فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء } ، أي : محوه من الشرائع والأحكام وغيرها بالنسخ فيرفعه { ويثبت } ما يشاء إثباته من ذلك بأن يقرّه ويمضي حكمه كقوله تعالى : { ما ننسخ من آية } [ البقرة ، 106 ] إلى قوله تعالى : { ألم تعلم أنّ الله على كل شيء قدير } [ البقرة ، 106 ] . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بسكون الثاء المثلثة وتخفيف الباء الموحدة ، والباقون بفتح الثاء وتشديد الباء الموحدة .
أحدهما أنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ ، وهذا مذهب عمر وابن مسعود وغيرهما قالوا : إنّ الله يمحو من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر . وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول : اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة ، فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبت عليّ الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب ، ومثله عن ابن مسعود وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بعض الآثار : أنّ الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فيردّ إلى ثلاثة أيام ، والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة . وروي أنّ الله تعالى ينزل ، أي : أمره في آخر ثلاث ساعات تبقى من الليل فينظر في الساعة منهنّ في أمّ الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت .
والقول الثاني أنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشياء دون بعض ، واختلفوا على هذا القول فقال سعيد بن جبير وقتادة : يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض ، فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه . وقال ابن عباس : يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ، واستدل لهذا بما رواه حذيفة بن أسيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكاً فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال : يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول الملك : يا رب رزقه فيقضي ربك ما يشاء ، ويكتب الملك ثم يقول : يا رب أشقي أم سعيد ؟ فيكتبان فيكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد ولا ينقص " .
وقال ابن عطية عن ابن عباس : هو الرجل يعمل بطاعة الله تعالى ، ثم يرجع لمعصية الله تعالى ، فيموت على ضلاله فهو الذي يمحو الذي يثبت يعمل الرجل بطاعة الله ، فيموت وهو في طاعته فهو الذي يثبت . وقال الحسن : يمحو ما يشاء ، أي : من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجيء أجله إلى أجله . وعن سعيد بن جبير قال : يمحو ما يشاء من ذنوب العباد فيغفرها ، ويثبت ما يشاء فلا يغفرها . وقال عكرمة : يمحو الله ما يشاء من الذنوب بالتوبة ، ويثبت بدل الذنوب حسنات كما قال تعالى : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } . [ الفرقان ، 70 ] وقال السدي : يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت ما يشاء يعني الشمس بيانه قوله تعالى : { فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة } [ الإسراء ، 12 ] . وقال الربيع : هذا في الأرواح يقبضها الله تعالى عند النوم ، فمن أراد موته أمسكه ، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه بيانه قوله تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } [ الزمر ، 42 ] الآية . وقيل إنّ الله تعالى يثبت في أوّل كل سنة حكمها ، فإذا مضت السنة محاه ، وأثبت حكماً آخر للسنة المستقبلة . وقيل : يمحو الله الدنيا ويثبت الآخرة .
وقيل : إنّ الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب .
وقيل : هذا في المحن والمصائب فهي مثبتة في الكتاب ، ثم يمحوها بالدعاء والصدقة { وعنده } تعالى { أمّ الكتاب } أصل الكتب ، والعرب تسمى كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمّا ، ومنه أمّ الرأس للدماغ ، وأمّ القرى ، وكل مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى فكذلك أمّ الكتاب هو الذي يكون أصلاً لجميع الكتب ، وفيه قولان : الأوّل : أنه اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدّل وجميع حوادث العالم العلوي والسفلي يثبت فيه . روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان الله ولا شيء ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة " .
والقول الثاني : أنّ أمّ الكتاب أصله الذي لا يغير منه شيء وهو الذي كتب في الأزل . وقال ابن عباس في رواية عكرمة : هما كتابان كتاب سوى أمّ الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وعنده أمّ الكتاب لا يغير منه شيء ، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق . وعن ابن عباس قال : إنّ لله لوحاً محفوظاً مسيرته خمسمائة عام من درّة بيضاء له دفتان من ياقوتة لله فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب . وسأل ابن عباس كعباً عن أمّ الكتاب فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.