المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ} (30)

وقوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة } قرأ جمهور القراء : «فبما » بفاء ، وكذلك هي في جل المصاحف . وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة : «بما » دون فاء . وحكى الزجاج أن أبا جعفر وغيره{[10147]} من المدنيين أثبت الفاء . قال أبو علي الفارسي : «أصاب » ، من قوله : «وما أصاب » يحتمل أن يكون في موضع جزم ، وتكون { ما } شرطية ، وعلى هذا لا يجوز حذف الفاء عند سيبويه ، وجوز حذفها أبو الحسن الأخفش وبعض البغداديين على أنها مرادة في المعنى{[10148]} ، ويحتمل أن يكون «أصاب » صلة لما ، وتكون { ما } بمعنى الذي ، وعلى هذا يتجه حذف الفاء وثبوتها ، لكن معنى الكلام مع ثبوتها التلازم ، أي لولا كسبكم ما أصابتكم مصيبة ، والمصيبة إنما هي بسبب كسب الأيدي ، ومعنى الكلام مع حذفها يجوز أن يكون التلازم ، ويجوز أن يعرى منه ، وأما في هذه الآية فالتلازم مطرد مع الثبوت والحذف .

وأما معنى الآية فاختلف الناس فيه ، فقالت فرقة : هي إخبار من الله تعالى بأن الرزايا والمصائب في الدنيا إنما هي مجازاة من الله تعالى على ذنوب المرء وخطاياه ، وأن الله تعالى يعفو عن كثير فلا يعاقب عليه بمصيبة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر »{[10149]} وقال عمران بن حصين وقد سئل عن مرضه إن أحبه إلي أحبه إلى الله ، وهذا بما كسبت يداي ، وعفو ربي كثير . وقال مرة الهمداني : رأيت على ظهر كف شريح قرحة فقلت ما هذا ؟ قال هذا بما كسبت يدي { ويعفو عن كثير } ، وقيل لأبي سليمان الداراني : ما بال الفضلاء لا يلومون من أساء إليهم ؟ فقال لأنهم يعلمون أن الله تعالى هو الذي ابتلاهم بذنوبهم . وروي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الله أكرم من أن يثني على عبده العقوبة إذا أصابته في الدنيا بما كسبت يداه »{[10150]} . وقال الحسن بن أبي الحسن ، معنى الآية في الحدود : أي ما أصابكم من حد من حدود الله ، وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه ، فإنما هي بكسب أيديكم { ويعفو عن كثير } ، فستره على العبد حتى لا يحد عليه .


[10147]:في بعض النسخ: "أن أبا جعفر وحده".
[10148]:ودليلهم على ذلك قوله تعالى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} بدون فاء في [إنكم].
[10149]:أخرجه سعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن البصري رضي الله عنه، ولفظه كما في الدر المنثور: قال: لما نزلت هذه الآية: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما من خدش عود، ولا اختلاج عرق، ولا نكبة حجر، ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر).
[10150]:أخرج أحمد، وابن راهويه، وابن منيع، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}، وسأفسرها لك يا علي، ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه. (الدر المنثور).