فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ} (39)

{ يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } أي : يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه ، يقال : محوت الكتاب محواً إذا أذهبت أثره . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم { ويثبت } بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد ، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد ، وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتاب ، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر ، أو خير أو شرّ ، ويبدل هذا بهذا ، ويجعل هذا مكان هذا { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ } [ الأنبياء : 23 ] وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وأبو وائل ، وقتادة ، والضحاك ، وابن جريج وغيرهم . وقيل : الآية خاصة بالسعادة والشقاوة . وقيل : يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة ، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب ؛ وقيل : يمحو ما يشاء من الرزق ، وقيل يمحو من الأجل . وقيل : يمحو ما يشاء من الشرائع فينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه . وقيل : يمحو ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء . وقيل : يمحو ما يشاء من الذنوب بالتوبة ، ويترك ما يشاء منها مع عدم التوبة ؛ وقيل : يمحو الآباء ويثبت الأبناء ؛ وقيل : يمحو القمر ويثبت الشمس كقوله : { فَمَحَوْنَا آيَةَ الليل وَجَعَلْنَا ءايَةَ النهار مُبْصِرَةً } [ الإسراء : 12 ] وقيل : يمحو ما يشاء من الأرواح التي يقبضها حال النوم فيميت صاحبه ويثبت ما يشاء فيردّه إلى صاحبه ؛ وقيل : يمحو ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها ؛ وقيل : يمحو الدنيا ويثبت الآخرة ؛ وقيل : غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره ، والأوّل أولى كما تفيده " ما " في قوله ؛ { ما يشاء } من العموم مع تقدم ذكر الكتاب في قوله : { لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ } ومع قوله : { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } أي : أصله ، وهو اللوح المحفوظ ، فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم ، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته ، وهذا لا ينافي ما ثبت عنه من قوله صلى الله عليه وسلم : «جفّ القلم » ، وذلك لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه الله سبحانه . وقيل : إن أم الكتاب هو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق .

/خ39