الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡـٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ} (48)

{ يَوْمًا } يريد يوم القيامة { لاَّ تَجْزِى } لا تقضي عنها شيئًا من الحقوق .

ومنه الحديث في جذعة بن نيار :

«تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك » و { شَيْئاً } مفعول به ويجوز أن يكون في موضع مصدر ، أي قليلاً من الجزاء ، كقوله تعالى : { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [ مريم : 60 ] ومن قرأ «لا تجزىء » من أجزأ عنه إذا أغنى عنه ، فلا يكون في قراءته إلا بمعنى شيئاً من الإجزاء . وقرأ أبو السرار الغنوي : «لا تجزي نسمة عن نسمة شيئاً » . وهذه الجملة منصوبة المحل صفة ل ( يوماً ) .

فإن قلت : فأين العائد منها إلى الموصوف ؟ قلت : هو محذوف تقديره : لا تجزي فيه . ونحوه ما أنشده أبو علي :

تَرَوَّحِي أَجْدَرُ أَنْ تَقِيلِي ***

أي ماء أجدر بأن تقيلي فيه . ومنهم من ينزل فيقول : اتسع فيه ، فأجرى مجرى المفعول به فحذف الجار ثم حذف الضمير كما حذف من قوله : أم مال أصابوا . ومعنى التنكير أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس منها شيئاً من الأشياء ، وهو الإقناط الكلي القطّاع للمطامع . وكذلك قوله : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي فدية لأنها معادلة للمفدى . ومنه الحديث : " لا يقبل منه صرف ولا عدل " أي توبة ولا فدية . وقرأ قتادة : «ولا يَقْبَلُ منها شفاعةً » على بناء الفعل للفاعل وهو الله عز وجل ، ونصب الشفاعة . وقيل : كانت اليهود تزعم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا .

فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الشفاعة لا تقبل للعصاة ؟ قلت : نعم ، لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقاً أخلت به من فعل أو ترك ، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع فعلم أنها لا تقبل للعصاة .

فإن قلت : الضمير في { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا } إلى أي النفسين يرجع ؟ قلت : إلى الثانية العاصية غير المجزى عنها ، وهي التي لا يؤخذ منها عدل . ومعنى لا يقبل منها شفاعة : إن جاءت بشفاعة شفيع لم يقبل منها . ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى ، على أنه لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها ، كما لا تجزئ عنها شيئاً ، ولو أعطت عدلاً عنها لم يؤخذ منها { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يعني ما دلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة والتذكير بمعنى العباد والأناسي ، كما تقول : ثلاثة أنفس .