البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ} (39)

وقال ابن عباس : يمحوا الله ما يشاء من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال ، فإنه لا محو فيها .

وقال الحسن وفرقة : هي آجال بني آدم تكتب في ليلة القدر .

وقيل : في ليلة نصف شعبان آجال الموتى ، فتمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الأموات .

وقال قيس بن عباد : في العاشر من رجب يمحو الله ما يشاء ويثبت .

وقال ابن عباس : والضحاك : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة ، لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ، ويثبت غيره .

وقيل : يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة ، ويثبت إيمانهم وطاعتهم .

وقيل : يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسي ، وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها .

وقال الزمخشري : يمحو الله ما يشاء ، ينسخ ما يستصوب نسخه ، ويثبت به له ما يرى المصلحة في إثباته ، أو يتركه غير منسوخ ، والكلام في نحو هذا واسع المجال انتهى .

وهو وقول : قتادة ، وابن جبير ، وابن زيد قالوا : يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه .

وقال مجاهد : يحكم الله أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، إلا الحياة والموت والشقاوة والسعادة .

وقال الكلبي : يمحو من الرزق ويزيد فيه .

وقال ابن جبير أيضاً : يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ، ويترك ما يشاء فلا يغفر .

وقال عكرمة : يمحو يعني بالتوبة جميع الذنوب ، ويثبت بدل الذنوب حسنات .

قال تعالى : { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات } وقيل : ينسى الحفظة من الذنوب ولا ينسى .

وقال الحسن : يمحو الله ما يشاء أجله ، ويثبت من يأتي أجله .

وقال السدي : يمحو الله يعني القمر ، ويثبت يعني الشمس بيانه { فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة } الآية .

وقال ابن عباس : إنّ لله لوحاً محفوظاً وذكر وصفه في كتاب التحبير ، ثم قال : لله تعالى فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة ، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء .

وقال الربيع : هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها عند النوم إذا أراد موته فجأة أمسكه ، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه ، بيانه قوله تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } الآية .

وقال علي بن أبي طالب : يمحو الله ما يشاء من القرون لقوله : { ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون } ويثبت ما يشاء منها لقوله تعالى : { ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين } فيمحو قرناً ويثبت قرناً .

وقال ابن عباس : يمحو يميت الرجل على ضلالة وقد عمل بالطاعة الزمن الطويل ، يختمه بالمعصية ويثبت عكسه .

وقيل : يمحو الدنيا ويثبت الآخرة .

وفي الحديث عن أبي الدرداء : « أنه تعالى يفتح الذكر في ثلاث ساعات بقين من الليل فينظر ما في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء » وقال الغزنوي : ما في اللوح المحفوظ خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة ، فيحتمل التبديل وإحاطة الخلق بجميع علم الله تعالى ، وما في علمه تعالى من تقدير الأشياء لا يبدل انتهى .

وقيل : غير ذلك مما يطول نقله .

وقد استدلت الرافضة بقوله : يمحو الله ما يشاء ويثبت ، على أنّ البدء جائز على الله تعالى ، وهو أنْ يعتقد شيئاً ثم يظهر له أنّ الأمر خلاف ما اعتقده ، وهذا باطل لأنّ علمه تعالى من لوازم ذاته المخصوصة ، وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محالاً .

وأما الآية فقد احتملت تلك التأويلات المتقدمة ، فليست نصاً فيما ادعوه ، ولو كانت نصاً وجب تأويله .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : ويثبت مخففاً من أثبت ، وباقي السبعة مثقلاً من ثبت .

وأما قوله : أم الكتاب فقال ابن عباس : أم الكتاب الذكر ، وقال أيضاً وهو كعب هو علم ما هو خالق وما خلقه عاملون .

وقالت فرقة : الحلال والحرام ، وهو قول الحسن .

وقال الزمخشري : أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه انتهى .

وما جرى مجرى الأصل للشيء تسميه العرب ، أمّا كقولهم : أم الرأس للدماغ ، وأم القرى مكة .

وقال ابن عطية : وأصوب ما يفسر به أم الكتاب أنه ديوان الأمور المحدثة التي قد سبق في القضاء أن تبدل وتمحى ، أو تثبت .

وقال نحوه قتادة : إنّ جواب الشرط الأول محذوف ، وكلام ابن عطية في ما ونون التوكيد .