السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ} (39)

فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء } ، أي : محوه من الشرائع والأحكام وغيرها بالنسخ فيرفعه { ويثبت } ما يشاء إثباته من ذلك بأن يقرّه ويمضي حكمه كقوله تعالى : { ما ننسخ من آية } [ البقرة ، 106 ] إلى قوله تعالى : { ألم تعلم أنّ الله على كل شيء قدير } [ البقرة ، 106 ] . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بسكون الثاء المثلثة وتخفيف الباء الموحدة ، والباقون بفتح الثاء وتشديد الباء الموحدة .

تنبيه : في هذه الآية قولان :

أحدهما أنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ ، وهذا مذهب عمر وابن مسعود وغيرهما قالوا : إنّ الله يمحو من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر . وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول : اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة ، فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبت عليّ الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب ، ومثله عن ابن مسعود وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بعض الآثار : أنّ الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فيردّ إلى ثلاثة أيام ، والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة . وروي أنّ الله تعالى ينزل ، أي : أمره في آخر ثلاث ساعات تبقى من الليل فينظر في الساعة منهنّ في أمّ الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت .

والقول الثاني أنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشياء دون بعض ، واختلفوا على هذا القول فقال سعيد بن جبير وقتادة : يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض ، فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه . وقال ابن عباس : يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ، واستدل لهذا بما رواه حذيفة بن أسيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكاً فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال : يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول الملك : يا رب رزقه فيقضي ربك ما يشاء ، ويكتب الملك ثم يقول : يا رب أشقي أم سعيد ؟ فيكتبان فيكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد ولا ينقص " .

وقال ابن عطية عن ابن عباس : هو الرجل يعمل بطاعة الله تعالى ، ثم يرجع لمعصية الله تعالى ، فيموت على ضلاله فهو الذي يمحو الذي يثبت يعمل الرجل بطاعة الله ، فيموت وهو في طاعته فهو الذي يثبت . وقال الحسن : يمحو ما يشاء ، أي : من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجيء أجله إلى أجله . وعن سعيد بن جبير قال : يمحو ما يشاء من ذنوب العباد فيغفرها ، ويثبت ما يشاء فلا يغفرها . وقال عكرمة : يمحو الله ما يشاء من الذنوب بالتوبة ، ويثبت بدل الذنوب حسنات كما قال تعالى : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } . [ الفرقان ، 70 ] وقال السدي : يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت ما يشاء يعني الشمس بيانه قوله تعالى : { فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة } [ الإسراء ، 12 ] . وقال الربيع : هذا في الأرواح يقبضها الله تعالى عند النوم ، فمن أراد موته أمسكه ، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه بيانه قوله تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } [ الزمر ، 42 ] الآية . وقيل إنّ الله تعالى يثبت في أوّل كل سنة حكمها ، فإذا مضت السنة محاه ، وأثبت حكماً آخر للسنة المستقبلة . وقيل : يمحو الله الدنيا ويثبت الآخرة .

وقيل : إنّ الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب .

وقيل : هذا في المحن والمصائب فهي مثبتة في الكتاب ، ثم يمحوها بالدعاء والصدقة { وعنده } تعالى { أمّ الكتاب } أصل الكتب ، والعرب تسمى كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمّا ، ومنه أمّ الرأس للدماغ ، وأمّ القرى ، وكل مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى فكذلك أمّ الكتاب هو الذي يكون أصلاً لجميع الكتب ، وفيه قولان : الأوّل : أنه اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدّل وجميع حوادث العالم العلوي والسفلي يثبت فيه . روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان الله ولا شيء ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة " .

والقول الثاني : أنّ أمّ الكتاب أصله الذي لا يغير منه شيء وهو الذي كتب في الأزل . وقال ابن عباس في رواية عكرمة : هما كتابان كتاب سوى أمّ الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وعنده أمّ الكتاب لا يغير منه شيء ، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق . وعن ابن عباس قال : إنّ لله لوحاً محفوظاً مسيرته خمسمائة عام من درّة بيضاء له دفتان من ياقوتة لله فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب . وسأل ابن عباس كعباً عن أمّ الكتاب فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه .