اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡـٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ} (48)

" يوماً " مفعول به ، [ ولا بد من حذف ] مضاف أي : عذاب يوم أو هول يوم ، وأجيز أن يكون منصوباً على الظرف ، والمفعول محذوف تقديره : واتقوا العَذَاب في يومٍ صِفَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ .

ومنع " أبو البقاء " كونه ظرفاً ، قال : " لأن الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة " .

والجواب عما قاله : أن الأمر بالحَذَرِ من الأسباب المؤدّية إلى العقاب في يوم القيامة .

وأصل " اتَّقُوا " : " اوْتَقُوا " ، ففعل به ما تقدم في { تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] . قوله : { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ } .

التنكير في " نفس " و " شيئاً " معناه أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس مثلها شيئاً من الأشياء ، وكذلك في " شَفَاعة " و " عَدْل " .

قال الزمخشري : و " شيئاً " مفعول به على أن تجزي بمعنى " تقضي " ، أي : لا تقضي نفسٌ عن غيرها شيئاً من الحُقُوق ، ويجوز أن يكون في موضع مَصْدَر ، أي : قليلاً من الجزاء كقوله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [ مريم : 60 ] ، أي : شيئاً من الجزاء ؛ لأن الجزاء شيء ، فوضع العام موضع الخاص .

واجْتَزَأْتُ بالشَّيء اجْتِزَاءً : اكْتَفَيْتُ ، قال الشاعر : [ الوافر ]

462 بأَنَّ الغَدْرَ في الأَقْوَامِ عَارٌ *** وَأَنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بِالكُرَاعِ

أي : يجتزئ به .

والجملة في محلّ نصب صفة ل " يوماً " ، والعائد محذوف ، والتقدير : لا تَجْزِي فيه ، ثم حذف الجار والمجرور ، لأن الظروف يتّسع فيها ما لا يتّسع في غيرها ، وهذا مذهب " سيبويه " .

وقيل : بل حذف بعد حذف حَرْفِ الجَرّ ، ووصول الفعل إليه فصار : لا تجزيه ؛ كقوله : [ الطويل ]

463 وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِراً *** قَلِيلٍ سِوَى الطَّعْنِ النَّهَالِ نَوَافِلُهْ

ويُعْزَى للأخفش ، إلاّ أن " المهدوي " نقل أن الوجهين المتقدّمين جائزان عند الأخفش وسيبويه والزجاج ؛ ويدلّ على حذف عائد الموصوف إذا كان منصوباً قوله : [ الوافر ]

464 فَمَا أَدْرِي أَغَيَّرَهُمْ قَنَاء *** وَطُولُ الدَّهْرِ أَمْ مَالٌ أَصَابُوا ؟

أي : أصابوه ، ويجوز عند الكوفيين أن يكون التقدير : يوماً يوم لا تَجْزي نفسٌ ، فيصير كقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ } [ الانفطار : 19 ] ، ويكون " اليوم " الثاني بدلاً من يوماً الأول ، ثم حذف المُضَاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، كقوله : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] ، وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير عائدٍ ؛ لأن الظرف متى أضيف إلى الجملة بعده لم يؤت له فيها بضمير ، إلاّ في ضرورة شعر ؛ كقوله : [ الوافر ]

465 مَضَتْ مائَةٌ لِعَامَ وُلِدْتُ فِيهِ *** وَسَبْعٌ بَعْدَ ذَاكَ وَحِجَّتَانِ

و " عن نفس " متعلّق ب " تجزي " ، فهو في محلّ نصب به .

قال " أبو البَقَاء " : يجوز أن يكون نصباً على الحال .

و " الجزاء " : القضاء والمكافأة ؛ قال : [ الرجز ]

466 يَجْزِيهِ رَبُّ العَرْشِ عَنِّي إِذْ جَزَى *** جَنَّاتِ عَدْنٍ في العَلاَلِيِّ العُلا

و " الإجزاء " : الإغناء والكِفَايَة ، أجزأني كذا : كفاني ، قال : [ الطويل ]

467 وأَجْزَأْتَ أَمْرَ العَالَمِينَ وَلَمْ يَكُنْ *** لِيَجْزَأَ إلاَّ كَامِلٌ وَابْنُ كَامِلِ

وأجْزَأْتُ وجَزَأْتُ متقاربانِ .

وقيل : إن الإِجْزَاء والجَزَاء بمعنًى ، تقول فيه : جَزَيْتُهُ وأَجْزَيْتُهُ .

وقد قرئ : " تُجْزِئ " بضم حرف المُضَارعة من " أجزأ " .

قوله : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } هذه الجملة عطف على ما قبلها ، فهو صفة أيضاً ل " يوماً " والعائد " منها " عليه محذوف كما تقدم ، ولا يقبل منها فيه شفاعة .

و " شفاعة " مفعول لم يُسَمّ فاعله ، فلذلك رُفِعَتْ .

وقرئ : " يُقْبَل " بالتذكير والتأنيث ، فالتأنيث للفظ ، والتذكير لأنه مؤنّث مجازي ، وحسنه الفصل .

وقرئ : " ولا يَقْبَلُ " مبنياً للفاعل وهو " الله " تعالى . و " شَفَاعةً " نصبا مفعولاً به . " وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ " صفة أيضاً ، والكلام فيه واضح .

و " منها " متعلّق ب " يُقْبَل " و " يُؤْخَذ " .

وأجاز أبو البقاء : أن يكون نصباً على الحال ؛ لأنه في الأصل صفة ل " شفاعة " و " عَدْل " ، فلما قدم عليهما نصب على الحَالِ ، ويتعلّق حينئذ بمحذوف ، وهذا غير وَاضِحٍ ، فإنّ المعنى منصب على تعلقه بالفعل ، والضمير في " منها " يعود على " نفس " الثانية ؛ لأنها أقرب مذكور ، ويجوز أن يعود الضَّمير الأول على الأولى ، وهي النفس الجازية ، والثاني يعود على الثَّانية ، وهي المجزيّ عنها ، وهذا مُنَاسب .

و " الشَّفَاعة " مشتقة من الشَّفْع ، وهو الزوج ، ومنه " الشُّفْعَة " ؛ لأنها ضَمّ ملك إلى غيره ، والشافع والمشفوع له ؛ لأن كلاًّ منهما يزوج نفسه بالآخر ، ونَاقَةٌ شَفُوعٌ يجمع بين مَحْلَبَيْنِ في حَلْبَةٍ واحدة ، وناقة شَافِعٌ : إذا اجتمع لها حَمْلٌ وَوَلَدٌ يَتْبَعُهَا .

وَالعَدْل بالفتح الفِدَاء ، وبالكَسْرِ : المِثْل ، يقال : عَدْل وعَدِيل .

وقيل : عَدْل بالفتح المساوي للشيء قيمةً وقدراً ، وإن لم يكن من جنسه ، وبالكَسْرِ : المساوي له في جنسه وجِرْمِهِ .

وحكى الطبري : " أن من العرب من يكسر الذي بمعنى الفِدَاء ، وأما عِدْل واحد الأعدال فهو بالكسر لا غير " . وعَدْل واحد الشهود [ فبالفتح لا غير ، وأما قوله عليه السلام : " لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفاً وَعَدْلاً " ] فهو بالفتح أيضاً . وقيل : المراد ب " الصَّرْف " : النَّافلة ، وب " العَدْل " : الفريضة .

وقيل : الصَّرف : التوبة ، والعَدْل : الفِدْيَة .

قوله : { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على ما قبلها ، وإنما أتى هنا بالجملة مصدّرة بالمبتدأ مخبراً عنه بالمُضَارع تنبيهاً على المُبَالغة والتأكيد في عدم النصرة . والضمير في قوله " وَلاَ هُمْ " يعود على " النَّفس " ؛ لأن المراد بها جنسُ الأنفس ، وإنما عاد الضمير مذكراً ، وإن كانت النفس مؤنثةً ؛ لأنّ المراد بها العباد والأَنَاسِيّ .

قال الزمخشري : " كما تقول : ثلاثة أنفس " . يعني : إذا قصد به الذُّكُور ؛ كقوله : [ الوافر ]

468 ثَلاَثَةُ أَنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ *** . . . 

ولكن النُّحَاة نَصُّوا على أنه ضرورةٌ ، فالأَوْلَى أن يعود على الكفار الذين اختصتهم الآية ؛ كما قال " ابن عطية " .

و " النَّصْر " : العون ، والأَنْصَار : الأَعْوَان ، ومنه { مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ }

[ آل عمران : 52 ] والنّصر أيضاً الانتقام ، انتصر زيد : انتقم ، والنصر : الإتْيَان نَصَرْتُ أَرْضَ بني فلانِ : أتيتها ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]

469 إذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الحَرَامُ فَوَدِّعِي *** بِلاَدَ تَمِيمٍ وانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ

والنَّصْر : المطر ، يقال : نصرت الأرض : مطرت .

قال " القَفّال " : تقول العرب : أرض مَنْصورَة أي ممطورة ، والغَيْثُ ينصر البلاد : إذا أنبتها ، فكأنه أغاث أَهْلَهَا .

وقيل في قوله : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ } [ الحج : 15 ] أي : لن يرزقه الله ، كما يرزق الغَيْثُ البِلادَ .

والنَّصْر : العَطَاءُ ؛ قال : [ الرجز ]

470 إِنِّي وَأَسْطَارٍ سُطِرْنَ سَطْرَا *** لَقَائِلٌ : يَا نَصْرُ نَصْرٌ نَصْرَا

ويتعدّى ب " على " قال تعالى : { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ البقرة : 286 ] وأما قوله : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ } [ الأنبياء : 77 ] فيحتمل التعدّي ب " من " ويحتمل أن يكون من التضمين . أي : نصرناه بالانتقام له منهم .

فإن قيل : قوله : { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } تفيد ما أفاده { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } فما المقصود من هذا التكرار ؟

فالجواب : أن قوله : { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ } أي : لا تتحمّل عنه غيره ما يلزمه من الجَزَاء .

وأما النُّصْرَة فهو أن يحاول تخليصه من حكم المعاقب ، فإن قيل : قدم في هذه الآية قَبُول الشفاعة على أخذ الفدية ، وفي الآية التي قبل قوله : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ } [ البقرة : 124 ] قدم قبول الفدية على ذكر الشَّفاعة فما [ الحكم ؟ قال ابن الخطيب : ] فالجواب : أن من كان مَيْله إلى حبّ المال أشدّ من ميله إلى عُلُوّ النفس فإنه يقدّم [ التمسُّك ] بالشافعين على إعطاء الفدية ، ومن كان بالعَكْسِ يقدّم الفدية على الشفاعة ، ففائدة تغيير الترتيب الإشارة إلى هذين الصنفين .

فصل في سبب نزول الآية

ذكروا أن سبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }

[ المائدة : 18 ] وأبناء أنبيائه ، وسيشفع لنا آباؤنا ، فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تُقْبَلُ فيه الشفاعات ، ولا يؤخذ فيه فدية .

وإنما خصّ الشّفاعة والفدية والنصر بالذِّكْرِ ، لأنها هي المعاني التي اعتادها بَنُو آدم في الدنيا ، فإنّ الواقع في الشِّدَّة لا يتخلَّص إلا بأن يشفع له ، أو يفتدى ، أو ينصر .

فصل في الشفاعة

أجمعت الأمّة على أنّ الشفاعة في الآخرة لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم [ اختلفوا في ] أن شفاعته عليه الصلاة والسلام [ لمن ] تكون أي للمؤمنين المستحقّين للثواب أم لأهل الكبائر المستحقين للعقاب ؟

فذهب المعتزلة إلى أنها للمستحقّين للثواب ، وتأثير الشفاعة زيادة المَنَافع على ما استحقّوه .

وقال أصحابنا : تأثيرها في إسقاط العقاب عن المستحقّين العقاب بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار ، فإن دخلوا النار ، فشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة .

واتفقوا على أنها ليست للكفار .