الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ} (30)

وقوله تعالى : { وَمَا أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ } قرأ جمهور القُرَّاء : ( فَبِمَا ) بفاء ، وكذلك هي في جُلِّ المصاحف ، وقرأ نافع وابن عامر : ( بِمَا ) دون فاء ، قال أبو علي الفارسيُّ : أصاب من قوله : { وَمَا أصابكم } يحتمل أنْ يكون في موضع جَزْمٍ ، وتكون ( ما ) شرطيةً ، وعلى هذا لا يجوزُ حَذْفُ الفاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ ، وجَوَّزَ حَذْفَهَا أبو الحَسَنِ الأخْفَشُ ، وبعضُ البغداديِّينَ ؛ على أَنَّها مُرَادَةٌ في المعنى ، ويحتمل أنْ يكون أصاب صلة لمَا ، وتكون ما بمعنى الذي ، وعلى هذا يتجه حذفُ الفاء وثبوتها ، لكن معنى الكلام مع ثبوتها التلازم ، أي : لولا كَسْبُكُمْ ما أصابتكم مصيبة ، والمصيبة إنَّما هي بكسب الأيدي ، ومعنى الكلام مع حذفها يجوز أن يكون التلازم ، ويجوز أنْ يعرى منه ، .

قال ( ع ) : وأَمَّا في هذه الآية ، فالتلازم مُطَّرِدٌ مع الثبوت والحذف ، وأمَّا معنى الآية ، فاختلف الناسُ فيه ، فقالت فرقة : هو إخبار من اللَّه تعالى بأَنَّ الرزايا والمصائبَ في الدنيا إِنَّما هي مجازات من اللَّه تعالى على ذنوب المرء وخطاياه ، وأنَّ اللَّه تعالى يعفو عن كثير ، فلا يعاقب عليه بمصيبة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لاَ يُصِيبُ ابْنَ آدَمَ خَدْشُ عُودٍ ، أوْ عَثْرَةُ قَدَمٍ ، وَلاَ اخْتِلاَجُ عِرْقٍ إلاَّ بِذَنْبٍ ، وَمَا يَعْفُو عَنْهُ أَكْثَرُ " .

وقال مُرَّةُ الهَمَدَانِيُّ : رأيتُ على ظهر كَفِّ شُرَيْحٍ قُرْحَةً ، فقلتُ : ما هذا ؟ فقال : هذا بما كَسَبَتْ يَدَيَّ ، ويعفو اللَّه عن كثير .

وقيل لأبي سليمانَ الدَّارَانِيِّ : ما بالُ الفضلاء لا يَلُومُونَ مَنْ أساءَ إليهم ؟ فقال : لأَنَّهُمْ يعلَمُونَ أَنَّ اللَّه تعالى هو الذي ابتلاهم بذنوبهم ، ورَوَى عليُّ بْنُ أبي طَالِبٍ رضي اللَّه عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال : " مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ ، أَوْ عُقُوبَةٍ ، أوْ بَلاَءٍ في الدُّنْيَا فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أنْ يُثَنِّيَ عَلَيْكُمُ الْعُقُوبَةَ في الآخرة ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ في الدُّنْيَا ، فَاللَّهُ أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِيهِ بَعْدَ عَفْوِهِ " . وقال الحَسَنُ : معنى الآية في الحُدُودِ ، أي : ما أصابكم من حَدٍّ من حُدُودِ اللَّه ، فبما كسبَتْ أيديكم ، ويعفو اللَّه عن كثير ، فيستره على العبد حتى لا يُحَدَّ عليه .