مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ} (30)

قوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر { بما كسبت } بغير فاء ، وكذلك هي في مصاحف الشام والمدينة ، والباقون بالفاء وكذلك هي في مصاحفهم ، وتقدير الأول أن ما مبتدأ بمعنى الذي ، وبما كسبت خبره ، والمعنى والذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم ، وتقدير الثاني تضمين كلمة : ( ما ) معنى الشرطية .

المسألة الثانية : المراد بهذه المصائب الأحوال المكروهة نحو الآلام والأسقام والقحط والغرق والصواعق وأشباهها ، واختلفوا في نحو الآلام أنها هل هي عقوبات على ذنوب سلفت أم لا ؟ منهم من أنكر ذلك لوجوه ( الأول ) قوله تعالى : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } بين تعالى أن الجزاء إنما يحصل في يوم القيامة ، وقال تعالى في سورة الفاتحة { مالك يوم الدين } أي يوم الجزاء ، وأطبقوا على أن المراد منه يوم القيامة ( والثاني ) أن مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق والصديق ، وما يكون كذلك امتنع جعله من باب العقوبة على الذنوب ، بل الاستقراء يدل على أن حصول هذه المصائب للصالحين والمتقين أكثر منه للمذنبين ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : «خص البلاء بالأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل » ( الثالث ) أن الدنيا دار التكليف ، فلو جعل الجزاء فيها لكانت الدنيا دار التكليف ودار الجزاء معا ، وهو محال ، وأما القائلون بأن هذه المصائب قد تكون أجزية على الذنوب المتقدمة ، فقد تمسكوا أيضا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال : «لا يصيب ابن آدم خدش عود ولا غيره إلا بذنب أو لفظ » هذا معناه وتمسكوا أيضا بهذه الآية ، وتمسكوا أيضا بقوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات } وتمسكوا أيضا بقوله تعالى بعد هذه الآية { أو يوبقهن بما كسبوا } وذلك تصريح بأن ذلك الإهلاك كان بسبب كسبهم ، وأجاب الأولون عن التمسك بهذه الآية ، فقالوا إن حصول هذه المصائب يكون من باب الامتحان في التكليف ، لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء ، ويحمل قوله { فبما كسبت أيديكم } على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم ، وكذا الجواب عن بقية الدلائل ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : احتج أهل التناسخ بهذه الآية ، وكذلك الذين يقولون إن الأطفال البهائم لا تتألم ، فقالوا دلت الآية على أن حصول المصائب لا يكون إلا لسابقة الجرم ، ثم إن أهل التناسخ قالوا : لكن هذه المصائب حاصلة للأطفال والبهائم ، فوجب أن يكون قد حصل لها ذنوب في الزمان السابق ، وأما القائلون بأن الأطفال والبهائم ليس لها ألم قالوا قد ثبت أن هذه الأطفال والبهائم ما كانت موجودة في بدن آخر لفساد القول بالتناسخ فوجب القطع بأنها لا تتألم إذ الألم مصيبة والجواب : أن قوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } خطاب مع من يفهم ويعقل ، فلا يدخل فيه البهائم والأطفال ، ولم يقل تعالى : إن جميع ما يصيب الحيوان من المكاره فإنه بسبب ذنب سابق ، والله أعلم .

المسألة الرابعة : قوله { فبما كسبت أيديكم } يقتضي إضافة الكسب إلى اليد ، قال والكسب لا يكون باليد ، بل بالقدرة القائمة باليد ، وإذا كان المراد من لفظ اليد هاهنا القدرة ، وكان هذا المجاز مشهورا مستعملا كان لفظ اليد الوارد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيها لله تعالى عن الأعضاء والأجزاء ، والله أعلم .

ثم قال تعالى : { ويعفوا عن كثير } ومعناه أنه تعالى قد يترك الكثير من هذه التشديدات بفضله ورحمته ، وعن الحسن قال : دخلنا على عمران بن حصين في الوجع الشديد ، فقيل له : إنا لنغتم لك من بعض ما نرى ، فقال لا تفعلوا فوالله إن أحبه إلى الله أحبه إلي ، وقرأ { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } فهذا بما كسبت يداي ، وسيأتيني عفو ربي ، وقد روى أبو سخلة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : «ما عفى الله عنه فهو أعز وأكرم من أن يعود إليه في الآخرة ، وما عاقب عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يعيد العذاب عليه في الآخرة » رواه الواحدي في «البسيط » ، وقال إذا كان كذلك فهذه أرجى آية في كتاب الله لأن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين : صنف كفره عنهم بالمصائب في الدنيا ، وصنف عفا عنه في الدنيا ، وهو كريم لا يرجع في عفوه ، وهذه سنة الله مع المؤمنين ، وأما الكافر فلأنه لا يعجل عليه عقوبة ذنبه حتى يوافي ربه يوم القيامة .