فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ} (30)

{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ } من المصائب كائنة ما كانت { فَبِمَا } أي بسبب ما { كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } من المعاصي ، وما هي الشرطية ، ولذا دخلت الفاء في جوابها على قراءة الجمهور ، ولا يجوز حذفها عند سيبويه ، وجوز الأخفش وبعض البغداديين الحذف كما في قوله { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } وبه قال أبو البقاء ، وقيل : هي الموصولة فيكون الحذف والإثبات جائزين ، والأول أولى .

قال الزجاج : إثبات الفاء أجود لأن الفاء مجازات جواب الشرط ومن حذف الفاء فعلى أن ما في معنى الذي ، والمعنى الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم ، وعبر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تزاول بها وتعالج وتحصل .

قال الحسن : المصيبة هنا الحدود على المعاصي ، والأولى الحمل على العموم كما يفيده وقوع النكرة في سياق النفي ، ودخول من الاستغراقية عليها قال الضحاك : ما تعلم الرجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب ، ثم قرأ هذه الآية وقال أي مصيبة أعظم من نسيان القرآن . قلت ويلحق بالقرآن نسيان السنة المطهرة . وترك العمل بها وإيثار الرأي عليها أيضا ، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ( وما أصابكم من مصيبة الآية وسأفسرها لك يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فيما كسبت أيديكم ، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة ، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه ) .

أخرجه أحمد وابن راهويه وابن منيع وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم ، قيل : المراد بهذه المصائب الأحوال المكروهة ، نحو الأوجاع والأسقام والقحط والبلاء والغرق والصواعق وغير ذلك ، من الذنوب والمعاصي وتعلق بهذه الآية من يقول بالتناسخ ، وقال : لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألموا ، والحق أن الآية مخصوصة بالمكلفين بالسياق والسباق .

{ وَ } هو { يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } أي من المعاصي التي يفعلها العباد ، فلا يعاقب عليها أو عن كثير من الناس فلا يعاجلهم بالعقوبة فمعنى الآية أنه يكفر عن العبد بما يصيبه من المصائب ويعفو عن كثير من الذنوب وقد أثبت بالأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان في الدنيا يؤجر عليه أو يكفر عنه من ذنوبه وقيل هذه آية مختصة بالكافرين على معنى أن ما يصابون به بسبب ذنوبهم من غير أن يكون ذلك مكفرا عنهم لذنب ولا محصلا لثواب ويترك عقوبتهم عن كثير من ذنوبهم فلا يعاجلهم في الدنيا بل يمهلهم إلى الدار الآخرة والأولى حمل الآية على العموم ، والعفو يصدق على تأخير العقوبة ، كما يصدق على محو الذنب ورفع الخطأ به .

وقال الواحدي وهذه أرجى آية في كتاب الله لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين ، صنف كفره عنهم بالمصائب ، وصنف عفا عنه في الدنيا وهو كريم لا يرجع في عفوه ، فهذه سنة الله مع المؤمنين ، وأما الكافر فإنه لا يعجل له في الدنيا عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ، وعن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا تصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر ، وقرأ وما أصابكم الآية ) أخرجه الترمذي وعبد بن حميد وعن عمران ابن حصين أنه دخل عليه بعض أصحابه وكان قد ابتلى في جسده فقال إنا لنبتئس لك لما نرى فيك ، قال فلا تبتئس لما ترى ، فإن ما ترى بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ، ثم تلا هذه الآية إلى آخرها وعن معاوية بن أبي سفيان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله به عنه من سيئاته ) ، أخرجه أحمد وعن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق . ولا خدش عود . إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله أكثر أخرجه ابن مردويه .