تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم خوفهم، فقال: {واتقوا يوما لا تجزي نفس}، يقول: لا تغني نفس كافرة
{عن نفس شيئا} من المنفعة في الآخرة.
{ولا يقبل منها}، يعني من هذه النفس الكافرة.
{شفاعة ولا يؤخذ منها عدل}، يعني فداء، كفعل أهل الدنيا بعضهم من بعض.
{ولا هم ينصرون}، يقول: ولا هم يمنعون من العذاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَاتّقُوا يَوْما لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفَسٍ شَيْئا": واتقوا يوما لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا. وجائز أيضا أن يكون تأويله: واتقوا يوما لا تجزيه نفس عن نفس شيئا.
وأما المعنى... فإنه تحذير من الله تعالى ذكره عباده الذين خاطبهم بهذه الآية عقوبته أن تحلّ بهم يوم القيامة، وهو اليوم الذي لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، ولا يجزي فيه والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.
"لا تَجْزِي نَفْسٌ": لا تغني. كما:
وأصل الجزاء في كلام العرب: القضاء والتعويض، يقال: جزيته قرضه ودينه أجزيه جزاء، بمعنى: قضيته دينه، ومن ذلك قيل: جزى الله فلانا عني خيرا أو شرّا، بمعنى: أثابه عني وقضاه عني ما لزمني له بفعله الذي سلف منه إليّ. وقد قال قوم من أهل العلم بلغة العرب: يقال: أجزيت عنه كذا: إذا أعنته عليه، وجزيت عنك فلانا: إذا كافأته.
وقال آخرون منهم: بل جزيت عنك: قضيت عنك، وأجزيت: كفيت.
وقال آخرون منهم: بل هما بمعنى واحد، يقال: جزت عنك شاة وأجزت، وجزى عنك درهم وأجزى، ولا تَجْزي عنك شاة ولا تُجْزي بمعنى واحد، إلا أنهم ذكروا أن جزت عنك ولا تُجزي عنك من لغة أهل الحجاز، وأن أجزأ وتجزئ من لغة غيرهم. وزعم آخرون أن جَزَى بلا همز: قضى، وأجزأ بالهمز: كافأ. فمعنى الكلام إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس شيئا ولا تغني عنها غِنًى.
فإن قال لنا قائل: وما معنى: لا تقضي نفس عن نفس، ولا تغني عنها غنى؟ قيل: هو أن أحدنا اليوم ربما قضى عن ولده أو والده أو ذي الصداقة والقرابة دينه وأما في الاَخرة فإنه فيما أتتنا به الأخبار عنها يسرّ الرجل أن يبرد له على ولده أو والده حقّ، وذلك أن قضاء الحقوق في القيامة من الحسنات والسيئات. كما:
حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، عن أبي خالد الدولابي يزيد بن عبد الرحمن، عن زيد بن أبي أنيسة، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللّهُ عَبْدا كَانَتْ عِنْدَهُ لأخِيهِ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ» قال أبو بكر في حديثه: «أوْ مالٍ أوْ جاهٍ، فاسْتَحَلّهُ قَبْلَ أنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ وَلَيْسَ ثَمّ دِينارٌ وَلا دِرْهَمٌ، فإنْ كانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أَخَذُوا مِنْ حَسَناتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَناتٌ حَمَلُوا عَلَيْهِ مِنْ سَيئَاتِهِمْ».
حدثنا موسى بن سهل الرملي، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا عبد العزيز الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَمُوتَنّ أحَدُكُمْ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإنّهُ لَيْسَ هُنَاكَ دِينارٌ وَلا دِرْهَمٌ، إنّمَا يَقْتَسِمُونَ هنَالِكَ الحَسَناتِ وَالسّيّئاتِ» وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يمينا وشمالاً.
فذلك معنى قوله جل ثناؤه: "لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا "يعني أنها لا تقضي عنها شيئا لزمها لغيرها، لأن القضاء هنالك من الحسنات والسيئات على ما وصفنا. وكيف يقضي عن غيره ما لزمه من كان يسرّه أن يثبت له على ولده أو والده حقّ، فيأخذه منه ولا يُتجافى له عنه؟.
"وَلا تُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ": والشفاعة مصدر من قول الرجل: شفع لي فلان إلى فلان شفاعة، وهو طلبه إليه في قضاء حاجته. وإنما قيل للشفيع شفيع وشافع لأنه ثنّى المستشفع به، فصار له شَفْعا، فكان ذو الحاجة قبل استشفاعه به في حاجته فردا، فصار صاحبه له فيها شافعا، وطلبُه فيه وفي حاجته شفاعة ولذلك سمي الشفيع في الدار وفي الأرض شفيعا لمصير البائع به شفعا.
فتأويل الآية إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس حقا لزمها لله جل ثناؤه ولا لغيره، ولا يقبل الله منها شفاعة شافع، فيترك لها ما لزمها من حق.
وقيل: إن الله عزّ وجلّ خاطب أهل هذه الآية بما خاطبهم به فيها لأنهم كانوا من يهود بني إسرائيل، وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه، وسيشفع لنا عنده آباؤنا. فأخبرهم الله جل وعزّ أن نفسا لا تجزي عن نفس شيئا في القيامة، ولا يقبل منها شفاعة أحد فيها حتى يُستوفى لكل ذي حقّ منها حقه...
فآيسهم الله جل ذكره مما كانوا أطمعوا فيه أنفسهم من النجاة من عذاب الله مع تكذيبهم بما عرفوا من الحقّ وخلافهم أمر الله في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عنده بشفاعة آبائهم وغيرهم من الناس كلهم، وأخبرهم أنه غير نافعهم عنده إلا التوبة إليه من كفرهم والإنابة من ضلالهم، وجعل ما سنّ فيهم من ذلك إماما لكل من كان على مثل منهاجهم لئلا يطمع ذو إلحاد في رحمة الله.
وهذه الآية وإن كان مخرجها عاما في التلاوة، فإن المراد بها خاص في التأويل لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «شَفَاعَتِي لأَهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمّتي» وأنه قال: «لَيْسَ مِنْ نبِيّ إِلاّ وَقَدْ أُعْطِيَ دَعْوَةً، وَإِنّي خَبَأتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لامّتي، وَهِيَ نائلَةٌ إِنْ شَاءَ اللّهُ مِنْهُمْ مَنْ لا يُشْرِكُ باللّهِ شَيْئا». فقد تبين بذلك أن الله جل ثناؤه قد يصفح لعباده المؤمنين بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهم عن كثير من عقوبة إجرامهم بينه وبينهم، وأن قوله: "وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ" إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله عزّ وجلّ.
"وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ": والعدل في كلام العرب بفتح العين: الفدية... لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها.
وحدثني نجيح بن إبراهيم، قال: حدثنا عليّ بن حكيم، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عمرو بن قيس الملائي، عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن عليه الثناء، قال: قيل يا رسول الله ما العدل؟ قال: «العَدْلُ: الفِدْيَةُ».
وإنما قيل للفدية من الشيء والبدل منه عدل، لمعادلته إياه وهو من غير جنسه ومصيره له مثلاً من وجه الجزاء، لا من وجه المشابهة في الصورة والخلقة، كما قال جل ثناؤه: "وَإِنْ تَعْدِلْ كُلّ عَدْلٍ لاَ يُؤْخَذْ مِنْهَا" بمعنى: وإن تفد كل فدية لا يؤخذ منها، يقال منه: هذا عَدْله وعَدِيله. وأما العِدْل بكسر العين، فهو مثل الحمل المحمول على الظهر، يقال من ذلك: عندي غلام عِدْل غلامك، وشاة عِدْل شاتك بكسر العين، إذا كان غلام يعدل غلاما، وشاة تعدل شاة، وكذلك ذلك في كل مثل للشيء من جنسه. فإذا أريد أن عنده قيمته من غير جنسه نصبت العين فقيل: عندي عَدْل شاتك من الدراهم.
"وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ": يعني أنهم يومئذٍ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية. بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرّشَا والشفاعات، وارتفع بين القوم التعاون والتناصر، وصار الحكم إلى العدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. وذلك نظير قوله جل ثناؤه: "وَقِفُوهُمْ إنّهُمْ مَسْؤولُونَ مَا لَكْمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ اليَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ".
وقد قال بعضهم في معنى قوله: "وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ": وليس لهم من الله يومئذٍ نصير ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم. وقد قيل: ولا هم ينصرون بالطلب فيهم والشفاعة والفدية.
والقول الأول أولى بتأويل الآية لما وصفنا من الله جل ثناؤه إنما أعلم المخاطبين بهذه الآية أن يوم القيامة يوم لا فدية لمن استحقّ من خلقه عقوبته، ولا شفاعة فيه، ولا ناصر له. وذلك أن ذلك قد كان لهم في الدنيا، فأخبر أن ذلك يوم القيامة معدوم لا سبيل لهم إليه.
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
وقال تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}. فنص تعالى على أن الشفاعة يوم القيامة تنفع عنده عز وجل، ممن أذن له فيها، ورضي قوله، ولا أحد من الناس أولى بذلك من محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أفضل ولد آدم عليه السلام... فقد صحت الشفاعة بنص القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فصح يقينا أن الشفاعة التي أبطلها الله عز وجل، هي غير الشفاعة التي أثبتها الله عز وجل، وإذ لا شك في ذلك؛ فالشفاعة التي أبطل عز وجل هي الشفاعة للكفار، والذين هم مخلدون في النار.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{واتقوا يوماً}...التقدير عذاب يوم، أو هول يوم، ثم حذف ذلك وأقام اليوم مقامه، ويصح... جيئوا متقين يوماً.
و {لا تجزي} معناه: لا تقضي، ويقويه قوله {شيئاً} وقيل المعنى: لا تكافئ، ويقال: جزى وأجزأ بمعنى واحد، وقد فرق بينهما قوم، فقالوا: جزى بمعنى: قضى وكافأ، وأجزأ بمعنى أغنى وكفى.
اعلم أن اتقاء اليوم اتقاء لما يحصل في ذلك اليوم من العقاب والشدائد لأن نفس اليوم لا يتقي ولابد من أن يرده أهل الجنة والنار جميعا فالمراد ما ذكرناه ثم إنه تعالى وصف اليوم بأشد الصفات وأعظمها تهويلا، وذلك لأن العرب إذا دفع أحدهم إلى كريهة وحاولت أعوانه دفاع ذلك عنه بذلت ما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية فذبت عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوته، فإن رأى من لا طاقة له بمانعته عاد بوجوه الضراعة وصنوف الشفاعة فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة، فإن لم تغن عنه الحالتان من الخشونة والليان لم يبق بعده إلا فداء الشيء بمثله. إما مال أو غيره وإن لم تغن عنه هذه الثلاثة تعلل بما يرجوه من نصر الأخلاء والإخوان فأخبر الله سبحانه أنه لا يغني شيء من هذه الأمور عن المجرمين في الآخرة.
السؤال الأول: الفائدة من قوله: {لا تجزي نفس عن نفس شيئا} هي الفائدة من قوله: {ولا هم ينصرون} فما المقصود من هذا التكرار؟ والجواب: المراد من قوله: {لا تجزي نفس عن نفس شيئا} أنه لا يتحمل عنه غيره ما يلزمه من الجزاء، وأما النصرة فهي أن يحاول تخليصه عن حكم المعاقب وسنذكر فرقا آخر إن شاء الله تعالى.
السؤال الثاني: أن الله تعالى قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الفدية وذكر هذه الآية في هذه السورة بعد العشرين والمائة وقدم قبول الفدية على ذكر الشفاعة فما الحكمة فيه؟ الجواب: أن من كان ميله إلى حب المال أشد من ميله إلى علو النفس فإنه يقدم التمسك بالشافعين على إعطاء الفدية ومن كان بالعكس يقدم الفدية على الشفاعة، ففائدة تغيير الترتيب، الإشارة إلى هذين الصنفين...
{ولا يقبل منها شفاعة}: فالشفاعة أن يستوهب أحد لأحد شيئا ويطلب له حاجة... واعلم أن الضمير في قوله: {ولا يقبل منها} راجع إلى النفس الثانية العاصية وهي التي لا يؤخذ منها عدل، ومعنى لا يقبل منها شفاعة: إنها إن جاءت بشفاعة شفيع لا يقبل منها، ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى، على أنها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها كما لا تجزي عنها شيئا...
{ولا هم ينصرون}: فاعلم أن التناصر إنما يكون في الدنيا بالمخالطة والقرابة، وقد أخبر الله تعالى أنه ليس يومئذ خلة ولا شفاعة وأنه لا أنساب بينهم، وإنما المرء يفر من أخيه وأمه وأبيه وقرابته، قال القفال: والنصر يراد به المعونة كقوله: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، ومنه معنى الإغاثة، تقول العرب: أرض منصورة أي ممطورة، والغيث ينصر البلاد إذا أنبتها، فكأنه أغاث أهلها. وقيل في قوله تعالى: {من كان يظن أن لن ينصره الله} أي أن لن يرزقه كما يرزق الغيث البلاد، ويسمى الانتقام نصرة وانتصارا، قال تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا} قالوا معناه: فانتقمنا له. فقوله تعالى: {ولا هم ينصرون} يحتمل هذه الوجوه فإنهم يوم القيامة لا يغاثون، ويحتمل أنهم إذا عذبوا لم يجدوا من ينتقم لهم من الله، وفي الجملة كأن النصر هو دفع الشدائد، فأخبر الله تعالى أنه لا دافع هناك من عذابه، بقي في الآية مسألتان:
المسألة الأولى: أن في الآية أعظم تحذير عن المعاصي وأقوى ترغيب في تلافي الإنسان ما يكون منه من المعصية بالتوبة، لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية، علم أنه لا خلاص له إلا بالطاعة، فإذا كان لا يأمن كل ساعة من التقصير في العبادة، ومن فوت التوبة من حيث إنه لا يقين له في البقاء، صار حذرا خائفا في كل حال. والآية وإن كانت في بني إسرائيل فهي في المعنى مخاطبة للكل، لأن الوصف الذي ذكر فيها وصف لليوم وذلك يعم كل من يحضر في ذلك اليوم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
فالشفاعة... ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال منفعته للمشفوع...
وإنما خص الشفاعة والفدية والنصر بالذكر؛ لأنها هي المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا، فإن الواقع في الشدة لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدي.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومع الإطماع في الفضل والنعمة، التحذير من اليوم الذي يأتي وصفه:
فالتبعة فردية، والحساب شخصي، وكل نفس مسؤولة عن نفسها، ولا تغني نفس عن نفس شيئا.. وهذا هو المبدأ الإسلامي العظيم. مبدأ التبعة الفردية القائمة على الإرادة والتمييز من الإنسان، وعلى العدل المطلق من الله. وهو أقوم المبادئ التي تشعر الإنسان بكرامته، والتي تستجيش اليقظة الدائمة في ضميره. وكلاهما عامل من عوامل التربية، فوق أنه قيمة إنسانية تضاف إلى رصيده من القيم التي يكرمه بها الإسلام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتنكير النفس في الموضعين وهو في حيز النفي يفيد عموم النفوس أي لا يغني أحد كائناً من كان، فلا تغني عن الكفار آلهتهم ولا صلحاؤهم على اختلاف عقائدهم في غَناء أولئك عنهم، فالمقصود نفي غنائهم عنهم بأن يحولوا بينهم وبين عقاب الله تعالى، أي نفي أن يجزوا عنهم جزاء يمنع الله عن نوالهم بسوء رعياً لأوليائهم، فالمراد هنا الغناء بحرمة الشخص وتوقع غضبه وهو غناء كفء العدو الذي يخافه العدو على ما هو معروف عند الأمم يومئذ من اتقائهم بطش مولى أعدائهم وإحجامهم عما يوجب غضبه تقية من مكره أو ضره أو حرمان نفعه.
وهذا التأييس يستتبع تحقير من توهمهم الكفرة شفعاء وإبطال ما زعموه مغنياً عنهم من غضب الله من قرابين قربوها ومجادلات أعدوها وقالوا: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18]. {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} [النحل: 111].
والشفاعة: السعي والوساطة في حصول نفع أو دفع ضر سواء كانت الوساطة بطلب من المنتفع بها أم كانت بمجرد سعي المتوسط ويقال لطالب الشفاعة مستشفع...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
نرى في تحليل هذه الفقرة أنَّ الآية لا تواجه القضية من حيث المبدأ، بل تواجهها من ناحية رفض الذهنية البشرية في الدنيا التي يواجه بها الإنسان قضية المصير في الآخرة، من خلال العلاقات الذاتية والتمنيات الشخصية في محاولة التخلّص من نتائج المسؤولية، تماماً كما هي الحال في قضايا النّاس بعضهم مع بعض، عندما تُحلُّ المشكلة بقيام شخص مقام شخص، أو بواسطته، أو بدفع بدل مالي أو غير مالي، ممّا يدخل في حساب التسويات الشخصية التي لا تعتمد على قاعدة عامة، أو تعتبر مبرراً للخروج عن القانون من خلال تدخل أصحاب الشفاعة من الوجهاء والرؤساء.
أمّا قضية الشفاعة كمبدأ، فإنها تبتعد عن هذا الجوّ، لتدخل في جوّ آخر، حيث نلمح في القرآن والسُّنَّة التأكيد على وجود قواعد أساسية تحكمها، من حيث طبيعة الأشخاص والمواقع والقضايا، ما يجعلها لا ترتبط بالعلاقات الذاتية التي تتبع الحبّ الذاتي كما يفهمه العامة من النّاس، حيث يحاولون التقرّب إلى الأنبياء والأولياء بالمبادرات الذاتية من النذور وغيرها، كما يتقرّبون إلى الزعماء والوجهاء بالهدايا والمصانعات بالروحية نفسها، من أجل الوصول إلى الشفاعة، مع فارقٍ واحد، وهو الشعور بالقداسة في عالم الأولياء والأنبياء...
ولا يلتقي هذا الاتجاه بمعنى الوساطة التي تقف لتربط بين اللّه وبين عباده على أساس الفكرة التي تقول: إننا لا نقف في المستوى الذي يؤهلنا للاتصال باللّه مباشرة لبُعدنا عن ساحة قُربه وقدسه، فنحاول أن نتوسط لذلك بالاتصال بهم مباشرة ليصلونا باللّه في نهاية المطاف. إننا نتحفظ حول هذه الفكرة من موقع الأسلوب القرآني الذي يخاطب النّاس بشكل مباشر، ويدعوهم إلى الاتصال باللّه من دون وساطة أحد، كما في الآيات التي توحي للإنسان بأنَّ اللّه قريب إلى النّاس، وأنه أقرب إليهم من حبل الوريد، كما في قوله تعالى:] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [[البقرة: 186]. وقوله تعالى:] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [[ق: 16].