كتاب سوى أمّ الكتاب الذي لا يغير منه شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن سليمان التيمي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ قال : كتابان : كتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت ، وعنده أمّ الكتاب .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، قال : حدثنا سليمان التيمي ، عن عكرمة ، في قوله : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ قال : الكتاب كتابان ، كتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت ، وعنده أمّ الكتاب .
قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن سليمان التيميّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس بمثله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، قال : الكتاب كتابان يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنه يمحو كلّ ما يشاء ، ويثبت كلّ ما أراد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثّام ، عن الأعمش ، عن شقيق أنه كان يقول : اللهمّ إن كنت كتبتنا أشقياء ، فامحنا واكتبنا سعداء ، وإن كنتَ كتبتنا سعداء فأثبتنا ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي وائل ، قال : كان مما يكثر أن يدعو بهؤلاء الكلمات : اللهمّ إن كنت كتبتنا أشقياء فامحنا واكتبنا سعداء ، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب .
قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي حكيمة ، عن أبي عثمان النهديّ ، أن عمر بن الخطاب قال وهو يطوف بالبيت ويبكي : اللهمّ إن كنتَ كتبتَ عليّ شِقوة أو ذنبا فامحه ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت . وعندك أمّ الكتاب ، فاجعله سعادة ومغفرة .
قال : حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن أبي حكيمة ، عن أبي عثمان ، قال : وأحسبني قد سمعته من أبي عثمان ، مثله .
قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة بن خالد ، عن عِصْمة أبي حكيمة ، عن أبي عثمان النهديّ ، عن عمر رضي الله عنه ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : حدثنا أبو حكيمة ، قال : سمعت أبا عثمان النهدي ، قال : سمعت عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يقول وهو يطوف بالكعبة : اللهمّ إن كنتَ كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبت عليّ الذنب والشقوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أمّ الكتاب .
قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن خالد الحذّاء ، عن أبي قِلابة ، عن ابن مسعود ، أنه كان يقول : اللهمّ إن كنت كتبتني في أهل الشقاء فامحني وأثبتني في أهل السعادة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ يقول : وهو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلاله ، فهو الذي يمحو . والذي يثبت : الرجل يعمل بمعصية الله ، وقد كان سبق له خير حتى يموت ، وهو في طاعة الله ، فهو الذي يثبت .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن هلال بن حميد ، عن عبد الله بن عُكَيْم ، عن عبد الله ، أنه كان يقول : اللهمّ إن كنتَ كتبتني في السعداء فأثبتني في السعداء ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أُم الكِتابِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، أن كعبا قال لعمر رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين ، لولا آية في كتاب الله لأنبأتك ما هو كائن إلى يوم القيامة ، قال : وما هي ؟ قال : قول الله : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُم الكِتابِ .
حُدثت من الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لِكُلّ أجَلِ كِتاب . . . الآية ، يقول : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ يقول : أنسخ ما شئتُ ، وأصنع من الأفعال ما شئت ، إن شئت زدت فيها ، وإن شئتُ نقصتُ .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا همام ، قال : حدثنا الكلبي ، قال : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال : يمحو من الرزق ويزيد فيه ، ويمحي من الأجل ويزيد فيه . قلت : من حدّثك ؟ قال : أبو صالح ، عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم . فقدم الكلبيّ بعد ، فسئُل عن هذه الآية : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال : يكتب القول كله ، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كلّ شيء ليس فيه ثواب ولا عليه عقاب ، مثل قولك : أكلت ، شربت ، دخلت ، خرجت ، ونحو ذلك من الكلام ، وهو صادق ، ويُثبت ما كان فيه الثواب وعليه العقاب .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : سمعت الكلبي ، عن أبي صالح نحوه ، ولم يجاوز أبا صالح . وقال آخرون : بل معنى ذلك : بل معنى ذلك : أن الله ينسخ ما يشاء من أحكام كتابه ، ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ قال : من القرآن . يقول : يبدّل الله ما يشاء فينسخه ، ويُثبت ما يشاء فلا يبدّله . وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ يقول : وجملة ذلك عنده في أمّ الكتاب : الناسخ والمنسوخ ، وما يُبدل ، وما يثبت ، كل ذلك في كتاب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ هي مثل قوله : ما نَنْسَخْ منْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أوْ مِثْلِها ، وقوله : وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ : أي جملة الكتاب وأصله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ما يشاء ، وهو الحكيم . وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ وأصله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ بما ينزل على الأنبياء ، وَيُثْبِتُ ما يشاء مما ينزل على الأنبياء . قال : وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ لا يغير ولا يبدّل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ قال : ينسخ . قال : وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ قال : الذكر .
وقال آخرون : معنى ذلك أنه يمحو من قد حان أجله ، ويثبت من لم يجىءْ أجله إلى أجله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبِي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ يقول : يمحو من جاء أجله فذهب ، والمثبت الذي هو حيّ يجري إلى أجله .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا عوف ، قال : سمعت الحسن : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ قال : من جاء أجله . وَيُثْبتُ قال : من لم يجىء أجله إلى أجله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، نحو حديث ابن بشّار .
قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، قال : أخبرنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله : لِكُلّ أجَلٍ كِتابٌ قال : آجال بني آدم في كتاب . يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ من أجله وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ .
قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قول الله : يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قالت قريش حين أُنزل : وَما كانَ لِرَسُولٍ أنْ يَأتِيَ بآيَةٍ إلاّ بإذْنِ اللّهِ ما نراك يا محمد تملك من شيء ، ولقد فرغ من الأمر . فأنزلت هذه الآية تخويفا ووعيدا لهم : إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا ، ونحدث في كلّ رمضان ، فنمحو ونُثبت ما نشاء من أرزاق الناس ومصائبهم ، وما نعطيهم ، وما نقسم لهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
وقال آخرون : معنى ذلك : ويغفر ما يشاء من ذنوب عباده ، ويترك ما يشاء فلا يغفر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد ، في قوله يَمْحُو اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال : يثبت في البطن الشقاء والسعادة وكلّ شيء ، فيغفر منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء .
وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بتأويل الآية ، وأشبهها بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن الحسن ومجاهد وذلك أن الله تعالى ذكره توعد المشركين الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الاَيات بالعقوبة وتهدّدهم بها وقال لهم : وَما كانَ لرَسُولٍ أنْ يَأْتِيَ بآيَةٍ إلاّ بإذْنِ اللّهِ لكُلّ أجَلٍ كتابٌ يعلمهم بذلك أن لقضائه فيهم أجلاً مثبتا في كتاب هم مؤخرون إلى وقت مجيء ذلك الأجل ، ثم قال لهم : فإذا جاء ذلك الأجل يجيء الله بما شاء ممن قد دنا أجله وانقطع رزقه أو حان هلاكه أو اتضاعه ، من رفعة أو هلاك مال ، فيقضي ذلك في خلقه ، فذلك محوه . ويُثبت ما شاء ممن بقي أجله ورزقه وأُكْله ، فيتركه على ما هو عليه فلا يمحوه . وبهذا المعنى جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ما :
حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن زيادة بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ يَفْتَحُ الذّكْرَ فِي ثَلاثِ ساعاتٍ يَبْقينَ منَ اللّيْلِ ، فِي السّاعَةِ الأُولى منْهُنّ يَنْظُرُ فِي الكتابِ الّذِي لا يَنْظُرُ فيهِ أحَدٌ غيرُهُ ، فَيَمْحُو ما يَشاءُ ويُثْبتُ » ثم ذكر ما في الساعتين الاَخرتين .
حدثنا موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا الليث ، قال : حدثنا زيادة بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ يَنْزِلُ فِي ثَلاثِ ساعاتٍ يَبْقيْنَ منَ اللّيْلِ ، يَفْتَحُ الذّكْرَ فِي السّاعَةِ الأُولى الّذِي لَمْ يَرَهُ أحَدٌ غيرُهُ ، يَمْحُو ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ما يَشاءُ » .
حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمس مئة عام ، من ذرّة بيضاء لها دفتان من ياقوت ، والدفتان لوحان لله ، كل يوم ثلاث مئة وستون لحظة ، يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : ثني رجل ، عن أبيه ، عن قيس بن عباد ، أنه قال : العاشر من رجب هو يوم يمحو الله فيه ما يشاء .
القول في تأويل قوله تعالى : «وَعِنْدَهُ أُمّ الكتابِ » .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ فقال بعضهم : معناه : وعنده الحلال والحرام . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن عقبة ، قال : حدثنا مالك بن دينار ، قال : سألت الحسن : قلت : أُمّ الكِتابِ ؟ قال : الحلال والحرام ، قال : قلت : فما الحمد لله رب العالمين ؟ قال : هذه أمّ القرآن .
وقال آخرون : معناه : وعنده جملة الكتاب وأصله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ قال : جملة الكتاب وأصله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ قال : كتاب عند ربّ العالمين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ قال : جملة الكتاب وعلمه يعني بذلك ما ينسخ منه وما يثبت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ يقول : وجملة ذلك عنده في أمّ الكتاب : الناسخ والمنسوخ ، وما يبدل ، وما يثبت ، كلّ ذلك في كتاب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن شيبان ، عن ابن عباس ، أنه سأل كعبا عن أمّ الكتاب ، قال : علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون ، فقال لعلمه : كن كتابا فكان كتابا .
وقال آخرون : هو الذّكْرُ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج قال أبو جعفر : لا أدري فيه ابن جريج أم لا قال : قال ابن عباس : وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ قال : الذكر .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : وعنده أصل الكتاب وجملته وذلك أنه تعالى ذكره أخبر أنه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، ثم عقب ذلك بقوله : وَعِنْدَهُ أُمّ الكِتابِ فكان بيّنا أن معناه : وعنده أصل المثبَت منه والممحو ، وجملته في كتاب لديه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَيُثْبِتُ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة : «ويُثَبّتُ » بتشديد الباء بمعنى : ويتركه ويقره على حاله ، فلا يمحوه . وقرأه بعض المكيين وبعض البصريين وبعض الكوفيين : ويُثْبِتُ بالتخفيف ، بمعنى : يكتب ، وقد بيّنا قبل أن معنى ذلك عندنا : إقراره مكتوبا وترك محوه على ما قد بيّنا ، فإذا كان ذلك كذلك فالتثبيت به أولى ، والتشديد أصوب من التخفيف ، وإن كان التخفيف قد يحتمل توجيهه في المعنى إلى التشديد والتشديد إلى التخفيف ، لتقارب معنييهما .
وأما المحْو ، فإن للعرب فيه لغتين : فأما مضر فإنها تقول : محوت الكتاب أمحوه محوا ، وبه التنزيل ، ومحوته أمحاه محوا . وذُكر عن بعض قبائل ربيعة : أنها تقول : محيت أَمْحَى .
{ يمحو الله ما يشاء } ينسخ ما يستصوب نسخة . { ويُثبت } ما تقتضيه حكمته . وقيل يمحو سيئات التائب ويثبت الحسنات مكانها . وقيل يمحو من كتاب الحفظة ما لا يتعلق به جزاء ويترك غيره مثبتا أو يثبت ما رآه وحده في صميم قلبه . وقيل يمحو قرنا و يثبت آخرين . وقيل يمحو الفاسدات ويثبت الكائنات . وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي " ويُثَّبتُ " بالتشديد . { وعنده أمّ الكتاب } أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه .
وقوله : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «ويثبّت » بشد الباء . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «ويثبت » بتخفيفها .
وتخبط الناس في معنى هذه الألفاظ ، والذي يتخلص به مشكلها : أن نعتقد أن الأشياء التي قدرها الله تعالى في الأزل وعلمها بحال ما لا يصح فيها محو ولا تبديل ، وهي التي ثبتت في { أم الكتاب } وسبق بها القضاء ، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره من أهل العلم ، وأما الأشياء التي قد أخبر الله تعالى أنه يبدل فيها وينقل كعفو الذنوب بعد تقريرها ، وكنسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها -ففيها يقع المحو والتثبيت فيما يقيده الحفظة ونحو ذلك ، وأما إذا رد الأمر للقضاء والقدر فقد محا الله ما محا وثبت ما ثبت . وجاءت العبارة مستقلة بمجيء الحوادث ، وهذه الأمور فيما يستأنف من الزمان فينتظر البشر ما يمحو أو ما يثبت وبحسب ذلك خوفهم ورجاؤهم ودعاؤهم .
وقالت فرقة - منها الحسن - هي في آجال بني آدم ، وذلك أن الله تعالى في ليلة القدر ، وقيل : - في ليلة نصف شعبان - يكتب آجال الموتى فيمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الموتى . وقال قيس بن عباد : العاشر من رجب هو يوم { يمحو الله ما يشاء ويثبت } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص في الآجال أو غيرها لا معنى له ، وإنما يحسن من الأقوال هنا ما كان عاماً في جميع الأشياء ، فمن ذلك أن يكون معنى الآية أن الله تعالى يغير الأمور على أحوالها ، أعني ما من شأنه أن يغير -على ما قدمناه - فيمحوه من تلك الحالة ويثبته في التي نقله إليها{[6982]} . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن عبد الله بن مسعود أنهما كانا يقولان في دعائهما : اللهم إن كنت كتبتنا في ديوان الشقاوة فامحنا وأثبتنا في ديوان السعادة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت .
قال القاضي أبو محمد : وهذا دعاء في غفران الذنوب وعلى جهة انجزع منها . أي اللهم إن كنا شقينا بمعصيتك وكتب علينا ذنوب وشقاوة بها فامحها عنا بالمغفرة ، وفي لفظ عمر في بعض الروايات بعض من هذا ، ولم يكن دعاؤهما البتة في تبديل سابق القضاء ولا يتأول عليهما ذلك .
وقيل : إن هذه الآية نزلت لأن قريشاً لما سمعت قول الله تعالى : { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } ، قال : ليس لمحمد في هذا الأمر قدرة ولا حظ ، فنزلت { يمحو الله ما يشاء ويثبت } أي ربما أذن الله من ذلك فيما تكرهون بعد أن لم يكن يأذن .
وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال : معنى الآية «يمحو الله ما يشاء ويثبت » من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال فإنه لا محو فيها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا نحو ما أحلناه أولاً في الآية .
وحكي عن فرقة أنها قالت : «يمحو الله ما يشاء ويثبت » من كتاب حاشى أمر الكتاب الذي عنده الذي لا يغير منه شيئاً . وقالت فرقة معناه : يمحو كل ما يشاء ويثبت كل ما أراد ، ونحو هذه الأقوال التي هي سهلة المعارضة .
وأسند الطبري عن إبراهيم النخعي أن كعباً قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة . قال : وما هي ؟ قال : { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } . وذكر أبو المعالي في التلخيص : أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي قال هذه المقالة المذكورة عن كعب .
قال القاضي أبو محمد : وذلك عندي لا يصح عن علي .
واختلفت أيضاً عبارة المفسرين في تفسير { أم الكتاب } فقال ابن عباس : هو الذكر ، وقال كعب : هو علم الله ما هو خالق ، وما خلقه عاملون{[6983]} .
قال القاضي أبو محمد : وأصوب ما يفسر به { أم الكتاب } أنه كتاب الأمور المجزومة التي قد سبق القضاء فيها بما هو كائن وسبق ألا تبدل ، ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي سبق في القضاء أن تبدل وتمحى وتثبت - قال نحوه قتادة - وقالت فرقة : معنى { أم الكتاب } الحلال والحرام - وهذا قول الحسن بن أبي الحسن .