قوله عز وجل : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } قال الكلبي ومقاتل : نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة ، وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا : حدثنا عن التوراة ، فإن فيها العجائب ، فنزلت : { نحن نقص عليك أحسن القصص }( يوسف- 3 ) ، فأخبرهم أن القرآن أحسن قصصاً من غيره ، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ، ثم عادوا فسألوا سلمان عن مثل ذلك فنزل : { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً }( الزمر- 23 ) ، فكفوا عن سؤاله ما شاء الله ثم عادوا فقالوا : حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب فنزلت هذه الآية . فعلى هذا التأويل ، قوله { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } يعني في العلانية وباللسان . وقال الآخرون نزلت في المؤمنين . قال عبد الله بن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } إلا أربع سنين . وقال ابن عباس : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن ، فقال : { ألم يأن } ألم يحن { للذين آمنوا أن تخشع } : ترق وتلين وتخضع قلوبهم لذكر الله ، { وما نزل } قرأ نافع ، وحفص عن عاصم بتخفيف الزاي ، وقرأ الآخرون بتشديدها ، { من الحق } وهو القرآن ، { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل } وهم اليهود والنصارى ، { فطال عليهم الأمد } الزمان بينهم وبين أنبيائهم ، { فقست قلوبهم } قال ابن عباس : مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله ، والمعنى أن الله عز وجل ينهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر . روي أن أبا موسى الأشعري بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن فقال لهم : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم . { وكثير منهم فاسقون } يعني الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون } .
{ 16-17 } { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
لما ذكر حال المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات في الدار الآخرة ، كان ذلك مما يدعو القلوب إلى الخشوع لربها ، والاستكانة لعظمته ، فعاتب الله المؤمنين [ على عدم ذلك ] ، فقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ }
أي : ألم يجئ{[983]} الوقت الذي تلين به قلوبهم{[984]} وتخشع لذكر الله ، الذي هو القرآن ، وتنقاد لأوامره وزواجره ، وما نزل من الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ وهذا فيه الحث على الاجتهاد على خشوع القلب لله تعالى ، ولما أنزله من الكتاب والحكمة ، وأن يتذكر المؤمنون المواعظ الإلهية والأحكام الشرعية كل وقت ، ويحاسبوا أنفسهم على ذلك ، { وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ } أي : ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب والانقياد التام ، ثم لم يدوموا عليه ، ولا ثبتوا ، بل طال عليهم الزمان واستمرت بهم الغفلة ، فاضمحل إيمانهم وزال إيقانهم ، { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزل له الله ، وتناطق بالحكمة ، ولا ينبغي الغفلة عن ذلك ، فإن ذلك{[985]} سبب لقسوة القلب وجمود العين .
وبعد هذا الحديث المؤثر عن المؤمنين ونورهم ، وعن المنافقين وظلماتهم وعن تلك المحاورات التى تدور بينهم . . . بعد كل ذلك حرض - سبحانه - المؤمنين ، على أن يروضوا أنفسهم على خشية الله - تعلاى - وحذرهم من أن ينهجوا نهج أهل الكتاب فى قسوة القلب ، ووعدم - سبحانه - المؤمنين الصادقين بالأجر الجزيل ، وبالنور العظيم ، فقال - تعالى - : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ . . . } .
الاستفهام فى قوله - تعالى - : { أَلَمْ يَأْنِ } للتقرير ، و " يأن " فعل مضارع ، يقال : أنى الشىء - كرمى - أنيا وأناء - بالفتح - وإِنى - بالكسر - إذا حان أناه ، أى : وقته ، فهو فعل معتل حذفت منه الياء لسبقه بلم الجازمة ، ومنه قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أى غير ناظرين حلول وقته .
والخطاب فى الآية يحتمل أن يكون من باب العتبا لطائفة من المؤمنين ، أصابهم بعض الفتور أو التكاسل ، فيما أمروا به من الاجتهاد فى طاعة الله - تعالى - بعد أن فتح الله - تعالى لهم أقطار الأرض ورزقهم بالكثير من لين العيش ، وخيرات الدنيا .
ويؤيد هذا ما أخرجه ابن المبارك ، وبعد الرازق ، وابن المنذر عن الأعمش قال : لما قدم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، فأصابوا من لين العيس ما اصابوا . بعد أن كان لهم من الجهد - وشظف العيش فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه ، فعوتبوا على ذلك فنزلت هذه الآية .
ويحتمل أن يكون الخطاب فى الآية لجميع المؤمنين ، لعى سبيل الحض على المداومة على طاعة الله - تعالى - ، والتحذير من التقصير .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } .
استئناف لعتاب المؤمنين على الفتور والتكاسل فيما ندبوا إليه ، والمعاتب - على ما قاله الزجاج - طائفة منهم ، وغلا فإن من المؤمنين من لم يزل خاشعا منذ أن أسلم إلى أن لقى ربه .
والخشوع : التذلل والخضوع ، واللام فى قوله { لِذِكْرِ الله } للتعليل ، والمراد بذكرالله - تعالى - : ما يشمل كل قول أو فعل يؤدى إلى الخوف من الله - تعالى - بحيث يظهر أثر ذلك على الجوارح .
وقيل : المراد به : القرآن الكريم ، فيكون قوله - تعالى - بعد ذلك { وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق } من باب عطف الشىء على نفسه ، لاختلاف اللفظين ، كما فى قوله - تعالى - : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى } والمعنى : لقد آن الأوان أن تخشع قلوب المؤمنين لذكر الله - تعالى - وأن تلين قلوبهم لما أنزله - سبحانه - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - من قرآن ، تقشعر منه جلود الذين يخافون ربهم ، وترق له مشاعرهم ونفوسهم .
وبعد هذا التحريض للمؤمنين على المسارعة فى طاعة الله - تعالى - وخشيته والإكثار من ذكره : نهاهم - سبحانه - عن التشبه بأهل الكتاب ، الذين طال عليهم الأمد فى الانغماس فى شهوات الدنيا فقست قلوبهم فقال - تعالى - { وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
والمراد بالذين أوتوا الكتاب : اليهود والنصارى ، وبالكتاب : التوراة والإنجيل .
والجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - : { تَخْشَعَ } والأمد : الغاية من زمان أو مكان . والمراد به هنا : الزمان الطويل .
أى : لقد آن الأوان أن تخشع قلوب الذين آمنوا لذكر الله وما نزل من الحق ، وآن الأوان - أيضا - أن لا يكونوا كالذين أوتثوا الكتاب من قبلهم ، حيث طال عليهم الوقت وهم منغمسون فى الشهوات والملذات ، فقست قلوبهم ، وصارت لا تتأثر لا بالترغيب ولا بالترهيب ، ولا تفرق بين الحرام والحلال . وأصبح كثير منهم خارجين عن الصراط المستقيم .
فأنت ترى الآية الكريمة قد حضت المؤمنين على الركون إلى ذكر الله - تعالى - بشدة ومداومة . . . ونهتهم عن التشبه بأهل الكتاب فى عدم الخشوع وفى قسوة القلوب ، بسبب استيلاء المطامع والشهوات على قلوبهم .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله - تعالى - : { أَلَمْ يَأْنِ } من أنى الأمر إذا جاء أناه أى : وقته . . والآية نهى للمؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب فى قسوة القلوب ، وذلك أن بنى إسرائيل ، كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم ، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا روقت قلبوهم ، فلما طال عليهم الزمان ، غلبهم الجفاء والقسوة ، واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره .
فإن قلت : ما معنى لذكر الله وما نزل من الحق ؟ قلت : يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق القرآن ، لأنه جامع للأمرين : الذكر والموعظة وأنه حق نازل من السماء .
وأن يراد خشوعها إذا ذكر الله . وإذا تلى القرآن ، كقوله - تعالى - : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } والآية الكريمة تشير إلى أن الإهمال لذكر الله ، والاسترسال فى الشهوات كل ذلك يؤدى إلى قسوة القلوب وإلى الفسوق عن أمر الله - تعالى - .
ولذا وجدنا كثيرا من الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، تحض على الإكثار من ذكر الله - تعالى - قال - سبحانه - : { والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } وفى الحديث الشريف : يقول - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقعد قوم يذكرون الله - تعالى - إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم فيمن عنده " .
ولقد كان سماع الآية الكريمة ، بتدبر وتفكر وخشوع ، على رأس الأسباب التى أدت إلى توبة بعض العصاة توبة صادقة نصوحا .
فهذا هو الفضل بن عياض يذهب ليلا لارتكاب ما نهى الله عنه ، فيسمع قارئا يقرأ هذه الآية ، فيرتجف ويعود أدراجه وهو يقول : بلى والله قد آن أوان الخشوع لذكر الله .
( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ? ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ، فطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وكثير منهم فاسقون ، اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها . قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ) . .
إنه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم ؛ واستبطاء للإستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله ؛ فبعث فيها الرسول يدعوها إلى الإيمان بربها ، ونزل عليه الآيات البينات ليخرجها من الظلمات إلى النور ؛ وأراها من آياته في الكون والخلق ما يبصر ويحذر .
عتاب فيه الود ، وفيه الحض ، وفيه الاستجاشة إلى الشعور بجلال الله ، والخشوع لذكره ، وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الحق من الروعة والخشية والطاعة والاستسلام ، مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال :
( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ? ) . .
وإلى جانب التحضيض والاستبطاء تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة ، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين يمتد بها الزمن بدون جلاء ، وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين حين تغفل عن ذكر الله ، وحين لا تخشع للحق :
( ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ، فطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .
وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج .
إن هذا القلب البشري سريع التقلب ، سريع النسيان . وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور ، ويرف كالشعاع ؛ فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقسا ، وانطمست إشراقته ، وأظلم وأعتم ! فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع ، ولا بد من الطرق عليه حتى يرق ويشف ؛ ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أَلمْ يَأَنِ للّذِينَ آمَنُوا : ألم يحن للذين صدّقوا الله ورسوله أن تلين قلوبهم لذكر الله ، فتخضع قلوبهم له ، ولما نزل من الحقّ ، وهو هذا القرآن الذي نزّله على رسوله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أَلَمْ يَأَنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ قال : تطيع قلوبهم .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة ألَمْ يأَنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ . . . .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أَلَمْ يأنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ . . . الآية . ذُكر لنا أن شدّاد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إن أوّلَ ما يُرْفَعُ مِنَ النّاس الخُشُوعُ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كان شدّاد بن أوس يقول أوّل ما يرفع من الناس الخشوع .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَما نَزَلَ مِنَ الحَقّ فقرأته عامة القرّاء غير شيبة ونافع بالتشديد «نَزّل » ، وقرأه شيبة ونافع ، وما نزل بالتخفيف ، وبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب ، لتقارب معنييهما .
وقوله : وَلا يَكُونُوا كالّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْل فَطالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ يقول تعالى ذكره : ألم يأن لهم أن ولا يكونوا ، يعني الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كالّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يعني من بني إسرائيل ، ويعني بالكتاب الذي أوتوه من قبلهم التوراة والإنجيل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن مُغيرة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، قال : جاء عتريس ابن عرقوب إلى ابن مسعود ، فقال : يا عبد الله هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر ، فقال عبد الله : هلك من لم يعرف قلبه معروفا ، ولم ينكر قلبه منكرا ، إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد ، وقست قلوبهم اخترعوا كتابا من بين أيديهم وأرجلهم ، استهوته قلوبهم ، واستحلته ألسنتهم ، وقالوا : نعرض بني إسرائيل على هذا الكتاب ، فمن آمن به تركناه ، ومن كفر به قتلناه قال : فجعل رجل منهم كتاب الله في قرن ، ثم جعل القَرَن بين ثندُوَتَيْهِ فلما قيل له : أتؤمن بهذا ؟ قال : آمنت به ، ويومىء إلى القرن الذي بين ثندُوَتَيْهِ ، ومالي لا أومن بهذا الكتاب ، فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن .
ويعني بقوله : فَطالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ ما بينهم وبين موسى صلى الله عليه وسلم ، وذلك الأمد الزمان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : الأَمَدُ قال : الدهر .
وقوله : فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ عن الخيرات ، واشتدّت على السكون إلى معاصي الله وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يقول جلّ ثناؤه : وكثير من هؤلاء الذين أوتوا الكتاب من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فاسقون .
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ألم يأت وقته يقال أني الأمر يأني أنيا وأنا إذا جاء إناه وقرئ ألم يئن بكسر الهمزة وسكون النون من آن يئين بمعنى أتى وألما يأن روي أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت وما نزل من الحق أي القرآن وهو عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله وقرأ نافع وحفص ويعقوب نزل بالتخفيف وقرئ أنزل ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل عطف على تخشع وقرأ رويس بالتاء والمراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكي عنهم بقوله فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم أي فطال عليهم الأجل لطول أعمارهم وآمالهم أو ما بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم وقرئ الأمد وهو الوقت الأطول وكثير منهم فاسقون خارجون عن دينهم رافضون لما في كتابهم من فرط القسوة .