فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ} (39)

{ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( 39 ) }

{ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } أي يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه يقال محوت الكتاب محوا إذا أذهبت أثره ، قرئ مخففا ومشددا وعن مجاهد قال : قالت قريش حين أنزل هذه الآية ما نراك يا محمد تملك من شيء ولقد فرغ الأمر فأنزلت هذه الآية تخويفا لهم ووعيدا لهم أي إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا ويحدث الله في كل رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت من أرزاق الناس ومصائبهم ما يعطيهم وما يقسم لهم .

وقال ابن عباس : ينزل الله في كل شهر رمضان إلى سماء الدنيا فيدبر أمر السنة إلى السنة فيمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت ، وعنه قال : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو ، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله ، وقد سبق له خير حتى يموت على طاعة الله وقال أيضا : هما كتابان يمح الله ما يشاء من أحدهما ويثبت .

وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتاب فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شر ويبدل هذا بهذا ويجعل هذا مكان هذا ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريج وغيرهم ، وقيل الآية خاصة بالسعادة والشقاوة .

وقيل يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة ، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ويثبت ما فيه الثواب والعقاب .

وقيل يمحو ما يشاء من الرزق ، وقيل من الأجل ، وقيل من الشرائع فينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه ، وقيل يمحو ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء وقيل يمحو ما يشاء من الذنوب بالتوبة ويترك ما يشاء منها مع عدم التوبة .

وقيل يمحو الآباء ويثبت الأبناء .

وقيل يمحو القمر ويثبت الشمس كقوله : { فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة } وقيل يمحو ما يشاء من الأرواح التي يقبضها حال النوم فيميت صاحبه ويثبت ما يشاء فيرده إلى صاحبه .

وقيل يمحو ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها .

وقيل يمحو الدنيا ويثبت الآخرة ، وقيل غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره والأول أولى كما يفيده في قوله ما يشاء من العموم مع تقدم ذكر الكتاب في قوله لكل أجل كتاب ومع قوله { وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } أي جملة الكتاب قاله ابن عباس .

والمعنى أصله وهو اللوح المحفوظ ، والأم أصل الشيء والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أما له منه الرأس للدماغ وأم القرى لمكة ، فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم ويثبت ما يشاء مما فيه فيجزي فيه قضاؤه وقدره على حسب ما يقتضيه مشيئته .

وهذا لا ينافي ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله : ( جف القلم بما هو كائن ) {[1008]} وذلك لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه الله سبحانه ، وقيل إن أم الكتاب هو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق .

قال ابن عباس : إن لله لوحا محفوظا مسيرته خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوتة والدفتان لوحان لله فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب .

وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن الله ينزل في ثلاث ساعات تبقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو الله ما يشاء ويثبت ) الحديث أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم وغيرهما .

وأخرج الطبراني بإسناد قال السيوطي ضعيف عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والممات ) وعن ابن عباس قال ( لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر ) {[1009]} .

وقال قيس بن عباد : العاشر من رجب هو يوم يمحو الله فيه ما يشاء . وعن عمر بن الخطاب أنه قال وهو يطوف بالبيت : اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبا فامحه ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب ، واجعله سعادة ومغفرة . وعن ابن مسعود نحوه .

وقيل أم الكتاب الذكر قاله ابن عباس ، وقد استدلت الرافضة على مذهبهم في البدء بهذه الآية ، وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده وقالوا إنه جائز على الله ، وهو ظاهر الفساد لأن علمه سبحانه صفة قديمة أزلية لا يتطرق إليه التغيير والتبديل والمحو والإثبات من معلوماته الأزلية وليسا من البدء في شيء وقد علم ما هو خالق وما خلقه وما هم يعملون .


[1008]:المعنى جزء من حديث طويل من حديث رسول الله: يا غلام احفظ الله يحفظك......
[1009]:أحمد بن حنبل 5 / 234.