محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ} (39)

[ 39 ] { يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب 39 } .

{ يمحوا الله ما يشاء } أي : ينسخ ما يشاء نسخه من الشرائع لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت { ويثبت } أي بدله ما فيه المصلحة ، أو يبقيه على حاله غير منسوخ { وعنده أم الكتاب } أي : أصله .

قال الرازي : العرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أما له ، ومنه أم الرأس للدماغ وأم القرى لمكة . وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى . فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب . روى علي بن أبي طلحة{[5112]} عن ابن عباس في الآية يقول : " يبدل الله ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله " { وعنده أم الكتاب } يقول : وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ . وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب . وعن قتادة : أن هذه الآية كقوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها . . . } الآية .

تنبيه :

تمسك جماعة بظاهر قوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } فقالوا : إنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ . قالوا : يمحو الله من الرزق ويزيد فيه . وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر .

قال الرازي : هو مذهب عمر وابن مسعود . والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء . انتهى .

/ أشار بذلك إلى آثار أخرجها ابن جرير{[5113]} عن عمر وابن مسعود . وليس في الصحيح شيء منها .

ظهر لي * في دمّر في 12 ربيع الأول سنة 1324 :

إن ما يستدل به الكثير من الآيات لمطلب ما ، أن يدقق النظر فيه تدقيقا زائدا ، فقد يكون سياق الآية لأمر لا يحتمل غيره ، ويظن ظان أنه يستدل بها في بحث آخر ، وقد يؤكده ما يراه من إطباق كثير من أرباب التصانيف على ذلك وإنما المدار على فهم الأسلوب والسياق والسباق .

خذ لك مثلا قوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } فكم ترى من يستدل بها على العلم المعلق ، ومحو ما في اللوح الذي يسمونه ( لوح المحو والإثبات ) ويوردون من الإشكالات والأجوبة ما لا يجد الواقف عليه مقنعا ولا مطمأنا .

مع أن هذه الآية ، لو تمعن فيها القارئ ، لعلم أنها في معنى غير ما يتوهمون . وذلك أنهم كانوا يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في أوائل البعثة ، أن يأتي بآية كآية موسى وعيسى . توهما أن ذلك هو أقصى ما يدل على نبوة النبي في كل زمان ومكان . فأعلمهم الله تعالى أن دور تلك الآيات الحسية انقضى دورها وذهب عصرها . وقد استبعد البشر للتنبه إلى الآية العقلية ، وهي آية الاعتبار والتبصر . وإن تلك الآيات محيت كما محي عصرها . وقد أثبت تعالى غيرها مما هو أجلى وأوضح وأدل على الدعوة . وهو قوله تعالى قبلها : { ما كان / لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب . يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } . . .


[5112]:انظر تفسير الطبري، الصفحة 169 من الجزء الثالث عشر (طبعة الحلبي الثانية).
[5113]:انظر تفسير ابن جرير الطبري، عن أثر عمر بالصفحة رقم 167 و 168 من الجزء الثالث عشر (طبعة الحلبي الثانية) وانظر كذلك عن أثر ابن مسعود، بالصفحة رقم 168 من الجزء الثالث عشر (طبعة الحلبي الثانية). * نقلت من دفتر للواردات والسوانح العلمية للمؤلف رحمه الله.