قوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } قرأ أهل المدينة والشام { بما كسبت } بغير فاء ، وكذلك هو في مصاحفهم فمن حذف الفاء جعل ما في أول الآية بمعنى الذي أصابكم بما كسبت أيديكم . { ويعفو عن كثير } قال الحسن : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا بشر بن موسى الأسدي ، حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا مروان بن معاوية ، أخبرني الأزهر بن راشد الباهلي عن الخضر ابن القواس البجلي عن أبي سخيلة قال : قال علي بن أبي طالب : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } قال : وسأفسرها لك يا علي : ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فيما كسبت أيديكم ، والله عز وجل أكرم من أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة ، وما عفا عنكم في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه . قال عكرمة : ما من نكبة أصابت عبداً فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفر إلا بها ، أو درجة لم يكن الله ليبلغها إلا بها .
{ 30-31 } { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }
يخبر تعالى ، أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبون ويكون عزيزا عليهم ، إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات ، وأن ما يعفو اللّه عنه أكثر ، فإن اللّه لا يظلم العباد ، ولكن أنفسهم يظلمون { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } وليس إهمالا منه تعالى تأخير العقوبات ولا عجزا .
ثم بين - سبحانه - أن ما يصيب الناس من بلاء إنما هو بسبب أعمالهم فقال : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } .
أى : وما أصابكم - أيها الناس - من بلاء ، كمرض وخوف وفقر فإنما هو بسبب ما اكتسبتموه من ذنوب ، وما اقترفموه من خطايا ، ويعفو - سبحانه - عن كثير من السيئات التى ارتكبتموها ، فلا يحاسبكم عليها رحمة منه بكم .
قال - تعالى - { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث والآثار منها ما رواه ابن أبى حاتم عن على بن أبى طالب - رضى الله عنه - قال : ألا أخبركم بأفضل آية فى كتاب الله ، وحدثتنا بها رسول - صلى الله عليه وسلم - قال :
{ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وسأفسرها لك يا على : ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء فى الدنيا ، فبما كسبت أيديكم ، والله - تعالى - أحلم من أن يثنى عليه العقوبة فى الآخرة ، وما عفا الله عنه فى الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه .
وفي ظل هذين المشهدين يحدثهم عما يصيبهم في هذه الحياة بما كسبت أيديهم . لا كله . فإن الله لا يؤاخذهم بكل ما يكسبون . ولكن يعفو منه عن كثير . ويصور لهم عجزهم ويذكرهم به ، وهم قطاع صغير في عالم الأحياء الكبير :
( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) .
وفي الآية الأولى يتجلى عدل الله ، وتتجلى رحمته بهذا الإنسان الضعيف . فكل مصيبة تصيبه لها سبب مما كسبت يداه ؛ ولكن الله لا يؤاخذه بكل ما يقترف ؛ وهو يعلم ضعفه وما ركب في فطرته من دوافع تغلبه في أكثر الأحيان ، فيعفو عن كثير ، رحمة منه وسماحة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مّن مّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } .
يقول تعالى ذكره : وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ يقول : فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما اجترمتم من الاَثام فيما بينكم وبين ربكم ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم ، فلا يعاقبكم بها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، قال : قرأت في كتاب أبي قلابة ، قال : نزلت : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرّةٍ خَيْرا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرّةٍ شَرا يَرَهُ وأبو بكر رضي الله عنه يأكل ، فأمسك فقال : يا رسول الله إني لراءٍ ما عملت من خير أو شر ؟ فقال : «أرأيْتَ ما رأيْتَ مِمّا تَكْرَهُ فَهُوَ مِنْ مَثاقِيل ذَرّ الشّرّ ، وَتَدّخِرُ مَثاقِيلَ الخَيْرِ حتى تُعْطاهُ يَوْمَ القِيامَةِ » ، قال : قال أبو إدريس : فأرى مصداقها في كتاب الله ، قال : وَما أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ ، وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ .
قال أبو جعفر : حدّث هذا الحديث الهيثم بن الربيع ، فقال فيه أيوب عن أبي قلابة ، عن أنس ، أن أبا بكر رضي الله عنه كان جالسا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر الحديث ، وهو غلط ، والصواب عن أبي إدريس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ . . . الاَية «ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «لا يُصِيبُ ابْن آدَمَ خَدْشُ عُودٍ ، وَلا عَثْرَةُ قَدَم ، وَلا اخْتِلاجُ عِرْقٍ إلاّ بذَنْب ، وَما يَعْفُو عَنْهُ أكْثرُ » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيديكم . . . الاَية ، قال : يعجل للمؤمنين عقوبتهم بذنوبهم ولا يؤاخذون بها في الاَخرة .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : وما عوقبتم في الدنيا من عقوبة بحدّ حُددِتموه على ذنب استوجبتموه عليه فبما كسبت أيديكم : يقول : فبما عملتم من معصية الله وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ فلا يوجب عليكم فيها حدّا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن وَما أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ . . . الاَية ، قال : هذا في الحدود . وقال قتادة : بلغنا أنه ما من رجل يصيبه عثرة قدم ولا خدش عود أو كذا وكذا إلا بذنب ، أو يعفو ، وما يعفو أكثر .
{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } فبسبب معاصيكم ، والفاء لأن { ما } شرطية أو متضمنة معناه ، ولم يذكرها نافع وابن عامر استغناء بما في الباء من معنى السببية . { ويعفوا عن كثير } من الذنوب فلا يعاقب عليها . والآية مخصوصة بالمجرمين ، فإن ما أصاب غيرهم فلأسباب أخر منها تعرضه للأجر العظيم بالصبر عليه .