وتقول لهم الملائكة :{ بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا } قرأ الأعمش وحمزة : { أنظرونا } بفتح الهمزة وكسر الظاء يعني أمهلونا . وقيل : انظرونا . وقرأ الآخرون بحذف الألف في الوصل وضمها في الابتداء وضم الظاء ، تقول العرب : انظرني وأنظرني ، يعني انتظرني . { نقتبس من نوركم } نستضيء من نوركم ، وذلك أن الله تعالى يعطي المؤمنين نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ، ويعطي المنافقين أيضاً نوراً خديعةً لهم ، وهو قوله عز وجل : { وهو خادعهم }( النساء- 141 ) ، فبينا هم يمشون إذ بعث الله عليهم ريحاً وظلمة فأطفأت نور المنافقين ، فذلك قوله : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } ( التحريم- 8 ) ، مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين . وقال الكلبي : بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ، ولا يعطون النور ، فإذا سبقهم المؤمنون وبقوا في الظلمة قالوا للمؤمنين : أنظرونا نقتبس من نوركم ، { قيل ارجعوا وراءكم } قال ابن عباس : يقول لهم المؤمنون ، وقال قتادة : تقول لهم الملائكة : ارجعوا وراءكم من حيث جئتم ، { فالتمسوا نورا } فاطلبوا هناك لأنفسكم نوراً فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا ، فيرجعون في طلب النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم ليلقوهم فيميز بينهم وبين المؤمنين ، وهو قوله : { فضرب بينهم بسور } أي سور ، " والباء " صلة يعني بين المؤمنين والمنافقين ، وهو حائط بين الجنة والنار ، { له } ، أي لذلك السور ، { باب باطنه فيه الرحمة } أي في باطن ذلك السور الرحمة وهي الجنة ، { وظاهره } أي خارج ذلك السور ، { من قبله } ، أي من قبل ذلك الظاهر ، { العذاب } وهو النار .
فإذا رأى المنافقون نور المؤمنين يمشون به{[981]} وهم قد طفئ نورهم وبقوا في الظلمات حائرين ، قالوا للمؤمنين : { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } أي : أمهلونا لننال من نوركم ما نمشي به ، لننجو من العذاب ، ف { قِيلَ } لهم : { ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا } أي : إن كان ذلك ممكنا ، والحال أن ذلك غير ممكن ، بل هو من المحالات ، { فَضُرِبَ } بين المؤمنين والمنافقين { بِسُورٍ } أي : حائط منيع ، وحصن حصين ، { لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ } وهو الذي يلي المؤمنين { وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } وهو الذي يلي المنافقين .
وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات } بدل من قوله - تعالى - { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات } .
أى : واذكر - أيها العاقل - أيضا - يوم يقول المنافقون والمنافقات ، الذين أظهروا الإسلام ، وأبطنوا الكفر ، يقولون للذين آمنوا ، على سبيل التذلل والتحسر .
{ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } أى انتظرونا وتريثوا فى سيركم لكى نلحق بكم ، فنستنير بنوركم الذى حرمنا منه ، وننتفع بالاقتباس من نوركم الذى أكرمكم الله - تعالى - به .
قال الآلوسى : { انظرونا } أى : انتظرونا { نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } نصب منه ، وذلك بأن يلحقوا بهم ، فيستنيروا به . . واصل الاقتباس طلب القبس ، أى الجذوة من النار .
وقولهم للمؤمنين ذلك ، لأنهم فى ظلمة لا يدرون كيف يمشون فيها . وروى أن ذلك يكون على الصراط .
وقوله - سبحانه - { قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً } حكاية لما يرد به عليهم المؤمنون ، أو الملائكة .
أى : قال المؤمنون فى ردهم على هؤلاء المنافقين : ارجعوا وراءكم حيث الموقف الذى كنا واقفين فيه فالتمسوا منه النور ، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً ، عن طريق تحصيل سببه وهو الإيمان ، أو ارجعوا خائبين فلا نور لكم عندنا .
وهذا القول من المؤمنين لهم ، على سبيل التهكم بهم ، إذا لا نور وراء المنافقين .
وقوله : { وَرَآءَكُمْ } تأكيد لمعنى { ارجعوا } إذ الرجوع يستلزم الوراء .
ثم بين - سبحانه - ما حدث للمنافقين بعد ذلك فقال : { فالتمسوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب } .
أى : فضرب بين المؤمنين وبين المنافقين يحاجز عظيم ، هذا الحاجز العظيم ، والسور الكبير { لَّهُ بَابٌ } باطن هذا الباب مما يلى المؤمنين { فِيهِ الرحمة } أى : فيه الجنة ، وظاهر هذا الباب مما يلى المنافقين { مِن قِبَلِهِ العذاب } .
أى : بأنى من جهته العذاب . قالوا : وهذا السور ، هو الحجاب المذكور فى سورة الأعراف فى قوله - تعالى - : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ } والمقصود بهذه الآية الكريمة ، بيان أن المؤمنين فى مكان آمن تحيط به الجنة ، أما المنافقون ففى مكان مظلم يؤدى بهم إلى النار وبئس القرار .
ولكن المشهد لا ينتهي عند هذا المنظر الطريف اللطيف . . إن هناك المنافقين والمنافقات ، في حيرة وضلال ، وفي مهانة وإهمال . وهم يتعلقون بأذيال المؤمنين والمؤمنات : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم ) . . فحيثما تتوجه أنظار المؤمنين والمؤمنات يشع ذلك النور اللطيف الشفيف . ولكن أنى للمنافقين أن يقتبسوا من هذا النور وقد عاشوا حياتهم كلها في الظلام ? إن صوتا مجهلا يناديهم : ( قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) . . ويبدو أنه صوت للتهكم ، والتذكير بما كان منهم في الدنيا من نفاق ودس في الظلام : ارجعوا وراءكم إلى الدنيا . إلى ما كنتم تعملون . ارجعوا فالنور يلتمس من هناك . من العمل في الدنيا . ارجعوا فليس اليوم يلتمس النور !
" وعلى الفور يفصل بين المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات . فهذا يوم الفصل إن كانوا في الدنيا مختلطين في الجماعة : ( فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) . . ويبدو أنه سور يمنع الرؤية ولكنه لا يمنع الصوت .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىَ وَلََكِنّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرّتْكُمُ الأمَانِيّ حَتّىَ جَآءَ أَمْرُ اللّهِ وَغَرّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ } .
يقول تعالى ذكره : هو الفوز العظيم في يوم يقول المنافقون والمنافقات ، واليوم من صلة الفوز للذين آمنوا بالله ورسله : انظرونا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : انْظُرُونا فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة انْظُرُونا موصولة بمعنى : انتظرونا ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة «أنْظُرُونا » مقطوعة الألف من أنظرت بمعنى : أخرونا ، وذكر الفرّاء أن العرب تقول : أنظرني وهم يريدون : انتظرني قليلاً وأنشد في ذلك بيت عمرو بن كلثوم :
أبا هِنْدٍ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْنا *** وأنْظِرْنا نُخَبّرْكَ اليعقِينَا
قال : فمعنى هذا : انتظرنا قليلاً نخبرك ، لأنه ليس ها هنا تأخير ، إنما هو استماع كقولك للرجل : اسمع مني حتى أخبرك .
والصواب من القراءة في ذلك عندي الوصل ، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب إذا أريد به انتظرنا ، وليس للتأخير في هذا الموضع معنى ، فيقال : أنظرونا ، بفتح الألف وهمزها .
وقوله : نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ يقول : نستصبح من نوركم ، والقبس : الشعلة .
وقوله : قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فالْتَمِسُوا نُورا يقول جلّ ثناؤه : فيجابون بأن يقال لهم : ارجعوا من حيث جئتم ، واطلبوا لأنفسكم هنالك نورا ، فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالمُنافِقاتُ . . . إلى قوله : وَبِئْسَ المَصِيرُ قال ابن عباس : بينما الناس في ظلمة ، إذ بعث الله نورا فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه ، وكان النور دليلاً من الله إلى الجنة فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا ، تبعوهم ، فأظلم الله على المنافقين ، فقالوا حينئذٍ : انظرونا نقتبس من نوركم ، فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون : ارجعوا من حيث جئتم من الظلمة ، فالتمسوا هنالك النور .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالمُنافِقاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا . . . الآية ، كان ابن عباس يقول : بينما الناس في ظلمة ، ثم ذكر نحوه .
وقوله : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ يقول تعالى ذكره : فضرب الله بين المؤمنين والمنافقين بسُور ، وهو حاجز بين أهل الجنة وأهل النار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : بِسُورٍ لَهُ بَابٌ قال : كالحجاب في الأعراف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ السور : حائط بين الجنة والنار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ قال : هذا السور الذي قال الله وَبَيْنَهُما حِجابٌ .
وقد قيل : إن ذلك السور ببيت المقدس عند وادي جهنم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا الحسن بن بلال ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا أبو سنان ، قال : كنت مع عليّ بن عبد الله بن عباس ، عند وادي جهنم ، فحدّث عن أبيه قال : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ فقال : هذا موضع السور عند وادي جهنم .
حدثني إبراهيم بن عطية بن رُدَيح بن عطية ، قال : ثني عمي محمد بن رُدَيح بن عطية ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن أبي العوّام ، عن عُبادة بن الصامت أنه كان يقول : بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ، قال : هذا باب الرحمة .
حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عطية بن قيس ، عن أبي العوّام مؤذّنِ بيت المقدس ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : إن السور الذي ذكره الله في القرآن : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ هو السور الشرقيّ ، باطنه المسجد ، وظاهره وادي جهنم .
حدثني محمد بن عوف ، قال : حدثنا أبو المُغيرة ، قال : حدثنا صفوان ، قال : حدثنا شريج أن كعبا كان يقول في الباب الذي في بيت المقدس : إنه الباب الذي قال الله : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ .
وقوله : لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ يقول تعالى ذكره : لذلك السور باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبل ذلك الظاهر العذاب : يعني النار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ : أي النار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ قال : الجنة وما فيها .
يوم يقول المنافقون والمنافقات بدل من يوم ترى للذين آمنوا انظرونا انتظرونا فإنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف أو انظروا إلينا فإنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بنور بين أيديهم وقرأ حمزة أنظرونا على أن اتئادهم ليلحقوا بهم إمهال لهم نقتبس من نوركم نصب منه قيل ارجعوا وراءكم إلى الدنيا فالتمسوا نورا بتحصيل المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة فإنه يتولد منها أو إلى الموقف فإنه من ثمة يقتبس أو إلى حيث شئتم فاطلبوا نورا آخر فإنه لا سبيل لكم إلى هذا وهو تهكم بهم وتخييب من المؤمنين أو الملائكة فضرب بينهم بين المؤمنين والمنافقين بسور بحائط له باب يدخل منه المؤمنون باطنه باطن السور أو الباب فيه الرحمة لأنه يلي الجنة وظاهره من قبله العذاب من جهته لأنه يلي النار .