قوله تعالى : { واتقوا يوماً } . واخشوا عقاب يوم .
قوله تعالى : { لا تجزي نفس } . لا تقضي نفس .
قوله تعالى : { عن نفس شيئاً } أي حقاً لزمها وقيل : لا تغني ، وقيل : لا تكفي شيئاً من الشدائد .
قوله تعالى : { ولا يقبل منها شفاعة } . قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالتاء لتأنيث الشفاعة ، وقرأ الباقون بالياء لأن الشفع والشفاعة بمعنى واحد كالوعظ والموعظة ، فالتذكير على المعنى ، والتأنيث على اللفظ ، كقوله تعالى : ( قد جاءتكم موعظة من ربكم ) . وقال في موضع آخر : ( فمن جاءه موعظة من ربه ) أي لا تقبل منها شفاعة إذا كانت كافرة .
قوله تعالى : { ولا يؤخذ منها عدل } . أي فداء وسمي به لأنه مثل المعدى . العدل والعدل : المثل .
وخوفهم بيوم القيامة الذي { لَا تَجْزِي } فيه ، أي : لا تغني { نَفْسٌ } ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين { عَنْ نَفْسٍ } ولو كانت من العشيرة الأقربين { شَيْئًا } لا كبيرا ولا صغيرا وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه .
{ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا } أي : النفس ، شفاعة لأحد بدون إذن الله ورضاه عن المشفوع له ، ولا يرضى من العمل إلا ما أريد به وجهه ، وكان على السبيل والسنة ، { وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي : فداء { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب } ولا يقبل منهم ذلك { وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي : يدفع عنهم المكروه ، فنفى الانتفاع من الخلق بوجه من الوجوه ، فقوله : { لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } هذا في تحصيل المنافع ، { وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } هذا في دفع المضار ، فهذا النفي للأمر المستقل{[89]} به النافع .
{ ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل } هذا نفي للنفع الذي يطلب ممن يملكه بعوض ، كالعدل ، أو بغيره ، كالشفاعة ، فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين ، لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع ، وأن يعلقه بالله الذي يجلب المنافع ، ويدفع المضار ، فيعبده وحده لا شريك له ويستعينه على عبادته .
{ واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ . . . }
بعد أن ذكرهم - سبحانه - في الآية السابعة بنعمة عظمى من نعمه حذرهم في هذه الآية الكريمة من التقصير في العمل الصالح ، وذلك لأن وصفهم بالتفضيل على عالمي زمانهم قد يحملهم على الغرور ، ويجعلهم يتوهمون أنهم مغفور لهم لو أذنبوا . فجاءت هذه الآية الكريمة لتقتلع من أذهانهم تلك الأوهام بأحكم عبارة وأجمع بيان .
والمراد باتقاء اليوم ، وهو يوم القيامة ، الحذر مما يحدث فيه من أهوال وعذاب ، والحذر منه يكون بالتزام حدود الله - تعالى - وعدم تعديها ، فهو من إطلاق الزمان على ما يقع فيه كما تقول " مكان مخيف " وتنكير النفس في الموضعين وهو في حيز النفي يفيد عموم النفس . أي : لا تقضى فيه نفس كائنة من كانت عن نفس أخرى شيئاً من الحقوق .
ووصف اليوم بهذا الوصف ، ولم يقل " يوم القيامة " مثلا ، للإِشعار بأن التصرف في ذلك اليوم لله وحده ، فليس فيه ما اعتاد الناس في هذه الدنيا من دفاع بعضهم عن بعض .
والمعنى : احذروا - يا بني إسرائيل - يوماً عظيماً أمامكم ، سيحصل فيه من الحساب والجزاء مالا منجاة من هوله إلا بتقوى الله في جميع الأحوال والإِخلاص له في كل الأعمال ، فهو يوم لا تقضى فيه نفس مهما كان قدرها عظيما عن نفس شيئاً ما ، مهما يكن ذنباً صغيراً .
ثم وصف القرآن الكريم ذلك اليوم بوصف آخر يناسب المقام . فقال تعالى : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } الضمير في ( منها ) يعود إلى النفس المحاسبة في ذلك اليوم . والشفاعة : من الشفع ضد الوتر ، وهي انضمام الغير إلى الشخص ليدفع عنه ، أي لا يقبل منها أن تأتي يشفيع ليحصل لها نفعاً ، أو يدفع عنها ضرراً .
والآية الكريمة قد نفت قبول الشفاعة من أحد نفياً مطلقاً ، ولكن هنالك آيات كريمة تنفى قبول الشفاعة إلا ممن أذن له الرحمن في ذلك ، من هذه الآيات قوله تعالى : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } وللجمع بين هذه الآيات ، تحمل الآيات التي تنفى الشفاعة نفياً مطلقاً على أنها واردة في شأن النفوس الكافرة ، وتحمل الآيات التي تبيح الشفاعة على أنها واردة في شأن المؤمنين إذا أذن الله فيها للشافعين ، وقد وردت أحاديث صحيحة بلغت مبلغ التواتر المعنوي في أن النبي صلى الله عليه وسلم ستكون له شفاعة في دفع العذاب عن أقوام المؤمنين ، وتخفيفه عن أهل الكبائر من المسلمين ، من ذلك ما أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وجعلت أمتي خير الأمم ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " .
قال الإِمام ابن جرير : ( وهذه الآية وإن كان مخرجها عاماً في التلاوة فإن المراد بها خاص في التأويل ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . أنه قال : شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، وأنه قال : ليس من نبي إلا وقد أعطى دعوة ، وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي ، وهي نائلة إن شاء الله منهم من لا يشرك بالله شيئاً . فقد تبين بذلك أن الله جل ثناؤه قد يصفح لعباده المؤمنين بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهم عن كثير من عقوبة إجرامهم بينه وبينهم ، وأن قوله { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله - عز وجل - " اه .
ثم وصف اليوم بوصف ثالث فقال تعالى : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } .
العدل : العوض والفداء . سمي بالمصدر لأن الفادي يعدل المفدي بمثله في القيمة أو العين .
ويسويه به . يقال : عدل كذا بكذا : أي سواه به .
والمعنى : لا يؤخذ منها فداء أو بدل في ذلك اليوم إن هي استطاعت إحضاره على سبيل الفرض والتقدير .
ثم وصفه بوصف رابع فقال تعالى : { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } والنصر هو الإِعانة في الحرب وغيره بقوة الناصر ، وقدم المسند إليه لزيادة التأكيد المفيد أن انتفاء نصرهم محقق . فضلا عما استفيد من نفي العفل وإسناده للمجهول وجاء الضمير في قوله تعالى : { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } جمعاً مع أنه عائد على النفس وهو قوله تعالى : { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ } ؛ لأن النكرة إذا وقعت في سياق النفي تناولت كل فرد من أفرادها ، وبهذا صارت في معنى الجمع ، وصح أن يعود عليها ضمير الجمع وهو ( هم ) .
والمعنى : أنهم لا يجدون من يعينهم ويمنعهم من عذاب الله يوم القيامة .
ولما كان اليهود يعتقدون أنهم شعب مميز ، وأن نسبتهم إلى الأنبياء ستجعلهم في مأمن من العقاب رغم عصيانهم وفسوقهم ، وأن آباءهم سيشفعون لهم . . . لما كانوا كذلك جاءت هذه الآية الكريمة لتبطل ما اعتقدوه ، وتقطع ما أمَّلوه ، ولتنقض كل ما يحتمل أن يكون وسيلة للنجاة يوم القيامة سوى الإِيمان والعمل الصالح .
فقد نفت الآية الكريمة وجود من ينوب عنهم بقولها { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } .
ونفت انتفاعهم بشفاعة الشافعين يوم الحساب بقولها { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } .
ونفت قبول البدل أو الفداء عما ارتكبوه من خطايا بقولها { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } .
ونفت وجود من ينتصر لهم أو يدافع عنهم بقولها { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } .
وهكذا سدت عليهم الآية الكريمة كل منفذ يتوهمون نجاتهم من عذاب الله بسببه ، ما داموا مصرين على كفرهم وجحودهم .
ومع الإطماع في الفضل والنعمة ، التحذير من اليوم الذي يأتي وصفه :
( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) . .
فالتبعة فردية ، والحساب شخصي ، وكل نفس مسؤولة عن نفسها ، ولا تغني نفس عن نفس شيئا . . وهذا هو المبدأ الإسلامي العظيم . مبدأ التبعة الفردية القائمة على الإرادة والتمييز من الإنسان ، وعلى العدل المطلق من الله . وهو أقوم المباديء التي تشعر الإنسان بكرامته ، والتي تستجيش اليقظة الدائمة في ضميره . وكلاهما عامل من عوامل التربية ، فوق أنه قيمة إنسانية تضاف إلى رصيده من القيم التي يكرمه بها الإسلام .
( ولا يقبل منها شفاعة . ولا يؤخذ منها عدل ) .
فلا شفاعة تنفع يومئذ من لم يقدم إيمانا وعملا صالحا ؛ ولا فدية تؤخذ منه للتجاوز عن كفره ومعصيته .
فما من ناصر يعصمهم من الله ، وينجيهم من عذابه . . وقد عبر هنا بالجمع باعتبار مجموع النفوس التي لا تجزي نفس منها عن نفس ، ولا يقبل منها شفاعة ، ولا يؤخذ منها عدل ، وانصرف عن الخطاب في أول الآية إلى صيغة الغيبة في آخرها للتعميم . فهذا مبدأ كلي ينال المخاطبين وغير المخاطبين من الناس أجمعين .