اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ} (30)

قوله : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } قرأ نافع وابن عامر بما كسبت بغير فاء{[49339]} ، والباقون بالفاء «فما » في القراءة الأولى الظاهر أنها موصولة{[49340]} بمعنى الذي ، والخبر الجار من قوله «بما كسبت » .

وقال قوم منهم أبو البقاء : إنها شرطية حذفت منها الفاء ، قال أبو البقاء : كقوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] .

وقول الآخر :

4382 مَنْ يَفْعَل الحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَ *** . . . . . . . . . . . . . . . . {[49341]}

وهذا ليس مذهب الجمهور ، إنما قال به الأخفش وبعض البغداديِّين{[49342]} ، وأما قوله : «إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ » فلي جواباً للشرط ، إنما هو جواب لقسم مقدر حذفت لامه الموطِّئة قبل أداة الشرط{[49343]} .

وأما القراءة الثانية ، فالظاهر أنها فيها شرطية . وقال أبو البقاء : إنَّه ضَعيفٌ{[49344]} ولا يلتفت إلى ذلك . ويجوز تكون موصولة ، والفاء داخلة في الخبر تشبيهاً للموصول بالشرط بشروط مذكورة في هذا الكتاب . وقد وافق نافع وابن عامر مصاحفهما ، فإن الفاء ساقطة من مصاحف المدينة والشام ، وكذلك الباقون ، فإنها ثابتة في مصاحف مكَّة والعراق{[49345]} .

فصل

اختلفوا فيما يحصل في الدنيا من الآلام والأسقام ، والقَحط ، والغَرَق ، والمصائب هل هي عقوبات على ذنوب سلفت أم لا ؟ فمنهم من أنكر ذلك لوجوه :

الأول : قوله تعالى : { اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ غافر : 17 ] بيّن تعالى أن ذلك إنما يحصل يوم القيامة وقال تعالى : { مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 4 ] أي يوم الجزاء ، وأجمعوا على أن المراد منه يوم القيامة .

الثاني : مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق ، والصِّدِّيق ، فيمتنع أن يكون عقوبة على الذنوب ، بل حصول المصائب ( للصالحين ){[49346]} والمتقين أكثر منه للمذنبين ، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام : «خُصَّ البَلاَءُ بالأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الأَمْثَل فالأَمْثَلِ »{[49347]} .

الثالث : أن الدنيا دار تكليف ، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار تكليف ودار جزاء معاً وهو محالٌ . وقال آخرون : هذه المصائب قد تكون أَجزيةً على ذنوب متقدمة لهذه الآية ، ولما روى الحسن قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ ولا عَثْرةِ قَدَمٍ وَلاَ اخْتِلاَجِ عِرْقٍ إلاَّ بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللهُ عَنْهُ أَكْثَرُ »{[49348]} .

قال علي بن أبي طالب : «أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَفْضَلِ آيَةَ في كِتَابِ اللهِ حَدَّثَنا بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ( قال ){[49349]} : وَسَأفسِّرُها لَكَ يَا عَلِيُّ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلاَءٍ في الدُّنْيَا فبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ واللهُ عَزَّ وجَلَّ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْكُمْ العُقُوبَةَ في الآخِرَةِ ، وَمَا عَفَا اللهُ عَنْهُ في الدُّنْيَا ، فَالله أَحْلَمُ مِنْ أنْ يَعُودَ بعد عَفْوِهِ{[49350]} . وتمسكوا أيضاً بقوله تعالى بعد هذه الآية : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } » وذلك تصريح بأن ذلك الإهلاك بسبب كسبهم . وأجاب الأولون بأن حصول هذه المصائب يكون من باب الامتحان في التكليف ، لا من باب العقوبات ، كما في حق الأنبياء والأولياء .

ويحمل قوله : { بما كسبت أيديكم } على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم{[49351]} .

فصل

هذه الآية تقتضي إضافة الكسب إلى اليد ، والكسب لا يكون بل بالقدرة القائمة باليد فوجب أن يكون المراد من لفظ اليد هاهنا القدرة ، وإذا كان هذا المجاز{[49352]} مشهوراً مستعملاً كان لفظ اليد الوارد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيهاً لله تعالى عن{[49353]} الأعضاء .

قوله : { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } أي قد يترك الكثير بفضله ورحمته قال الواحدي بعد أن روى حديث عليٍّ المتقدم : وهذه أرجى آية في كتاب الله ؛ لأن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين ، صنف كفَّر عنهم بالمصائب ، وصنفٌ عَفَا عنه في الدنيا ، وهو كَرَمٌ لا يرجع في عفوه فهذه سنة الله مع المؤمنين . وأما الكافر ، فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي ( رَبَّهُ ){[49354]} يوم القيامة{[49355]} .


[49339]:وكذا قرأ أبو جعفر من السبعة أيضا انظر السبعة 581، والإتحاف 383.
[49340]:وهو أحد قولي ابن الأنباري في البيان 2/349 وانظر الجامع للإمام القرطبي 16/30.
[49341]:سبق هذا البيت وبيان ما فيه، وانظر التبيان 1133.
[49342]:حذف الفاء ضرورة عند المحققين والجمهور في موضع اللزوم كالبيت السابق وقد روي: من يفعل الخير فالرحمن يشكره فلا ضرورة إذن. وأجاز الكوفيون حذف العلامة اختيارا استدلالا بقوله: ّأيونما تكونوا يدرككم الموت" على قراءة الرفع وهي شاذة. وهذا على غير رأي سيبويه والجمهور. انظر شرح الكافية 2/263.
[49343]:والتقدير: ولئن أطعتموهم، وهذا قول السمين في الدر 4/756.
[49344]:التبيان 1133.
[49345]:الكشاف 3/470 والسمين في الدر المصون 4/757.
[49346]:سقط من ب.
[49347]:في ابن كثير: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون" 3/404 بدون سند.
[49348]:رواه ابن أبي حاتم عن الحسن انظر المرجع السابق 4/116 والكشاف 3/471.
[49349]:سقط من ب.
[49350]:نقله البغوي في معالم التنزيل 6/126.
[49351]:قاله الرازي في التفسير الكبير 27/172، 173.
[49352]:فهو مجاز مرسل علاقته السببية كقوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم}.
[49353]:في ب "من". وانظر الرازي السابق.
[49354]:لفظ ربه سقط من ب.
[49355]:انظر البسيط للإمام الواحدي ميكروفيلم، والرازي 27/173.