هذه السورة مكية ، نزلت في مكة قبل الهجرة ، وسميت الفاتحة لأنها أولي السور في ترتيب المصحف الشريف ، وهي تشتمل علي مجمل ما في القرآن ، وكأنها إجمال يحلو بعده التفصيل .
ومقاصد القرآن هي : بيان التوحيد ، وبيان الوعد والبشرى للمؤمن المحسن ، وبيان الوعيد والإنذار للكافر والمسيء ، وبيان العبادة ، وبيان طريق السعادة في الدنيا والآخرة ، وقصص الذين أطاعوا الله ففازوا ، وقصص الذين عصوه فخابوا .
والفاتحة تشتمل ، بطريق الإيجاز والإشارة ، علي هذه المقاصد ، ولذلك سميت أم الكتاب .
1- تبتدئ باسم الله الذي لا معبود بحق سواه ، والمتصف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص ، وهو صاحب الرحمة الذي يفيض بالنعم جليلها ودقيقها ، عامها وخاصها ، وهو المتصف بصفة الرحمة الدائمة .
ولها ثلاثة أسماء معروفة : فاتحة الكتاب ، وأم القرآن ، والسبع المثاني .
سميت فاتحة الكتاب : لأنه تعالى بها افتتح القرآن .
وأم الكتاب : لأنها أصل القرآن منها بدئ القرآن ، وأم الشيء : أصله ، ويقال لمكة أم القرى لأنها أصل البلاد دحيت الأرض من تحتها . وقيل : لأنها مقدمة وإمام لما يتلوها من السور يبدأ بكتابتها في الصحف ، وبقراءتها في الصلاة .
والسبع المثاني لأنها سبع آيات باتفاق العلماء . وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة ، فتقرأ في كل ركعة . وقال مجاهد : سميت مثاني لأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة فذخرها لهم .
وهي مكية على قول الأكثرين . وقال مجاهد : مدنية . وقيل : نزلت مرتين ، مرة بمكة ومرة بالمدينة ؛ ولذلك سميت مثاني . والأول أصح ، أنها مكية ، لأن الله تعالى من على الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : " ولقد آتيناك سبعاً من المثاني " والمراد منها فاتحة الكتاب ، وسورة الحجر مكية فلم يكن يمن عليه بها قبل نزولها .
قوله : { بسم الله } الباء زائدة يخفض ما بعدها مثل : من وعن ، والمتعلق به محذوف لدلالة الكلام عليه ، تقديره أبدأ بسم الله ، أو قل بسم الله ، وأسقطت الألف من الاسم طلباً للخفة ، لكثرة استعمالها ، وطولت الباء ، قال القطيبي : ليكون افتتاح كلام كتاب الله بحرف معظم ، كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، يقول لكتابه : طولوا الباء ، وأظهروا السين ، وفرجوا بينهما ، أو دوروا الميم تعظيماً لكتاب الله عز و جل ، وقيل لما أسقطوا الألف ردوا طول الألف على الباء ليكون دالاً على سقوط الألف ، ألا ترى أنه لما كتب الألف في ( اقرأ باسم ربك ) ردت الباء إلى صيغتها ، ولا يحذف الألف إذا أضيف الاسم إلى غير الله ، ولا مع غير الباء . والاسم هو المسمى ، وعينه وذاته قال تعالى ( إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى ) أخبر أن اسمه يحيى ، ثم نادى الاسم فقال : " يا يحيى " وقال ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها ) وأراد الأشخاص المعبودة لأنهم كانوا يعبدون المسميات وقال : ( سبح اسم ربك ) و( تبارك اسم ربك ) ثم يقال للتسمية أيضاً اسم ، فاستعماله في التسمية أكثر من المسمى . فإن قيل : ما معنى التسمية من الله لنفسه ؟ قيل : هو تعليم العباد كيف يستفتحون القراءة واختلفوا في اشتقاقه ، قال المبرد في البصريين ، هو مشتق من السمو ، وهو العلو ، فكأنه علا على معناه وظهر عليه وصار معناه لا تحته ؛ وقال ثعلب في الكوفيين : هو من الوسم والسمة وهي العلامة ، وكأنه علامة لمعناه وعلامة للمسمى ، والأول أصح لأنه يصغر على سمي ، ولو كان من السمت لكان يصغر على الوسيم ، كما يقال في الوعد وعيد ويقال في تصريفه سميت ولو كان في الوسم لقيل وسمت . قوله تعالى : { الله } قال الخليل وجماعة : هو اسم علم خاص لله عز وجل لا اشتقاق له كأسماء الأعلام للعباد مثل زيد وعمرو ، وقال جماعة : هو مشتق . ثم اختلفوا في اشتقاقه فقيل : من أله إلاهة أي عبد عبادة ، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما ( ويذرك وآلهتك ) أي عبادتك ، معناه أنه مستحق للعبادة دون غيره ، وقيل أصله إله ، قال الله عز وجل : ( وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ) قال المبرد : هو من قول العرب ، ألهت إلى فلان أي سكنت إليه قال الشاعر :
ألهت إليها والحوادث جمة*** . . . . . . . .
فكان الخلق يسكنون إليه ويطمئنون بذكره ، ويقال ألهت إليه أي فزعت إليه قال الشاعر :
ألهت إليها والركائب وقف*** . . . . . . . .
وقيل أصل الإله ولاه ، فأبدلت الواو بالهمزة ، مثل وشاح وإشاح ، اشتقاقه من الوله ، لأن العباد يولهون إليه أي يفزعون إليه في الشدائد ، ويلجئون إليه في الحوائج ، كما يوله كل طفل إلى أمه ، وقيل هو من الوله وهو ذهاب العقل لفقد من يعز عليك . قوله : { الرحمن الرحيم } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما ، هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر ، واختلفوا فيهما ، منهم من قال : هما بمعنى واحد مثل ندمان ونديم ومعناهما ذو الرحمة ، وذكر أحدهما بعد الآخر تطميعاً لقلوب الراغبين ، وقال المبرد : هو إنعام بعد إنعام ، وتفضل بعد تفضل ، ومنهم من فرق بينهما فقال : للرحمن بمعنى العموم ، وللرحيم بمعنى الخصوص . فالرحمن بمعنى الرزاق في الدنيا ، وهو على العموم لكافة الخلق . والرحيم بمعنى المعافي في الآخرة ، والعفو في الآخرة للمؤمنين على الخصوص . ولذلك قيل في الدعاء " يا رحمن الدنيا ، ورحيم الآخرة " فالرحمن : من يصل رحمته إلى الخلق على العموم . والرحيم من يصل رحمته إليهم على الخصوص . ولذلك يدعى غير الله رحيماً ، ولا يدعى رحمن ؛ فالرحمن عام المعنى ، خاص اللفظ . والرحيم ، عام اللفظ خاص المعنى . والرحمة إرادة الله تعالى الخير لأهله ، وقيل :هي ترك عقوبة من يستحقها ، وإسداء الخير إلى من لا يستحق . فهي على الأول صفة ذات ، وعلى الثاني صفة فعل . واختلفوا في آية التسمية : فذهب قراء المدينة ، والبصرة ، وفقهاء الكوفة ، إلى أنها ليست من فاتحة الكتاب ، ولا من غيرها من السور ، والافتتاح بها للتيمن والتبرك . وذهب قراء مكة ، والكوفة ، وأكثر فقهاء الحجاز ، إلى أنها من الفاتحة ، وليست من سائر السور . فإنما كتبت للفصل . وذهب جماعة إلى أنها من الفاتحة ومن كل سورة إلا سورة التوبة -وهو قول الثوري ، و ابن المبارك ، و الشافعي - في قول لأنها كتبت في المصحف بخط سائر القرآن . واتفقوا على أن الفاتحة سبع آيات ، والآية الأولى عند من يعدها من الفاتحة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وابتداء الآية الأخيرة ( صراط الذين ) ومن لم يعدها من الفاتحة قال : ابتداؤها ( الحمد لله رب العالمين ) وابتداء الآية الأخيرة ( غير المغضوب عليهم ) . واحتج من جعلها من الفاتحة ، ومن السور ، بأنها كتبت في المصحف بخط القرآن . وبما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي ، أنا أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، وأنا الربيع بن سليمان ، أنا الشافعي ، أنا عبد المجيد ، عن ابن جريج ، أخبرني أبي عن سعيد بن جرير ( ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم ) وهي : أم القرآن ، قال أبي وقرأها علي سعيد بن جبير حتى ختمها ثم قال : " بسم الله الرحمن الرحيم " الآية السابعة . قال سعيد : قرأها علي ابن عباس ، كما قرأتها عليك ، ثم قال ( بسم الله الرحمن الرحيم ) الآية السابعة قال ابن عباس فذخرها لكم فما أخرجها لأحد قبلكم ، ومن لم يجعلها من الفاتحة احتج بما ثنا أبو الحسن محمد بن محمد الشيرازي . أخبرنا زاهر بن أحمد ، ثنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال " قمت وراء أبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، كلهم كانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة " .
قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف ختم سورة حتى ينزل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .
عن أبي مسعود قال : كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى ينزل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .
وقال الشعبي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب في بدء الأمر على رسم قريش " باسمك اللهم " حتى نزل ( وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ) فكتب " بسم الله الرحمن " حتى نزلت : ( قل ادعوا الله أو أدعوا الرحمن ) . فكتب " بسم الله الرحمن " حتى نزلت . ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) فكتب مثلها .
{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ }
{ بِسْمِ اللَّهِ } أي : أبتدئ بكل اسم لله تعالى ، لأن لفظ { اسم } مفرد مضاف ، فيعم جميع الأسماء [ الحسنى ] . { اللَّهِ } هو المألوه المعبود ، المستحق لإفراده بالعبادة ، لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال . { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء ، وعمت كل حي ، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله . فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة ، ومن عداهم فلهم{[30]} نصيب منها .
واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها ، الإيمان بأسماء الله وصفاته ، وأحكام الصفات .
فيؤمنون مثلا ، بأنه رحمن رحيم ، ذو الرحمة التي اتصف بها ، المتعلقة بالمرحوم . فالنعم كلها ، أثر من آثار رحمته ، وهكذا في سائر الأسماء . يقال في العليم : إنه عليم ذو علم ، يعلم [ به ] كل شيء ، قدير ، ذو قدرة يقدر على كل شيء .
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا هو ، وحده لا شريك له ، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله رحمة للعالمين ، وأنزل عليه كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد . اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، أولئك هم المفلحون .
وبعد : فإن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ولينقذهم من الكفر والظلم والفجور . [ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ ]( {[1]} ) .
وقد أنزل الله –تعالى- هذا القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم ، لمقاصد عالية ، وحكم سامية ، وأغراض شريفة . . .
من أهمها أن يكون هذا القرآن هداية للإنس وللجن في كل زمان ومكان إلى الصراط المستقيم ، وإلى السعادة التي تصبو إليها النفوس ، وتتطلع إليها الأفئدة والقلوب . . .
وقد أودع –تعالى- في هذا الكتاب من العقائد السليمة ، والعبادات القويمة ، والأحكام الجليلة ، والآداب الفاضلة ، والعظات البليغة ، والتوجيهات الحكيمة . . . ما به قوام الملة الكاملة ، والأمة الفاضلة ، والجماعة الراشدة ، والفرد السليم في عقيدته وسلوكه وفي كل شئونه .
فكان هذا الكتاب أفضل الكتب السماوية ، وأوفاها بحاجة البشرية ، وأجمعها للخير ، وأبقاها على الدهر ، وأعمها وأتمها وأصحها في هدايته الناس إلى ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم .
قال –تعالى- [ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ]( {[2]} ) .
وقال تعالى : [ لَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ ، وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ، وَيَهْدِيهم إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ]( {[3]} ) .
وقال –تعالى- [ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ ، فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَأَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ]( {[4]} ) .
كذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا القرآن ، أن يكون هذا القرآن معجزة ناطقة في فم الدنيا بصدقه فيما يبلغه عن ربه .
ولقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس فدعاهم إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق ، وقال لهم : معجزتي الدالة على صدقي هذا القرآن ، فإن كنتم في شك من ذلك فأتوا بمثله فعجزوا ، فأرخى لهم العنان وتحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله فما استطاعوا ، فزاد في إرخاء العنان لهم –وهم أرباب البلاغة والبيان- وتحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله ، فأخرسوا وانقلبوا صاغرين . فثبت أن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً .
قال الله تعالى- : [ وَإِنْ كُنْتُم فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه ، وادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين ]( {[5]} ) .
كذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله هذا القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتقرب الناس به إلى خالقهم عن طريق تلاوته ، وحفظه ، وتدبره ، والعمل بتشريعاته وآدابه وتوجيهاته . . .
ولقد تكلم الإمام القرطبي بإسهاب في مقدمة تفسيره عن فضائل القرآن ، والترغيب فيه ، وفضل طالبه ، وقارئه ، ومستمعه ، والعامل به ، وكيفية تلاوته . . . فقال ما ملخصه :
اعلم أن هذا الباب واسع كبير . ألف فيه العلماء كتباً كثيرة ، نذكر من ذلك نكتا تدل على فضله ، وما أعد الله لأهله إذا أخلصوا الطلب لوجهه ، وعملوا به . فأول ذلك أن يستشعر المؤمن من فضل القرآن أنه كلام رب العالمين . كلام من ليس كمثله شيء . . .
ومن الآثار التي جاءت في هذا الباب ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : " من شغله القرآن وذكري عن مسألتي ، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين . . . " .
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هذا القرآن مأدبة الله ، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم . . . " .
وروى البخاري عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ، وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة( {[6]} ) ريحها طيب وطعمها طيب . ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو . ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر . ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر " .
وروى مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه –أي يقرؤه بصعوبة- وهو عليه شاق له أجران " .
وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله بكل حرف حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها . لا أقول الَم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف " ( {[7]} ) .
هذا جانب من الأحاديث الشريفة التي أوردها القرطبي ، وهو يتحدث عن فضائل القرآن ، والترغيب فيه . . . الخ .
ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم : أمته تحذيراً شديداً من نسيان القرآن ، فقد روى الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تعاهدوا القرآن ؛ فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً –أي : تفلتا- من الإبل في عُقُلِها " .
وروى الترمذي وأبو داود عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجها ثم نسيها " .
هذه أهم المقاصد والحكم التي من أجلها أنزل الله –تعالى- القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم : أن يكون هداية للناس ، وأن يكون معجزة خالدة باقية شاهدة بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم : فيما يبلغه عن ربه ، وأن يتقرب الناس بقراءته والعمل به إلى خالقهم –عز وجل- ولقد تكفل الله –تعالى- بحفظ هذا القرآن ، وصانه من التحريف والتبديل ، والتغيير والمعارضة . قال –تعالى- : [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون ]( {[8]} ) .
وكان من مظاهر عنايته –سبحانه- بكتابه ، أن جعله محفوظاً في كل العصور بالتواتر الصادق القاطع ، يرويه الخلف عن السلف بالكيفية المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن وفق له في كل عصر حفاظاً متقنين جمعوه في صدورهم ، وعمروا به ليلهم ونهارهم . . .
وأن قيض لهم رجالا قضوا معظم أيام حياتهم في خدمته ودراسة علومه ، فمنهم من كتب في إعجازه وبلاغته ، ومنهم من كتب في قصصه وأخباره ، ومنهم من كتب في أسباب نزوله ، ومنهم من كتب في قراءاته ورسمه ، ومنهم من كتب في محكمه ومتشابهه ، ومنهم من كتب في ناسخه ومنسوخه ، ومنهم من كتب في مكيه ومدنيه ، ومنهم من كتب في غريب ألفاظه . . . . . إلى غير ذلك من ألوان علومه .
وكثير منهم كتبوا في تفسيره . وتوضيح معانيه ومقاصده وألفاظه ، وذلك لأن سعادة الأفراد والأمم لا تتأتى إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن وتوجيهاته ، وهذا الاسترشاد لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان ، لما تدل عليه ألفاظ القرآن . وهو ما يسمى بعلم التفسير .
فتفسير القرآن هو المفتاح الذي يكشف عن تلك الهدايات السامية ، والتوجيهات النافعة ، والعظات الشافية والكنوز الثمينة التي احتواها هذا الكتاب الكريم .
وبدون تفسير القرآن ، تفسيراً علمياً سليماً لا يمكن الوصول إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من هدايات وتوجيهات ، مهما قرأه القارئون وردد ألفاظه المرددون .
قال إياس بن معاوية : مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره ، كمثل قوم جاءهم كتاب من مليكهم ليلا ، وليس عندهم مصباح ، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب . ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرأوا ما في الكتاب " ( {[9]} ) .
ولقد أفاض الإمام ابن كثير في بيان هذا المعنى " وفي بيان أحسن طرق التفسير فقال : " فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله ، وتفسير ذلك ، وطلبه من مظانه ، وتعلم ذلك وتعليمه . . . .
فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير ؟ فالجواب : إن أصح الطريق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر ، فإن أعياك ذلك عليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له . . . . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " . يعني السنة . . . .
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه ، فإن لم تجده فمن السنة . . . . فإن لم تجده فمن أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالخلفاء الراشدين ، والأئمة المهتدين المهديين . . . قال عبد الله بن مسعود : والذي لا إله غيره ، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت . ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته " . وقال : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن " .
وقال أبو عبد الرحمن السلمي : " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً " . . . .
فإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة ، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر ، وسعيد ابن جبير . وعكرمة مولى ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن البصري وغيرهم " ( {[10]} ) .
هذا ، وأنت إذا سرحت طرفك في المكتبة الإسلامية ترى العشرات من كتب التفسير ، منها القديم والحديث ، وترى منها الكبير والوسيط والوجيز ، وترى منها ما يغلب عليه طابع التفسير بالمأثور ، وترى ما يغلب عليه طابع التفسير بالرأي ، وترى منها ما تغلب عليه الصبغة الفقهية ، أو البلاغية ، أو الفلسفية ، أو الصوفية ، أو العلمية ، أو الاجتماعية ، أوالطائفية . . . . أو غير ذلك من الاتجاهات والميول التي تختلف باختلاف أفكار الكاتبين وثقافتهم ومذهبهم . . .
وترى منها المحرر أو شبه المحرر من الخرافات ، والأقوال السقيمة ، والقصص الباطلة . . . كما ترى منها ما هو محشو بذلك .
ولقد انتفعت كثيراً بما كتبه الكاتبون عن كتاب الله –تعالى- ، وهاأنذا –أخي القارئ- أقدم لك تفسيراً وسيطا لسورتي الفاتحة والبقرة ، وقد بذلت فيه أقصى جهدي ليكون تفسيراً علمياً محققاً ، محرراً من الأقوال الضعيفة ، والشبه الباطلة ، والمعاني السقيمة . .
وستلاحظ خلال قراءتك له أنني كثيراً ما أبدأ بشرح الألفاظ القرآنية شرحا لغوياً مناسبا ثم أبين المراد منها –إذا كان الأمر يقتضي ذلك- .
ثم أذكر سبب النزول للآية أو الآيات –إذا وجد وكان مقبولا- .
ثم أذكر المعنى الإجمالي للآية أو الجملة ، عارضا( {[11]} ) ما اشتملت عليه من وجوه البلاغة والبيان ، والعظات والآداب والأحكام . . . ، مدعما ذلك بما يؤيد المعنى من آيات أخرى ، ومن الأحاديث النبوية ، ومن أقوال السلف الصالح .
وقد تجنبت التوسع في وجوه الإعراب ، واكتفيت بالرأي أو الآراء الراجحة إذا تعددت الأقوال . . .
وذلك لأنني توخيت فيما كتبت إبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة ، وأحكام سامية ، وتشريعات جليلة ، وآداب فاضلة ، وعظات بليغة ، وأخبار صادقة ، وتوجيهات نافعة ، وأساليب بليغة ، وألفاظ فصيحة . . .
والله أسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا ، وبهجة أفئدتنا ، وأن يعيننا ويوفقنا لإتمام ما بدأناه من خدمة كتابه ، وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهه ، ونافعة لعباده .
{ بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ }
الاسم : اللفظ الذي يدل على ذات أو معنى . وقد اختلف النحويون فى اشتقاقه على وجهين ، فقال البصريون : هو مشتق من السمو ، ، فقيل : اسم ، لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به .
وقال الكوفيون : إنه مشتق من السمة وهى العلامة ، لأن الاسم علامة لمن وضع له ، فأصل اسم على هذا " وسم " .
ويرى المحققون أن رأى البصريين أرجح ، لأنه يقال فى تصغير " اسم " سُمىَ ، وفى جمعه أسماء ، والتصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها . ولو كان أصله وسم - كما قال الكوفيون - لقيل في جمعه : أوسام ، وفى تصغيره وسيم .
ولفظ الجلالة وهو " الله " علم على ذات الخالق - عز وجل - تفرد به - سبحانه - ولا يطلق على غيره ، ولا يشاركه فيه أحد . قال القرطبى : قوله " الله " هذا الاسم أكبر أسمائه - سبحانه - وأجمعها حتى قال بعض العلماء : إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره ، ولذلك لم يثن ولم يجمع : فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإِلهية ، المنعوت بنعوت الربوبية ، المنفرد بالوجود الحقيقي ، لا إله إلا هو - سبحانه -
و { الرحمن الرحيم } صفتان مشتقتان من الرحمة . والرحمة فى أصل اللغة : رقة في القلب تقتضى الإِحسان ، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفًا لله - تعالى- ، ولذا فسرها بعض العلماء بإرادة الإِحسان . وفسرها آخرون بالإِحسان نفسه .
والموافق لمذهب السلف أن يقال : هي صفة قائمة بذاته - تعالى - لا نعرف حقيقتها ، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإِحسان .
وقد كثرت أقوال المفسرين في العلاقة بين هاتين الصفتين ، فبعضهم يرى أن { الرحمن } هو المنعم على جميع الخلق . وأن { الرحيم } هو المنعم على المؤمنين خاصة . ويرى آخرون أن { الرحمن } هو المنعم بجلائل النعم ، وأن { الرحيم } هو المنعم بدقائقها .
ويرى فريق ثالث أن الوصفين بمعنى واحد وأن الثاني منهما تأكيد للأول . والذي يراه المحققون من العلماء أن الصفتين ليستا بمعنى واحد ، بل روعي في كل منهما معنى لم يراع في الآخر ، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة ، لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته ، ويلزم منه الدوام كغضبان وسكران . والرحيم بمعنى دائم الرحمة ، لأن صيغته فعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف . فكأنه قيل : العظيم الرحمة الدائمة .
أو أن { الرحمن } صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإِحسان . و { الرحيم } صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإِحسان وتعديهما إلى المنعم عليه . ولعل مما يؤيد ذلك أن لفظ الرحمن لم يذكر في القرآن إلا مجرى عليه الصفات كما هو الشأنِ في أسماء الذات . قال - تعالى- : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } و { الرحمن عَلَى العرش استوى } { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } وهكذا . . .
أما لفظ الرحيم فقد كثر في القرآن استعماله وصفًا فعليًا ، وجاء فى الغالب بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه . قال - تعالى - { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } الخ .
قال بعض العلماء " وهذا الرأي في نظرنا هو أقوى الآراء ، فإن تخصيص أحد الوصفين بدقائق النعم أو ببعض المنعم عليهم لا دليل عليه ، كما أنه ليس مستساغاً أن يقال فى القرآن : إن كلمة ذكرت بعد أخرى لمجرد تأكيد المعنى المستفاد منها " .
والجار والمجرور " بسم " متعلق بمحذوف تقديره أبتدئ . والمعنى : أبتدئ قراءتي متبركًا ومتيمنًا باسم الله الذي هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، والذي رحمته وسعت كل شئ ، وأتبرأ مما كان يفعله المشركون والضالون ، من ابتدائهم قراءتهم وأفعالهم باسم اللات أو باسم العزى أو باسم غيرهما من الآلهة الباطلة .
هذا وقد أجمع العلماء على أن البسملة جزء آية من سورة النمل في قوله - تعالى - { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } ثم اختلفوا بعد ذلك فى كونها آية مستقلة أنزلت للفصل بين السور مرة واحدة ، أو هي آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة الخ .
فبعضهم يرى أن البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة ، ومن حججهم أن السلف قد أثبتوها فى المصحف مع الأمر بتجريد القرآن مما ليس منه ، ولذا لم يكتبوا " آمين " . فثبت بهذا أن البسملة جزء من الفاتحة ومن كل سورة . وبهذا الرأي قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن جبير والشافعي ، وأحمد في أحد قوليه . ويرى آخرون أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وقالوا : إنها آية فذة . من القرآن أنزلت للفصل والتبرك للابتداء بها ، ومن حججهم أنها لو كانت آية من الفاتحة ومن كل سورة ، لما اختلف الناس في ذلك ، ولما اضطربت أقوالهم في كونها آية من كل سورة أو من الفاتحة فقط . وكما وقع الخلاف بين العلماء في كونها آية مستقلة أو آية من كل سورة ، فقد وقع الخلاف بينهم - أيضًا - في وجوب قراءتها في الصلاة ، وفى الجهر بها أو الإِسرار إذا قرئت . وتحقيق القول في ذلك مرجعه إلى كتب الفقه ، وإلى كتب التفسير التي عنيت بتفسير آيات الأحكام .
سورة الفاتحة مكِيّة وآياتها سَبْع
-القول في تأويل أسماء فاتحة الكتاب-
قال أبو جعفر : صَحَّ الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما : -
حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : هي أمّ القرآن ، وهي فاتحة الكتاب ، وهي السبع المثاني .
وسمّيت " فاتحة الكتاب " ، لأنها يُفتتح بكتابتها المصاحف ، ويُقرأ بها في الصلوات ، فهي فَواتح لما يتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراءة .
وسمّيت " أم القرآن " لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها ، وتأخُّر ما سواها خلفها في القراءة والكتابة . وذلك من معناها شبيهٌ بمعنى فاتحة الكتاب . وإنما قيل لها -بكونها كذلك- أمَّ القرآن ، لتسمية العرب كل جامع أمرًا -أو مقدِّمٍ لأمر إذا كانت له توابعُ تتبعه ، هو لها إمام جامع- " أمًّا " . فتقول للجلدة التي تجمع الدّماغ : " أم الرأس " . وتسمى لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها للجيش - " أمًّا " . ومن ذلك قول ذي الرُّمة ، يصف رايةً معقودة على قناة يجتمع تحتها هو وصحبُه :
وَأَسَمْرَ ، قَوَّامٍ إذَا نَام صُحْبَتِي ، *** خَفِيفِ الثِّيابِ لا تُوَارِي لَهُ أَزْرَا
عَلَى رَأْسِه أمٌّ لنا نَقْتَدِي بِهَا ، *** جِماعُ أمورٍ لا نُعاصِي لَهَا أمْرَا
إذَا نزلتْ قِيلَ : انزلُوا ، وإذا غدَتْ *** غَدَتْ ذاتَ بِرْزيقٍ نَنَال بِهَا فَخْرَا
يعني بقوله : " على رأسه أمٌّ لنا " ، أي على رأس الرمح رايةٌ يجتمعون لها في النزول والرحيل وعند لقاء العدوّ .
وقد قيل إن مكة سميت " أمّ القُرى " ، لتقدُّمها أمامَ جميعِها ، وجَمْعِها ما سواها . وقيل : إنما سُميت بذلك ، لأن الأرض دُحِيَتْ منها فصارت لجميعها أمًّا . ومن ذلك قولُ حُميد بن ثَوْر الهلاليّ :
إذا كانتِ الخمسُونَ أُمَّكَ ، لَم يكنْ *** لِدَائك ، إلا أَنْ تَمُوت ، طَبِيبُ
لأن الخمسين جامعةٌ ما دونها من العدد ، فسماها أمًّا للذي قد بلغها .
وأما تأويل اسمها أنها " السَّبْعُ " ، فإنها سبعُ آيات ، لا خلاف بين الجميع من القرَّاء والعلماء في ذلك .
وإنما اختلفوا في الآي التي صارت بها سبع آيات :
فقال عُظْمُ أهل الكوفة : صارت سبع آيات ب { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ورُوي ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين .
وقال آخرون : هي سبع آيات ، وليس منهن { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ولكن السابعة " أنعمت عليهم " . وذلك قول عُظْم قَرَأةِ أهل المدينة ومُتْقنيهم .
قال أبو جعفر : وقد بيَّنا الصواب من القول عندنا في ذلك في كتابنا : ( اللطيف في أحكام شرائع الإسلام ) بوجيز من القول ، ونستقصي بيان ذلك بحكاية أقوال المختلفين فيه من الصحابة والتابعين والمتقدمين والمتأخرين في كتابنا : ( الأكبر في أحكام شرائع الإسلام ) إن شاء الله ذلك .
وأما وصف النبي صلى الله عليه وسلم آياتها السبعَ بأنهن مَثان ، فلأنها تُثْنَى قراءتها في كل صلاة وتطوُّع ومكتوبة . وكذلك كان الحسن البصري يتأوّل ذلك .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُليَة ، عن أبي رَجاء ، قال سألت الحسن عن قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ }[ سورة الحجر : 87 ] قال : هي فاتحة الكتاب . ثم سئل عنها وأنا أسمع فقرأها : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } حتى أتى على آخرها ، فقال : تثنى في كل قراءة - أو قال - في كل صلاة . الشك من أبي جعفر الطبري .
والمعنى الذي قلنا في ذلك قصد أبو النجم العجلي بقوله :
الحمدُ لله الذي عَافَانِي *** وكلَّ خَيْر بعدَهُ أَعْطانِي
*** مِنَ القُرَآن ومِنَ المَثَاني***
نَشَدْتُكم بِمُنزل الفُرقانِ *** أمِّ الكِتَاب السَّبع من مَثَانِي
ثُنِّينَ مِنْ آيٍ من القُرْآنِ *** والسَّبعِ سبعِ الطُّوَل الدَّوانِي
وليس في وجوب اسم " السبع المثاني " لفاتحة الكتاب ، ما يدفع صحة وجوب اسم " المثاني " للقرآن كله ، ولما ثَنَّى المئين من السور . لأن لكلٍّ وجهًا ومعنًى مفهومًا ، لا يَفْسُد - بتسميته بعضَ ذلك بالمثاني - تسميةُ غيره بها .
فأما وجه تسمية ما ثَنَّى المئينَ من سور القرآن بالمثاني ، فقد بينا صحته ، وسندُلّ على صحة وجه تسمية جميع القرآن به عند انتهائنا إليه في سورة الزُّمَر ، إن شاء الله .
قال أبو جعفر : والاستعاذة : الاستجارة . وتأويل قول القائل : { أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أستجيرُ بالله - دون غيره من سائر خلقه - من الشيطان أن يضرَّني في ديني ، أو يصدَّني عن حق يلزَمُني لرَبي .
تأويل قوله : { مِنَ الشَّيْطَانِ }
قال أبو جعفر : والشيطان ، في كلام العرب : كل متمرِّد من الجن والإنس والدوابِّ وكل شيء . وكذلك قال ربّنا جل ثناؤه : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ } [ سورة الأنعام : 112 ] ، فجعل من الإنس شياطينَ ، مثلَ الذي جعل من الجنّ .
وقال عمر بن الخطاب رحمة الله عليه ، وركب بِرذَوْنًا فجعل يتبختر به ، فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترًا ، فنزل عنه ، وقال : ما حملتموني إلا على شيطانٍ ! ما نزلت عنهُ حتى أنكرت نَفسي .
حدثنا بذلك يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر .
قال أبو جعفر : وإنما سُمي المتمرِّد من كل شيء شيطانًا ، لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاقَ سائر جنسه وأفعاله ، وبُعدِه من الخير . وقد قيل : إنه أخذ من قول القائل : شَطَنَتْ دَاري من دارك - يريد بذلك : بَعُدت . ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان :
نأتْ بِسُعَادَ عَنْك نَوًى شَطُونُ *** فبانَت ، والفؤادُ بها رَهِينُ
والنوى : الوجه الذي نَوَتْه وقصَدتْه . والشَّطونُ : البعيد . فكأن الشيطان - على هذا التأويل - فَيعَال من شَطَن . ومما يدلّ على أن ذلك كذلك ، قولُ أميّة ابن أبي الصّلت :
أَيُّمَا شاطِن عَصَاه عَكاهُ *** ثُم يُلْقَى في السِّجْن والأكْبَالِ
ولو كان فَعلان ، من شاطَ يشيط ، لقال أيُّما شائط ، ولكنه قال : أيما شاطنٍ ، لأنه من " شَطَن يَشْطُنُ ، فهو شاطن " .
وأما الرجيم فهو : فَعيل بمعنى مفعول ، كقول القائل : كفٌّ خضيبٌ ، ولحيةٌ دهين ، ورجل لَعينٌ ، يريد بذلك : مخضوبة ومدهونة وملعون . وتأويل الرجيم : الملعون المشتوم . وكل مشتوم بقولٍ رديء أو سبٍّ فهو مَرْجُوم . وأصل الرجم الرَّميُ ، بقول كان أو بفعل . ومن الرجم بالقول قول أبي إبراهيم لإبراهيم صلوات الله عليه : { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ } [ سورة مريم : 46 ] .
وقد يجوز أن يكون قِيل للشيطان رجيمٌ ، لأن الله جل ثناؤه طرَده من سَمواته ، ورجمه بالشُّهب الثَّواقِب .
وقد رُوي عن ابن عباس ، أن أول ما نزل جبريلُ على النبي صلى الله عليه وسلم عَلَّمه الاستعاذة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سَعيد ، قال : حدثنا بشر بن عُمَارة ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحّاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : أول ما نزل جبريلُ على محمد قال : " يا محمد استعذ ، قل : أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم " ، ثم قال : قل : " بسم الله الرحمن الرحيم " ، ثم قال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] . قال عبد الله : وهي أول سورة أنزلها الله على محمد بلسان جبريل .
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
قال أبو جعفر : إن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه ، أدّب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله ، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته ، وجعل ما أدبه به من ذلك وعلمه إياه منه لجميع خلقه سنةً يستنون بها ، وسبيلاً يتبعونه عليها ، في افتتاح أوائل منطقهم وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل «بسم الله » ، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف .
وذلك أن الباء من «بسم الله » مقتضيةٌ فعلاً يكون لها جالبا ، ولا فعل معها ظاهر ، فأغنت سامع القائل «بسم الله » معرفته بمراد قائله من إظهار قائل ذلك مراده قولاً ، إذ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرا قد أحضر منطقه به ، إما معه وإما قبله بلا فصل ، ما قد أغنى سامعه من دلالة شاهدة على الذي من أجله افتتح قيله به . فصار استغناءُ سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه ، نظير استغنائه إذا سمع قائلاً قيل له : ما أكلت اليوم ؟ فقال : طعاما ، عن أن يكرّر المسئول مع قوله «طعاما » أكلت لما قد ظهر لديه من الدلالة على أن ذلك معناه بتقدم مسألة السائل إياه عما أكل . فمعقول إذا أن قول القائل إذا قال : «بِسم الله الرحمن الرحيم » ثم افتتح تاليا سورة ، أن إتباعه «بسم الله الرحمن الرحيم » تلاوةَ السورة ، ينبىء عن معنى قوله : «بسم الله الرحمن الرحيم » ومفهوم به أنه مريد بذلك أقرأُ بسم الله الرحمن الرحيم .
وكذلك قوله : «بسم الله » عند نهوضه للقيام أو عند قعوده وسائر أفعاله ، ينبىء عن معنى مراده بقوله «بسم الله » ، وأنه أراد بقيله «بسم الله » : أقوم بسم الله ، وأقعد بسم الله وكذلك سائر الأفعال .
وهذا الذي قلنا في تأويل ذلك ، هو معنى قول ابن عباس ، الذي :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : إن أول ما نزل به جبريل على محمد ، قال : يا محمد ، قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال : قل بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قال : قال له جبريل : قل بسم الله يا محمد . يقول : اقرأ بذكر الله ربك ، وقم واقعد بذكر الله .
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فإن كان تأويل قوله «بسم الله » ما وصفت ، والجالب «الباء » في «بسم الله » ما ذكرت ، فكيف قيل «بسم الله » ، بمعنى «اقرأ بسم الله » ، أو «أقوم أو أقعد بسم الله » ؟ وقد علمت أن كل قارىء كتاب الله ، فبعون الله وتوفيقه قراءتُه ، وأن كل قائم أو قاعد أو فاعل فعلاً ، فبالله قيامُه وقعوده وفعله ؟ وهلاّ إذا كان ذلك كذلك ، قيل : «بسم الله الرحمن الرحيم » ، ولم يقل «بسم الله » فإن قول القائل : أقوم وأقعد بالله الرحمن الرحيم ، أو أقرأ بالله ، أوضح معنى لسامعه من قوله «بسم الله » ، إذ كان قوله أقوم وأقعد بسم الله ، يوهم سامعه أن قيامه وقعوده بمعنى غير الله .
قيل له : إن المقصود إليه من معنى ذلك ، غير ما توهمته في نفسك . وإنما معنى قوله «بسم الله » : أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء ، أو أقرأ بتسمية الله ، أو أقوم وأقعد بتسمية الله وذكره لا أنه يعني بقيله «بسم الله » : أقوم بالله ، أو أقرأ بالله فيكون قول القائل : «أقرأ بالله » ، و«أقوم وأقعد بالله » ، أولى بوجه الصواب في ذلك من قوله «بسم الله » .
فإن قال : فإن كان الأمر في ذلك على ما وصفتَ ، فكيف قيل «بسم الله » وقد علمت أن الاسم اسم ، وأن التسمية مصدر من قولك سَمّيت ؟ .
قيل : إن العرب قد تخرج المصادر مبهمةً على أسماء مختلفة ، كقولهم : أكرمت فلانا كرامةً ، وإنما بناء مصدر «أفعلتُ » إذا أُخرج على فعله : «الإفعالُ » ، وكقولهم : أهنت فلانا هوانا ، وكلمته كلاما . وبناء مصدر «فعّلت » التفعيل ، ومن ذلك قول الشاعر :
أكُفْرا بَعْدَ رَدّ المَوْتِ عَنّي *** وبَعْدَ عَطائِكَ المِائَةَ الرّتاعا
يريد : إعطائك . ومنه قول الاَخر :
وَإنْ كانَ هَذا البُخْلُ مِنْكَ سَجِيّةً *** لَقَدْ كُنْتُ في طَوْلي رَجاءَكَ أشْعَبا
يريد : في إطالتي رجاءك . ومنه قول الاَخر :
أظَلُومُ إنّ مُصَابكُمْ رَجُلا *** أهْدَى السّلامَ تَحِيّةً ظُلْمُ
يريد إصابتكم ، والشواهد في هذا المعنى تكثر ، وفيما ذكرنا كفاية ، لمن وفق لفهمه . فإذا كان الأمر على ما وصفنا من إخراج العرب مصادر الأفعال على غير بناء أفعالها كثيرا ، وكان تصديرها إياها على مخارج الأسماء موجودا فاشيا ، تبين بذلك صواب ما قلنا من التأويل في قول القائل : «بسم الله » ، أن معناه في ذلك عند ابتدائه في فعل أو قول : أبدأ بتسمية الله ، قبل فعلي ، أو قبل قولي .
وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن : «بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ » إنما معناه : أقرأ مبتدئا بتسمية الله ، أو أبتدىء قراءتي بتسمية الله فجعل الاسم مكان التسمية ، كما جعل الكلام مكان التكليم ، والعطاء مكان الإعطاء .
وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك ، رُوي الخبر عن عبد الله بن عباس .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : يا محمد ، قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال : قل بسم الله الرحمن الرحيم .
قال ابن عباس : «بسم الله » ، يقول له جبريل : يا محمد اقرأ بذكر الله ربك ، وقم واقعد بذكر الله .
وهذا التأويل من ابن عباس ينبىء عن صحة ما قلنا من أنه يراد بقول القائل مفتتحا قراءته : «بسم الله الرحمن الرحيم » : أقرأ بتسمية الله وذكره ، وافتتح القراءة بتسمية الله ، بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى وفسادِ قول من زعم أن معنى ذلك من قائله : بالله الرحمن الرحيم في كل شيء ، مع أن العباد إنما أمروا أن يبتدئوا عند فواتح أمورهم بتسمية الله لا بالخبر عن عظمته وصفاته ، كالذي أمروا به من التسمية على الذبائح والصيد ، وعند المطعم والمشرب ، وسائر أفعالهم ، وكذلك الذي أمروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنزيل الله وصدور رسائلهم وكتبهم .
ولا خلاف بين الجميع من علماء الأمة ، أن قائلاً لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام : «بالله » ، ولم يقل «بسم الله » ، أنه مخالف بتركه قيل «بسم الله » ما سُنّ له عند التذكية من القول . وقد علم بذلك أنه لم يرد بقوله «بسم الله » ، «بالله » كما قال الزاعم أن اسم الله في قول الله : «بسم الله الرحمن الرحيم » ، هو الله لأن ذلك لو كان كما زعم ، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبيحته «بالله » قائلاً ما سُنّ له منّ القول على الذبيحة . وفي إجماع الجميع على أن قائل ذلك تارك ما سُنّ له من القول على ذبيحته ، إذْ لم يقل «بسم الله » ، دليل واضح على فساد ما ادعى من التأويل في قول القائل «بسم الله » وأنه مراد به بالله ، وأن اسم الله هو الله .
وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في الإبانة عن الاسم ، أهو المسمى أم غيره أم هو صفة له ؟ فنطيل الكتاب به ، وإنما هو موضع من مواضع الإبانة عن الاسم المضاف إلى الله ، أهو اسم أم مصدر بمعنى التسمية ؟ فإن قال قائل : فما أنت قائل في بيت لبيد بن ربيعة :
إلى الحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السّلامِ عَلَيْكُمَا *** وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كامِلاً فقَدِ اعْتَذَرْ
فقد تأوّله مقدم في العلم بلغة العرب ، أنه معنيّ به : ثم السلام عليكما ، وأن اسم السلام هو السلام .
قيل له : لو جاز ذلك وصحّ تأويله فيه على ما تأوّل ، لجاز أن يقال : رأيت اسم زيد ، وأكلت اسم الطعام ، وشربت اسم الشراب . وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك ما ينبىء عن فساد تأويل من تأوّل قول لبيد : «ثم اسم السلام عليكما » ، أنه أراد : ثم السلام عليكما ، وادعائه أن ادخال الاسم في ذلك وإضافته إلى السلام إنما جاز ، إذْ كان اسم المسمى هو المسمى بعينه .
ويُسأل القائلون قول من حكينا قوله هذا ، فيقال لهم : أتستجيزون في العربية أن يقال أكلت اسم العسل ، يعني بذلك أكلت العسل ، كما جاز عندكم اسم السلام عليك ، وأنتم تريدون السلام عليك ؟ فإن قالوا : نعم خرجوا من لسان العرب ، وأجازوا في لغتها ما تخطئه جميع العرب في لغتها . وإن قالوا لا سئلوا الفرق بينهما ، فلن يقولوا في أحدهما قولاً إلاّ ألزموا في الاَخر مثله .
فإن قال لنا قائل : فما معنى قول لبيد هذا عندك ؟ قيل له : يحتمل ذلك وجهين ، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله . أحدهما : أن «السلام » اسم من أسماء الله فجائز أن يكون لبيد عنى بقوله : «ثم اسم السلام عليكما » : ثم الْزَمَا اسم الله وذكره بعد ذلك ، ودعا ذكري والبكاء عليّ على وجه الإغراء . فرفع الاسم ، إذْ أخّر الحرف الذي يأتي بمعنى الإغراء . وقد تفعل العرب ذلك إذا أخرت الإغراء وقدمت المُغْرَى به ، وإن كانت قد تنصب به وهو مؤخر . ومن ذلك قول الشاعر :
يا أيّها المَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا *** إني رأيْتُ النّاس يَحْمَدُونَكا
فأغرى ب«دونك » ، وهي مؤخرة وإنما معناه : دونك دلوي . فذلك قول لبيد :
إلى الحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السّلامِ عَلَيْكُمَا
يعني : عليكما اسم السلام ، أي : الزما ما ذكر الله ، ودعا ذكري والوجد بي لأن من بكى حولاً على امرىء ميت فقد اعتذر . فهذا أحد وجهيه .
والوجه الاَخر منهما : ثم تسميتي الله عليكما ، كما يقول القائل للشيء يراه فيعجبه : «اسم الله عليك » يعوّذه بذلك من السوء ، فكأنه قال : ثم اسم الله عليكما من السوء . وكأن الوجه الأول أشبه المعنيين بقول لبيد .
ويقال لمن وجّه بيت لبيد هذا إلى أن معناه : «ثم السلام عليكما » : أترى ما قلنا من هذين الوجهين جائزا ، أو أحدهما ، أو غير ما قلت فيه ؟ فإن قال : لا أبان مقداره من العلم بتصاريف وجوه كلام العرب ، وأغنى خصمه عن مناظرته . وإن قال : بلى قيل له : فما برهانك على صحة ما ادّعيت من التأويل أنه الصواب دون الذي ذكرت أنه محتمله من الوجه الذي يلزمنا تسليمه لك ؟ ولا سبيل إلى ذلك . وأما الخبر الذي :
حدثنا به إسماعيل بن الفضل ، قال : حدثنا إبراهيم بن العلاء بن الضحاك ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة ، عمن حدثه عن ابن مسعود ، ومسعر بن كدام ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أسْلَمَتْهُ أُمّهُ إلى الكُتّابِ لِيُعَلّمَهُ ، فَقالَ لَهُ المُعَلّمُ : اكْتُبْ بِسْمِ فَقَالَ له عِيسَى : وَما بِسْمِ ؟ فَقالَ لَهُ المُعَلّمُ : ما أدْرِي فَقالَ عِيسىَ : الباءُ : بَهاءُ اللّهِ ، وَالسّينُ : سَناؤُهُ ، وَالمِيمُ : مَمْلَكَتُهُ » .
فأخشى أن يكون غلطا من المحدث ، وأن يكون أراد : «ب س م » ، على سبيل ما يعلم المبتدى من الصبيان في الكتاب حروفَ أبي جاد . فغلط بذلك ، فوصله فقال : «بسم » لأنه لا معنى لهذا التأويل إذا تُلي «بسم الله الرحمن الرحيم » على ما يتلوه القارىء في كتاب الله ، لاستحالة معناه على المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها ، إذا حمل تأويله على ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { الله } .
قال أبو جعفر : وأما تأويل قول الله : «الله » ، فإنه على معنى ما رُوي لنا عن عبد الله بن عباس : هو الذي يَأْلَهه كل شيء ، ويعبده كل خلق . وذلك أن أبا كريب :
حدثنا قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : الله ذو الألوهية والمعبودية على خلقه أجمعين .
فإن قال لنا قائل : فهل لذلك في «فَعَلَ ويَفْعَل » أصل كان منه بناء هذا الاسم ؟ قيل : أما سماعا من العرب فلا ، ولكن استدلالاً .
فإن قال : وما دلّ على أن الألوهية هي العبادة ، وأن الإله هو المعبود ، وأن له أصلاً في فعل ويفعل ؟ قيل : لا تمانُعَ بين العرب في الحكم لقول القائل يصف رجلاً بعبادة وبطلب مما عند الله جل ذكره : تألّه فلان بالصحة ولا خلاف . ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج :
لِلّهِ دَرّ الغانِياتِ المُدّةِ *** سَبّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألّهِي
يعني من تعبدي وطلبي الله بعمل . ولا شك أن التأله «التفعّل » من : أَلَهَ يَأْلَهُ ، وأن معنى «أَلَه » إذا نُطق به : عَبَد الله . وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه ب«فَعَل يفعل » بغير زيادة . وذلك ما :
حدثنا به سفيان بن وكيع ، قال حدثنا أبي ، عن نافع بن عمر ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، أنه قرأ : «وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ » قال : عبادتك ، ويُقال : إنه كان يُعْبَد ولا يَعْبَد .
وحدثنا سفيان ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن عمرو بن الحسن ، عن ابن عباس : «وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ » قال : إنما كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبد . وكذلك كان عبد الله يقرؤها ومجاهد .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : أخبرني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : ( «وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ » ) قال : وعبادتك . ولا شك أن الإلاهة على ما فسره ابن عباس ومجاهد ، مصدرٌ من قول القائل أَلَهَ اللّهَ فلانٌ إلاهةً ، كما يقال : عبد الله فلانٌ عبادة ، وعَبَر الرؤيا عبارةً . فقد بيّن قول ابن عباس ومجاهد هذا أن أله : عبد ، وأن الإلاهة مصدره .
فإن قال : فإن كان جائزا أن يقال لمن عبد الله : ألهه ، على تأويل قول ابن عباس ومجاهد ، فكيف الواجب في ذلك أن يقال ، إذا أراد المخبر الخبر عن استيجاب الله ذلك على عبده ؟ قيل : أما الرواية فلا رواية عندنا ، ولكن الواجب على قياس ما جاء به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي :
حدثنا به إسماعيل بن الفضل ، قال : حدثنا إبراهيم بن العلاء ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مليكة ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود ، ومسعر بن كدام ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ عِيسَى أسْلَمَتْهُ أُمّهُ إلى الكُتّابِ لِيُعَلّمَهُ ، فَقالَ لَهُ المُعَلّمُ : اكْتُبْ اللّهُ ، فَقالَ لَهُ عِيسَى : أَتَدْرِي ما اللّهُ ؟ اللّهُ إلَهُ الاَلِهَةِ » .
أن يقال : الله جل جلاله أَلَهَ العَبْدَ ، والعبدُ ألهه . وأن يكون قول القائل «الله » من كلام العرب أصله «الإله » .
فإن قال : وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك مع اختلاف لفظيهما ؟ قال : كما جاز أن يكون قوله : لَكِنّ هُوَ اللّهُ رَبّي أصله : «لكن أنا هو الله ربي » كما قال الشاعر :
وَتَرْمِيننِي بالطّرْفِ أيْ أنْتَ مُذْنِب *** وتَقْلِينَنِي لَكِنّ إيّاكِ لا أَقْلِي
يريد : «لكنْ أنا إياك لا أقلي » فحذف الهمزة من «أنا » ، فالتقت نون «أنا » ونون «لكن » وهي ساكنة ، فأدغمت في نون أنا ، فصارتا نونا مشددة ، فكذلك الله ، أصله الإله ، أسقطت الهمزة ، التي هي فاء الاسم ، فالتقت اللام التي هي عين الاسم ، واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة ، وهي ساكنة ، فأدغمت في الأخرى التي هي عين الاسم ، فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة ، كما وصفنا من قول الله : لَكِنّ هُوَ اللّهُ رَبّي .
القول في تأويل قوله تعالى : الرّحْمنِ الرّحِيمِ .
قال أبو جعفر : أما الرحمن ، فهو «فعلان » ، من رحم ، والرحيم فعيل منه . والعرب كثيرا ما تبني الأسماء من فعل يفعل على فعلان ، كقولهم من غضب غضبان ، ومن سكر سكران ، ومن عطش عطشان ، فكذلك قولهم رحمَن من رحم ، لأن «فَعِلَ » منه : رَحِمَ يَرْحم .
وقيل «رحيم » وإن كانت عين فعل منها مكسورة ، لأنه مدح . ومن شأن العرب أن يحملوا أبنية الأسماء إذا كان فيها مدح أو ذمّ على فعيل ، وإن كانت عين فَعِلَ منها مكسورة أو مفتوحة ، كما قالوا من عَلِمَ : عالم وعليم ، ومن قدَر : قادر وقدير . وليس ذلك منها بناءً على أفعالها لأن البناء من «فَعِلَ يَفْعَل » «وَفَعَلَ يَفْعَلُ » فاعل . فلو كان الرحمن والرحيم خارجين على بناء أفعالهما لكانت صورتهما الراحم .
فإن قال قائل : فإذا كان الرحمَن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة ، فما وجه تكرير ذلك وأحدهما مؤّد عن معنى الاَخر ؟
قيل له : ليس الأمر في ذلك على ما ظننت ، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤَدي الأخرى منهما عنها . فإن قال : وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما ، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى ؟ قيل : أما من جهة العربية ، فلا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب أن قول القائل «الرحمن » عن أبنية الأسماء من «فَعِلَ يَفْعَل » أشد عدولاً من قوله «الرحيم » . ولا خلاف مع ذلك بينهم أن كل اسم كان له أصل في «فَعِلَ يَفْعَل » ، ثم كان عن أصله من فعل ويفعل أشدّ عدولاً ، أن الموصوف به مفضل على الموصوف بالاسم المبني على أصله من «فَعِلَ يَفْعل » إذا كانت التسمية به مدحا أو ذما . فهذا ما في قول القائل «الرحمَن » من زيادة المعنى على قوله : «الرحيم » في اللغة .
وأما من جهة الأثر والخبر ، ففيه بين أهل التأويل اختلاف .
فحدثني السريّ بن يحيى التميمي ، قال : حدثنا عثمان بن زفر ، قال : سمعت العرزمي يقول : «الرحمن الرحيم » قال : الرحمن بجميع الخلق . «الرحيم » قال : بالمؤمنين .
وحدثنا إسماعيل بن الفضل ، قال : حدثنا إبراهيم بن العلاء ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مليكة ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود ، ومسعر بن كدام ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد يعني الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قالَ : الرّحْمَنُ : رَحْمَنُ الاَخِرَةِ والدّنْيَا ، والرّحِيمُ : رَحِيمُ الاَخِرَةِ » .
فهذان الخبران قد أنبآ عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو «رحمن » ، وتسميته باسمه الذي هو «رحيم » . واختلاف معنى الكلمتين ، وإن اختلفا في معنى ذلك الفرق ، فدل أحدهما على أن ذلك في الدنيا ، ودل الاَخر على أنه في الاَخرة .
فإن قال : فأيّ هذين التأويلين أولى عندك بالصحة ؟ قيل : لجميعهما عندنا في الصحة مخرج ، فلا وجه لقول قائل : أيهما أولى بالصحة . وذلك أن المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن ، دون الذي في تسميته بالرحيم هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميع خلقه ، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعض خلقه ، إما في كل الأحوال ، وإما في بعض الأحوال . فلا شكّ إذا كان ذلك كذلك ، أن ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم لا يستحيل عن معناه ، في الدنيا كان ذلك أو في الاَخرة ، أو فيهما جميعا . فإذا كان صحيحا ما قلنا من ذلك وكان الله جل ثناؤه قد خص عباده المؤمنين في عاجل الدنيا بما لطف بهم في توفيقه إياهم لطاعته ، والإيمان به وبرسله ، واتباع أمره واجتناب معاصيه مما خذل عنه من أشرك به فكفر ، وخالف ما أمره به وركب معاصيه ، وكان مع ذلك قد جعل جل ثناؤه ما أعد في أجل الاَخرة في جناته من النعيم المقيم والفوز المبين لمن آمن به وصدق رسله وعمل بطاعته خالصا دون من أشرك وكفر به ، كان بيّنا أن الله قد خص المؤمنين من رحمته في الدنيا والاَخرة ، مع ما قد عمهم به والكفار في الدنيا ، من الإفضال والإحسان إلى جميعهم ، في البسط في الرزق ، وتسخير السحاب بالغيث ، وإخراج النبات من الأرض ، وصحة الأجسام والعقول ، وسائر النعم التي لا تحصى ، التي يشترك فيها المؤمنون والكافرون . فربنا جل ثناؤه رحمنُ جميع خلقه في الدنيا والاَخرة ، ورحيم المؤمنين خاصة في الدنيا والاَخرة .
فأما الذي عمّ جميعهم به في الدنيا من رحمته ، فكان رحمانا لهم به ، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه ، كما قال جل ثناؤه : ( وإنْ تَعُدّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها ) . وأما في الاَخرة ، فالذي عم جميعهم به فيها من رحمته . فكان لهم رحمانا . تسويته بين جميعهم جل ذكره في عدله وقضائه ، فلا يظلم أحدا منهم مِثْقَالَ ذَرّةٍ ، وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرا عَظِيما ، وتُوفّى كل نفس ما كسبت . فذلك معنى عمومه في الاَخرة جميعهم برحمته الذي كان به رحمانا في الاَخرة .
وأما ما خص به المؤمنين في عاجل الدنيا من رحمته الذي كان به رحيما لهم فيها ، كما قال جل ذكره : وكانَ بالمُؤْمِنِينَ رَحِيما فما وصفنا من اللطف لهم في دينهم ، فخصهم به دون من خذله من أهل الكفر به .
وأما ما خصهم به في الاَخرة ، فكان به رحيما لهم دون الكافرين . فما وصفنا آنفا مما أعدّ لهم دون غيرهم من النعيم والكرامة التي تقصر عنها الأماني . وأما القول الاَخر في تأويله ، فهو ما :
حدثنا به أبو كريب . قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : الرحمن الفعلان من الرحمة ، وهو من كلام العرب . قال : الرحمن الرحيم : الرقيق الرفيق بمن أحبّ أن يرحمه ، والبعيد الشديد على من أحبّ أن يعنف عليه . وكذلك أسماؤه كلها .
وهذا التأويل من ابن عباس ، يدل على أن الذي به ربنا رحمن هو الذي به رحيم ، وإن كان لقوله «الرحمن » من المعنى ما ليس لقوله «الرحيم » لأنه جعل معنى الرحمن بمعنى الرقيق على من رقّ عليه ، ومعنى الرحيم بمعنى الرفيق بمن رفق به .
والقول الذي رويناه في تأويل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرناه عن العرزمي ، أشبه بتأويله من هذا القول الذي روينا عن ابن عباس وإن كان هذا القول موافقا معناه معنى ذلك ، في أن للرحمن من المعنى ما ليس للرحيم ، وأن للرحيم تأويلاً غير تأويل الرحمن .
والقول الثالث في تأويل ذلك ، ما :
حدثني به عمران بن بكار الكلاعي ، قال : حدثنا يحيى بن صالح ، قال : حدثنا أبو الأزهر نصر بن عمرو اللخمي من أهل فلسطين ، قال : سمعت عطاء الخراساني ، يقول : كان الرحمن ، فلما اختزل الرحمن من اسمه كان الرحمن الرحيم .
والذي أراد إن شاء الله عطاء بقوله هذا : أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمى بها أحد من خلقه ، فلما تسمى به الكذّاب مسيلمة وهو اختزاله إياه ، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه أخبر الله جلّ ثناؤه أن اسمه الرحمن الرحيم ، ليفصل بذلك لعباده اسمه من اسم من قد تسمى بأسمائه ، إذ كان لا يُسمّى أحد الرحمن الرحيم فيجمع له هذان الاسمان غيره جل ذكره وإنما تسمى بعض خلقه إما رحيما ، أو يتسمى رحمن ، فأما «رحمَن رحيم » ، فلم يجتمعا قط لأحد سواه ، ولا يجمعان لأحد غيره . فكأن معنى قول عطاء هذا : أن الله جل ثناؤه إنما فصل بتكرير الرحيم على الرحمن بين اسمه واسم غيره من خلقه ، اختلف معناهما أو اتفقا .
والذي قال عطاء من ذلك غير فاسد المعنى ، بل جائز أن يكون جل ثناؤه خص نفسه بالتسمية بهما معا مجتمعين إبانة لها من خلقه ، ليعرف عباده بذكرهما مجموعين أنه المقصود بذكرهما دون من سواه من خلقه ، مع ما في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الاَخر منهما .
وقد زعم بعض أهل الغباء أن العرب كانت لا تعرف الرحمن ولم يكن ذلك في لغتها ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : { وَمَا الرّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لما تَأْمُرُنَا } إنكارا منهم لهذا الاسم . كأنه كان محالاً عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته ، أو كأنه لم يتل من كتاب الله قولَ الله : الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعني محمدا كَما يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ وهم مع ذلك به مكذبون ، ولنبّوته جاحدون . فيعلم بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقة ما قد ثبت عندهم صحته واستحكمت لديهم معرفته . وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء :
ألاَ ضَرَبَتْ تِلْكَ الفَتاةُ هَجِينَها *** ألاَ قَضَبَ الرّحْمَنُ رَبّي يَمِينَها
عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا عَجْلَتَيْنا عَلَيْكُمُ *** وَما يَشاء الرّحْمَنُ يَعْقِدْ ويُطْلِقِ
وقد زعم أيضا بعض من ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل ، وقلت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير ، أن «الرحمن » مجازه «ذو الرحمة » ، و«الرحيم » مجازه «الراحم » . ثم قال : قد يقدرون اللفظين من لفظ والمعنى واحد ، وذلك لاتساع الكلام عندهم . قال : وقد فعلوا مثل ذلك ، فقالوا : ندمان ونديم . ثم استشهد بقول بُرْج بن مسهر الطائي :
ونَدْمانٍ يَزِيدُ الكأسَ طِيبَا *** سَقَيْتُ وقَدْ تَغَوّرَتِ النّجُومُ
واستشهد بأبيات نظائر له في النديم والندمان . ففرق بين معنى الرحمن والرحيم في التأويل ، لقوله : الرحمن ذو الرحمة ، والرحيم : الراحم . وإن كان قد ترك بيان تأويل معنييهما على صحته . ثم مثل ذلك باللفظين يأتيان بمعنى واحد ، فعاد إلى ما قد جعله بمعنيين ، فجعله مثال ما هو بمعنى واحد مع اختلاف الألفاظ . ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثبت أن له الرحمة وصح أنها له صفة ، وأن الراحم هو الموصوف بأنه سيرحم ، أو قد رحم فانقضى ذلك منه ، أو هو فيه . ولا دلالة له فيه حينئذ أن الرحمة له صفة ، كالدلالة على أنها له صفة إذا وصفه بأنه ذو الرحمة . فأين معنى الرحمن الرحيم على تأويله من معنى الكلمتين يأتيان مقدرتين من لفظ واحد باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني ؟
ولكن القول إذا كان غير أصل معتمد عليه كان واضحا عُوَارُه .
وإن قال لنا قائل : ولم قدم اسم الله الذي هو الله على اسمه الذي هو الرحمن ، واسمه الذي هو الرحمن على اسمه الذي هو الرحيم ؟
قيل : لأن من شأن العرب إذا أرادوا الخبر عن مخبر عنه أن يقدموا اسمه ، ثم يُتبعوه صفاته ونعوته . وهذا هو الواجب في الحكم : أن يكون الاسم مقدما قبل نعته وصفته ، ليعلم السامع الخبر عمن الخبر فإذا كان ذلك كذلك ، وكان لله جل ذكره أسماء قد حرم على خلقه أن يتسموا بها خص بها نفسه دونهم ، ذلك مثل «الله » ، و«الرحمن » و«الخالق » وأسماء أباح لهم أن يسمي بعضهم بعضا بها ، وذلك كالرحيم ، والسميع ، والبصير ، والكريم ، وما أشبه ذلك من الأسماء كان الواجب أن يقدم أسماءه التي هي له خاصة دون جميع خلقه ، ليعرف السامع ذلك من توجه إليه الحمد والتمجيد ثم يتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره ، بعد علم المخاطب أو السامع من توجه إليه ما يتلو ذلك من المعاني .
فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو الله لأن الألوهية ليست لغيره جل ثناؤه بوجه من الوجوه ، لا من جهة التسمي به ، ولا من جهة المعنى . وذلك أنا قد بينا أن معنى الله هو المعبود ، ولا معبود غيره جل جلاله ، وأن التسمي به قد حرمه الله جل ثناؤه ، وإن قصد المتسمي به ما يقصد المتسمي بسعيد وهو شقيّ ، وبحَسَن وهو قبيح .
أَوَ لا ترى أن الله جل جلاله قال في غير آية من كتابه : ( أإله مَعَ الله ) فاستكبر ذلك من المقرّ به ، وقال تعالى في خصوصية نفسه بالله وبالرحمن : ( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أو ادْعُوا الرّحْمَنَ أَيّا ما تَدْعُو فَلَهُ الأسْماءُ الْحُسْنَى ) ثم ثنّى باسمه ، الذي هو الرحمن ، إذْ كان قد منع أيضا خلقه التسمي به ، وإن كان من خلقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه وذلك أنه قد يجوز وصف كثير ممن هو دون الله من خلقه ببعض صفات الرحمة ، وغير جائز أن يستحق بعض الألوهية أحد دونه فلذلك جاء الرحمَن ثانيا لاسمه الذي هو الله » .
وأما اسمه الذي هو «الرحيم » فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصف غيره به . والرحمة من صفاته جل ذكره ، فكان إذ كان الأمر على ما وصفنا ، واقعا مواقع نعوت الأسماء اللواتي هن توابعها بعد تقدم الأسماء عليها . فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو «الله » على اسمه الذي هو «الرحمن » ، واسمه الذي هو «الرحمن » على اسمه الذي هو «الرحيم » .
وقد كان الحسن البصري يقول في الرحمن مثل ما قلنا ، أنه من أسماء الله التي منع التسمي بها لعباده .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : الرحمن اسم ممنوع .
مع أن في إجماع الأمة مِن منع التسمي به جميع الناس ما يغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن وغيره .
سورة الفاتحة من السور ذات الأسماء الكثيرة : أنهاها صاحب الإتقان إلى نيف وعشرين بين ألقاب وصفات جرت على ألسنة القراء من عهد السلف ، ولم يثبت في السنة الصحيحة والمأثور من أسمائها إلا فاتحة الكتاب ، والسبع المثاني ، وأم القرآن ، أو أم الكتاب ، فلنقتصر على بيان هذه الأسماء الثلاثة .
فأما تسميتها فاتحة الكتاب فقد ثبتت في السنة في أحاديث كثيرة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، وفاتحة مشتقة من الفتح وهو إزالة حاجز عن مكان مقصود ولُوجه فصيغتها تقتضي أن موصوفها شيء يزيل حاجزا ، وليس مستعملا في حقيقته بل مستعملا في معنى أول الشيء تشبيها للأول بالفاتح لأن الفاتح للباب هو أول من يدخل ، فقيل الفاتحة في الأصل مصدر بمعنى الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب ، والباقية بمعنى البقاء في قوله تعالى { فهل ترى لهم من باقية } وكذلك الطاغية في قوله تعالى : { فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية } في قول ابن عباس أي بطغيانهم .
والخاطئة بمعنى الخطأ والحاقة بمعنى الحق . وإنما سمي أول الشيء بالفاتحة إما تسمية للمفعول بالمصدر الآتي على وزن فاعلة لآن الفتح يتعلق بأول أجزاء الفعل ففيه يظهر مبدأ المصدر ، وإما على اعتبار الفاتحة اسم فاعل ثم جعلت اسما لأول الشيء ؛ إذ بذلك الأول يتعلق الفتح بالمجموع فهو كالباعث على الفتح ، فالأصل فاتح الكتاب ، وأدخلت عليه هاء التأنيث دلالة على النقل من الوصفية إلى الاسمية أي إلى معاملة الصفة معاملة الاسم في الدلالة على ذات معينة لا على ذي وصف ، مثل الغائبة في قوله تعالى { وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين } ومثل العافية والعاقبة .
قال التفتزاني في شرح الكشاف : ولعدم اختصاص الفاتحة والخاتمة بالسورة ونحوها كانت التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية وليست لتأنيث الموصوف في الأصل ، لأنهم يقولون فاتحة وخاتمة دائما لا في خصوص جريانه على موصوف مؤنث كالسورة والقطعة ، وذلك كقولهم فلان خاتمة العلماء ، وكقول الحريري في المقامة الأولى أدتني خاتمة المطاف ، وهدتني فاتحة الألطاف . وأيا ما كان ففاتحة وصف وصف به مبدأ القرآن وعومل معاملة الأسماء الجنسية ، ثم أضيف إلى الكتاب ثم صار هذا المركب علما بالغلبة على هذه السورة .
ومعنى فتحها الكتاب أنها جعلت أول القرآن لمن يريد أن يقرأ القرآن من أوله فتكون فاتحة بالجعل النبوي في ترتيب السور ، وقيل لأنها أول ما نزل وهو ضعيف لما ثبت في الصحيح واستفاض أن أول ما أنزل سورة { اقرأ باسم ربك } وهذا مما لا ينبغي أن يتردد فيه . فالذي نجزم به أن سورة الفاتحة بعد أن نزلت أمر الله رسوله أن يجعلها أول ما يقرأ في تلاوته .
وإضافة سورة إلى فاتحة الكتاب في قولهم سورة فاتحة الكتاب من إضافة العام إلى الخاص باعتبار فاتحة الكتاب علما على المقدار المخصوص من الآيات من الحمد لله إلى الضالين ، بخلاف إضافة سورة إلى ما أضيفت إليه في بقية سور القرآن فإنها على حذف مضاف أي سورة ذكر كذا ، وإضافة العام إلى الخاص وردت في كلام العرب مثل قولهم شجر الأراك ويوم الأحد وعلم الفقه ، ونراها قبيحة لو قال قائل : إنسان زيد ، وذلك باد لمن له أدنى ذوق إلا أن علماء العربية لم يفصحوا عن وجه الفرق بين ما هو مقبول من هذه الإضافة وبين ما هو قبيح فكان حقا أن أبين وجهه : وذلك ان إضافة العام إلى الخاص تحسن إذا كان المضاف والمضاف إليه اسمي جنس وأولهما أعم من الثاني ، فهنالك يجوز التوسع بإضافة الأعم إلى الأخص إضافة مقصودا منها الاختصار ، ثم تكسبها غلبة الاستعمال قبولا نحو قولهم شجر الأراك ، عوضا أن يقولوا : الشجر الذي هو الأراك ، ويوم الأحد عوضا عن أن يقولوا : يوم هو الأحد . وقد يكون ذلك جائزا غير مقبول لأنه لم يشع في الاستعمال كما لو قلت حيوان الإنسان ؛ فأما إذا كان المتضايفان غير اسم جنس فالإضافة في مثله ممتنعة فلا يقال : إنسان زيد . ولهذا جعل قول الناس شهر رمضان علما على الشهر المعروف بناءا على أن لفظ رمضان خاص بالشهر المعروف لا يحتمل معنى آخر ، فتعين أن يكون ذكر كلمة شهر معه قبيحا لعدم الفائدة منه لولا أنه شاع حتى صار مجموع المركب الإضافي علما على ذلك الشهر .
ويصح عندي أن تكون إضافة السورة إلى فاتحة الكتاب من إضافة الموصوف إلى الصفة ، كقولهم : مسجد الجامع ، وعشاء الآخرة ، أي سورة موصوفة بأنها فاتحة الكتاب فتكون الإضافة بيانية ، ولم يجعلوا لها اسما استغناء بالوصف ، كما يقول المؤلفون مقدمة أو باب بلا ترجمة ثم يقولون باب جامع مثلا ، ثم يضيفونه فيقولون : باب جامع الصلاة .
وأما إضافة فاتحة إلى الكتاب فإضافة حقيقية باعتبار أن المراد من الكتاب بقيته عدا السورة المسماة الفاتحة ، كما نقول : خطبة التأليف ، وديباجة التقليد .
وأما تسميتها أم القرآن وأم الكتاب فقد ثبتت في السنة ، من ذلك ما في صحيح البخاري في كتاب الطب أن أبا سعيد الخدري رقى ملدوغا فجعل يقرأ عليه بأم القرآن ، وفي الحديث قصة ، ووجه تسميتها أم القرآن أن الأم يطلق على أصل الشيء ومنشئه ، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم : كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج أي منقوصة مخدوجة . وقد ذكروا لتسمية الفاتحة أم القرآن وجوها ثلاثة :
أحدها أنها مبدؤه ومفتتحه فكأنها أصله ومنشؤه ، يعني أن افتتاحه الذي هو وجود أول أجزاء القرآن قد ظهر فيها فجعلت كالأم للولد في أنها الأصل والمنشأ فيكون أم القرآن تشبيها بالأم التي هي منشأ الولد لمشابهتها بالمنشأ من حيث ابتداء الظهور والوجود .
الثاني أنها تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن وهي ثلاثة أنواع : الثناء على الله ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه من جميع النقائص ، ولإثبات تفرده بالإلهية وإثبات البعث والجزاء وذلك من قوله { الحمد لله } إلى قوله { ملك يوم الدين } ، والأوامر والنواهي من قوله { إياك نعبد } والوعد والوعيد من قوله { صراط الذين } إلى آخرها ، فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله ، وغيرها تكملات لها لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين وذلك يحصل بالأوامر والنواهي ، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق معنى الصفات ، ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد . والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع فإن قوله { الحمد لله } إلى قوله { يوم الدين } حمد وثناء ، وقوله { إياك نعبد } إلى قوله { المستقيم } من نوع الأوامر والنواهي ، وقوله صراط الذين إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد مع أن ذكر المغضوب عليهم والضالين يشير أيضا إلى نوع قصص القرآن ، وقد يؤيد هذا الوجه بما ورد في الصحيح في { قل هو الله أحد } أنها تعدل ثلث القرآن لأن ألفاظها كلها ثناء على الله تعالى .
الثالث أنها تشتمل معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فإن معاني القرآن إما علوم تقصد معرفتها وإما أحكام يقصد منها العمل بها ، فالعلوم كالتوحيد والصفات والنبوءات والمواعظ والأمثال والحكم والقصص ، إما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات ، وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة ، وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام :
ف{ الحمد لله } يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة { الحمد لله } من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص كما سيأتي و{ رب العالمين } يشمل سائر صفات الأفعال والتكوين عند من أثبتها .
و{ الرحمن الرحيم } يشمل أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين ، و{ ملك يوم الدين } يشمل أحوال القيامة .
و{ إياك نعبد } يجمع معنى الديانة والشريعة . و{ إياك نستعين } يجمع معنى الإخلاص لله في الأعمال . قال عز الدين بن عبد السلام في كتابه حل الرموز ومفاتيح الكنوز : الطريقة إلى الله لها ظاهر أي عمل ظاهر أي بدني وباطن أي عمل قلبي فظاهرها الشريعة وباطنها الحقيقة ، والمراد من الشريعة والحقيقة إقامة العبودية على الوجه المراد من المكلف . ويجمع الشريعة والحقيقة كلمتان هما قوله { إياك نعبد وإياك نستعين } { فإياك نعبد } شريعة { وإياك نستعين } حقيقة ، اهـ .
و{ اهدنا الصراط المستقيم } يشمل الأحوال الإنسانية وأحكامها من عبادات ومعاملات وآداب ، و{ صراط الذين أنعمت عليهم } يشير إلى أحوال الأمم والأفراد الماضية الفاضلة .
وقوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } يشمل سائر قصص الأمم الضالة ويشير إلى تفاصيل ضلالاتهم المحكية عنهم في القرآن ، فلا جرم يحصل من معاني الفاتحة-تصريحا وتضمنا-علم إجمالي بما حواه القرآن من الأغراض . وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على حسب التمكن والقابلية . ولأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصا على التذكر لما في مطاويها .
وأما تسميتها السبع المثاني فهي تسمية ثبتت بالسنة ، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد ابن المعلى{[1]} أن رسول الله قال الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ووجه تسميتها بذلك أنها سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري فقال هي ثمان آيات ، وإلا الحسين{[2]} الجعفي فقال هي ست آيات ، وقال بعض الناس تسع آيات ويتعين حينئذ كون البسملة ليست من الفاتحة لتكون سبع آيات ومن عد البسملة أدمج آيتين . وأما وصفها بالمثاني فهو مفاعل جمع مثنى بضم الميم وتشديد النون ، أو مثنى مخفف مثنى ، أو مثنى بفتح الميم مخفف مثني كمعنى مخفف معني . ويجوز تأنيث الجميع كما نبه عليه السيد الجرجاني في شرح الكشاف . وكل ذلك مشتق من التثنية وهي ضم ثان إلى أول .
ووجه الوصف به أن تلك الآيات تثنى في كل ركعة كذا في الكشاف . قيل وهو مأثور عن عمر بن الخطاب ، وهو مستقيم لأن معناه أنها تضم إليها السورة في كل ركعة ، ولعل التسمية بذلك كانت في أول فرض الصلاة فإن الصلوات فرضت ركعتين ثم أقرت صلاة السفر وأطيلت صلاة الحضر كذا ثبت في حديث عائشة في الصحيح وقيل العكس ، وقيل لأنها تثنى في الصلاة أي تكرر فتكون التثنية بمعنى التكرير بناء على ما شاع عند العرب من استعمال المثنى في مطلق المكرر نحو { ثم ارجع البصر كرتين } وقولهم لبيك وسعديك ، وعليه فيكون المراد بالمثاني هنا مثل المراد بالمثاني في قوله تعالى { كتابا متشابها مثاني } أي مكرر القصص والأغراض . وقيل سميت المثاني لأنها ثنيت في النزول فنزلت بمكة ثم نزلت في المدينة وهذا قول بعيد جدا وتكرر النزول لا يعتبر قائله ، وقد اتفق على أنها مكية فأي معنى لإعادة نزولها بالمدينة .
وهذه السورة وضعت في أول السور لأنها تنزل منها منزل ديباجة الخطبة أو الكتاب ، مع ما تضمنته من أصول مقاصد القرآن كما علمت آنفا وذلك شأن الديباجة من براعة الاستهلال . وهذه السورة مكية باتفاق الجمهور ، وقال كثير إنها أول سورة نزلت ، والصحيح أنه نزل قبلها { اقرأ باسم ربك } وسورة المدثر ثم الفاتحة ، وقيل نزل قبلها أيضا { ن~ والقلم } وسورة المزمل ، وقال بعضهم هي أول سورة نزلت كاملة أي غير منجمة ، بخلاف سورة القلم ، وقد حقق بعض العلماء أنها نزلت عند فرض الصلاة فقرأ المسلمون بها في الصلاة عند فرضها ، وقد عدت في رواية عن جابر بن زيد السورة الخامسة في ترتيب نزول السور . وأيا ما كان فإنها قد سماها النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب وأمر بأن تكون أول القرآن .
قلت : ولا يناكد ذلك نزولها بعد سور أخرى لمصلحة اقتضت سبقها قبل أن يتجمع من القرآن مقدار يصير به كتابا فحين تجمع ذلك أنزلت الفاتحة لتكون ديباجة الكتاب . وأغراضها قد علمت من بيان وجه تسميتها أم القرآن .
وهي سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ، ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري ، قال هي ثمان آيات ، ونسب أيضا لعمرو بن عبيد وإلى الحسين الجعفي{[3]} قال هي ست آيات ، ونسب إلى بعضهم غير معين أنها تسع آيات ، وتحديد هذه الآيات السبع هو ما دل عليه حديث الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل ، قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، يقول العبد { الحمد لله رب العالمين } ، فأقول حمدني عبدي ، فإذا قال العبد { الرحمن الرحيم } ، يقول الله أثنى علي عبدي ، وإذا قال العبد { مالك يوم الدين } ، قال الله مجدني عبدي ، وإذا قال { إياك نعبد وإياك نستعين } ، قال الله : هذا بيني وبين عبدي ، وإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } ، قال الله هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل اهـ .
فهن ثلاث ثم واحدة ثم ثلاث ، فعند أهل المدينة لا تعد البسملة آية وتعد { أنعمت عليهم } آية ، وعند أهل مكة وأهل الكوفة تعد البسملة آية وتعد { أنعمت عليهم } جزء آية ، والحسن البصري عد البسملة آية وعد { أنعمت عليهم } آية .
البسملة اسم لكلمة باسم الله ، صيغ هذا الاسم على مادَّةٍ مؤلفة من حروف الكلمتين باسم والله على طريقة تسمى النَّحْت ، وهو صوغ فعلِ مُضِيٍ على زنة فَعْلَل مؤلفةٍ مادِّتُه من حروف جملة أو حروفِ مركَّب إِضَافِيَ ، مما ينطق به الناس اختصاراً عن ذكر الجملة كلها لقصد التخفيف لكثرة دوران ذلك على الألسنة . وقد استعمل العرب النحت في النَّسَب إلى الجملة أو المركب إذا كان في النسبِ إلى صدر ذلك أو إلى عَجزه التباس ، كما قالوا في النسبة إلى عبد شمس عَبْشَمِيّ خشية الالتباس بالنسب إلى عبدٍ أو إلى شمس ، وفي النسبة إلى عبد الدار عَبْدَرِيّ كذلك وإلى حضرموت حضرمي قال سيبويه في باب الإضافة ( أي النسَب ) إلى المضاف من الأسماء : « وقد يجعلون للنسب في الإضافة اسماً بمنزلة جَعْفَري ويجعلون فيه من حروف الأول والآخر ولا يخرجونه من حروفهما ليُعْرَف » ا هـ ، فجاء من خلفهم من مولدي العرب واستعملوا هذه الطريقة في حكاية الجمل التي يكثر دورانها في الألسنة لقصد الاختصار ، وذلك من صدر الإسلام فصارت الطريقة عربية . قال الراعي :
قَومٌ على الإسلام لَمَّا يمنعوا *** ماعونَهم ويُضيِّعوا التَهْلِيلا
أي لم يتركوا قول : لا إله إلا الله . وقال عُمر بن أبي ربيعة :
لقد بسملت ليلَى غداةَ لقيتُها *** ألا حَبَّذا ذاك الحبيبُ المُبَسْمِلُ
أي قالت بسم الله فَرَقاً منه ، فأصل بسمل قال بسم الله ثم أطلقه المولدون على قول بسم الله الرحمن الرحيم ، اكتفاء واعتماداً على الشهرة وإن كان هذا المنحوتُ خِليَّاً من الحاء والراء اللذين هما من حروف الرحمان الرحيم ، فشاع قولهم بسمل في معنى قال بسم الله الرحمن الرحيم ، واشتق من فعل بسمل مصدر هو البسملة كما اشتق من هَلَّل مصدر هو الهيللة وهو مصدر قياسي لفعلل . واشتق منه اسم فاعل في بيت عمر بن أبي ربيعة ولم يسمع اشتقاق اسم مفعول .
ورأيت في « شرح ابن هارون التونسي على مختصر ابن الحاجب »{[46]} في باب الأذان عن المطرز في كتاب « اليواقيت » : الأفعالُ التي نحتت من أسمائها سبعة : بَسْمَلَ في بسم الله ، وسَبْحَلَ في سبحان الله ، وحَيْعَلَ في حي على الصلاة ، وحَوْقَلَ في لا حول ولا قوة إلا بالله ، وحَمْدَلَ في الحمدُ لله ، وهَلَّل في لا إله إلا الله ، وجَيْعَل إذا قال : جُعلت فِداك ، وزاد الطَّيْقَلَة في أَطال الله بقاءك ، والدَّمْعَزَةَ في أدام الله عزك .
ولَما كان كثير من أيمة الدين قائلاً بأنها آية من أوائل جميع السور غير براءة أو بعض السور تعين على المفسر أن يفسر معناها وحكمها وموقعها عند من عدوها آية من بعض السور . وينحصر الكلام عليها في ثلاثة مباحث . الأول : في بيان أهي آية من أوائل السور أم لا ؟ .
الثاني : في حكم الابتداء بها عند القراءة . الثالث في تفسير معناها المختص بها .
فأما المبحث الأول فهو أن لا خلاف بين المسلمين في أن لفظ { بسم الله الرحمن الرحيم } هو لفظ قرآني لأنه جزء آية من قوله تعالى : { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } [ النمل : 30 ] كما أنهم لم يختلفوا في أن الافتتاح بالتسمية في الأمور المهمة ذوات البال ورد في الإسلام ، وروي فيه حديث : " كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع " لم يروه أصحاب « السنن » ولا « المستدركات » ، وقد وصف بأنه حسن ، وقال الجمهور إن البسملة رسمها الذين كتبوا المصاحف في أوائل السور ما عدا سورة براءة ، كما يؤخذ من محادثة ابن عباس مع عثمان ، وقد مضت في المقدمة الثامنة ، ولم يختلفوا في أنها كتبت في المصحف في أول سورة الفاتحة وذلك ليس موضع فصل السورة عما قبلها ، وإنما اختلفوا في أن البسملة هل هي آية من سورة الفاتحة ومن أوائل السور غير براءة ، بمعنى أن الاختلاف بينهم ليس في كونها قرآناً ، ولكنه في تكرر قرآنيتها كما أشار إليه ابن رشد الحفيد في « البداية » ، فذهب مالك والأوزاعي وفقهاء المدينة والشام والبصرة وقيل باستثناء عبد الله بن عمرو ابن شهاب من فقهاء المدينة إلى أنها ليست بآية من أوائل السور لكنها جزء آية من سورة النمل ، وذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وفقهاء مكة والكوفة غير أبي حنيفة ، إلى أنها آية في أول سورة الفاتحة خاصة ، وذهب عبد الله بن المبارك والشافعي في أحد قوليه وهو الأصح عنه إلى أنها آية من كل سورة . ولم ينقل عن أبي حنيفة من فقهاء الكوفة فيها شيء ، وأخذ منه صاحب « الكشاف » أنها ليست من السور عنده فعَدَّه في الذين قالوا بعدم جزئيتها من السور وهو الصحيح عنه . قال عبد الحكيم لأنه قال بعدم الجهر بها مع الفاتحة في الصلاة الجهرية وكره قراءتها في أوائل السور الموصولة بالفاتحة في الركعتين الأوليين . وأَزِيدُ فأقول إنه لم ير الاقتصار عليها في الصلاة مجزئاً عن القراءة .
أما حجة مذهب مالك ومن وافقه فلهم فيها مسالك : أحدها من طريق النظر ، والثاني من طريق الأثر ، والثالث من طريق الذوق العربي .
فأما المسلك الأول : فللمالكية فيه مقالة فائقة للقاضي أبي بكر الباقلاني وتابَعَه أبو بكر ابن العربي في « أحكام القرآن » والقاضي عبد الوهاب في كتاب « الإشراف » ، قال الباقلاني : « لو كانت التسمية من القرآن لكان طريق إثباتها إما التواتر أو الآحاد ، والأول : باطل لأنه لو ثبت بالتواتر كونها من القرآن لحصل العلم الضروري بذلك ولامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأُمَّة ، والثاني : أيضاً باطل لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلو جعلناه طريقاً إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية ، ولصار ذلك ظنياً ، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف » ا هـ وهو كلام وجيه والأقيسة الاستثنائية التي طواها في كلامه واضحة لمن له ممارسة للمنطق وشرطياتها لا تحتاج للاستدلال لأنها بديهية من الشريعة فلا حاجة إلى بسطها .
زاد أبو بكر بن العربي في « أحكام القرآن » فقال : يكفيك أنها ليست من القرآن الاختلافُ فيها ، والقرآن لا يُختلف فه ا هـ . وزاد عبد الوهاب فقال : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القرآن بياناً واحداً متساوياً ولم تكن عادته في بيانه مختلفة بالظهور والخفاء حتى يختص به الواحد والاثنان ؛ ولذلك قطعنا بمنع أن يكون شيء من القرآن لم ينقل إلينا وأبطلنا قول الرافضة إن القرآن حِمْل جَمَل عند الإمام المعصوم المنتظر فلو كانت البسملة من الحمد لبيّنها رسول الله بياناً شافياً » ا هـ .
وقال ابن العربي في « العارضة » : إن القاضي أبا بكر بن الطيب ، لم يتكلم من الفقه إلا في هذه المسألة خاصة لأنها متعلقة بالأصول .
وقد عارض هذا الدليل أبو حامد الغزالي في « المستصفى » فقال : « نُفي كون البسملة من القرآن أيضاً إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف ( أي وهو ظاهر البطلان ) وإن ثبت بالآحاد يصير القرآن ظنياً ، قال : ولا يقال : إن كون شيء ليس من القرآن عدم والعدم لا يحتاج إلى الإثبات لأنه الأصل بخلاف القول بأنها من القرآن ، لأنّا نجيب بأن هذا وإن كان عدماً إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهن كونها ليست من القرآن فهاهنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بالدليل ويأتي الكلام في أن الدليل ما هو ، فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه ا هـ ، وتبعه على ذلك الفخر الرازي في « تفسيره » ولا يخفى أنه آل في استدلاله إلى المصادرة إذ قد صار مرجع استدلال الغزالي وفخر الدين إلى رسم البسملة في المصاحف ، وسنتكلم عن تحقيق ذلك عند الكلام على مدرك الشافعي . وتعقب ابن رشد في « بداية المجتهد » كلام الباقلاني والغزالي بكلام غير محرر فلا نطيل به .
وأما المسلك الثاني : وهو الاستدلال من الأثر فلا نجد في صحيح السنة ما يشهد بأن البسملة آية من أوائل سور القرآن والأدلة ستة :
الدليل الأول : ما روى مالك في « الموطأ » عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، يقول العبد : { الحمد لله رب العالمين } ، فأقول : حمدني عبدي " الخ ، والمراد في الصلاة القراءة في الصلاة ووجه الدليل منه أنه لم يذكر بسم الله الرحمن الرحيم .
الثاني : حديث أُبيّ بن كعب في « الموطأ » و« الصحيحين » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " ألا أعلمك سورة لم يُنْزَل في التوراة ولا في الإنجيل مثُلها قبل أن تخرج من المسجد " ؟ قال : بلى ، فلما قارب الخروج قال له : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ قال أبيٌّ فقرأت { الحمد لله رب العالمين } حتى أتيت على آخرها ، فهذا دليل على أنه لم يقرأ منها البسملة .
الثالث : ما في « صحيح مسلم » و« سنن أبي داود » و« سنن النسائي » عن أنس بن مالك من طرق كثيرة أنه قال : صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، لا في أول قراءة ولا في آخرها .
الرابع : حديث عائشة في « صحيح مسلم » و« سنن أبي داود » قالت : كان رسول الله يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءةَ بالحمد الله رب العالمين .
الخامس : ما في « سنن الترمذي والنسائي » عن عبد الله بن مغفل قال : صليت مع النبيء وأبي بكر وعمر وعثمان ، فلم أسمع أحداً منهم يقول : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، إذا أنت صليت فقل { الحمد لله رب العالمين } .
السادس وهو الحاسم : عمل أهل المدينة ، فإن المسجد النبوي من وقت نزول الوحي إلى زمن مالك صلى فيه رسول الله والخلفاء الراشدون والأمراء وصلى وراءهم الصحابة وأهل العلم ولم يسمع أحد قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في الصلاة الجهرية ، وهل يقول عالم أن بعض السورة جهر وبعضها سر ، فقد حصل التواتر بأن النبيء والخلفاء لم يجهروا بها في الجهرية ، فدل على أنها ليست من السورة ولو جهروا بها لما اختلف الناس فيها .
وهناك دليل آخر لم يذكروه هنا وهو حديث عائشة في بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتبر مرفوعاً إلى النبي ، وذلك قوله : « ففَجِئَه الملَك فقال : اقرأ قال رسول الله فقلت ما أنا بقارىء إلى أن قال فغطني الثالثة ثم قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق : 1 ] الحديث . فلم يقل فقال لي بسم الله الرحمن الرحيم { اقرأ بسم ربك } ، وقد ذكروا هذا في تفسير سورة العلق وفي شرح حديث بدء الوحي .
وأما المسلك الثالث وهو الاستدلال من طريق الاستعمال العربي فيأتي القول فيه على مراعاة قول القائلين بأن البسملة آية من سورة الفاتحة خاصة ، وذلك يوجب أن يتكرر لفظان وهما { الرحمن الرحيم } في كلام غير طويل ليس بينهما فصل كثير وذلك مما لا يحمد في باب البلاغة ، وهذا الاستدلال نقله الإمام الرازي في « تفسيره » وأجاب عنه بقوله : إن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن وإن تأكيد كونه تعالى رحماناً رحيماً من أعظم المهمات .
وأَنَا أَدْفع جوابه بأن التكرار وإن كانت له مواقع محمودة في الكلام البليغ مثل التهويل ، ومقام الرثاء أو التعديد أو التوكيد اللفظي ، إلا أن الفاتحة لا مناسبة لها بأغراض التكرير ولا سيما التوكيد لأنه لا منكر لكونه تعالى رحماناً رحيماً ، ولأن شأن التوكيد اللفظي أن يقترن فيه اللفظان بلا فصل فتعين أنه تكرير اللفظ في الكلام لوجود مقتضى التعبير عن مدلوله بطريق الاسم الظاهر دون الضمير ، وذلك مشروط بأن يبعد ما بين المكرَّرَيْن بُعداً يقصيه عن السمع ، وقد علمتَ أنهم عدوا في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار ، والقربُ بين الرحمن والرحيم حين كررا يمنع ذلك .
وأجاب البيضاوي بأن نكتة التكرير هنا هي تعليل استحقاق الحمد ، فقال السلكوتي أشار بهذا إلى الرد على ما قاله بعض الحنفية : إن البسملة لو كانت من الفاتحة للزم التكرار وهو جواب لا يستقيم لأنه إذا كان التعليل قاضياً بذكر صفتي { الرحمن الرحيم } فدفع التكرير يقتضي تجريد البسملة التي في أول الفاتحة من هاتين الصفتين بأن تصير الفاتحة هكذا : ( بسم الله الحمد لله الخ ) .
وأنا أرى في الاستدلال بمسلك الذوق العربي أن يكون على مراعاة قول القائلين بكون البسملة آية من كل سورة فينشأ من هذا القولِ أَنْ تكون فواتح سور القرآن كلُّها متماثلة وذلك مما لا يحمد في كلام البلغاء إذ الشأن أن يقع التفنن في الفواتح ، بل قد عد علماء البلاغة أَهَمَّ مواضع التأنق فاتحةَ الكلام وخاتمتَه ، وذكروا أن فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن وجوه البيان وأكملها فكيف يسوغ أن يُدَّعَى أَن فواتح سوره جملةٌ واحدة ، مع أن عامة البلغاء من الخطباء والشعراء والكتاب يتنافسون في تفنن فواتح منشآتهم ويعيبون من يلتزم في كلامه طريقة واحدة فما ظنك بأبلغ كلام .
وأما حجة مذهب الشافعي ومن وافقه بأنها آية من سورة الفاتحة خاصة فأمور كثيرة أنهاها فخر الدين إلى سبع عشرة حجة لا يكاد يستقيم منها بعد طرح المتداخل والخارج عن محل النزاع وضعيف السند أو واهيه إلا أمران : أحدهما أحاديث كثيرة منها ما روى أبو هريرة أن النبيء عليه الصلاة والسلام قال : " فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن { بسم الله الرحمن الرحيم } " وقول أم سلمة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة وعدَّ : { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } آية . الثاني : الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله .
والجواب : أما عن حديث أبي هريرة فهو لم يخرجه أحد من رجال الصحيح إنما خرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي فهو نازل عن درجة الصحيح فلا يعارض الأحاديث الصحيحة ، وأما حديث أم سلمة فلم يخرجه من رجال الصحيح غير أبي داود وأخرجه أحمد بن حنبل والبيهقي ، وصحح بعض طرقه وقد طعن فيه الطحاوي بأنه رواه ابن أبي مليكة ، ولم يثبت سماع ابن أبي مليكة من أم سلمة ، يعني أنه مقطوع ، على أنه روى عنها ما يخالفه ، على أن شيخ الإسلام زكرياء قد صرح في « حاشيته على تفسير البيضاوي » بأنه لم يرو باللفظ المذكور وإنما روي بألفاظ تدل على أن { بسم الله } آية وحدها ، فلا يؤخذ منه كونها من الفاتحة ، على أن هذا يفضي إلى إثبات القرآنية بغير المتواتر وهو ما يأباه المسلمون .
وأما عن الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله ، فالجواب أنه لا يقتضي إلا أن البسملة قرآن وهذا لا نزاع فيه ، وأما كون المواضع التي رسمت فيها في المصحف مما تجب قراءتها فيها ، فذلك أمر يتبع رواية القراء وأخبار السنة الصحيحة فيعود إلى الأدلة السابقة .
وهذا كله بناء على تسليم أن الصحابة لم يكتبوا أسماء السور وكونها مكية أو مدنية في المصحف وأن ذلك من صنع المتأخرين وهو صريح كلام عبد الحكيم في « حاشية البيضاوي » ، وأما إذا ثبت أن بعض السلف كتبوا ذلك كما هو ظاهر كلام المفسرين والأصوليين والقراء كما في « لطائف الإشارات » للقسطلاني وهو مقتضى كتابة المتأخرين لذلك لأنهم ما كانوا يجرأون على الزيادة على ما فعله السلف فالاحتجاج حينئذٍ بالكتابة باطل من أصله ودعوى كون أسماء السور كتبت بلون مخالف لحِبْر القرآن ، يرده أن المشاهد في مصاحف السلف أن حبرها بلون واحد ولم يكن التلوين فاشياً .
وقد احتج بعضهم بما رواه البخاري عن أنس أنه سئل كيف كانت قراءة النبيء ؟ فقال كانت مدًّا ثم قرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } يمد { بسم الله } ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم ، ا هـ ، ولا حجة في هذا لأن ضمير قرأ وضمير يمد عائدان إلى أنس ، وإنما جاء بالبسملة على وجه التمثيل لكيفية القراءة لشهرة البسملة .
وحجةُ عبد الله بن المبارك وثاني قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أنس قال : « بينا رسول الله بين أظهرنا ذات يوم إذْ أغفَى إِغفَاءَةً ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : أنزلت عليَّ سورة آنفاً فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر } [ الكوثر : 1 ] السورة ، قالوا وللإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله ولإثبات الصحابة إياها في المصاحف مع حرصهم على أن لا يدخلوا في القرآن ما ليس منه ولذلك لم يكتبوا آمين في الفاتحة .
والجواب عن الحديث أنا نمنع أن يكون قرأ البسملة على أنها من السورة بل افتتح بها عند إرادة القراءة لأنها تغني عن الاستعاذة إذا نوى المبسمل تقديرَ أستعيذ باسم الله وحذَفَ متعلق الفعل ، ويتعين حمله على نحو هذا لأن راويه أنساً بن مالك جزم في حديثه الآخر أنه لم يسمع رسول الله بسمل في الصلاة .
فإن أبوا تأويله بما تأولناه لزم اضطراب أنس في روايته اضطراباً يوجب سقوطها .
والحق البين في أمر البسملة في أوائل السور ، أنها كتبت للفصل بين السور ليكون الفصل مناسباً لابتداء المصحف ، ولئلا يكون بلفظ من غير القرآن ، وقد روى أبو داود في « سننه » والترمذي وصححه عن ابن عباس أنه قال : قلت لعثمان بن عفان : « ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين وإلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموهما في السبع الطوال ولم تكتبوا بينهما سطراً بسم الله الرحمن الرحيم » ، قال عثمان كان النبيء لما تنزل عليه الآياتُ فيدعو بعض من كان يكتب له ويقول له ضع هذه الآية بالسورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، أو تنزل عليه الآية والآيتان فيقول مثل ذلك ، وكانت الأنفال من أول ما أنزل عليه بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما أنزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقُبِض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها ، فظننتُ أنها منها ، فمن هناك وضعتُها في السبع الطوال ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم » .
وأرى في هذا دلالة بينة على أن البسملة لم تكتب بين السور غيرِ الأنفال وبراءةَ إلا حينَ جُمع القرآن في مصحف واحد زمن عثمان ، وأنها لم تكن مكتوبة في أوائل السور في الصحف التي جمعها زيد بن ثابت في خلافة أبي بكر إذ كانت لكل سورة صحيفة مفردة كما تقدم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير .
وعلى أن البسملة مختلف في كونها آية من أول كل سورة غيرِ براءة ، أو آية من أول سورة الفاتحة فقط ، أو ليست بآية من أول شيء من السور ؛ فإن القراء اتفقوا على قراءة البسملة عند الشروع في قراءة سورة من أولها غير براءة . ورووا ذلك عمن تلقَّوْا ، فأما الذين منهم يروون اجتهاداً أو تقليداً أن البسملة آية من أول كل سورة غيرِ براءة ، فأمرهم ظاهر ، وقراءة البسملة في أوائل السور واجبة عندهم لا محالة في الصلاة وغيرها ، وأما الذين لا يروون البسملة آية من أوائل السور كلها أو ما عدا الفاتحة فإن قراءتهم البسملة في أول السورة عند الشروع في قراءة سورة غير مسبوقة بقراءة سورة قبلها تُعلَّل بالتيمن باقتفاء أثر كُتَّاب المصحف ، أي قصد التشبُه في مجرد ابتداء فعل تشبيهاً لابتداء القراءة بابتداء الكتابة . فتكون قراءتهم البسملة أمراً مستحباً للتأسي في القراءة بما فعله الصحابة الكاتبون للمصحف ، فقراءة البسملة عند هؤلاء نظير النطْق بالاستعاذة ونظير التهليل والتكبير بين بعض السور مِن آخر المفصَّل ، ولا يبسملون في قراءة الصلاة الفريضة ، وهؤلاء إذا قرأوا في صلاة الفريضة تجري قراءتهم على ما انتهى إليه فهمهم من أمر البسملة من اجتهاد أو تقليد . وبهذا تعلم أنه لا ينبغي أن يؤخذ من قراءتهم قولٌ لهم بأن البسملة آية من أول كل سورة كما فعل صاحب « الكشاف » والبيضاوي .
واختلفوا في قراءة البسملة في غير الشروع في قراءة سورةٍ من أولها ، أي في قراءة البسملة بين السورتين .
فورش عن نافع في أشهر الروايات عنه وابنُ عامر ، وأبو عمرو ، وحمزة ، ويعقوبُ ، وخلف ، لا يبسملون بين السورتين وذلك يعلل بأن التشبُّه بفعل كتَّاب المصحف خاص بالابتداء ، وبحملهم رسمَ البسملة في المصحف على أنه علامة على ابتداء السورة لا على الفصل ، إذ لو كانت البسملة علامة على الفصل بين السورة والتي تليها لما كتبت في أول سورة الفاتحة ، فكان صنيعُهم وجيهاً لأنهم جمعوا بين ما روَوه عن سلفهم وبين دليلِ قصد التيمن ، ودليل رأيهم أن البسملة ليست آية من أول كل سورة .
وقالون عن نافع وابنُ كثير وعاصمٌ والكسائي وأبو جعفر يبسملون بين السورتين سوى ما بين الأنفال وبراءة ، وعدوه من سنة القراءة ، وليس حظهم في ذلك إلا اتباع سلفهم ، إذ ليس جميعهم من أهل الاجتهاد ، ولعلهم طردوا قصد التيمن بمشابهة كُتَّاب المصحف في الإشعار بابتداء السورة والإشعار بانتهاء التي قبلها .
واتفق المسلمون على ترك البسملة في أول سورة براءة وقد تبين وجه ذلك آنفاً ، ووجَّهه الأئمة بوجوه أخر تأتي في أول سورة براءة ، وذكر الجاحظ في « البيان والتبيين »{[47]} أن مُؤرِّجاً السَّدُوسي البصري سمع رجلاً يقول : « أميرُ المؤمنين يَرُدُّ على المظلوم » فرجع مؤرج إلى مُصحفه فردَّ على براءة بسم الله الرحمن الرحيم ، ويحمل هذا الذي صنعه مُؤَرج إن صح عنه إنما هو على التمليح والهزل وليس على الجد .
وفي هذا ما يدل على أن اختلاف مذاهب القراء في قراءة البسملة في مواضع من القرآن ابتداء ووصلاً كما تقدم لا أثر له في الاختلاف في حكم قراءتها في الصلاة ، فإن قراءتها في الصلاة تجري على أحكام النظر في الأدلة ، وليست مذاهب القراء بمعدودة من أدلة الفقه ، وإنما قراءاتهم روايات وسنة متبعة في قراءة القرآن دون استناد إلى اعتبار أحكام رواية القرآن من تواتر ودونه ، ولا إلى وجوب واستحباب وتخيير ، فالقارىء يقرأ كما روى عن معلميه ولا ينظر في حكم ما يقرأه من لزوم كونه كما قرأ أو عدم اللزوم ، فالقراء تجري أعمالهم في صلاتهم على نزعاتهم في الفقه من اجتهاد وتقليد ، ويوضح غلط من ظن أن خلاف الفقهاء في إثبات البسملة وعدمه مبني على خلاف القراء ، كما يوضح تسامح صاحب « الكشاف » في عده مذاهب القراء في نسق مذاهب الفقهاء . وإنما اختلف المجتهدون لأجل الأدلة التي تقدم بيانها ، وأما الموافقة بينهم وبين قراء أمصارهم غالباً في هاته المسألة فسببه شيوع القول بين أهل ذلك العصر بما قال به فقهاؤه في المسائل ، أو شيوع الأدلة التي تلقاها المجتهدون من مشائخهم بين أهل ذلك العصر ولو من قبل ظهور المجتهد مثل سَبْق نافِعِ بن أبي نعيم إلى عدم ذكر البسملة قبل أن يقول مالك بعدم جزئيتها ؛ لأن مالكاً تلقى أدلة نفيِ الجزئية عن علماء المدينة وعنهم أو عن شيوخهم تلقى نافع بن أبي نعيم ، وإذ قد كنا قد تقلدنا مذهب مالك واطمأننا لمداركه في انتفاء كون البسملة آية من أول سورة البقرة كان حقاً علينا أن لا نتعرض لتفسيرها هنا وأن نرجئه إلى الكلام على قوله تعالى في سورة النمل :
{ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } غير أننا لما وجدنا من سلفنا من المفسرين كلهم لم يهملوا الكلام على البسملة في هذا الموضع اقتفينا أثرهم إذ صار ذلك مصطلح المفسرين .
واعلم أن متعلق المجرور في { بسم الله } محذوف تقديره هنا أقرأ ، وسبب حذف متعلق المجرور أن البسملة سنت عند ابتداء الأعمال الصالحة فَحُذف متعلق المجرور فيها حذفاً ملتزماً إيجازاً اعتماداً على القرينة ، وقد حكى القرآن قول سحرة فرعون عند شروعهم في السحر بقوله : { فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون } [ الشعراء : 44 ] وذكر صاحب « الكشاف » أن أهل الجاهلية كانوا يقولون في ابتداء أعمالهم : « باسم اللاتِ باسم العُزَّى » فالمجرور ظرف لغو معمول للفعل المحذوف ومتعلق به وليس ظرفاً مستقراً مثل الظروف التي تقع أخباراً ، وَدليل المتعلق ينبىء عنه العمل الذي شُرع فيه فتعين أن يكون فعلاً خاصاً من النوع الدال على معنى العمل المشروع فيه دون المتعلِّق العام مثل أبتَدِىء لأن القرينة الدالة على المتعلق هي الفعل المشروع فيه المبدوء بالبسملة فتعين أن يكون المقدر اللفظ الدال على ذلك الفعل ، ولا يجري{[48]} في هذا الخلاف الواقع بين النحاة في كون متعلق الظروف هل يقدر اسماً نحو كائن أو مُستقر أم فعلاً نحو كان أو استقر لأن ذلك الخلاف في الظروف الواقعة أخباراً أو أحوالاً بناء على تعارض مقتضى تقدير الاسم وهو كونه الأصل في الأخبار والحالية ، ومقتضى تقدير الفعل وهو كونه الأصل في العمل لأن ما هنا ظرف لغو ، والأصل فيه أن يعدى الأفعال ويتعلق بها ، ولأن مقصد المبتدىء بالبسملة أن يكون جميع عمله ذلك مقارناً لبركة اسم الله تعالى فلذلك ناسب أن يقدر متعلق الجار لفظاً دالاً على الفعل المشروع فيه . وهو أنسب لتعميم التيمن لإجزاء الفعل ، فالابتداء من هذه الجهة أقل عموماً ، فتقدير الفعل العام يخصص وتقدير الفعل الخاص يعمم وهذا يشبه أن يلغز به . وهذا التقدير من المقدرات التي دلت عليها القرائن كقول الداعي للمُعَرِّس « بالرفاء والبنين »{[49]} وقول المسافر عند حلوله وترحاله « باسم الله والبركات » وقول نساء العرب عندما يَزفُفْنَ العروس « ياليُمْنِ والبركة وعلَى الطائر الميمون » ولذلك كان تقدير الفعل هاهنا واضحاً .
وقد أسعف هذا الحذف بفائدة وهي صلوحية البسملة ليَبتَدِىءَ بها كلُّ شارع في فعل فلا يلجأ إلى مخالفة لفظ القرآن عند اقتباسه ، والحذف من قبيل الإيجاز لأنه حذف ما قد يصرح به في الكلام ، بخلاف متعلقات الظروف المستقرة نحو عندك خير ، فإنهم لا يظهرون المتعلق فلا يقولون خير كائن عندك ولذلك عدوا نحو قوله :
* فإنك كالليل الذي هو مُدركي *
من المساواة دون الإيجاز يعني مع ما فيه من حذف المتعلق . وإذ قد كان المتعلق محذوفاً تعين أن يقدر في موضعه متقدِّماً على المتعلِّق به كما هو أصل الكلام ؛ إذ لا قصد هنا لإفادة البسملة الحَصر ، ودعوى صاحب « الكشاف » تقديره مُؤخراً تعمق غير مقبول ، لا سيما عند حالة الحذف ، فالأنسب أن يقدر على حسب الأصل .
والباء باء الملابسة والملابسة ، هي المصاحبة ، وهي الإلصاق أيضاً فهذه مترادفات في الدلالة على هذا المعنى وهي كما في قوله تعالى : { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] وقولهم : « بالرفاء والبنين » وهذا المعنى هو أكثر معاني الباء وأشهرها ، قال سيبويه : الإلصاق لا يفارق الباء وإليه ترجع تصاريف معانيها ولذلك قال صاحب « الكشاف » : « وهذا الوجه ( أي الملابسة ) أعْرَبُ وأحسن » أي أحسن من جعل الباء للآلة أي أدخل في العربية وأحسن لما فيه من زيادة التبرك بملابسة جميع أجزاء الفعل لاسمه تعالى .
والاسم لفظ جُعِل دالاً على ذات حسية أو معنوية بشخصها أو نوعها ، وجعله أئمة البصرة مشتقاً من السمو وهو الرفعة لأنها تتحقق في إطلاقات الاسم ولو بتأويل فإن أصل الاسم في كلام العرب هو العلم ولا توضع الأعلام إلا لشيء مهتم به ، وهذا اعتداد بالأصل والغالب ، وإلا فقد توضع الأعلام لغير ما يهتم به كما قالوا فَجَارِ علم للفَجْرة . فأصل صيغته عند البصريين من الناقص الواوي فهو إما سِمْو بوزن حِمْل ، أو سُمْو بوزن قفل فحذفت اللام حذفاً لمجرد التخفيف أو لكثرة الاستعمال ولذلك جرى الإعراب على الحرف الباقي ، لأنه لو حذفت لامه لعلة صرفية لكان الإعراب مقدراً على الحرف المحذوف كما في نحو قاضٍ وجَوارٍ ، فلما جرى الإعراب على الحرف الباقي الذي كان ساكناً نقلوا سكونه للمتحرك وهو أول الكلمة وجلبوا همزة الوصل للنطق بالساكن ؛ إذ العرب لا تستحسن الابتداء بحرف ساكن لابتناء لغتهم على التخفيف ، وقد قضوا باجتلاب الهمزة وطراً ثانياً من التخفيف وهوعود الكلمة إلى الثلاثي لأن الأسماء التي تبقى بالحذف على حرفين كيدٍ ودمٍ لا تخلو من ثِقل ، وفي هذا دليل على أن الهمزة لم تجتلب لتعويض الحرف المحذوف وإلا لاجتلبوها في يدٍ ودمٍ وغدٍ .
وقد احتجوا على أن أصله كذلك بجمعه على أسماء بوزن أفعال ، فظهرت في آخره همزة وهي منقلبة عن الواو المتطرفة إثر ألف الجمع ، وبأنه جمع على أساميّ وهو جمع الجمع بوزن أفاعيل بإدغام ياء الجمع في لام الكلمة ويجوز تخفيفها كما في أثافِي وأَماني ، وبأنه صُغِّر على سُمَي .
وأن الفعل منه سمَّيْت ، وهي حجج بينة على أن أصله من الناقص الواوي . وبأنه يقال سُمىً كهدى ؛ لأنهم صاغوه على فُعَل كرُطَب فتنقلب الواو المتحركة ألفاً إثر الفتحة وأنشدوا على ذلك قول أبي خالد القَنَاني الراجز{[50]} :
واللَّهُ أَسْمَاكَ سُمًى مُبارَكاً *** آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إِيثَارَكا
وقال ابن يعيش : لا حجة فيه لاحتمال كونه لغة من قال سُم والنصب فيه نصب إعراب لا نصب الإعلال ، ورده عبد الحكيم بأن كتابته بالإمالة تدل على خلاف ذلك . وعندي فيه أن الكتابة لا تتعلق بها الرواية فلعل الذين كتبوه بالياء هم الذين ظنوه مقصوراً ، على أن قياسها الكتابة بالألف مطلقاً لأنه واوي إلا إذا أريد عدم التباس الألف بألف النصب . ورَأْيُ البصريين أرجح من ناحية تصاريف هذا اللفظ . وذهب الكوفيون إلى أن أصله وِسْم بكسر الواو لأنه من السمة وهي العَلامة ، فحذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليبقى على ثلاثة أحرف ثم يتوسل بذلك إلى تخفيفه في الوصل ، وكأنهم رأوا أن لا وجه لاشتقاقه من السمو لأنه قد يستعمل لأشياء غير سامية وقد علمتَ وجه الجواب ، ورأي الكوفيين أرجح من جانب الاشتقاق دون التصريف ، على أن همزة الوصل لم يعهد دخولها على ما حذف صدره وردوا استدلال البصريين بتصاريفه بأنها يحتمل أن تكون تلك التصاريف من القلب المكاني بأن يكون أصل اسم وسم ، ثم نقلت الواو التي هي فاء الكلمة فجعلت لاماً ليتوسل بذلك إلى حذفها ورد في تصرفاته في الموضع الذي حذف منه لأنه تنوسي أصله ، وأجيب عن ذلك بأن هذا بعيد لأنه خلاف الأصل وبأن القلب لا يلزم الكلمة في سائر تصاريفها وإلا لما عرف أصل تلك الكلمة . وقد اتفق علماء اللغة على أن التصاريف هي التي يعرف بها الزائد من الأصلي والمنقلب من غيره .
وزعم ابن حزم في كتاب « الملل والنحل » أن كلا قولي البصريين والكوفيين فاسد افتعله النحاة ولم يصح عن العرب وأن لفظ الاسم غير مشتق بل هو جامد وتطاول ببذاءته عليهم وهي جرأة عجيبة ، وقد قال تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [ النحل : 43 ] .
وإنما أقحم لفظ اسم مضافاً إلى علم الجلالة إذ قيل ( بسم الله ) ولم يقل بالله لأن المقصود أن يكون الفعل المشروع فيه من شؤون أهل التوحيد الموسومة باسم الإله الواحد فلذلك تقحم كلمة اسم في كل ما كان على هذا المقصد كالتسمية على النسك قال تعالى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 118 ] وقال : { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 119 ] وكالأفعال التي يقصد بها التيمن والتبرك وحصول المعونة مثل : { اقرأ باسم ربك } [ العلق : 1 ] فاسم الله هو الذي تمكن مقارنته للأفعال لا ذاته ، ففي مثل هذا لا يحسن أن يقال بالله لأنه حينئذٍ يكون المعنى أنه يستمد من الله تيسيراً وتصرفاً من تصرفات قدرته وليس ذلك هو المقصود بالشروع ، فقوله تعالى : { فسبح باسم ربك العظيم } [ الواقعة : 74 ] أَمْرٌ بأن يقول سبحان الله ، وقوله : { وسبحه } [ الإنسان : 26 ] أمْرٌ بتنزيه ذاته وصفاته عن النقائص ، فاستعمال لفظ الاسم في هذا بمنزلة استعمال سمات الإبل عند القبائل ، وبمنزلة استعمال القبائل شعار تعارفهم{[51]} ، واستعمال الجيوش شعارهم المصطلح عليه . والخلاصة{[52]} أن كل مقام يقصد فيه التيمن والانتساب إلى الرب الواحد الواجب الوجود يعدى فيه الفعل إلى لفظ اسم الله كقوله : { وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها } [ هود : 41 ] وفي الحديث في دعاء الاضطجاع : " باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه " وكذلك المقام الذي يقصد فيه ذكر اسم الله تعالى كقوله تعالى : { فسبح باسم ربك العظيم } أي قل سبحان الله : { سبح اسم ربك الأعلى } [ الأعلى : 1 ] وكل مقام يقصد فيه طلب التيسير والعون من الله تعالى يعدى الفعل المسؤول إلى علم الذات باعتبار ما له من صفات الخلق والتكوين كما في قوله تعالى : { فاسجد له } [ الإنسان : 26 ] وقوله في الحديث : " اللهم بك نصبح وبك نمسي " أي بقدرتك ومشيئتك وكذلك المقام الذي يقصد فيه توجه الفعل إلى الله تعالى كقوله تعالى : { فاسجد له } { وسبحه } أي نزه ذاته وحقيقته عن النقائص . فمعنى ( بسم الله الرحمن الرحيم ) أقرأ قراءة ملابسة لبركة هذا الاسم المبارك .
هذا وقد ورد في استعمال العرب توسعات في إطلاق لفظ الاسم مرة يعنون به ما يرادف المسمى كقول النابغة :
نبئتُ زُرعة والسفاهةُ كاسمها *** يُهدى إليَّ غرائبَ الأَشعار
يعني أن السفاهة هي هي لا تُعرَّف للناس بأكثر من اسمها وهو قريب من استعمال اسم الإشارة في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] . أي مثل ذلك الجعل الواضح الشهير ويطلقون الاسم مقحماً زائداً كما في قول لبيد :
* إلى الحولِ ثم اسم السلام عليكُما* يعني ثم السلام عليكما وليس هذا خاصاً بلفظ الاسم بل يجىء فيما يرادفه مثل الكلمة في قوله تعالى : { وألزمهم كلمة التقوى } [ الفتح : 26 ] وكذلك « لفظ » في قول بشار هاجياً :
وكذاك ، كان أبوك يؤثر بالهُنَى *** ويظل في لَفْظِ النَّدى يتَرَدَّد
وقد يطلق الاسم وما في معناه كنايةً عن وجود المسمى ، ومنه قوله تعالى : { وجعلوا لله شركاء قل سموهم } [ الرعد : 33 ] والأمر للتعجيز أي أثبتوا وجودهم ووضعَ أسماء لهم . فهذه اطلاقات أخرى ليس ذكر اسم الله في البسملة من قبيلها ، وإنما نبهنا عليها لأن بعض المفسرين خلط بها في تفسير البسملة ، ذكرتها هنا توضيحاً ليكون نظركم فيها فسيحاً فشدوا بها يداً ولا تتبعوا طرائق قدداً .
وقد تكلموا على ملحظ تطويل الباء في رسم البسملة بكلام كله غير مقنع ، والذي يظهر لي أن الصحابة لما كتبوا المصحف طولوها في سورة النمل للإشارة إلى أنها مبدأ كتاب سليمان فهي من المحكي ، فلما جعلوها علامة على فواتح السور نقلوها برسمها ، وتطويل الباء فيها صالح لاتخاذه قدوة في ابتداء الغرض الجديد من الكلام بحرف غليظ أو ملون .
والكلام على اسم الجلالة ووصفه يأتي في تفسير قوله تعالى : { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم } [ الفاتحة : 2 ، 3 ] .
ومناسبة الجمع في البسملة بين علم الجلالة وبين صفتي الرحمن الرحيم ، قال البيضاوي إن المُسمِّي إذا قصَد الاستعانة بالمعبود الحق الموصوف بأنه مُولي النعم كلها جليلها ودقيقها يذكر عَلَم الذات إشارة إلى استحقاقه أن يستعان به بالذات ، ثم يذكر وصف الرحمن إشارة إلى أن الاستعانة على الأعمال الصالحة وهي نعم ، وذكر الرحيم للوجوه التي سنذكرها في عطف صفة الرحيم على صفة الرحمن .
وقال الأستاذ الإمام محمد عبده : إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم ونحوها باسم الأب والابن والروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم ، فجاءت فاتحة كتابِ الإسلام بالرد عليهم موقظة لهم بأن الإله الواحد وإن تعددت أسماؤه فإنما هو تعدد الأوصاف دون تعدد المسميات ، يعني فهو رد عليهم بتغليظ وتبليد . وإذا صح أن فواتح النصارى وأدعيتهم كانت تشتمل على ذلك إذ الناقل أمين فهي نكتة لطيفة .
وعندي أن البسملة كان ما يرادفها قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه السلام فهي من كلام الحنيفية ، فقد حكى الله عن إبراهيم أنه قال لأبيه : { يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن } [ مريم : 45 ] ، وقال : { سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً } [ مريم : 47 ] ومعنى الحفي قريب من معنى الرحيم . وحُكِي عنه قوله : { وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم } [ البقرة : 128 ] . وورد ذكر مرادفها في كتاب سليمان إلى ملكة سبأ : { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين } [ النمل : 30 ، 31 ] . والمظنون أن سليمان اقتدى في افتتاح كتابه بالبسملة بسنة موروثة من عهد إبراهيم جعلها إبراهيم كلمة باقية في وارثي نبوته ، وأن الله أحيا هذه السنة في الإسلام في جملة ما أوحى له من الحنيفية كما قال تعالى : { ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل } [ الحج : 78 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
سورة فاتحة الكتاب... وهي مدنية...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
القول في تأويل أسماء فاتحة الكتاب:
صَحَّ الخبرُ... عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هي أمّ القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني. فهذه أسماءُ فاتحة الكتاب.
وسمّيت "فاتحة الكتاب"، لأنها يُفتتح بكتابتها المصاحف، ويُقرأ بها في الصلوات، فهي فَواتح لما يتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراءة.
وسمّيت "أم القرآن "لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها، وتأخُّر ما سواها خلفها في القراءة والكتابة. وذلك من معناها شبيهٌ بمعنى فاتحة الكتاب...
وأما تأويل اسمها أنها" السَّبْعُ"؛ فإنها سبعُ آيات، لا خلاف بين الجميع من القرَّاء والعلماء في ذلك. وإنما اختلفوا في الآي التي صارت بها سبع آيات...
وأما وصف النبي صلى الله عليه وسلم آياتها السبعَ بأنهن مَثان، فلأنها تُثْنَى قراءتها في كل صلاة تطوُّع ومكتوبة. وكذلك كان الحسن البصري يتأوّل ذلك...
قراءة فاتحة الكتاب... تقتضي أمر الله تعالى إيانا بفعل الحمد، وتعليم لنا كيف نحمده، وكيف الثناء عليه، وكيف الدعاء له، ودلالة على أن تقديم الحمد والثناء على الله تعالى على الدعاء أولى وأحرى بالإجابة، لأن السورة مفتتحة بذكر الحمد ثم بالثناء على الله، وهو قوله: {الحمد لله رب العالمين} إلى {مالك يوم الدين}. ثم الاعتراف بالعبادة له وإفرادها له دون غيره بقوله: {إياك نعبد}. ثم الاستعانة به في القيام بعبادته في سائر ما بنا الحاجة إليه من أمور الدنيا والدين وهو قوله: {إياك نستعين}. ثم الدعاء بالتثبيت على الهداية التي هدانا لها؛ من وجوب الحمد له واستحقاق الثناء والعبادة، لأن قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} هو دعاء للهداية والتثبيت عليها في المستقبل، إذ غير جائز ذلك في الماضي؛ وهو التوفيق عما ضل عنه الكفّار من معرفة الله وحمده والثناء عليه، فاستحقوا لذلك غضبه وعقابه. والدليلُ على أن قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين}، مع أنه تعليم لنا الحمد، هو أمرٌ لنا به، قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين}؛ فاعلَمْ أن الأمر بقول الحمد مُضمرٌ في ابتداء السورة، وهو مع ما ذكرنا رُقْيَةٌ وعُوذةٌ وشفاء، لما روي عن أبي سعيد، قال: كنا في سريَّة فمررنا بحيّ من العرب فقالوا: سيِّدٌ لنا لدغته العقربُ، فهل فيكم راقٍ؟ قال: قلت: أنا، ولم أفعل حتى جعلوا لنا جُعْلاً، جعلوا لنا شاةً. قال: فقرأت عليه فاتحة الكتاب سبع مرات، فبرأ؛ فأخذت الشاة، ثم قلت: حتى نأتي النبي عليه السلام. فأتيناه فأخبرناه، فقال:"علمت أنها رقية حق. اضربوا لي معكم بسهم"...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
الاستعاذة: ثبت بالكتاب والسنة أن يستعيذ القارئ لقراءة القرآن، فيقول:"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". وهو نص الكتاب، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من نفخه ونفثه وهمزه".
أحدهما: أنها الاستجارة بذي منعة.
والثاني: أنها الاستعانة عن خضوع.
أحدهما: أنها خبر يخبر به المرء عن نفسه بأنه مستعيذ بالله.
والثاني: أنها في معنى الدعاء وإن كانت بلفظ الخبر، كأنه يقول: أعذني يا سميع يا عليم من الشيطان الرجيم.
في الاستعاذة... اثنتا عشرة مسألة:
الأولى: أمر الله تعالى بالاستعاذة عند أول كل قراءة فقال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل:98] أي إذا أردت أن تقرأ، فأَوْقَعَ الماضي موقع المستقبل...
الثانية: هذا الأمر على الندب في قول الجمهور في كل قراءة في غير الصلاة. واختلفوا فيه في الصلاة. حكى النقاش عن عطاء: أن الاستعاذة واجبة. وكان ابن سيرين والنخعي وقوم يتعوذون في الصلاة كل ركعة، ويمتثلون أمر الله في الاستعاذة على العموم، وأبو حنيفة والشافعي يتعوذان في الركعة الأولى من الصلاة ويريان قراءة الصلاة كلها قراءة واحدة، ومالِكٌ لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في قيام رمضان.
الثالثة: أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آيةً منه، وهو قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهذا اللفظ هو الذي عليه الجمهور من العلماء في التعوذ لأنه لفظ كتاب الله تعالى.
الرابعة: روى أبو داود وابن ماجه في سننهما عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة فقال عمرو: لا أدري أي صلاة هي؟ فقال: (الله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً- ثلاثاً -الحمد لله كثيراً الحمد لله كثيراً- ثلاثاً -وسبحان الله بكرة وأصيلا- ثلاثاً -وأعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه). قال عمرو: همزه: المؤتة، ونفثه الشعر، ونفخه الكبر. وقال ابن ماجه: المؤتة يعني الجنون. والنفث: نفخ الرجل من فِيهِ من غير أن يخرج ريقه. والكبر: التّيه.
السابعة:... قال أبو بكر بن العربي: "فإن قيل: فما الفائدة في الاستعاذة من الشيطان الرجيم وقت القراءة؟ قلنا: فائدتها امتثال الأمر، وليس للشرعيات فائدة إلا القيام بحق الوفاء لها في امتثالها أمراً أو اجتنابها نهياً، وقد قيل: فائدتها امتثال الأمر بالاستعاذة من وسوسة الشيطان عند القراءة، كما قال تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته "[الحج:52]...
الثامنة: في فضل التعوذ: روى مسلم عن سليمان بن صرد قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل تدري ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً؟ قال: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). فقال له الرجل: أمجنوناً تراني! أخرجه البخاري أيضاً.
وروى مسلم أيضاً عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً) قال: ففعلت فأذهبه الله عني"...
التاسعة: معنى الاستعاذة في كلام العرب: الاستجارة والتحيز إلى الشيء، على معنى الامتناع به من المكروه، يقال: عذت بفلان واستعذت به، أي لجأت إليه.
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: (أيما رجل صلى صلاة بغير قراءة أم القرآن فهي خداج، فهي خداج –غير تمام- قال: قلت: إني لأستطيع أقرأ مع الإمام، قال: اقرأ بها في نفسك، فإن الله يقول قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، وآخرها لعبدي، وله ما سأل؛ قال: {الحمد لله رب العالمين}، قال: حمدني عبدي، قال: {الرحمان الرحيم}، قال: أثنى علي عبدي، قال: {ملك يوم الدين}، قال: مجدني عبدي، فهذا لي، قال: {إياك نعبد وإياك نستعين}، قال: أخلص العبادة لي واستعانني عليها، فهذه بيني وبين عبدي وله ما سأل، قال: {اهدنا الصراط المستقيم}، إلى قوله: {ولا الضالين}، هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) (التمهيد: 20/ 188).
قال أبو عمر: أما قوله –صلى الله عليه وسلم-: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج)، فإن هذا يوجب قراءة فاتحة الكتاب في كل صلاة، وأن الصلاة إذا لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خداج، والخداج: النقص والفساد، من ذلك قولهم: أخدجت الناقة وخدجت: إذا ولدت قبل تمام وقتها، وقبل تمام الخلق، وذلك نتاج فاسد. (التمهيد: 20/191-192).
قال ابن عباس، وموسى بن جعفر عن أبيه، وعلي بن الحسين، وقتادة، وأبو العالية، ومحمد بن يحيى بن حبان: إنها مكية، ويؤيد هذا أن في سورة الحجر {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} [الحجر: 87] والحجر مكية بإجماع.
وفي حديث أُبَيّ بن كعب أنها السبع المثاني، والسبع الطُّول نزلت بعد الحجر بمدد، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنها كانت قط في الإسلام صلاة بغير "الحمد لله رب العالمين".
وروي عن عطاء بن يسار، وسوادة بن زياد، والزهري محمد بن مسلم، وعبد الله بن عبيد بن عمير أن سورة الحمد مدنية.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
وتسمى أم القرآن، لأنها مفتتحه ومبدأه، فكأنها أصله ومنشؤه، ولذلك تسمى أساسا. أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله سبحانه وتعالى، والتعبد بأمره ونهيه وبيان وعده ووعيده. أو على جملة معانيه من الحكم النظرية، والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال. وتضمنتها أكمل تضمُّن.
فاشتملت على التعريف بالمعبود -تبارك وتعالى- بثلاثة أسماء، مرجعُ الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها، ومدارها عليها، وهي: «الله، والرب، والرحمن». وبنيت السورة على «الإلهية»، و«الربوبية»، و«الرحمة».
ف {إياك نعبد}: مبني على الإلهية، و {إياك نستعين}: على الربوبية، و«طلب الهداية إلى الصراط المستقيم» بصفة الرحمة.
و«الحمد»: يتضمن الأمور الثلاثة؛ فهو المحمود – سبحانه وتعالى -في إلهيته وربوبيته ورحمته، والثناءُ والمَجْدُ كمالان لجَدِّه.
وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم- حَسَنِهَا وسَيِّئِهَا -وتفرُّدَ الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق، وكونَ حكمه بالعدل، وكل هذا تحت قوله {مالك يوم الدين}.
وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة:
فلا يليق به – سبحانه- أن يترك عباده سُدًى هَمَلًا لا يُعرِّفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وما يضرهم فيهما. فهذا هَضْم للربوبية، ونسبةُ «الرب» تعالى إلى ما لا يليق به. وما قَدَره حق قدْره مَنْ نَسَبَه إليه.
الثاني: (أخْذُها مِن اسم «الله»):
وهو: المألوه المعبود، ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله.
الموضع الثالث: (مِن اسمه «الرحمن»):
فإن رحمته تمنع إهمالَ عباده، وعدمَ تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم. فمن أعطَى اسمَ «الرحمن» حقَّه عَرَف أنه متضمن لإرسال الرسل وإنزال الكتب، أعظمَ من تضمُّنه إنزالَ الغيث، وإنباتَ الكلأ، وإخراجَ الحَبِّ. فاقتضاء الرحمة لِما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح؛ لكنِ المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم والدواب، وأدرك منه أولو الألباب أمرًا وراء ذلك.
الموضع الرابع: (مِن ذِكر «يوم الدين»):
فإنه اليوم الذي يدين الله العباد فيه بأعمالهم، فيثيبهم على الخيرات؛ ويعاقبهم على المعاصي والسيئات. وما كان الله ليعذب أحدا قبل إقامة الحجة عليه. والحجة إنما قامت برسله وكتبه، وبهم استحق الثواب والعقاب، وبهم قام سوق يوم الدين، وسيق الأبرار إلى النعيم، والفجار إلى الجحيم.
الموضع الخامس: (من قوله «إياك نعبد»):
فإن ما يُعبد به الرب تعالى لا يكون إلا على ما يحبه ويرضاه، وعبادته (وهي شكره وحبه وخشيته) فطري ومعقول للعقول السليمة؛ لكن طريق التعبد وما يُعبد به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله وبيانِهم. وفي هذا بيانُ أن إرسال الرسل أمر مستقر في العقول. يستحيل تعطيل العالم عنه. كما يستحيل تعطيله عن الصانع. فمن أنكر الرسول فقد أنكر المرسِل. ولم يؤمن به. ولهذا جعل الله سبحانه الكفر برسله كفرا به.
الموضع السادس: (من قوله «اهدنا الصراط المستقيم»):
فالهداية: هي البيان والدلالة، ثم التوفيق والإلهام، وهو بعد البيان والدلالة، ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل؛ فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتَّب عليه هدايةُ التوفيق، وجعلُ الإيمان في القلب، وتحبيبُه إليه، وتزيينُه في القلب، وجعلُه مُؤْثِرا له، راضيا به، راغبا فيه.
وهما هدايتان مستقلتان، لا يحصل الفلاح إلا بهما، وهما متضمنتان تعريفَ ما لم نَعْلَمْه من الحق تفصيلا وإجمالا، وإلهامَنا له، وجعْلَنا مريدين لاتباعه ظاهرا وباطنا، ثم خَلْقَ القدرة لنا على القيام بموجِب الهُدى بالقول والعمل والعزم، ثم إدامةَ ذلك لنا وتثبيتَنا عليه إلى الوفاة.
ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة، وبطلان قول من يقول: إذا كُنَّا مهتدين فكيف نسأل الهداية؟
فإن المجهول لنا من الحق أضعافُ المعلوم. وما لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثلُ ما نريده أو أكثر منه أو دونه. وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك. وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأَمْرٌ يفُوت الحصر. ونحن محتاجون إلى الهداية التامة؛ فمن كَمُلت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤالَ التثبيت والدوام.
وللهداية مرتبة أخرى -وهي آخر مراتبها- وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة وهو الصراط الموصل إليها؛ فمن هُدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أَرْسَل به رُسلَه وأَنزَل به كتبَه، هُدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه.
وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قَدَمه على الصراط المنصوب على مَتْن جهنم. وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط؛ فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالطَّرْف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشَدِّ الركاب، ومنهم من يسعى سعيا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يحبو حَبْوًا، ومنهم المخدوش المسلَّم، ومنهم المكردَس في النار.
فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا، حذو القُذَّة بالقذة. جزاء وفاقا {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} [النحل: 90].
ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم؛ فإنها الكلاليب التي بجَنبتي ذاك الصراط، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه. فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك، {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46].
فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير. والسلامة من كل شر.
الموضع السابع: (من معرفة نفس المسئول -وهو الصراط المستقيم)،
ولا تكون الطريق «صراطا» حتى تتضمن خمسة أمور:
الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب، وسعته للمارين عليه، وتعيُّنه طريقًا للمقصود. ولا يخفى تضمُّن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة.
فوصفُه بالاستقامة يتضمن قربه؛ لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين، وكلما تَعوَّجَ طال وبَعُد، واستقامتُه تتضمن إيصاله إلى المقصود، ونصبُه لجميع من يمر عليه يستلزم سَعَته، وإضافتُه إلى المنعَم عليهم، ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال، يستلزم تَعَيُّنَه طريقًا.
و«الصراط» تارة يضاف إلى الله؛ إذ هو الذي شرعه ونصبه، كقوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما} [الأنعام: 153]، وقوله: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله} [الشورى: 25، 53].
وتارة يضاف إلى العباد -كما في الفاتحة- لكونهم أهل سلوكه، وهو المنسوب لهم، وهم المارون عليه.
[العالم بالحق ولا يعمل به ويتبع هواه: مغضوب عليه]
الموضع الثامن: (من ذكر المنعَم عليهم) وتمييزِهم عن طائفتي «الغضب» و«الضلال»؛ فانقسم الناس، بحسب معرفة الحق والعمل به، إلى هذه الأقسام الثلاثة؛ لأن العبد إما أن يكون عالما بالحق، أو جاهلا به. والعالم بالحق إما أن يكون عاملا بموجبه أو مخالفا له. فهذه أقسام المكلَّفين، لا يخرجون عنها البتة.
فالعالِم بالحق العامل به هو المنعَم عليه، وهو الذي زكَّى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وهو المُفلِح {قد أفلح من زكاها} [الشمس: 9].
والعالِم به المتبع هواه هو المغضوب عليه.
والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل، والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل، فكلٌّ منهما ضال مغضوب عليه؛ ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به، ومن هاهنا كان اليهود أحق به، وهو متغلظ في حقهم، كقوله تعالى في حقهم {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب} [البقرة: 90]، وقال تعالى: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل} [المائدة: 60].
والجاهل بالحق أحق باسم الضلال، ومن هنا وُصفت النصارى به في قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77]. فالأُولى في سياق الخطاب مع اليهود، والثانية: في سياقه مع النصارى.
وفي «الترمذي» و«صحيح ابن حِبَّان» من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون».
ففي ذكر المنعَمِ عليهم -وهم من عَرَف الحق واتبعه-، والمغضوبِ عليهم -وهم من عرفه واتبع هواه-، والضالين -وهم من جَهله-، ما يستلزم ثبوت الرسالة والنبوة؛ لأن انقسام الناس إلى ذلك هو الواقع المشهود، وهذه القسمة إنما أوجبها ثبوت الرسالة.
[لماذا قال: المغضوب عليهم، ولم يقل:"غضِبْتَ عليهم" – ك {أنعمتَ عليهم}؟]
وأضاف النعمة إليه، وحَذَف فاعل الغضب لوجوه:
منها: أن «النعمة» هي الخير والفضل، و«الغضب» من باب الانتقام والعدل، والرحمة تغلب الغضب، فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين، وأسبقهما وأقواهما.
وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إليه سبحانه، وحذفِ الفاعل في مقابلتهما، كقول مؤمني الجن {وأنَّا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} [الجن: 10]. ومنه قول الخَضِر في شأن الجدار واليتيمين: {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما} [الكهف: 82]، وقال في خرق السفينة {فأردت أن أعيبها} [الكهف: 79]، ثم قال بعد ذلك: {وما فعلته عن أمري}، وتأمل قوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} [البقرة: 187] وقوله: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} [المائدة: 3] وقوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23]، ثم قال: {وأحل لكم ما رواء ذلكم} [النساء: 24].
[مطلق النعمة على المؤمن والكافر، والنعمة المطلقة للمؤمن فقط]
وفي تخصيصه لأهل «الصراط المستقيم» بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم، وأما مطلق النعمة: فعلى المؤمن والكافر، فكل الخلق في نعمة،
وهذا فصل النزاع في مسألة: هل للَّه على الكافر من نعمة أم لا؟ فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان، ومطلق النعمة تكون للمؤمن والكافر، كما قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} [إبراهيم: 34].
و«النعمة» من جنس الإحسان؛ بل هي الإحسان. والرب تعالى إحسانُه على البَرِّ والفاجر، والمؤمن والكافر. وأما «الإحسان المطلق»: فللذين اتقوا والذين هم محسنون،
الوجه الثاني: أن الله سبحانه هو المنفرد بالنعم {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل: 53] فأضيف إليه ما هو منفرد به، وإن أضيف إلى غيره فلكونه طريقا ومَجْرى للنعمة.
وأما «الغضب على أعدائه»: فلا يختص به تعالى؛ بل ملائكتُه وأنبياؤه ورسلُه وأولياؤه يغضبون لغضبه، فكان في لفظة «المغضوب عليهم» بموافقة أوليائه له من الدلالة على تفرده بالإنعام، وأن النعمة المطلقة منه وحده، هو المنفرد بها -ما ليس في لفظة «المنعم عليهم».
الوجه الثالث: أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه، وتحقيره وتصغير شأنه ما ليس في ذكر فاعل النعمة، من إكرام المنعَم عليه والإشادة بذكره، ورفع قدره، ما ليس في حذفه.
فإذا رأيت مَنْ قد أكرمه مَلِكٌ وشرَّفه، ورفع قدرَه، فقلتَ: هذا الذي أكرمه السلطان، وخلع عليه وأعطاه ما تمناه، كان أبلغَ في الثناء والتعظيم من قولك: هذا الذي أُكرِم وخُلِع عليه وشُرِّف وأُعطِيَ.
وتأمل سرا بديعا في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره، فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية، التي هي العلم النافع والعمل الصالح، وهي الهدى ودين الحق، ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء، فهذا تمام النعمة، ولفظ {أنعمت عليهم} يتضمن الأمرين.
وذِكر غضبه على {المغضوب عليهم} يتضمن أيضا أمرين: الجزاءَ بالغضب الذي موجبه غايةُ العذاب والهوان، والسببَ الذي استحقوا به غضبه سبحانه، فإنه أرحم وأرأف من أن يغضب بلا جناية منهم ولا ضلال، فكأن الغضب عليهم مستلزم لضلالهم، وذكر {الضالين} مستلزم لغضبه عليهم وعقابه لهم، فإن من ضل استحق العقوبة التي هي موجب ضلاله، وغضب الله عليه.
فاستلزم وصف كل واحد من الطوائف الثلاث للسبب والجزاء أَبْيَنَ استلزام، واقتضاه أكمل اقتضاء، في غاية الإيجاز والبيان والفصاحة، مع ذكر الفاعل في أهل السعادة، وحذفه في أهل الغضب، وإسناد الفعل إلى السبب في أهل الضلال.
[تلازم الهداية والنعمة. وتلازم الغضب والضلال]
وتأمَّل المقابلةَ بين الهداية والنعمة، والغضب والضلال، فذَكَر «المغضوب عليهم» و«الضالين» في مقابلة المهتدين المنعمِ عليهم. وهذا كثير في القرآن؛ يقرن بين الضلال والشقاء، وبين الهدى والفلاح.
فالثاني كقوله: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} [البقرة: 5] وقوله: {أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 72]. والأول كقوله تعالى: {إن المجرمين في ضلال وسعر} [القمر: 47]. وقوله: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} [البقرة: 7].
وقد جمع سبحانه بين الأمور الأربعة في قوله: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} [طه: 123]، فهذا الهدى والسعادة. ثم قال: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 123. 126] فذَكَر الضلال والشقاء.
فالهُدى والسعادة متلازمان، والضلال والشقاء متلازمان.
فصل [الطريق الموصل إلى الله طريق واحد]
وذَكَر {الصراط المستقيم} مفردا مُعَرَّفا تعريفين: تعريفا باللام، وتعريفا بالإضافة. وذلك يفيد تعيُّنه واختصاصه، وأنه صراط واحد.
وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها، كقوله: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] فوحَّد لفظ «الصراط» و «سبيله»، وجمع «السبل» المخالفة له.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: خَطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا، وقال: «هذا سبيل الله»، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره، وقال: «هذه سُبُلٌ، على كل سبيل شيطان يدعو إليه»، ثم قرأ قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام: 153].
وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد، وهو ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق. ولو أتى الناس من كل طريق، واستفتحوا من كل باب فالطُّرُق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة؛ إلا من هذا الطريق الواحد، فإنه متصل بالله، موصل إلى الله.
ولما كان طالب «الصراط المستقيم» طالِبَ أَمْرٍ أكثَرُ الناس ناكبون عنه، مريدا لسلوك طريقٍ مُرَافِقُه فيها في غاية القلة والعزة، والنفوس مجبولة على وحشة التفرد وعلى الأنس بالرفيق، نَبَّه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق، وأنهم هم {الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [النساء: 69]، فأضاف «الصراط» إلى الرفيق السالكين له، وهم {الذين أنعم الله عليهم}. ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه. وليعلم أن رفيقه في هذا «الصراط»: هم {الذين أنعم الله عليهم}. فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له. فإنهم هم الأقلون قدرا. وإن كانوا الأكثرين عددا. كما قال بعض السلف: «عليك بطريق الحق. ولا تستوحش لقلة السالكين. وإياك وطريق الباطل. ولا تغتر بكثرة الهالكين».
وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغض الطرف عمن سواهم، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا. وإذا صاحوا بك في طريق سيرك، فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك.
وقد ضربت لذلك مثلين. فليكونا منك على بال:
المثل الأول: رجل خرج من بيته إلى الصلاة- لا يريد غيرها -فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس. فألقى عليه كلاما يؤذيه. فوقف ورد عليه. وتماسكا. فربما كان شيطان الإنس أقوى منه. فقهره. ومنعه عن الوصول إلى المسجد. حتى فاتته الصلاة. وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس. ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول. وكمال إدراك الجماعة. فإن التفت إليه أطمعه في نفسه. وربما فترت عزيمته. فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجَمْز بقدر التفاته أو أكثر. فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده. وخاف فوت الصلاة أو الوقت: لم يبلغ عدوه منه ما شاء.
المثل الثاني: الظبي أشد سعيا من الكلب. ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه فيدركه الكلب فيأخذه.
والقصد: أن في ذكر هذا الرفيق: ما يزيل وحشة التفرد، ويحث على السير والتشمير للحاق بهم.
وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت: «اللهم اهدني فيمن هديت». أي: أدخلني في هذه الزمرة، واجعلني رفيقا لهم ومعهم.
والفائدة الثانية: أنه توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية (أي قد أنعمت بالهداية على من هديت، وكان ذلك نعمة منك، فاجعل لي نصيبا من هذه النعمة، واجعلني واحدا من هؤلاء المنعم عليهم). فهو توسل إلى الله بإحسانه.
والفائدة الثالثة: كما يقول السائل للكريم: تصدق عليّ في جملة من تصدقت عليهم، وعلمني في جملة من علمته، وأحسن إليّ في جملة من شملته بإحسانك.
فصل [كيفية الدعاء المستجاب، وصيغة سؤال الله]
ولما كان سؤال الله الهداية إلى «الصراط المستقيم» أجل المطالب، ونَيْلُه أشرفَ المواهب، علَّم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم، توسلٌ إليه بأسمائه وصفاته، وتوسل إليه بعبوديته.
وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء. ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الاسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في «صحيحه» والإمام أحمد والترمذي.
أحدهما: حديث عبد الله بن بُريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو، ويقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى» قال الترمذي: حديث صحيح.
فهذا توسل إلى الله بتوحيده، وشهادة الداعي له بالوحدانية. وثبوت صفاته المدلول عليها باسم «الصمد»، وهو كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «العالم الذي كمل علمه، القادر الذي كملت قدرته». وفي رواية عنه: «هو السيد الذي قد كمل فيه جميع أنواع السؤدد». وقال أبو وائل: «هو السيد الذي انتهى سؤدده». وقال سعيد بن جبير: «هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وأقواله».
وبنفي التشبيه والتمثيل عنه بقوله: «ولم يكن له كفوا أحد»، وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة، والتوسل بالإيمان بذلك، والشهادة به هو الاسم الأعظم.
[التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته]
والثاني: حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد سأل الله باسمه الأعظم». فهذا توسل إليه بأسمائه وصفاته.
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين. وهما: «التوسل بالحمد والثناء عليه وتمجيده»، و«التوسل إليه بعبوديته وتوحيده». ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب- وهو الهداية -بعد الوسيلتين، فالداعي به حقيق بالإجابة.
ونظير هذا: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم- الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل -رواه البخاري في «صحيحه» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «اللهم لك الحمد. أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد. أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد. أنت الحق. ووعدك الحق. ولقاؤك حق. والجنة حق. والنار حق. والنبيون حق. والساعة حق. ومحمد حق. اللهم لك أسلمت. وبك آمنت. وعليك توكلت. وإليك أنبت. وبك خاصمت. وإليك حاكمت. فاغفر لي ما قدمت وما أخرت. وما أسررت وما أعلنت. أنت إلهي لا إله إلا أنت» فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له. ثم سأله المغفرة.
فصل: [في اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم]
التوحيد نوعان: نوع في العلم والاعتقاد، ونوع في الإرادة والقصد.
ويسمى الأول: التوحيد العلمي، والثاني: التوحيد القصدي الإرادي، لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة، والثاني بالقصد والإرادة.
وهذا الثاني أيضا نوعان: توحيد في الربوبية، وتوحيد في الإلهية.
فأما «توحيد العلم»، فمداره إلى إثبات صفات الكمال، وعلى نفي التشبيه والمثال، والتنزيه عن العيوب والنقائص. وقد دل على هذا شيئان: مجمل، ومفصل.
أما «المجمل»: فإثبات الحمد له سبحانه. وأما «المفصل»: فذكر صفة: الإلهية، والربوبية، والرحمة، والملك. وعلى هذه الأربع مدار الأسماء والصفات.
[دلالة «الحمد لله» على توحيد الله]
فأما تضمن الحمد لذلك: فإن «الحمد» يتضمن مدح المحمود بصفات كماله، ونعوت جلاله، مع محبته والرضا عنه، والخضوع له، فلا يكون حامدا من جحد صفات المحمود، ولا من أعرض عن محبته والخضوع له.
وكلما كانت صفات كمال المحمود أكثر، كان حمده أكمل. وكلما نقص من صفات كماله، نقص من حمده بحسبها. ولهذا كان الحمد لله حمدا لا يحصيه سواه، لكمال صفاته وكثرتها. ولأجل هذا لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه، لما له من صفات الكمال، ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه. ولهذا ذم الله تعالى آلهة الكفار وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها، فعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر، ولا تتكلم ولا تهدي، ولا تنفع ولا تضر.
فكل سلب في القرآن حمد الله به نفسه، فلمضادته لثبوت ضده، ولتضمنه كمال ثبوت ضده.
فعلمت أن «حقيقة الحمد» تابعة لثبوت أوصاف الكمال، وأن نفيها نفي لحمده، ونفي الحمد مستلزم لثبوت ضده. فهذا دلالة الحمد على توحيد الأسماء والصفات.
فصل [دلالة الأسماء الخمسة على توحيد الله]
وأما دلالة الأسماء الخمسة عليها – وهي: (الله. والرب. والرحمن. والرحيم. والملك) فمبني على أصلين:
أحدهما: أن أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله، فهي مشتقة من الصفات، فهي أسماء، وهي أوصاف، وبذلك كانت حسنى، إذ لو كانت ألفاظا لا معاني فيها، لم تكن حسنى، ولا كانت دالة على مدح ولا كمال، ولساغ وقوع أسماء الانتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان، وبالعكس، فيقال: اللهم إني ظلمت نفسي، فاغفر لي، إنك أنت المنتقم. واللهم أعطني، فإنك أنت الضار المان، ونحو ذلك.
فصل [دلالة أسماء الله على ذاته ولوازم صفاته سبحانه]
الأصل الثاني: أن الاسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدل على الذات والصفة التي اشتق منها بالمطابقة، فإنه يدل عليه دلالتين أخريين بالتضمن واللزوم؛ فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن، وكذلك على الذات المجردة عن الصفة، ويدل على الصفة الأخرى باللزوم.
فإن اسم «السميع» يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة، وعلى الذات وحدها، وعلى السمع وحده بالتضمن، ويدل على اسم «الحي» وصفة الحياة بالالتزام. وكذلك سائر أسمائه وصفاته.
فصل [اسم «الله» مستلزم لجميع الأسماء الحسنى والصفات العليا]
إذا تقرر هذان الأصلان. فاسم «الله» دال على جميع الأسماء الحسنى. والصفات العليا بالدلالات الثلاث. فإنه دال على «إلهيته» المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له. مع نفي أضدادها عنه.
وصفات الإلهية: هي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والمثال وعن العيوب والنقائص؛ ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم، كقوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى} [الأعراف: 180]. ويقال: «الرحمن. والرحيم. والقدوس. والسلام. والعزيز. والحكيم» من أسماء الله، ولا يقال: «الله» من أسماء «الرحمن» ولا من أسماء «العزيز» ونحو ذلك.
فعلم أن اسمه «الله» مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال عليها بالإجمال. والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية، التي اشتق منها اسم «الله»، واسم «الله» دال على كونه مألوها معبودا، تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا، وفزعا إليه في الحوائج والنوائب. وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنين لكمال الملك والحمد. وإلهيتُه وربوبيتُه ورحمانيتُه ومُلكُه مستلزم لجميع صفات كماله؛ إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أفعاله.
وصفاتُ الجلال والجمال أخصُّ باسم «الله»، وصفاتُ الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخصُّ باسم «الرب».
وصفات الإحسان، والجود والبر، والحنان والمنة، والرأفة واللطف أخصُّ باسم «الرحمن»، وكرّر إيذانا بثبوت الوصف، وحصول أثره، وتعلقه بمتعلقاته.
فـ«الرحمن»: الذي الرحمة وصْفُه. و«الرحيم»: الراحم لعباده؛ ولهذا يقول تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيما} [الأحزاب: 43]. {إنه بهم رءوف رحيم} [التوبة: 117]. ولم يجئ «رحمان بعباده». ولا «رحمان بالمؤمنين». مع ما في اسم «الرحمن» الذي هو على وزن «فعلان» من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه الموصوف به.
ألا ترى أنهم يقولون: «غضبان». للممتلئ غضبا، و«ندمان» و«حيران» و«سكران» و«لهفان» لِمَنْ مُلِئَ بذلك؛ فبناء «فعلان» للسعة والشمول.
ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيرا. كقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]. {ثم استوى على العرش الرحمن} [الفرقان: 59]. فاستوى على عرشه باسم «الرحمن»؛ لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها، والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم، كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156]. فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات؛ فلذلك وسعت رحمته كل شيء.
وفي «الصحيح» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده موضوع على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي». وفي لفظ: «فهو عنده على العرش».
وصفات العدل والقبض والبسط والخفض والرفع والعطاء والمنع والإعزاز والإذلال والقهر والحكم ونحوِها أخصُّ باسم «المَلِك»، وخَصَّه بيوم الدين -وهو الجزاء بالعدل- لتفَرُّده بالحكم فيه وحده، ولأنه اليوم الحق، وما قبله كساعة، ولأنه الغايةُ وأيام الدنيا مراحلُ إليه.
فصل [الخلق والأمر نشأ من الأسماء الثلاثة]
وتأمل ارتباط «الخلق والأمر» بهذه الأسماء الثلاثة، وهي (الله والرب والرحمن) كيف نشأ عنها الخلق والأمر والثواب والعقاب، وكيف جمعت الخلق وفرقتهم؛ فلها الجمع ولها الفرق.
فاسم «الرب» له الجمع الجامع لجميع المخلوقات؛ فهو رب كل شيء وخالقه والقادر عليه، لا يخرج شيء عن ربوبيته، وكل من في السماوات والأرض عبد له في قبضته وتحت قهره؛ فاجتمعوا بصفة الربوبية وافترقوا بصفة الإلهية؛ فألهه وحده السعداء وأقروا له طوعا بأنه الله الذي لا إله إلا هو الذي لا تنبغي العبادة والتوكل والرجاء والخوف والحب والإنابة والإخبات والخشية والتذلل والخضوع إلَّا لَهُ.
وهنا افترق الناس وصاروا فريقين: فريقا مشركين في السعير، وفريقا موحدين في الجنة. فالإلهية هي التي فرقتهم كما أن الربوبية هي التي جمعتهم.
فالدين والشرع والأمر والنهي – مظهره وقيامه- من صفة الإلهية. والخلق والإيجاد والتدبير والفعل من صفة الربوبية. والجزاء بالثواب والعقاب والجنة والنار من صفة الملك وهو ملك يوم الدين.
فأمرهم بإلهيته وأعانهم ووفَّقَهُم وهَدَاهم وأضلهم بربوبيته، وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله، وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى.
وأما «الرحمة»: فهي التعلق والسبب الذي بيْن الله وبين عباده ف«التأليه» منهم له و«الربوبية» منه لهم، و«الرحمة» سبب واصل بينه وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه، وبها هداهم وبها أسكنهم دار ثوابه، وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم؛ فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينه وبينهم سبب الرحمة.
واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته. ف {الرحمن على العرش استوى} مطابق لقوله {رب العالمين، الرحمن الرحيم} فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها، فوسع كل شيء برحمته وربوبيته مع أن في كونه ربا للعالمين ما يدل على علوه على خلقه وكونه فوق كل شيء. كما يأتي بيانه إن شاء الله.
فصل [لله تعالى جميع أقسام الكمال والحمد]
في ذكر هذه الأسماء بعد «الحمد»، وإيقاع الحمد على مضمونها ومقتضاها، ما يدل على أنه محمود في إلهيته، محمود في ربوبيته، محمود في رحمانيته، محمود في ملكه، وأنه إله محمود، ورب محمود، ورحمان محمود، ومَلِكٌ محمود.
فله بذلك جميع أقسام الكمال: كمال من هذا الاسم بمفرده، وكمال من الآخر بمفرده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر.
مثال ذلك قوله تعالى: {والله غني حميد}، {والله عليم حكيم}، {والله قدير}، {والله غفور رحيم}:
فـ«الغِنَى» صفة كمال، و«الحمد» صفة كمال، واقتران غناه بحمده كمال أيضا.
وعلمه كمال، وحكمته كمال، واقتران العلم بالحكمة كمال أيضا.
وقدرتُه كمال، ومغفرته كمال، واقتران القدرة بالمغفرة كمال. وكذلك العفو بعد القدرة {فإن الله كان عفوا قديرا} [النساء: 149]. واقتران العلم بالحلم {والله عليم حليم} [النساء: 12].
وحملة العرش أربعة: اثنان يقولان: «سبحانك اللهم وبحمدك. لك الحمد على حلمك بعد علمك». واثنان يقولان: «سبحانك اللهم وبحمدك. لك الحمد على عفوك بعد قدرتك». فما كل من قدر عفا، ولا كل من عفا يعفو عن قدرة، ولا كل من علم يكون حليما، ولا كل حليم عالم.
فما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة، ومن ملك إلى حمد، ومن عزة إلى رحمة {وإن ربك لهو العزيز الرحيم} [الشعراء: 9].
ومن هاهنا كان قول المسيح عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 117] أحسن من أن يقول: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم. أي إن غفرت لهم كان مصدر مغفرتك عن عزة، وهي كمال القدرة، وعن حكمة، وهي كمال العلم؛ فمن غفر عن عجز وجهل بجرم الجاني لا يكون قادرا حكيما عليما. بل لا يكون ذلك إلا عجزا؛ فأنت لا تغفر إلا عن قدرة تامة، وعلم تام، وحكمة تضع بها الأشياء مواضعها، فهذا أحسن من ذكر «الغفور الرحيم» في هذا الموضع الدال ذكره على التعريض بطلب المغفرة في غير حينها، وقد فاتت؛ فإنه لو قال: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، كان في هذا من الاستعطاف والتعريض بطلب المغفرة لمن لا يستحقها، ما ينزه عنه منصب المسيح عليه السلام، لاسيما والموقف موقف عظمة وجلال، وموقف انتقام ممن جعل لله ولدا، واتخذه إلها من دونه؛ فذكر العزة والحكمة فيه أليق من ذكر الرحمة والمغفرة.
وهذا بخلاف قول الخليل عليه السلام: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيرا من الناس، فمن تبعني فإنه مني، ومن عصاني فإنك غفور رحيم} [إبراهيم: 35. 36]. ولم يقل: فإنك عزيز حكيم؛ لأن المقام استعطاف وتعريض بالدعاء. أي إن تغفر لهم وترحمهم. بأن توفقهم للرجوع من الشرك إلى التوحيد، ومن المعصية إلى الطاعة، كما في الحديث: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
وفي هذا أظهر الدلالة على أن أسماء الرب تعالى مشتقة من أوصاف ومعان قامت به، وأن كل اسم يناسب ما ذكر معه واقترن به من فعله وأمره، والله الموفق للصواب.
فصل: (في مراتب الهداية الخاصة والعامة. وهي عشر مراتب)
المرتبة الأولى: (مرتبة تكليم الله عز وجل لعبده يقظة بلا واسطة. بل منه إليه).
وهذه أعلى مراتبها. كما كلم موسى بن عمران. صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه. قال الله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164]؛ فذكر في أول الآية وحيه إلى نوح والنبيين من بعده، ثم خص موسى من بينهم بالإخبار بأنه كلمه؛ وهذا يدل على أن «التكليم» الذي حصل له أخص من مطلق الوحي الذي ذكر في أول الآية. ثم أكده بالمصدر الحقيقي الذي هو مصدر «كلم» هو «التكليم» رفعاً لما يتوهمه المعطلة والجهمية والمعتزلة وغيرهم من أنه إلهام. أو إشارة. أو تعريف للمعنى النفسي بشيء غير التكليم. فأكده بالمصدر المفيد تحقيق النسبة ورفع توهم المجاز. قال الفراء: العرب تسمى ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل؛ ولكن لا تحققه بالمصدر، فإذا حققته بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام، كالإرادة، يقال: فلان أراد إرادة، يريدون حقيقة الإرادة. ويقال: أراد الجدار، ولا يقال: إرادة لأنه مجاز غير حقيقة. هذا كلامه.
وقال تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143]. وهذا التكليم غير التكليم الأول الذي أرسله به إلى فرعون. وفي هذا «التكليم الثاني» سأل النظر، لا في الأول. وفيه أُعطي الألواح. وكان عن مواعدة من الله له. و«التكليم الأول» لم يكن عن مواعدة، وفيه قال الله له: {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 144]. أي: بتكليمي لك بإجماع السلف.
وقد أخبر سبحانه في كتابه أنه ناداه وناجاه؛ فالنداء من بُعد، والنجاء من قرب. تقول العرب: إذا كبرت الحلقة فهو نداء، أو نجاء. وقال له أبوه آدم – عليه السلام -في محاجته: «أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه. وخط لك التوراة بيده؟». وكذلك يقوله له أهل الموقف إذا طلبوا منه الشفاعة إلى ربه. وكذلك في حديث الإسراء في رؤية موسى – عليه السلام- في السماء السادسة -أو السابعة- على اختلاف الرواية. قال: «وذلك بتفضيله بكلام الله».
ولو كان «التكليم» الذي حصل له من جنس ما حصل لغيره من الأنبياء لم يكن لهذا التخصيص به في هذه الأحاديث معنى. ولا كان يسمى «كليم الرحمن». وقال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51]. ففرق بين تكليم الوحي. والتكليم بإرسال الرسول. والتكليم من وراء حجاب.
فصل: (المرتبة الثانية: مرتبة الوحي المختص بالأنبياء)
قال الله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163]. وقال: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب} الآية [الشورى: 51]. فجعل الوحي في هذه الآية قسما من أقسام التكليم. وجعله في آية النساء قسيما للتكليم. وذلك باعتبارين؛ فإنه قسيم التكليم الخاص الذي هو بلا واسطة، وقسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعددة.
و«الوحي» في اللغة: هو الإعلام السريع الخفي. ويقال في فعله: «وَحَى». و«أوحى».
فصل: (المرتبة الثالثة: إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري)
فيوحي إليه عن الله ما أمره أن يوصله إليه.
فهذه المراتب الثلاث خاصة بالأنبياء. لا تكون لغيرهم.
ثم هذا الرسول الملكي قد يتمثل للرسول البشرى رجلا. يراه عيانا ويخاطبه. وقد يراه على صورته التي خلق عليها. وقد يدخل فيه الملك، ويوحي إليه ما يوحيه، ثم يَفْصِم عنه، أي يقلع. والثلاثة حصلت لنبينا صلى الله عليه وسلم.
فصل: (المرتبة الرابعة: مرتبة التحديث)
وهذه دون مرتبة الوحي الخاص، وتكون دون مرتبة الصديقين، كما كانت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون، فإن يكن في هذه الأمة فعمر بن الخطاب».
وسمعت شيخ الإسلام -تقي الدين بن تيمية رحمه الله يقول: «جزم بأنهم كائنون في الأمم قبلنا. وعلق وجودهم في هذه الأمة ب «إن» الشرطية. مع أنها أفضل الأمم؛ لاحتياج الأمم قبلنا إليهم، واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته صلى الله عليه وسلم. فلم يحوج الله – سبحانه وتعالى- الأمة بعده إلى مُحدِّث ولا مُلْهَم. ولا صاحب كشف ولا منام. فهذا التعليق لكمال الأمة واستغنائها لا لنقصها.
و«المحدَّث»: هو الذي يحدَّث في سره وقلبه بالشيء. فيكون كما يحدَّث به.
قال شيخنا: «والصديق أكمل من المحدَّث؛ لأنه استغنى بكمال صديقيته ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف؛ فإنه قد سَلَّم قلبه كله وسره وظاهره وباطنه للرسول صلى الله عليه وسلم، فاستغنى به عما منه.
قال: وكان هذا المحدَّث يعرض ما يحدَّث به على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن وافقه قَبِلَه، وإلا ردَّه، فعُلم أن مرتبة الصديقية فوق مرتبة التحديث.
فصل: (المرتبة الخامسة: مرتبة الإفهام)
قال الله تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء: 78. 79] فذكر هذين النبيين الكريمين، وأثنى عليهما بالعلم والحكم، وخص سليمان – عليه السلام- بالفهم في هذه الواقعة المعينة.
وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سُئل: «هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟» -فقال: «لا. والذي فَلَق الحبة وبرأ النَّسَمة. إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه، وما في هذه الصحيفة- وكان فيها العقل -وهو الديات- وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر».
وفي كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: «والفهم الفهم فيما أُدلي إليك».
فالفهم نعمة من الله على عبده، ونور يقذفه الله في قلبه، يعرف به ويدرك مالا يدركه غيره ولا يعرفه، فيفهم من النص مالا يفهمه غيره، مع استوائهما في حفظه، وفهم أصل معناه.
فالفهم عن الله ورسوله صلى الله عليها وسلم عنوان الصديقية، ومنشور الولاية النبوية، وفيه تفاوتت مراتب العلماء، حتى عُدَّ ألفٌ بواحد. فانظر إلى فهم ابن عباس رضي الله عنهما، وقد سأله عمر رضي الله عنه ومن حضر من أهل بدر وغيرهم عن سورة {إذا جاء نصر الله والفتح}. وما خص به ابن عباس من فهمه منها «أنها نَعْيُ الله سبحانه نبيه إلى نفسه، وإعلامه بحضور أجله»، وموافقة عمر رضي الله عنه له على ذلك. وخفائه عن غيرهما من الصحابة، وابن عباس إذ ذاك أحدثهم سنا. وأين تجد في هذه السورة الإعلام بأجله لولا الفهم الخاص؟
ويدِق هذا حتى يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهام أكثر الناس، فيحتاج مع النص إلى غيره، ولا يقع الاستغناء بالنصوص في حقه. وأما في حق صاحب الفهم، فلا يحتاج مع النصوص إلى غيرها.
فصل: (المرتبة السادسة: مرتبة البيان العام)
وهو تبيين الحق وتمييزه من الباطل بأدلته وشواهده وأعلامه، بحيث يصير مشهودا للقلب كشهود العين للمرئيات.
وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدا ولا يضله إلا بعد وصوله إليها، قال الله تعالى: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} [التوبة: 115]؛ فهذا الإضلال عقوبة منه لهم حين بيَّن لهم، فلم يقبلوا ما بيَّنه لهم، ولم يعملوا به؛ فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى. وما أضل الله سبحانه أحدا قط إلا بعد هذا البيان.
وإذا عرفت هذا عرفت سر القدَر، وزالت عنك شكوك كثيرة وشبهات في هذا الباب، وعلمت حكمة الله في إضلاله من يضله من عباده.
والقرآن يصرح بهذا في غير موضع، كقوله: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5]. {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم} [النساء: 155]؛ فالأول كفر عناد، والثاني كفر طبع. وقوله: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأنعام: 110]؛ فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تيقنوه وتحققوه. بأن قلَّب أفئدتهم وأبصارهم فلم يهتدوا له.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل. فإنه موضع عظيم.
وقال تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17]. فهذا هدى بعد البيان والدلالة. وهو شرط لا موجب. فإنه إن لم يقترن به هدى آخر بعده لم يحصل به كمال الاهتداء، وهو هدى التوفيق والإلهام.
وهذا البيان نوعان: بيان بالآيات المسموعة المتلوة، وبيان بالآيات المشهودة المرئية. وكلاهما أدلة وآيات على توحيد الله وأسمائه وصفاته وكماله وصدق ما أخبرت به رسله عنه؛ ولهذا يدعو عباده بآياته المتلوة إلى التفكير في آياته المشهودة، ويحضهم على التفكر في هذه وهذه. وهذا البيان هو الذي بعثت به الرسل، وجعل إليهم وإلى العلماء بعدهم. وبعد ذلك يضل الله من يشاء، قال الله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم} [إبراهيم: 4]؛ فالرسل تُبيِّن، والله هو الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء بعزته وحكمته.
فصل: (المرتبة السابعة: البيان الخاص)
وهو البيان المستلزم للهداية الخاصة، وهو بيان تقارنه العناية والتوفيق والاجتباء، وقطع أسباب الخذلان وموادها عن القلب فلا تتخلف عنه الهداية البتة.
قال تعالى في هذه المرتبة: {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل} [النحل: 37]. وقال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56]؛ فالبيان الأول شرط، وهذا موجب.
فصل: (المرتبة الثامنة: مرتبة الإسماع)
قال الله تعالى: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 23]. وقد قال تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء، وما أنت بمسمع من في القبور، إن أنت إلا نذير} [فاطر: 19. 23].
وهذا الإسماع أخص من إسماع الحجة والتبليغ؛ فإن ذلك حاصل لهم. وبه قامت الحجة عليهم؛ لكن ذاك إسماع الآذان، وهذا إسماع القلوب.
فإن الكلام له لفظ ومعنى، وله نسبة إلى الآذان والقلب وتعلق بهما؛ فسماع لفظه حظ الأذن، وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب؛ فإنه سبحانه نفى عن الكفار سماع المقصود والمراد الذي هو حظ القلب، وأثبت لهم سماع الألفاظ الذي هو حظ الأذن في قوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم} [الأنبياء: 2. 3]، وهذا السماع لا يفيد السامع إلا قيام الحجة عليه، أو تمكنه منها. وأما مقصود السماع وثمرته والمطلوب منه فلا يحصل مع لهو القلب وغفلته وإعراضه؛ بل يخرج السامع قائلا للحاضر معه: {ماذا قال آنفا. أولئك الذين طبع الله على قلوبهم} [محمد: 16].
والفرق بين هذه المرتبة ومرتبة الإفهام أن هذه المرتبة إنما تحصل بواسطة الأذن. ومرتبة الإفهام أعم؛ فهي أخص من مرتبة الفهم من هذا الوجه. ومرتبة الفهم أخص من وجه آخر. وهي أنها تتعلق بالمعنى المراد ولوازمه ومتعلقاته وإشاراته.
ومرتبة السماع مدارها على إيصال المقصود بالخطاب إلى القلب. ويترتب على هذا السماع سماع القبول.
فهو إذن ثلاث مراتب: سماع الأذن. وسماع القلب. وسماع القبول والإجابة.
فصل: (المرتبة التاسعة: مرتبة الإلهام)
قال تعالى: {ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس: 7. 8]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين بن منذر الخزاعي رضي الله عنه لما أسلم: «قل: اللهم ألهمني رشدي. وقني شر نفسي».
وقد جعل صاحب «المنازل»: «الإلهام هو مقام المحدَّثين». قال: «وهو فوق مقام الفراسة؛ لأن الفراسة ربما وقعت نادرة. واستصعبت على صاحبها وقتا. أو استعصت عليه. والإلهام لا يكون إلا في مقام عتيد».
قلت: التحديث أخص من الإلهام. فإن الإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم فكل مؤمن فقد ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان.
فأما التحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: «إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر». يعني من المحدَّثين؛ فالتحديث إلهام خاص، وهو الوحي إلى غير الأنبياء إما من المكلفين، كقوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7] وقوله: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} [المائدة: 111]، وإما من غير المكلفين. كقوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون} [النحل: 68]. فهذا كله وحي إلهام.
وأما جعله فوق مقام الفراسة. فقد احتج عليه بأن «الفراسة» ربما وقعت نادرة كما تقدم، والنادر لا حكم له. وربما استعصت على صاحبها واستصعبت عليه فلم تطاوعه، و«الإلهام» لا يكون إلا في مقام عتيد، يعني في مقام القرب والحضور.
والتحقيق في هذا: أن كل واحد من «الفراسة» و«الإلهام» ينقسم إلى عام وخاص. وخاصُّ كل واحد منهما فوق عامِّ الآخر. وعامُّ كل واحد قد يقع كثيرا. وخاصُّه قد يقع نادرا؛ ولكن الفرق الصحيح: أن «الفراسة» قد تتعلق بنوع كسب وتحصيل، وأما «الإلهام» فموهبة مجردة. لا تنال بكسب البتة.
قال: «وهو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: نبأ يقع وحيا قاطعا مقرونا بسماع؛ إذ مطلق النبأ: الخبرُ الذي له شأن؛ فليس كل خبر نبأ، وهو نبأ خبر عن غيب معظم.
ويريد بالوحي والإلهام: الإعلام الذي يقطع من وصل إليه بموجبه، إما بواسطة سمع، أو هو الإعلام بلا واسطة.
قلت: أما حصوله بواسطة سمع، فليس ذلك إلهاما؛ بل هو من قبيل الخطاب. وهذا يستحيل حصوله لغير الأنبياء، وهو الذي خُصَّ به موسى -عليه السلام- إذ كان المخاطِبُ هو الحق عز وجل.
فصل: [عود إلى بيان درجات الإلهام]
قال «الدرجة الثانية: إلهام يقع عيانا، وعلامة صحته: أنه لا يخرق سترا، ولا يجاوز حدا، ولا يخطئ أبدا».
الفرق بين هذا وبين الإلهام في الدرجة الأولى: أن ذلك علم شبيه بالضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب، وهذا معاينة ومكاشفة؛ فهو فوقه في الدرجة، وأتم منه ظهورا، ونسبته إلى القلب نسبة المرئي إلى العين، وذَكَر له ثلاث علامات:
إحداها: «أنه لا يخرق سترا»: أي صاحبه إذا كوشف بحال غير المستور عنه لا يخرق ستره ويكشفه، خيرا كان أو شرا. أو أنه لا يخرق ما ستره الله من نفسه عن الناس. بل يستر نفسه، ويستر من كوشف بحاله.
الثانية: «أنه لا يجاوز حدا»: يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه لا يتجاوز به إلى ارتكاب المعاصي وتجاوز حدود الله، مثل الكهان وأصحاب الكشف الشيطاني.
الثاني: أنه لا يقع على خلاف الحدود الشرعية، مثل أن يتجسس به على العورات التي نهى الله عن التجسس عليها وتتبعها؛ فإذا تتبعها وقع عليها بهذا الكشف، فهو شيطاني لا رحماني.
الثالثة: «أنه لا يخطئ أبدا». بخلاف الشيطاني؛ فإن خطأه كثير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صائد «ما ترى؟» قال: أرى صادقا وكاذبا. فقال صلى الله عليه وسلم: «لُبِّس عليك». فالكشف الشيطاني لابد أن يكذب. ولا يستمر صدقه البتة.
فصل [الدرجة الثالثة: جلاء الحقيقة في عين الملهم]
قال «الدرجة الثالثة: إلهام يجلو عين التحقيق صرفا، وينطق عن عين الأزل محضا، والإلهام غاية تمتنع الإشارة إليها».
عين التحقيق عنده: هي الفناء في شهود الحقيقة. بحيث يضمحل كل ما سواها في ذلك الشهود، وتعود الرسوم أعداما محضة.
فالإلهام في هذه الدرجة يجلو هذا العين للملهم صرفا، بحيث لا يمازجها شيء من إدراك العقول ولا الحواس. فإن كان هناك إدراك عقلي أو حسي لم يتمحض جلاء عين الحقيقة. والناطق عن هذا الكشف عندهم: لا يفهم عنه إلا من هو معه ومشارك له. وعند أرباب هذا الكشف أن كل الخلق عنه في حجاب، وعندهم أن العلم والعقل والحال حجب عليه، وأن خطاب الخلق إنما يكون على لسان الحجاب، وأنهم لا يفهمون لغة ما وراء الحجاب من المعنى المحجوب؛ فلذلك تمتنع الإشارة إليه والعبارة عنه؛ فإن الإشارة والعبارة إنما يتعلقان بالمحسوس والمعقول، وهذا أمر وراء الحس والعقل.
وحاصل هذا الإلهام: أنه إلهام ترتفع معه الوسائط وتضمحل وتعدم؛ لكن في الشهود لا في الوجود. وأما الاتحادية القائلون بوحدة الوجود: فإنهم يجعلون ذلك اضمحلالا وعدما في الوجود. ويجعلون صاحب «المنازل» منهم. وهو بريء منهم عقلا ودينا وحالا ومعرفة. والله أعلم.
فصل: (المرتبة العاشرة من مراتب الهداية: الرؤيا الصادقة)
وهي من أجزاء النبوة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة».
وقد قيل في سبب هذا التخصيص المذكور: إن أول مبتدأ الوحي كان هو الرؤيا الصادقة، وذلك نصف سنة، ثم انتقل إلى وحي اليقظة مدة ثلاث وعشرين سنة، من حين بعث إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه؛ فنسبة مدة الوحي في المنام من ذلك: جزء من ستة وأربعين جزءا، وهذا حسنٌ لولا ما جاء في الرواية الأخرى الصحيحة: «إنها جزء من سبعين جزءا».
وقد قيل في الجمع بينهما: إن ذلك بحسب حال الرائي؛ فإن رؤيا الصديقين من ستة وأربعين، ورؤيا عموم المؤمنين الصادقة من سبعين. والله أعلم.
والرؤيا: مبدأ الوحي، وصدقُها بحسب صدق الرائي. و«أصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا. وهي عند اقتراب الزمان لا تكاد تخطئ». كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لبعد العهد بالنبوة وآثارها، فيتعوض المؤمنون بالرؤيا، وأما في زمن قوة نور النبوة: ففي ظهور نورها وقوته ما يغني عن الرؤيا.
ونظير هذا: «الكرامات» التي ظهرت بعد عصر الصحابة، ولم تظهر عليهم؛ لاستغنائهم عنها بقوة إيمانهم، واحتياج من بعدهم إليها لضعف إيمانهم. وقد نص أحمد على هذا المعنى. وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام». وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات». قيل: وما المبشرات. يا رسول الله؟ قال: «الرؤيا الصالحة. يراها المؤمن أو ترى له».
وإذا تواطأت رؤيا المسلمين لم تكذب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما أروا ليلة القدر في العشر الأواخر قال: «أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر. فمن كان منكم مُتَحَرِّيهَا فليتحرها في العشر الأواخر من رمضان».
والرؤيا كالكشف: منها رحماني. ومنها نفساني. ومنها شيطاني.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام».
والذي هو من أسباب الهداية: هو الرؤيا التي مِنَ الله خاصة.
ورؤيا الأنبياء وحي: فإنها معصومة من الشيطان، وهذا باتفاق الأمة؛ ولهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام بالرؤيا.
وأما رؤيا غيرهم فتعرض على الوحي الصريح، فإن وافقته وإلا لم يعمل بها.
فإن قيل: فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة. أو تواطأت؟.
قلنا: متى كانت كذلك استحال مخالفتها للوحي؛ بل لا تكون إلا مطابقة له، منبهة عليه، أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمه، لم يعرف الرائي اندراجها فيه، فيتنبه بالرؤيا على ذلك.
[من تحرى الصدق في الحديث والحلال في الطعام صدقت رؤياه]
ومن أراد أن تصدق رؤياه: فليتحر الصدق، وأكل الحلال، والمحافظة على الأمر والنهي، ولْيَنَم على طهارة كاملة مستقبل القبلة، ويذكر الله حتى تغلبه عيناه؛ فإن رؤياه لا تكاد تكذب البتة.
وأصدق الرؤيا: رؤيا الأسحار، فإنه وقت النزول الإلهي، واقتراب الرحمة والمغفرة، وسكون الشياطين. وعكسه رؤيا العَتَمة، عند انتشار الشياطين والأرواح الشيطانية. وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام».
وللرؤيا مَلَك موكل بها، يريها العبد في أمثال تناسبه وتشاكله، فيضربها لكل أحد بحسبه.
وقال مالك – رحمه الله تعالى-: «الرؤيا من الوحي وحي»، وزَجَر عن تفسيرها بلا علم؛ وقال: «أتتلاعب بوحي الله؟».
ولذكر الرؤيا وأحكامها وتفاصيلها وطرق تأويلها مظان مخصوصة بها، يخرجنا ذكرها عن المقصود، والله أعلم.
فصل: (في بيان اشتمال الفاتحة على الشفاءين: للقلوب والأبدان)
فأما اشتمالها على شفاء القلوب، فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال؛ فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: «فساد العلم» و«فساد القصد».
ويترتب عليهما داءان قاتلان، وهما الضلال والغضب؛ فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب نتيجة فساد القصد؛ وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها.
فهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء من مرض «الضلال»، ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرض دعاء على كل عبد، وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة، لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة، ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه.
والتحقيق ب (إياك نعبد وإياك نستعين) علما ومعرفة، وعملا وحالا: يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد، فإن «فساد القصد» يتعلق بالغايات والوسائل، فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية، وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كِلَا نوْعَيْ قصده فاسدا.
وهذا شأن كل من كان غاية مطلوبه غير الله وعبوديته من المشركين ومتبعي الشهوات، الذين لا غاية لهم وراءها، وأصحاب الرياسات المتبعين لإقامة رياستهم بأي طريق كان من حق أو باطل؛ فإذا جاء الحق معارضا في طريق رياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم، فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل، فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق، وحادوا عنه إلى طريق أخرى، وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان، فإذا لم يجدوا منه بدا أعطوه السكة والخطبة وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ، وإن جاء الحق ناصرا لهم وكان لهم صالوا به وجالوا، وأتوا إليه مذعنين؛ لا لأنه حق، بل لموافقته غرضهم وأهواءهم، وانتصارهم به {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله، بل أولئك هم الظالمون} [النور: 48، 50].
والمقصود: أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم ووسائلهم، وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي طلبوها، واضمحلت وفنيت، حصلوا على أعظم الخسران والحسرات، وهم أعظم الناس ندامة وتحسرا، إذا حَقَّ الحق وبطل الباطل، وتقطعت بهم أسباب الوصل التي كانت بينهم، وتيقنوا انقطاعهم عن رَكْب الفلاح والسعادة، وهذا يظهر كثيرا في الدنيا، ويظهر أقوى من ذلك عند الرحيل منها والقدوم على الله، ويشتد ظهوره وتحققه في البرزخ، وينكشف كل الانكشاف يوم اللقاء، إذا حقت الحقائق، وفاز المحقون وخسر المبطلون، وعلموا أنهم كانوا كاذبين، وكانوا مخدوعين مغرورين، فياله هناك من علم لا ينفع عالمه، ويقين لا ينجي مستيقنه.
وكذلك من طلب الغاية العليا والمطلب الأسمى، ولكن لم يتوسل إليه بالوسيلة الموصلة له وإليه، بل توسل إليه بوسيلة ظنها موصلة إليه، وهي من أعظم القواطع عنه، فحاله أيضا كحال هذا، وكلاهما فاسد القصد، ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء «إياك نعبد وإياك نستعين».
فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء:
عبودية الله، لا غيره، بأمره وشرعه، لا بالهوى ولا بآراء الرجال وأوضاعهم ورسومهم وأفكارهم، بالاستعانة على عبوديته به، لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره.
فهذه هي أجزاء {إياك نعبد وإياك نستعين} فإذا ركبها الطبيب اللطيف، العالم بالمرض، واستعملها المريض، حصل بها الشفاء التام، وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها، أو اثنين أو أكثر.
[الرياء والكبر من أشد أمراض القلب]
ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولابد، وهما «الرياء»، و«الكبر»، فدواء الرياء ب {إياك نعبد} ودواء الكبر ب {إياك نستعين}.
وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه – يقول: {إياك نعبد} تدفع الرياء، و {إياك نستعين} تدفع الكبرياء.
فإذا عوفي من مرض الرياء ب {إياك نعبد}، ومن مرض الكبرياء والعجب ب {إياك نستعين}، ومن مرض الضلال والجهل ب {اهدنا الصراط المستقيم} عوفي من أمراضه وأسقامه، ورفَل في أثواب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من المنعم عليهم {غير المغضوب عليهم} وهم «أهل فساد القصد»، الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه، {والضالين} وهم «أهل فساد العلم»، الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه.
وحُقَّ لسورة تشتمل على هذين الشفاءين: أن يُسْتَشْفَى بها من كل مرض، ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين، كان حصول الشفاء الأدنى بها أولى، كما سنبينه، فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله وكلامه، وفهمت عنه فهما خاصا اختصها به، من معاني هذه السورة.
وأما تضمنها لشفاء الأبدان: فنذكر منه ما جاءت به السنة، وما شهدت به قواعد الطب، ودلت عليه التجربة.
فأما ما دلت عليه السنة: ففي «الصحيح» من حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بحيٍّ من العرب، فلم يقروهم، ولم يُضَيِّفُوهم، فُلدغ سيد الحي، فأتوهم، فقالوا: هل عندكم من رُقية- أو هل فيكم من راق -؟ فقالوا: نعم، ولكنكم لم تقرونا، فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم على ذلك قطيعا من الغنم، فجعل رجل منا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب، فقام كأن لم يكن به قَلَبَة، فقلنا: لا تعجلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأتيناه، فذكرنا له ذلك، فقال: «ما يدريك أنها رقية؟ كلوا، واضربوا لي معكم بسهم».
فقد تضمن هذا الحديث: حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه، فأغنته عن الدواء، وربما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدواء.
هذا مع كون المحل غير قابل -إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين، أو أهل بخل ولؤم- فكيف إذا كان المحل قابلا.
فصل [تشابه نفوس بعض الناس بنفوس العقارب والحيات]
وأما شهادة قواعد الطب بذلك: فاعلم أن اللدغة تكون من ذوات الحُمات والسموم، وهي ذوات الأنفس الخبيثة التي تتكيف بكيفية غضبية، تثير فيها سُمية نارية، يحصل بها اللدغ، وهي متفاوتة بحسب تفاوت خبث تلك النفوس وقوتها وكيفيتها. فإذا تكيَّفت أنفسها الخبيثة بتلك الكيفية الغضبية أحدث لها ذلك طبيعة سمية، تجد راحة ولذة في إلقائها إلى المحل القابل، كما يجد الشرير من الناس راحة ولذة في إيصال شره إلى من يوصله إليه.
وكثير من الناس لا يهنأ له عيش في يوم لا يؤذي فيه أحدا من بني جنسه، ويجد في نفسه تأذيا بحمل تلك السمية والشر الذي فيه، حتى يفرغه في غيره، فيبرد عند ذلك أنينه، وتسكن نفسه، ويصيبه في ذلك نظير ما يصيب من اشتدت شهوته إلى الجماع، فيسوء خلقه، وتثقل نفسه حتى يقضي وطره، هذا في قوة الشهوة، وذاك في قوة الغضب.
وقد أقام الله تعالى بحكمته السلطان وازعا لهذه النفوس الغضبية، فلولا هو لفسدت الأرض وخرجت {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} [البقرة: 251] وأباح الله -بلطفه ورحمته- لهذه النفوس من الأزواج وملك اليمين ما يكسر حدتها.
والمقصود أن هذه النفوس الغضبية إذا اتصلت بالمحل القابل أثرت فيه، ومنها ما يؤثر في المحل بمجرد مقابلته له، وإن لم يمسه، فمنها ما يطمس البصر، ويسقط الحبل.
[من ذلك: نفسية الحاسد وتأثيرها في جسد المحسود]
ومن هذا نظر العائن؛ فإنه إذا وقع بصره على المعيَّن حدثت في نفسه كيفية سمية أثرت في المعيَّن بحسب عدم استعداده، وكونه أعزل من السلاح، وبحسب قوة تلك النفس.
وكثير من هذه النفوس يؤثر في المعيَّن إذا وُصف له، فتتكيف نفسه وتقابله على البعد فيتأثر به، ومنكر هذا ليس معدودا من بني آدم إلا بالصورة والشكل.
فإذا قابلت النفس الزكية العلوية الشريفة التي فيها غضب وحمية للحق هذه النفوس الخبيثة السُّمِّية، وتكيفت بحقائق الفاتحة وأسرارها ومعانيها، وما تضمنته من التوحيد والتوكل، والثناء على الله، وذكر أصول أسمائه الحسنى، وذكر اسمه الذي ما ذكر على شر إلا أزاله ومَحَقَه، ولا على خير إلا نماه وزاده، دفعت هذه النفس -بما تكيفت به من ذلك- أثرَ تلك النفس الخبيثة الشيطانية، فحصل البرء؛ فإن مبنى الشفاء والبرء على دفع الضد بضده، وحفظ الشيء بمثله؛ فالصحة تحفظ بالمثل، والمرض يدفع بالضد، أسباب ربطها بمسبباتها الحكيم العليم خَلقا وأمرا، ولا يتم هذا إلا بقوة من النفس الفاعلة وقبول من الطبيعة المنفعلة. فلو لم تنفعل نفس الملدوغ لقبول الرقية، ولم تقو نفس الراقي على التأثير، لم يحصل البرء.
فهنا أمور ثلاثة: موافقة الدواء للداء، وبذل الطبيب له، وقبول طبيعة العليل.
فمتى تخلف واحد منها لم يحصل الشفاء، وإذا اجتمعت حصل الشفاء ولا بد بإذن الله سبحانه وتعالى.
ومن عرف هذا كما ينبغي تبين له أسرار الرُّقَى، وميز بين النافع منها وغيره، ورقى الداء بما يناسبه من الرُّقَى، وتبين له أن الرقية براقيها وقبول المحل، كما أن السيف بضاربه مع قبول المحل للقطع، وهذه إشارة مطلعة على ما وراءها لمن دق نظره، وحسن تأمله، والله أعلم.
[شواهد الواقع والتجارب على تأثير الفاتحة وعلاجها]
وأما شهادة التجارب بذلك: فهي أكثر من أن تذكر، وذلك في كل زمان.
وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة، ولاسيما مدة المقام بمكة، فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة، بحيث تكاد تقطع الحركة مني- وذلك في أثناء الطواف وغيره -فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مرارا عديدة، وكنت آخذ قدحا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مرارا، فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء، والأمر أعظم من ذلك؛ ولكن بحسب قوة الإيمان، وصحة اليقين، والله المستعان.
[بيان اشتمال الفاتحة على معرفة طرق الضلال على الإجمال]
أما المجمل: فهو أن «الصراط المستقيم» متضمن معرفة الحق، وإيثاره، وتقديمه على غيره، ومحبته والانقياد له، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه بحسب الإمكان.
والحق هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما جاء به علما وعملا في باب صفات الرب سبحانه، وأسمائه وتوحيده، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وفي حقائق الإيمان، التي هي «منازل السائرين إلى الله تعالى»، وكل ذلك مسلَّم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم.
فكل علم أو عمل أو حقيقة، أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته، وعليه السكة المحمدية، بحيث يكون من ضرب المدينة، فهو من «الصراط المستقيم»، وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال، فما ثَمَّ خروج عن هذه الطرق الثلاث:
(طريق الرسول) صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
و (طريق أهل الغضب)، وهي طريق من عرف الحق وعانده.
و (طريق أهل الضلال): وهي طريق من أضله الله عنه.
ولهذا قال عبد الله ابن عباس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم: «الصراط المستقيم: هو الإسلام»، وقال عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: «هو القرآن»، وفيه حديث مرفوع في الترمذي وغيره، وقال سهل بن عبد الله: «طريق السنة والجماعة»، وقال بكر بن عبد الله المزني: «طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم».
ولا ريب أن ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه علما وعملا- وهو معرفة الحق وتقديمه، وإيثاره على غيره -فهو الصراط المستقيم. وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه جامعة له. فبهذا الطريق المجمل يعلم أن كل ما خالفه فباطل، وهو من صراط الأمتين: الأمة الغضبية، وأمة أهل الضلال.
فصل [بيان اشتمال الفاتحة على معرفة طرق الضلال تفصيلا]
وأما المفصل: فبمعرفة المذاهب الباطلة، واشتمال كلمات الفاتحة على إبطالها، فنقول: الناس قسمان: مقر بالحق تعالى، وجاحد له.
فتضمنت الفاتحة: إثبات الخالق تعالى، والرد على من جحده، بإثبات ربوبيته تعالى للعالمين.
وتأمل حال العالم كله، علويه وسفليه، بجميع أجزائه: تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه، فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده، لا فرق بينهما، بل دلالة الخالق، على المخلوق والفعال على الفعل، والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزكية المشرقة العلوية، والفطر الصحيحة أظهرُ من العكس.
[طرق الاستدلال على الله وبالله]
فالعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه، إذا استدل الناس بصنعه وأفعاله عليه، ولا ريب أنهما طريقان صحيحان- كل منهما حق -والقرآن مشتمل عليهما.
فأما الاستدلال بالصنعة فكثير، وأما الاستدلال بالصانع فله شأن، وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم {أفي الله شك} [إبراهيم: 10] أي: أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول؟ فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم: {فاطر السماوات والأرض}.
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية- قدس الله روحه – يقول: «كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟»، وكان كثيرا – رحمه الله تعالى -ما يتمثل بهذا البيت:
ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والِفطَر من وجود النهار، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمها.
فصل: [مدار العبودية والتوحيد على: إياك نعبد وإياك نستعين]
وسر الخلق والأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين، وعليهما مدار العبودية والتوحيد، حتى قيل: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع معاني القرآن في المفصل، وجمع معاني المفصل في الفاتحة، ومعاني الفاتحة في {إياك نعبد وإياك نستعين}.
وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين، فنصفهما له تعالى وهو: {إياك نعبد}، ونصفهما لعبده؛ وهو: {إياك نستعين}. وسيأتي سر هذا ومعناه إن شاء الله في موضعه.
والعبادة تجمع أصلين: غاية الحب، بغاية الذل والخضوع. والعرب تقول: «طريق معبد» أي مذلل، والتعبد التذلل والخضوع.
فمن أحببته ولم تكن خاضعا له، لم تكن عابدا له، ومن خضعت له بلا محبة، لم تكن عابدا له حتى تكون محبا خاضعا.
ومن هاهنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية، والمنكرون لكونه محبوبا لهم بل هو غاية مطلوبهم، ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم، منكرين لكونه إلها، وإن أقروا بكونه ربا للعالمين وخالقا لهم؛ فهذا غاية توحيدهم- وهو توحيد الربوبية -الذي اعترف به مشركو العرب، ولم يخرجوا به عن الشرك، كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف: 87]، وقال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [الزمر: 38]، وقال: {قل لمن الأرض ومن فيها... إلى قوله- سيقولون لله قل فأنى تسحرون} [المؤمنون: 84- 89]، ولهذا يحتج عليهم به على توحيد إلهيته، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره، كما أنه لا خالق غيره، ولا رب سواه.
والاستعانة تجمع أصلين: الثقة بالله، والاعتماد عليه.
فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس، ولا يعتمد عليه في أموره -مع ثقته به- لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه -مع عدم ثقته به- لحاجته إليه، ولعدم من يقوم مقامه، فيحتاج إلى اعتماده عليه، مع أنه غير واثق به.
[معنى التوكل ومواضعه في القرآن]
و«التوكل» معنى يلتئم من أصلين: من الثقة والاعتماد.
وهو حقيقة {إياك نعبد وإياك نستعين} وهذان الأصلان -وهما التوكل والعبادة- قد ذكرا في القرآن في عدة مواضع قرن بينهما فيها، هذا أحدها.
الثاني: قول شعيب: {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} [هود: 88]. الثالث: قوله تعالى: {ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123]. الرابع: قوله تعالى حكاية عن المؤمنين: {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} [الممتحنة: 4]. الخامس: قوله تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} [المزمل: 8، 9]. السادس: قوله تعالى: {قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} [الرعد: 30].
فهذه ستة مواضع يجمع فيها بين الأصلين، وهما: {إياك نعبد وإياك نستعين}.
[أسرار تقديم العبادة على الاستعانة]
وتقديم «العبادة» على «الاستعانة» في الفاتحة: من باب تقديم الغايات على الوسائل؛ إذ «العبادة» غاية العباد التي خلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها.
ولأن {إياك نعبد} متعلق بألوهيته واسمه «الله»، و {إياك نستعين} متعلق بربوبيته واسمه «الرب»، فقدم {إياك نعبد} على {إياك نستعين} كما قدم اسم «الله» على «الرب» في أول السورة.
ولأن {إياك نعبد} قسم الرب، فكان من الشطر الأول، الذي هو ثناء على الله تعالى، لكونه أولى به، و {إياك نستعين} قسم العبد، فكان من الشطر الذي «له»، وهو {اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخر السورة.
ولأن «العبادة المطلقة»: تتضمن «الاستعانة» من غير عكس.
فكل عابد لله عبودية تامة: مستعين به ولا ينعكس؛ لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته، فكانت العبادة أكمل وأتم، ولهذا كانت «قسم الرب».
ولأن «الاستعانة» جزء من «العبادة» من غير عكس.
ولأن «الاستعانة» طلب منه، و«العبادة» طلب له.
ولأن «العبادة» لا تكون إلا من مخلص، و«الاستعانة» تكون من مخلص ومن غير مخلص.
ولأن «العبادة» حقه الذي أوجبه عليك، و«الاستعانة» طلب العون على العبادة، وهو بيان صَدَقته التي تصدَّق بها عليك، وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته.
ولأن «العبادة» شكر نعمته عليك، والله يحب أن يشكر، و«الإعانة» فعله بك وتوفيقه لك، فإذا التزمت عبوديته، ودخلت تحت رقِّهَا أعانك عليها، فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم.
و«العبودية» محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها على التزامها والقيام بها، وإعانة بعدها على عبودية أخرى، وهكذا أبدا، حتى يقضي العبد نَحْبه.
ولأن {إياك نعبد} له، و {إياك نستعين} به، وما «له» مقدم على ما «به»؛ لأن ما «له» متعلق بمحبته ورضاه، وما «به» متعلق بمشيئته.
وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته، فإن الكون كله متعلق بمشيئته، والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار، والطاعات والمعاصي. والمتعلق بمحبته: طاعاتُهم وإيمانُهم، فالكفار أهل مشيئته، والمؤمنون أهل محبته، ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا، وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته.
فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم {إياك نعبد} على {إياك نستعين}.
وأما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين، ففيه أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم، وفيه الاهتمام وشدة العناية به، وفيه الإيذان بالاختصاص المسمى بالحصْر، فهو في قوة لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك، والحاكم في ذلك ذوق العربية والفقه فيها، واستقراء موارد استعمال ذلك مقدما، وسيبويه نص على الاهتمام، ولم ينف غيره.
ولأنه يقبح من القائل أن يعتق عشرة أعبد مثلا، ثم يقول لأحدهم: إياك أعتقت، ومن سمعه أنكر ذلك عليه، وقال: وغيره أيضا أعتقت، ولولا فهم الاختصاص لما قبح هذا الكلام، ولا حسن إنكاره.
وتأمل قوله تعالى: {وإياي فارهبون} [البقرة: 40]، {وإياي فاتقون} [البقرة: 41] كيف تجده في قوة: لا ترهبوا غيري، لا تتقوا سواي؟
وكذلك {إياك نعبد وإياك نستعين} هو في قوة: لا نعبد غيرك، ولا نستعين بسواك، وكل ذي ذوق سليم يفهم هذا الاختصاص من علة السياق.
ولا عبرة بجدل من قلَّ فهمه، وفتح عليه باب الشك والتشكيك، فهؤلاء هم آفة العلوم، وبلية الأذهان والفهوم.
مع أن في ضمير «إياك» من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل، ففي: «إياك قصدت وأحببت»: من الدلالة على معنى: حقيقتك وذاتك قصدي، ما ليس في قولك: قصدتك وأحببتك، و«إياك أعني»، فيه معنى: نفسك وذاتك وحقيقتك أعني.
ومن هاهنا قال من قال من النحاة: إن «إيّا» اسم ظاهر مضاف إلى الضمير المتصل، ولم يردَّ عليه بردٍّ شاف.
ولولا أنَّا في شأن وراء هذا لأشبعنا الكلام في هذه المسألة، وذكرنا مذاهب النحاة فيها، ونصرنا الراجح، ولعلنا أن نعطف على ذلك بعون الله.
وفي إعادة «إياك» مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين.
ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه، فإذا قلت لملِك مثلا: إياك أحب وإياك أخاف، كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته، والاهتمام بذكره ما ليس في قولك: إياك أحب وأخاف.
فصل: [أقسام الناس في العبادة والاستعانة]
إذا عرفت هذا؛ فالناس في هذين الأصلين -وهما العبادة والاستعانة- أربعة أقسام: أجلها وأفضلها: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها.
فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم منه أن يعينهم عليها، ويوفقهم للقيام بها، ولهذا كان من أفضل ما يُسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته، وهو الذي عَلَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِحِبِّه معاذ بن جبل رضي الله عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تنس أن تقول دُبُر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»؛ فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضاده، وعلى تكميله وتيسير أسبابه، فتأملها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه -: «تأملت أنفع الدعاء: فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في {إياك نعبد وإياك نستعين}.
ومقابل هؤلاء: القسم الثاني: وهم المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة ولا استعانة؛ بل إن سأله أحدهم واستعان به، فعلى حظوظه وشهواته، لا على مرضاة ربه وحقوقه؛ فإنه سبحانه يسأله من في السماوات والأرض، يسأله أولياؤه وأعداؤه، ويمُدُّ هؤلاء وهؤلاء.
وأبغض خلقه: عدوه إبليس، ومع هذا فقد سأله حاجة فأعطاه إياها، ومتعه بها، ولكن لما لم تكن عونا له على مرضاته، كانت زيادة له في شقوته وبعده عن الله وطرده عنه، وهكذا كل من استعان به على أمر وسأله إياه، ولم يكن عونا على طاعته، كان مبعدا له عن مرضاته، قاطعا له عنه ولابد.
وليتأمل العاقل هذا في نفسه وفي غيره، وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه، بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له، وفيها هلاكه وشقوته، ويكون قضاؤها له من هوانه عليه، وسقوطه من عينه، ويكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته له، فيمنعه حماية وصيانة وحفظا، لا بخلا، وهذا إنما يفعله بعبده الذي يريد كرامته ومحبته، ويعامله بلطفه، فيظن – بجهله- أن الله لا يحبه ولا يكرمه، ويراه يقضي حوائج غيره، فيسيء ظنه بربه، وهذا حشو قلبه ولا يشعر به، والمعصوم من عصمه الله، والإنسان على نفسه بصيرة، وعلامة هذا: حمله على الأقدار، وعتابه الباطن لها، كما قيل:
... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
فوالله لو كشف عن حاصله وسره لرأى هناك معاتبة القدر واتهامه، وأنه قد كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، ولكن ما حيلتي، والأمر ليس إلي؟ والعاقل خصم نفسه، والجاهل خصم أقدار ربه.
فاحذر كل الحذر أن تسأله شيئا معينا خيرته وعاقبته مغيبة عنك، وإذا لم تجد من سؤاله بدا، فعلقه على شرط علمه تعالى فيه الخيرة، وقدِّم بين يدي سؤالك الاستخارة، ولا تكن استخارة باللسان بلا معرفة؛ بل استخارة من لا علم له بمصالحه، ولا قدرة له عليها، ولا اهتداء له إلى تفاصيلها، ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، بل إن وُكِل إلى نفسه هلك كل الهلاك، وانفرط عليه أمره.
وإذا أعطاك ما أعطاك بلا سؤال: تسأله أن يجعله عونا لك على طاعته وبلاغا إلى مرضاته، ولا يجعله قاطعا لك عنه، ولا مبعدا عن مرضاته.
ولا تظن أن عطاءه كلَّ ما أعطى لكرامة عبده عليه، ولا منعه كل ما يمنعه لهوان عبده عليه، ولكن عطاؤه ومنعه ابتلاء وامتحان، يمتحن بهما عباده، قال الله تعالى: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن، كلا} [الفجر: 15، 17] أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته، وما ذاك لكرامته عليّ، ولكنه ابتلاء مني، وامتحان له: أيشكرني فأعطيه فوق ذلك، أم يكفرني فأسلبه إياه، وأخَوِّل فيه غيره؟ وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه، وجعلته بقدر لا يفضل عنه، فذلك من هوانه عليّ، ولكنه ابتلاء وامتحان مني له: أيصبر، فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سَعة الرزق، أم يتسخط، فيكون حظه السخط.
فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام، وأن الفقر إهانة، فقال: لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته علي، ولم أبتله بالفقر لهوانه علي، فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره، فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته، ويُقَتِّر على المؤمن لا لإهانته؛ إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته، ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته، فله الحمد على هذا، وعلى هذا، وهو الغني الحميد.
فعادت سعادة الدنيا والآخرة إلى {إياك نعبد وإياك نستعين}.
القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة، وهؤلاء نوعان:
أحدهما: (القدرية)، القائلون بأنه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف، وأنه لم يبق في مقدوره إعانة له على الفعل، فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها، وتعريف الطريق، وإرسال الرسل، وتمكينه من الفعل، فلم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها، بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة، فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء، ولكن أولياءه اختاروا لنفوسهم الإيمان، وأعداءه اختاروا لنفوسهم الكفر، من غير أن يكون الله سبحانه وفق هؤلاء بتوفيق زائد، أوجب لهم الإيمان، وخذل هؤلاء بأمر آخر، أوجب لهم الكفر، فهؤلاء لهم نصيب منقوص من العبادة، لا استعانة معه، فهم موكولون إلى أنفسهم، مسدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن بالله وكذب بقدره نقض تكذيبه توحيده.
النوع الثاني: من لهم عبادات وأوراد، ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر، وتلاشيها في ضمنه، وقيامها به، وأنها بدون القدر كالموات الذي لا تأثير له، بل كالعدم الذي لا وجود له، وأن القدر كالروح المحرك لها، والمعول على المحرك الأول.
فلم تنفذ قوى بصائرهم من المتحرك إلى المحرك، ومن السبب إلى المسبب، ومن الآلة إلى الفاعل، فضعفت عزائمهم وقصرت هممهم، فقل نصيبهم من {إياك نستعين} ولم يجدوا ذوق التعبد بالتوكل والاستعانة، وإن وجدوا ذوقه بالأوراد والوظائف.
فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير، بحسب استعانتهم وتوكلهم، ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم، ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه -وكان مأمورا بإزالته – لأزاله.
فإن قلت: فما معنى التوكل والاستعانة؟.
قلت: هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله، والإيمان بتفرده بالخلق، والتدبير والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس، فيوجب له هذا اعتمادا عليه وتفويضا إليه وطمأنينة به وثقة به ويقينا بكفايته لما توكل عليه فيه، وأنه مَلِيٌّ به، ولا يكون إلا بمشيئته، شاءه الناس أم أبوه.
فتشبه حالته حالة الطفل مع أبويه فيما ينوبه من رغبة ورهبة هما مَلِيَّان بهما، فانظر في تجرد قلبه عن الالتفات إلى غير أبويه، وحبس هَمِّه على إنزال ما ينوبه بهما، فهذه حال المتوكل، ومن كان هكذا مع الله، فالله كافيه ولا بد، قال الله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3] أي كافيه، و«الحسب» الكافي، فإن كان- مع هذا -من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة، وإن لم يكن من أهل التقوى فهو:
القسم الرابع: وهو من شهد تفرد الله بالنفع والضر، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولم يَدُر مع ما يحبه ويرضاه، فتوكل عليه، واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه وطلبها منه وأنزلها به، فقضيت له وأسعف بها، سواء كانت أموالا أو رياسة أو جاها عند الخلق، أو أحوالا من كشف وتأثير وقوة وتمكين، ولكن لا عاقبة له، فإنها من جنس الملك الظاهر والأموال، لا تستلزم الإسلام، فضلا عن الولاية والقرب من الله.
فإن الملك والجاه والمال والحال معطاة للبر والفاجر والمؤمن والكافر، فمن استدل بشيء من ذلك على محبة الله لمن آتاه إياه ورضاه عنه، وأنه من أوليائه المقربين، فهو من أجهل الجاهلين، وأبعدهم عن معرفة الله ومعرفة دينه، والتمييز بين ما يحبه ويرضاه، ويكرهه ويسخطه، فالحال من الدنيا، فهو كالملك والمال، إن أعان صاحبه على طاعة الله ومرضاته، وتنفيذ أوامره: ألحقه بالملوك العادلين البررة، وإلا فهو وبال على صاحبه، ومُبْعِدٌ له عن الله، ومُلْحِقٌ له بالملوك الظلمة والأغنياء الفجرة.
فصل: [لا تصح العبادة إلا بالإخلاص والمتابعة]
إذا عرف هذا: فلا يكون العبد متحققا ب {إياك نعبد} إلا بأصلين عظيمين:
أحدهما: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. والثاني: الإخلاص للمعبود، فهذا تحقيق «إياك نعبد».
والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضا إلى أربعة أقسام:
أحدها: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة، وهم أهل «إياك نعبد» حقيقة، فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة، والمنزلة في قلوبهم، ولا هربا من ذمهم، بل قد عَدُّوا الناس بمنزلة أصحاب القبور، لا يملكون لهم ضرًا ولا نفعًا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فالعمل لأجل الناس، وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم، ورجائهم للضر والنفع منهم لا يكون من عارف بهم البتة، بل من جاهل بشأنهم، وجاهل بربه.
فمن عرف الناس أنزلهم منازلهم، ومن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله، وعطاءه ومنعه وحبه وبغضه، ولا يعامل أحدٌ الخلقَ دون الله إلا لجهله بالله وجهله بالخلق، وإلا فإذا عرف الله وعرف الناس آثر معاملة الله على معاملتهم.
وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله، ولما يحبه ويرضاه، وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله مِنْ عامِلٍ سواه، وهو الذي بَلاَ عباده بالموت والحياة لأجله، قال الله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [الملك: 2] وجعل ما على الأرض زينة لها ليختبرهم أيهم أحسن عملا.
قال الفضيل بن عياض: العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، و«الخالص» ما كان لله، و«الصواب» ما كان على السنة. وهذا هو المذكور في قوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: 110]، وفي قوله: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن} [النساء: 125]، فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه، على متابعة أمره، وما عدا ذلك فهو مردود على عامله، يُرَد عليه- أحوج ما هو إليه -هباء منثورا، وفي «الصحيح» من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد»، وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدا، فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالآراء والأهواء.
الضرب الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة؛ فليس عمله موافقا لشرع، وليس هو خالصا للمعبود، كأعمال المتزينين للناس، المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء شرار الخلق، وأمقتهم إلى الله عز وجل، ولهم أوفر نصيب من قوله: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 188]... وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف- من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة -عن الصراط المستقيم، فإنهم يرتكبون البدع والضلالات، والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الاتباع والإخلاص والعلم، فهم أهل الغضب والضلال.
الضرب الثالث: من هو مخلص في أعماله، لكنها على غير متابعة الأمر:
كجهال العبَّاد، والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر، وكل من عبد الله بغير أمره واعتقد عبادته هذه قربة إلى الله فهذا حاله، كمن يظن أن سماع المُكاء والتصدية قربة، وأن الخلوة التي يترك فيها الجمعة والجماعة قربة، وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة، وأن صيام يوم فطر الناس كلهم قربة، وأمثال ذلك.
الضرب الرابع: من أعماله على متابعة الأمر، لكنها لغير الله: كطاعة المرائين، وكالرجل يقاتل رياء وحَمِيَّة وشجاعة، ويحج ليقال، ويقرأ القرآن ليقال، فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها، لكنها غير صالحة، فلا تقبل {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5] فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة الله بما أمر، والإخلاص له في العبادة، وهم أهل {إياك نعبد وإياك نستعين}.
فصل [أنواع العبادة وأصناف الناس فيها]
ثم أهل مقام «إياك نعبد» لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق، فهم في ذلك أربعة أصناف:
الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها: أشقها على النفوس وأصعبها.
قالوا: لأنه أبعد الأشياء عن هواها، وهو حقيقة التعبد.
قالوا: والأجر على قدر المشقة، ورووا حديثا لا أصل له: «أفضل الأعمال أحمرها» أي أصعبها وأشقها، وهؤلاء: هم أهل المجاهدات والجور على النفوس.
قالوا: وإنما تستقيم النفوس بذلك، إذ طبعها الكسل والمهانة، والإخلاد إلى الأرض، فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق.
الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان، واطّراح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها.
فعوامهم ظنوا أن هذا غاية، فشمروا إليه وعملوا عليه، ودعوا الناس إليه، وقالوا: هو أفضل من درجة العلم والعبادة، فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها.
وخواصهم: رأوا هذا مقصودا لغيره، وأن المقصود به عكوف القلب على الله، وجمع الهمة عليه، وتفريغ القلب لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والاشتغال بمرضاته، فرأوا أن أفضل العبادات في الجمعية على الله، ودوام ذكره بالقلب واللسان، والاشتغال بمراقبته، دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له.
فالعارفون المتبعون منهم: إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فَرَّقهم وأذهب جمعيتهم.
والمنحرفون منهم يقولون: المقصود من العبادة جمعية القلب على الله، فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفت إليه، وربما يقول قائلهم:
يطالب بالأوراد من كان غافلا ...
منهم: من يترك الواجبات والفرائض لجمعيته.
ومنهم: من يقوم بها ويترك السنن والنوافل، وتعلم العلم النافع لجمعيته.
وسأل بعض هؤلاء شيخا عارفا، فقال: إذا أذن المؤذن وأنا في جمعيتي على الله، فإن قمت وخرجت تفرقت، وإن بقيت على حالي بقيت على جمعيتي، فما الأفضل في حقي؟ فقال: إذا أذن المؤذن وأنت تحت العرش فقم، وأجب داعي الله، ثم عد إلى موضعك، وهذا لأن الجمعية على الله حظ الروح والقلب، وإجابة الداعي حق الرب، ومن آثر حظ روحه على حق ربه فليس من أهل «إياك نعبد».
الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعد:
فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل، فتصدوا له وعملوا عليه واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله» رواه أبو يعلى.
واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه، وعمل النفّاع متعد إلى الغير، وأين أحدهما من الآخر؟
قالوا: ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.
قالوا: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم»، وهذا التفضيل إنما هو للنفع المتعدي.
واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء»، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير»، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «إن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، والنملة في جحرها».
واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، وصاحب النفع لا ينقطع عمله، ما دام نفعه الذي نسب إليه.
واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم، ونفعهم في معاشهم ومعادهم، لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس والترهب، ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع للتعبد، وترك مخالطة الناس، ورأى هؤلاء «التفرق» في أمر الله، ونفع عباده، والإحسان إليهم، أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك.
الصنف الرابع: قالوا: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته.
فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف – مثلا: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل، الإقبالُ على تعليمه والاشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان تركُ ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن، والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجدُّ والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروجُ إلى الجامع، وإن بَعُدَ كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الاشتغالُ بمساعدته وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعيةُ القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهادُ في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المُضْعِف عن ذلك.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثارُ من التعبد، لاسيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزومُ المسجد فيه، والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادتُه، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك أداءُ واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه، والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهو أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.
فالأفضل في كل وقت وحال إيثارُ مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله على وجه واحد، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها، فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل عَلاَ سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العُبَّاد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم.
فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات؛ بل هو على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه، فهذا هو المتحقق ب {إياك نعبد وإياك نستعين} حقا، القائم بهما صدقا، مَلْبَسه ما تهيأ، ومأكله ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حر مجرد، دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلت مضاربه، يأنس به كل محق، ويستوحش منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعة حتى شوكها، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله ومع الله، قد صحب الله بلا خلق، وصحب الناس بلا نفس، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين، وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها، فواهًا له! ما أغْرَبَهُ بين الناس! وما أشد وحشته منهم! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه!! والله المستعان، وعليه التكلان.
فاعلم أن سر العبودية، وغايتها وحكمتها: إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب عز وجل، ولم يعطلها، وعرف معنى الإلهية وحقيقتها، ومعنى كونه إلها، بل هو الإله الحق، وكل إله سواه فباطل، بل أبطل الباطل، وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له، وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها، وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم، والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسمع، والإحسان بالرحمة والعطاء بالجود.
فمن أنكر حقيقة الإلهية ولم يعرفها كيف يستقيم له معرفة حكمة العبادات وغاياتها ومقاصدها وما شرعت لأجله؟! وكيف يستقيم له العلم بأنها هي الغاية المقصودة بالخلق، والتي لها خلقوا، ولها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ولأجلها خلقت الجنة والنار؟! وأن فرض تعطيل الخليقة عنها: نسبة لله إلى ما لا يليق به، ويتعالى عنه مَنْ خلق السماوات والأرض بالحق، ولم يخلقهما باطلا، ولم يخلق الإنسان عبثا ولم يتركه سدى مهملا، قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115]، أي لغير شيء ولا حكمة، ولا لعبادتي ومجازاتي لكم، وقد صرح تعالى بهذا في قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56].
فالعبادة: هي الغاية التي خلق لها الجن والإنس والخلائق كلها، قال الله تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} [القيامة: 36] أي مهملا، قال الشافعي: لا يؤمر ولا ينهى، وقال غيره: لا يثاب ولا يعاقب.
والصحيح: الأمران؛ فإن الثواب والعقاب مترتبان على الأمر والنهي، والأمر والنهي طلب العبادة وإرادتها، وحقيقة العبادة امتثالهما، وقال تعالى: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 191]، وقال: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [الحجر: 85]، وقال: {وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت} [الجاثية: 22].
فأخبر أنه خلق السماوات والأرض بالحق، المتضمن أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، فإذا كانت السماوات والأرض وما بينهما خلقت لهذا، وهو غاية الخلق، فكيف يقال: إنه لا علة له، ولا حكمة مقصودة هي غايته؟ أو إن ذلك لمجرد استئجار العباد حتى لا ينكد عليهم الثواب بالمنة، أو لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية، وارتياضها بمخالفة العوائد؟
فأصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه.
[من علامات محبة الله: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم]
وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة، ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله عَلَما عليها، وشاهدا لمن ادعاها، فقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله، وشرطا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذا ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله.
ودل على أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم: هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره صلى الله عليه وسلم، ولا يكفي ذلك في العبودية، حتى يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحبَّ إلى العبد مما سواهما، فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه البتة، ولا يهديه الله، قال الله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} [التوبة: 24].
فكل من قدّم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحدهم على معاملة الله: فهو ممن ليس الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما، وإن قاله بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بخلاف ما هو عليه، وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله، فذلك المقدَّم عنده أحبُّ إليه من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد أو حكمه، أو طاعته أو مرضاته، ظنا منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فيطيعه، ويحاكم إليه، ويتلقى أقواله كذلك، فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك، وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرف أن غير من اتبعه هو أولى به مطلقا، أو في بعض الأمور، ولم يلتفت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا إلى من هو أولى به، فهذا الذي يخاف عليه، وهو داخل تحت الوعيد، فإن استحل عقوبة من خالفه وأذله، ولم يوافقه على اتباع شيخه، فهو من الظلمة المعتدين، وقد جعل الله لكل شيء قدرا.
وبنى {إياك نعبد} على أربع قواعد: التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه صلى الله عليه وسلم، من قول اللسان والقلب، وعمل القلب الجوارح.
فالعبودية: اسم جامع لهذه المراتب الأربع، فأصحاب {إياك نعبد} حقا هم أصحابها.
فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله- سبحانه -به عن نفسه، وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله.
وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك، والدعوة إليه، والذب عنه، وتبيين بطلان البدع المخالفة له، والقيام بذكره، وتبليغ أوامره.
وعمل القلب: كالمحبة له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه والرجاء له، وإخلاص الدين له، والصبر على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره، والرضى به وعنه، والموالاة فيه والمعاداة فيه، والذل له والخضوع، والإخبات إليه، والطمأنينة به، وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضها أفرض من أعمال الجوارح، ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة.
وأعمال الجوارح: كالصلاة والجهاد، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك.
ف {إياك نعبد} التزام لأحكام هذه الأربعة، وإقرار بها. و {إياك نستعين} طلب للإعانة عليها والتوفيق لها. و {اهدنا الصراط المستقيم} متضمن للتعريف بالأمرين على التفصيل، وإلهام القيام بهما، وسلوك طريق السالكين إلى الله بهما.
فصل [دعوة الرسل جميعا إلى عبودية الله وتوحيده]
وجميع الرسل إنما دعوا إلى {إياك نعبد وإياك نستعين} فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته، من أولهم إلى آخرهم.
فقال نوح – عليه السلام – لقومه: {اعبدوا لله مالكم من إله غيره} [الأعراف: 59]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وإبراهيم – عليهم السلام- قال الله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36]، وقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم، وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} [المؤمنون: 51، 52].
والله تعالى جعل العبودية وصف أكمل خلقه، وأقربهم إليه، فقال: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 172]، وقال: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} [الأعراف: 206].
وهذا يبين أن الوقف التام في قوله في سورة الأنبياء: {وله من في السماوات والأرض} [الأنبياء: 19] هاهنا، ثم يبتدئ {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 19، 20] فهما جملتان تامتان مستقلتان، أي: إن له من في السماوات ومن في الأرض عبيدا وملكا، ثم استأنف جملة أخرى فقال: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} يعني: أن الملائكة الذين عنده لا يستكبرون عن عبادته، يعني: لا يأنفون عنها، ولا يتعاظمون ولا يستحسرون، فيعيون وينقطعون – يقال: حَسَر واستحسر، إذا تعب وأعيا -بل عبادتهم وتسبيحهم كالنفس لبني آدم، فالأول: وصف لعبيد ربوبيته، والثاني: وصف لعبيد إلهيته.
وقال تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} [الفرقان: 63] إلى آخر السورة، وقال: {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} [الإنسان: 6]، وقال: {واذكر عبدنا داود} وقال: {واذكر عبدنا أيوب} [ص: 41]، وقال: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب} [ص: 45]، وقال عن سليمان- عليه السلام -: {نعم العبد إنه أواب} [ص: 30]، وقال عن المسيح – عليه السلام -: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه} [الزخرف: 59]، فجعل غايته العبودية لا الإلهية، كما يقول أعداؤه النصارى، ووصف أكرم خلقه عليه، وأعلاهم عنده منزلة بالعبودية (سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم) في أشرف مقاماته، فقال تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة: 23]، وقال تبارك وتعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1]، وقال: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} [الكهف: 1]، فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه، وفي مقام التحدي بأن يأتوا بمثله، وقال: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} [الجن: 19]، فذكره بالعبودية في مقام الدعوة إليه، وقال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} [الإسراء 1] فذكره بالعبودية في مقام الإسراء.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله»، وفي الحديث: «أنا عبد، آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد»، وفي «صحيح البخاري» عن عبد الله بن عمرو قال: «قرأت في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم: محمد رسول الله، عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صَخَّاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر».
وجعل الله سبحانه البشارة المطلقة لعباده، فقال تعالى: {فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} [الزمر: 17، 18]، وجعل الأمن المطلق لهم، فقال تعالى: {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين} [الزخرف: 28، 29]، وعَزَلَ الشيطانَ عن سلطانه عليهم خاصة، وجعل سلطانه على من تولاه وأشرك به، فقال: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42]، وقال: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} [النحل: 99، 100].
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم إحسان العبودية أعلى مراتب الدين، وهو «الإحسان»، فقال في حديث جبريل – عليه السلام – وقد سأله عن الإحسان -: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
فصل: (في لزوم {إياك نعبد} لكل عبد إلى الموت)
قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99]، وقال أهل النار: {وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين} [المدثر: 46، 47]، واليقين هاهنا: هو «الموت» بإجماع أهل التفسير، وفي «الصحيح» -في قصة موت عثمان بن مظعون رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه» أي: الموت وما فيه.
فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف، بل عليه في البرزخ عبودية أخرى لما يسأله الملكان «من كان يعبد؟ وما يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» ويلتمسان منه الجواب.
وعليه عبودية أخرى يوم القيامة، يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود، فيسجد المؤمنون، ويبقى الكفار والمنافقون لا يستطيعون السجود، فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف هناك، وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحا مقرونا بأنفاسهم لا يجدون له تعبا ولا نصبا.
ومن زعم أنه يصل إلى «مقام» يسقط عنه فيه التعبد، فهو زنديق كافر بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله، والانسلاخ من دينه، بل كلما تمكن العبد في «منازل العبودية» كانت عبوديته أعظم، والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه، ولهذا كان الواجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم- بل على جميع الرسل -أعظم من الواجب على أممهم، والواجب على أولي العزم أعظم من الواجب على من دونهم، والواجب على أولي العلم أعظم من الواجب على من دونهم، وكل أحد بحسب مرتبته.
فصل: (في انقسام العبودية إلى عامة وخاصة)
فالعبودية العامة: عبودية أهل السماوات والأرض كلهم لله: بَرِّهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم، فهذه (عبودية القهر والملك)، قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، إن كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا} [مريم: 88، 93] فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم.
وقال تعالى: {ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء} [الفرقان: 17] فسماهم عباده مع ضلالهم، لكن تسمية مقيدة بالإشارة، وأما المطلقة: فلم تجئ إلا لأهل النوع الثاني، كما سيأتي بيانه إن شاء الله، وقال تعالى: {قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} [الزمر: 46] وقال: {وما الله يريد ظلما للعباد} [غافر: 31] وقال: {إن الله قد حكم بين العباد} [غافر: 48]، فهذا يتناول العبودية الخاصة والعامة.
وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة والمحبة، واتباع الأوامر.
قال تعالى: {يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} [الزخرف: 68]، وقال: {فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} [الزمر: 17، 18]، وقال: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} [الفرقان: 63]، وقال تعالى عن إبليس: {لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين} [الحجر: 39، 40]، فقال تعالى عنهم: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الحجر: 42].
فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته هم عبيد إلهيته. ولا يجيء في القرآن إضافة العباد إليه مطلقا إلا لهؤلاء. وأما وصف عبيد ربوبيته بالعبودية فلا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه:
الأول: إما منكرا، كقوله: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آت الرحمن عبدا} [مريم: 93].
والثاني: معرفا باللام، كقوله: {وما الله يريد ظلما للعباد} [غافر: 31]، {إن الله قد حكم بين العباد} [غافر: 48].
الثالث: مقيدا بالإشارة أو نحوها، كقوله: {أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء} [الفرقان: 17].
الرابع: أن يذكروا في عموم عباده، فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر.
الخامس: أن يذكروا موصوفين بفعلهم، كقوله: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله} [الزمر: 53].
وقد يقال: إنما سماهم «عباده» إذ لم يقنطوا من رحمته، وأنابوا إليه، واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم، فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة.
وإنما انقسمت العبودية إلى خاصة وعامة؛ لأن أصل معنى اللفظة: الذل والخضوع، يقال «طريق مُعَبَّد» إذا كان مُذَلَّلا بوطء الأقدام، و«فلان عَبَّده الحب» إذا ذلَّلَه، لكن أولياؤه خضعوا له وَذَلُّوا طوعا واختيارا، وانقيادا لأمره ونهيه، وأعداؤه خضعوا له قهرا ورغما.
[والقنوت والسجود فيه خاص وعام]
ونظير انقسام العبودية إلى خاصة وعامة: انقسام «القنوت» إلى خاص وعام، و«السجود» كذلك.
قال تعالى في «القنوت الخاص»: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} [الزمر: 9] وقال في حق مريم – عليها السلام -: {وكانت من القانتين} [التحريم: 12]، وهو كثير في القرآن. وقال في «القنوت العام»: {وله من في السماوات والأرض كل له قانتون} [الروم: 26] أي خاضعون أذلاء.
وقال في «السجود الخاص»: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} [الأعراف: 206]، وقال: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} [مريم: 58]، وهو كثير في القرآن. وقال في «السجود العام»: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال} [الرعد: 15].
ولهذا كان هذا السجود الكَرْه غير السجود المذكور في قوله: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} [الحج: 18]، فخص بالسجود هنا كثيرا من الناس وعمهم بالسجود في سورة النحل: {ولله يسجد ما في السماوات والأرض من دابة والملائكة} [النحل: 49]، وهو سجود الذل والقهر والخضوع، فكل أحد خاضع لربوبيته، ذليل لعزته، مقهور تحت سلطانه تعالى.
فصل: (في مراتب {إياك نعبد} علما وعملا)
للعبودية مراتب، بحسب العلم والعمل.
فأما مراتبها العلمية فمرتبتان:
فأما العلم به سبحانه، فخمس مراتب:
العلم بذاته، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتنزيهه عما لا يليق به.
إحداهما: دينه الأمري الشرعي، وهو الصراط المستقيم الموصل إليه، والثانية: دينه الجزائي، المتضمن ثوابه وعقابه، وقد دخل في هذا العلم العلمُ بملائكته وكتبه ورسله.
وأما مراتبها العلمية، فمرتبتان: مرتبة لأصحاب اليمين، ومرتبة للسابقين المقربين، فأما مرتبة أصحاب اليمين: فأداء الواجبات، وترك المحرمات، مع ارتكاب المباحات، وبعض المكروهات، وترك بعض المستحبات.
وأما مرتبة المقربين: فالقيام بالواجبات والمندوبات، وترك المحرمات والمكروهات، زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم، متورعين عما يخافون ضرره.
وخاصتهم: قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات بالنية فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين، بل كل أعمالهم راجحة، ومَنْ دونهم يترك المباحات مشتغلا عنها بالعبادات، وهؤلاء يأتونها طاعات وقربات، ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا الله.
ورحى العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة، مَنْ كَمَّلها كمل مراتب العبودية. وبيانُها: أن العبودية منقسمة على القلب واللسان والجوارح، وعلى كل منها عبودية تخصه.
والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح.
وهي لكل واحد من: القلب واللسان والجوارح.
فواجب القلب: منه متفق على وجوبه، ومختلف فيه:
فالمتفق على وجوبه: كالإخلاص والتوكل والمحبة والصبر والإنابة والخوف والرجاء، والتصديق الجازم، والنية في العبادة. وهذه قدر زائد على الإخلاص.
فإن «الإخلاص» هو إفراد المعبود عن غيره.
ونية العبادة لها مرتبتان: إحداهما: تمييز العبادة عن العادة.
والثانية: تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض.
والأقسام الثلاثة واجبة، وكذلك الصدق.
والفرق بينه وبين الإخلاص أن للعبد مطلوبا وطلبا. فالإخلاص توحيد مطلوبه، والصدق توحيد طلبه.
فالإخلاص أن لا يكون المطلوب منقسما، والصدق أن لا يكون الطلب منقسما، فالصدق بذل الجهد، والإخلاص إفراد المطلوب.
واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة.
وكذلك النصح في العبودية ومدار الدين عليه، وهو بذل الجهد في إيقاع العبودية على الوجه المحبوب للرب المرضي له، وأصل هذا واجب، وكماله مرتبة المقربين.
وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان: واجب مستحق وهو مرتبة أصحاب اليمين، وكمال مستحب وهو مرتبة المقربين.
وكذلك الصبرُ، واجبٌ باتفاق الأمة، قال الإمام أحمد: ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من القرآن، أو بضعا وتسعين. وله طرفان أيضا: واجب مستحق، وكمال مستحب.
وأما المختلف فيه: فكالرضا، فإن في وجوبه قولين للفقهاء والصوفية. والقولان لأصحاب أحمد، فمن أوجبه قال: السخط حرام، ولا خلاص عنه إلا بالرضا، وما لا خلاص عن الحرام إلا به فهو واجب. واحتجوا بأثر: «من لم يصبر على بلائي، ولم يرض بقضائي، فليتخذ ربا سواي».
ومن قال هو مستحب، قال: لم يجئ الأمر به في القرآن ولا في السنة، بخلاف الصبر، فإن الله أمر به في مواضع كثيرة من كتابه.
وكذلك التوكل: قال: {إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} [يونس: 84]، وأمر بالإنابة: فقال: {وأنيبوا إلى ربكم} [الزمر: 54].
وأمر بالإخلاص: كقوله {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5].
وكذلك الخوف: كقوله {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 175]، وقوله {فلا تخشوهم واخشون} [المائدة: 3]، وقوله {وإياي فارهبون} [البقرة: 40].
وكذلك الصدق: قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 119].
وكذلك المحبة: وهي أفرض الواجبات، إذ هي قلب العبادة المأمور بها، ومُخُّهَا وروحها.
وأما الرضا: فإنما جاء في القرآن مدح أهله، والثناء عليهم، لا الأمر به.
قالوا: وأما الأثر المذكور فإسرائيلي، لا يحتج به.
قالوا: وفي الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن استطعت أن تعمل الرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع، فإن في الصبر على ما تكره النفس خيرا كثيرا» وهو في بعض «السنن».
قالوا: وأما قولكم «لا خلاص عن السخط إلا به» فليس بلازم؛ فإن مراتب الناس في المقدور ثلاثة: الرضا، وهو أعلاها، والسخط، وهو أسفلها، والصبر عليه بدون الرضا به، وهو أوسطها.
فالأولى للمقربين السابقين، والثالثة للمقتصدين، والثانية للظالمين، وكثير من الناس يصبر على المقدور فلا يسخط، وهو غير راض به، فالرضا أمر آخر.
وقد أشكل على بعض الناس اجتماع الرضا مع التألم، وظن أنهما متباينان، وليس كما ظنه، فالمريض الشارب للدواء الكريه متألم به، راض به والصائم في شهر رمضان في شدة الحر متألم بصومه راض به، والبخيل متألم بإخراج زكاة ماله راض بها، فالتألم كما لا ينافي الصبر لا ينافي الرضا به.
وهذا الخلاف بينهم، إنما هو في الرضا بقضائه الكوني، وأما الرضا به ربا وإلها، والرضا بأمره الديني، فمتفق على فرضيته، بل لا يصير العبد مسلما إلا بهذا الرضا: أن يرضى بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا.
[هل تعاد الصلاة إذا غلبت عليها الوسوسة]
ومن هذا أيضا اختلافهم في الخشوع في الصلاة، وفيه قولان للفقهاء، وهما في مذهب أحمد – رحمه الله – وغيره.
وعلى القولين: اختلافهم في وجوب الإعادة على من غلب عليه الوسواس في صلاته، فأوجبها ابن حامد من أصحاب أحمد، وأبو حامد الغزالي في «إحيائه»، ولم يوجبها أكثر الفقهاء.
واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من سها في صلاته بسجدتي السهو ولم يأمره بالإعادة مع قوله: «إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا- لما لم يكن يذكر -حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى».
ولكن لا نزاع أن هذه الصلاة لا يثاب على شيء منها إلا بقدر حضور قلبه وخضوعه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد لينصرف من الصلاة ولم يكتب له إلا نصفها، ثلثها، ربعها- حتى بلغ عشرها»، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها»، فليست صحيحة باعتبار ترتب كمال مقصودها عليها، وإن سميت صحيحة باعتبار أنا لا نأمره بالإعادة ولا ينبغي أن يعلق لفظ الصحة عليها، فيقال «صلاة صحيحة» مع أنه لا يثاب عليها فاعلها.
والقصد: أن هذه الأعمال -واجبها ومستحبها- هي عبودية القلب، فمن عطلها فقد عطل عبودية الملك، وإن قام بعبودية رعيته من الجوارح.
والمقصود: أن يكون ملك الأعضاء -وهو القلب- قائما بعبوديته لله سبحانه، هو ورعيته.
وأما المحرمات التي عليه: فالكبر والرياء والعجب والحسد والغفلة والنفاق.
فالكفر: كالشك والنفاق والشرك وتوابعها.
والمعصية نوعان: كبائر، وصغائر.
فالكبائر: كالرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، وتمني زوال ذلك عنهم، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريما من الزنا وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن.
وهذه الآفات إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب وترك القيام بها.
فوظيفة {إياك نعبد} على القلب قبل الجوارح، فإذا جهلها وترك القيام بها، امتلأ بأضدادها ولا بد، وبحسب قيامه بها يتخلص من أضدادها.
وهذه الأمور ونحوها قد تكون صغائر في حقه، وقد تكون كبائر، بحسب قوتها وغلظها، وخفتها ودقتها.
ومن الصغائر أيضا: شهوة المحرمات وتمنيها، وتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر بحسب تفاوت درجات المشتهَى، فشهوة الكفر والشرك كفر، وشهوة البدعة فسق، وشهوة الكبائر معصية؛ فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب، وإن تركها عجزا بعد بذله مقدوره في تحصيلها، استحق عقوبة الفاعل، لتنزيله منزلته في أحكام الثواب والعقاب، وإن لم ينزل منزلته في أحكام الشرع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار»، قالوا: هذا القاتل، يا رسول الله، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه» فنزله منزلة القاتل، لحرصه على قتل صاحبه في الإثم دون الحكم، وله نظائر كثيرة في الثواب والعقاب.
وقد علم بهذا مستحب القلب ومباحه.
فصل (وأما عبوديات اللسان الخمس)
فواجبها النطق بالشهادتين، وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن، وهو ما تتوقف صحة صلاته عليه، وتلفظه بالأذكار الواجبة في الصلاة التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما أمر بالتسبيح في الركوع والسجود، وأمر بقول «ربنا ولك الحمد» بعد الاعتدال، وأمر بالتشهد، وأمر بالتكبير.
ومن واجبه رد السلام، وفي ابتدائه قولان.
ومن واجبه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وأداء الشهادة المتعينة، وصدق الحديث.
وأما مستحبه: فتلاوة القرآن، ودوام ذكر الله، والمذاكرة في العلم النافع وتوابع ذلك.
وأما محرمه فهو النطق بكل ما يبغضه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كالنطق بالبدع المخالفة لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، والدعاء إليها، وتحسينها وتقويتها، وكالقذف وسب المسلم، وأذاه بكل قول، والكذب، وشهادة الزور، والقول على الله بلا علم، وهو أشدها تحريما.
ومكروهه التكلم بما تَرْكُه خير من الكلام به، مع عدم العقوبة عليه.
وقد اختلف السلف هل في حقه كلام مباح، متساوي الطرفين؟ على قولين، ذكرهما ابن المنذر وغيره، أحدهما: أنه لا يخلو كل ما يتكلم به: إما أن يكون له أو عليه، وليس في حقه شيء لا له ولا عليه.
واحتجوا بالحديث المشهور، وهو: «كل كلام ابن آدم عليه، لا له، إلا ما كان من ذكر الله وما والاه».
واحتجوا بأنه يكتب عليه كلامه كله، ولا يكتب إلا الخير والشر.
وقالت طائفة: بل هذا الكلام مباح، لا له ولا عليه، كما في حركات الجوارح.
قالوا: لأن كثيرا من الكلام لا يتعلق به أمر ولا نهي، وهذا شأن المباح.
والتحقيق: أن حركة اللسان بالكلام لا تكون متساوية الطرفين، بل إما راجحة وإما مرجوحة؛ لأن للسان شأنا ليس لسائر الجوارح، و«إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، تقول: اتق الله، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا»، وأكثر ما يُكِبُّ الناس على مناخرهم في النار حصائد ألسنتهم، وكل ما يتلفظ به اللسان فإما أن يكون مما يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو لا، فإن كان كذلك فهو الراجح، وإن لم يكن كذلك فهو المرجوح، وهذا بخلاف سائر الجوارح، فإن صاحبها ينتفع بتحريكها في المباح المستوي الطرفين، لما له في ذلك من الراحة والمنفعة، فأبيح له استعمالها فيما فيه منفعة له، ولا مضرة عليه فيه في الآخرة، وأما حركة اللسان بما لا ينتفع به فلا يكون إلا مضرة، فتأمله.
فإن قيل: فقد يتحرك بما فيه منفعة دنيوية مباحة مستوية الطرفين، فيكون حكم حركته حكم ذلك الفعل. قيل: حركته بها عند الحاجة إليها راجحة، وعند عدم الحاجة إليها مرجوحة لا تفيده، فتكون عليه لا له.
فإن قيل: فإذا كان الفعل متساوي الطرفين، كانت حركة اللسان التي هي الوسيلة إليه كذلك، إذ الوسائل تابعة للمقصود في الحكم. قيل: لا يلزم ذلك، فقد يكون الشيء مباحا، بل واجبا، ووسيلته مكروهة -كالوفاء بالطاعة المنذورة- هو واجب، مع أن وسيلته -وهو النذر- مكروه منهي عنه.
وكذلك الحلف المكروه مرجوح، مع وجوب الوفاء به أو الكفارة، وكذلك سؤال الخلق عند الحاجة مكروه، ويباح له الانتفاع بما أخرجته له المسألة، وهذا كثير جدا، فقد تكون الوسيلة متضمنة مفسدة تكره أو تحرم لأجلها، وما جعلت وسيلة إليه ليس بحرام ولا مكروه.
فصل (وأما العبوديات الخمس على الجوارح)
فعلى خمس وعشرين مرتبة أيضا، إذ الحواس خمسة وعلى كل حاسة خمس عبوديات.
فعلى السمع وجوب الإنصات والاستماع لما أوجبه الله ورسوله عليه، من استماع الإسلام والإيمان وفروضهما، وكذلك استماع القراءة في الصلاة إذا جهر بها الإمام، واستماع الخطبة للجمعة، في أصح قولي العلماء.
ويحرم عليه استماع الكفر والبدع؛ إلا حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة من ردّه، أو الشهادة على قائله، أو زيادة قوة الإيمان والسنة بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة ونحو ذلك، وكاستماع أسرار من يهرب عنك بسره، ولا يحب أن يطلعك عليه، ما لم يكن متضمنا لحق لله يجب القيام به، أو لأذى مسلم يتعين نصحه وتحذيره منه.
وكذلك استماع أصوات النساء الأجانب التي تُخْشَى الفتنة بأصواتهن، إذا لم تدع إليه حاجة من شهادة أو معاملة أو استفتاء أو محاكمة أو مداواة ونحوها.
وكذلك استماع المعازف وآلات الطرب واللهو، كالعود والطنبور واليراع ونحوها.
ولا يجب عليه سَدُّ أذنه إذا سمع الصوت وهو لا يريد استماعه، إلا إذا خاف السكون إليه والإنصات، فحينئذ يجب تجنب سماعها وجوب سد الذرائع.
ونظير هذا المحرِمُ، لا يجوز له تعمد شم الطيب، وإذا حملت الريح رائحته وألقتها في مشامِّه لم يجب عليه سد أنفه.
ونظير هذا نظرةُ الفجاءة لا تحرم على الناظر، وتحرم عليه النظرة الثانية إذا تعمدها.
وأما السمع المستحب فكاستماع المستحب من العلم، وقراءة القرآن، وذكر الله، واستماع كل ما يحبه الله، وليس بفرض.
والمكروه: عكسه، وهو استماع كل ما يكره ولا يعاقب عليه.
وأما النظر الواجب فالنظر في المصحف، وكتب العلم عند تعين تعلم الواجب منها، والنظر إذا تعين لتمييز الحلال من الحرام في الأعيان التي يأكلها أو ينفقها أو يستمتع بها، والأمانات التي يؤديها إلى أربابها ليميز بينها، ونحو ذلك.
والنظر الحرامُ النظرُ إلى الأجنبيات بشهوة مطلقا، وبغيرها إلا لحاجة، كنظر الخاطب والمستام والمعامل والشاهد والحاكم والطبيب وذي المحرم.
والمستحبُّ النظرُ في كتب العلم والدين التي يزداد بها الرجل إيمانا وعلما، والنظر في المصحف، ووجوه العلماء الصالحين والوالدين، والنظر في آيات الله المشهودة، ليستدل بها على توحيده – سبحانه -ومعرفته وحكمته.
والمكروهُ فضولُ النظر الذي لا مصلحة فيه، فإن له فضولا كما للسان فضولا، وكم قاد فضولها إلى فضول عَزَّ التخلص منها، وأعيى دواؤها.
وقال بعض السلف: كانوا يكرهون فضول النظر، كما يكرهون فضول الكلام.
والمباحُ النظرُ الذي لا مضرة فيه في العاجل والآجل ولا منفعة.
ومن النظر الحرام النظرُ إلى العورات، وهي قسمان:
عورة وراء الثياب، وعورة وراء الأبواب.
ولو نظر في العورة التي وراء الأبواب فرماه صاحب العورة، ففقأ عينه، لم يكن عليه شيء، وذهبت هَدَرًا، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته، وإن ضعفه بعض الفقهاء، لكونه لم يبلغه النص، أو تأوله.
وهذا إذا لم يكن للناظر سبب يباح النظر لأجله، كعورة له هناك ينظرها، أو ريبة هو مأمور- أو مأذون له -في الاطلاع عليها.
وأما الذوق الواجب فتناول الطعام والشراب عند الاضطرار إليه، وخوف الموت، فإن تركه حتى مات ماتَ عاصيا قاتلا لنفسه. قال الإمام أحمد وطاووس – رحمهما الله -: من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات، دخل النار.
ومن هذا تناولُ الدواء إذا تيقن النجاة به من الهلاك، على أصح القولين. وإن ظن الشفاء به، فهل هو مستحب مباح أو الأفضل تركه؟ فيه نزاع معروف بين السلف والخلف.
والذوق الحرام كذوق الخمر، والسموم القاتلة، والذوق الممنوع منه للصوم الواجب.
وأما المكروه فكذوق المشتبهات، والأكل فوق الحاجة، وذوق الطعام الفجاءة، وهو الطعام الذي تفجأ آكله، ولم يُرد أن يدعوك إليه، وكأكل أطعمة المرائين في الولائم والدعوات ونحوها، وفي «السنن» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن طعام المتبارين»، وذوق طعام من يطعمك حياء منك لا بطيبة نفس.
والذوق المستحب أكل ما يعينك على طاعة الله عز وجل، مما أذن الله فيه. والأكل مع الضيف ليطيب له الأكل، فينال منه غرضه، والأكل من طعام صاحب الدعوة الواجب إجابتها أو المستحب.
وقد أوجب بعض الفقهاء الأكل من الوليمة الواجب إجابتها، للأمر به عن الشارع.
والذوق المباحُ ما لم يكن فيه إثم ولا رجحان.
وأما تعلق العبوديات الخمس بحاسة الشم، فالشمُّ الواجبُ كلُّ شم تعين طريقا للتمييز بين الحلال والحرام، كالشم الذي تعلم به هذه العين هل هي خبيثة أو طيبة؟ وهل هي سم قاتل أو لا مضرة فيه؟ أو يميز به بين ما يملك الانتفاع به، وما لا يملك؟
ومن هذا شمُّ المقوِّم ورب الخبرة عند الحكم بالتقويم، وشمُّ العبيد ونحو ذلك.
وأما الشم الحرام فالتعمد لشم الطيب في الإحرام، وشم الطيب المغصوب والمسروق، وتعمد شم الطيب من النساء الأجنبيات خشية الافتتان بما وراءه.
وأما الشمُّ المستحب فشم ما يعينك على طاعة الله، ويقوي الحواس، ويبسط النفس للعلم والعمل.
ومن هذا هدية الطيب والريحان إذا أهديت لك، ففي «صحيح مسلم» عن النبي من صلى الله عليه وسلم: «من عرض عليه ريحان فلا يرده، فإنه طيب الريح، خفيف المحمل».
والمكروه كشم طيب الظَّلَمة وأصحاب الشبهات ونحو ذلك.
والمباح ما لا منع فيه من الله ولا تَبِعَة ولا فيه مصلحة دينية، ولا تعلق له بالشرع.
وأما تعلق هذه الخمسة بحاسة اللمس، فاللمس الواجب، كلمس الزوجة حين يجب جماعها، والأمة الواجب إعفافها.
والحرام لمس ما لا يحل من الأجنبيات.
والمستحب إذا كان فيه غض بصره، وكف نفسه عن الحرام، وإعفاف أهله.
والمكروه لمس الزوجة في الإحرام للذة، وكذلك في الاعتكاف، وفي الصيام، إذا لم يأمن على نفسه.
ومن هذا لمس بدن الميت- لغير غاسله -لأن بدنه قد صار بمنزلة عورة الحي تكريما له، ولهذا يستحب ستره عن العيون، وتغسيله في قميصه- في أحد القولين.
ولمس فخذ الرجل، إذا قلنا هي عورة.
والمباح ما لم يكن فيه مفسدة ولا مصلحة دينية.
وهذه المراتب أيضا مرتبة على البطش باليد، والمشي بالرجل، وأمثلتها لا تخفى.
فالتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهله وعياله واجبٌ. وفي وجوبه لقضاء دينه خلاف. والصحيح وجوبُه ليمكنه من أداء دينه، ولا يجب لإخراج الزكاة. وفي وجوبه لأداء فريضة الحج نظر.
والأقوى في الدليل وجوبُه لدخوله في الاستطاعة، وتمكنه بذلك من أداء النسك، والمشهور عدم وجوبه.
ومن البطش الواجب إعانة المضطر، ورمي الجمار، ومباشرة الوضوء والتيمم.
والحرام كقتل النفس التي حرم الله قتلها، ونهب المال المعصوم، وضرب من لا يحل ضربه، ونحو ذلك، وكأنواع اللعب المحرم بالنص كالنّرد، أو ما هو أشد تحريما منه عند أهل المدينة، كالشطرنج، أو مثله عند فقهاء الحديث كأحمد وغيره، أو دونه عند بعضهم، ونحو كتابة البدع المخالفة للسنة تصنيفا أو نسخا، إلا مقرونا بردها ونقضها، وكتابة الزور والظلم، والحكم الجائر، والقذف والتشبيب بالنساء الأجانب، وكتابة ما فيه مضرة على المسلمين في دينهم أو دنياهم، ولاسيما إن كسبت عليه مالا {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} [البقرة: 79]، وكذلك كتابة المفتي على الفتوى ما يخالف حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يكون مجتهدا مخطئا، فالإثم موضوع عنه.
وأما المكروه فكالعبث واللعب الذي ليس بحرام، وكتابة ما لا فائدة في كتابته، ولا منفعة فيه في الدنيا والآخرة.
والمستحب كتابة كل ما فيه منفعة في الدين، أو مصلحة لمسلم، والإحسان بيده بأن يعين صانعا، أو يصنع لأخرق، أو يُفرغ من دَلْوه في دلو المستسقي، أو يحمل له على دابته، أو يمسكها حتى يحمل عليها، أو يعاونه بيده فيما يحتاج له ونحو ذلك.
ومنه لمس الركن بيده في الطواف، وفي تقبيلها بعد اللمس قولان.
والمباح ما لا مضرة فيه ولا ثواب.
وأما المشي الواجب فالمشي إلى الجمعات والجماعات، في أصح القولين، لبضعة وعشرين دليلا، مذكورة في غير هذا الموضع، والمشي حول البيت للطواف الواجب، والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه، والمشي إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إذا دعي إليه، والمشي إلى صلة رحمه وبر والديه، والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه، والمشي إلى الحج إذا قربت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر.
والحرام المشيُ إلى معصية الله، وهو من «رَجْلِ الشيطان»، قال تعالى: {وأجلب عليهم بخيلك ورجلك} [الإسراء: 64]. قال مقاتل: استعن عليهم بركبان جندك ومُشاتهم، فكل راكب وماش في معصية الله فهو من جند إبليس.
وكذلك تتعلق هذه الأحكام الخمسة بالركوب أيضا.
فواجبه في الركوب في الغزو، والجهاد، الحج الواجب.
ومستحبه في الركوب المستحب من ذلك، ولطلب العلم، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وفي الوقوف بعرفة نزاعٌ، هل الركوب فيه أفضل، أم على الأرض؟
والتحقيق أن الركوب أفضل إذا تضمن مصلحة، من تعليم للمناسك، واقتداء به، وكان أعون على الدعاء، ولم يكن فيه ضرر على الدابة.
وحرامه الركوب في معصية الله عز وجل.
ومكروهه الركوب للهو واللعب، وكل ما تركُه خير من فعله.
ومباحه الركوب لما لم يتضمن فوت أجر، ولا تحصيل وزر.
فهذه خمسون مرتبة على عشرة أشياء: القلب واللسان والسمع والبصر والأنف والفم واليد والرجل والفرج والاستواء على ظهر الدابة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
من لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث، وتطييب له، وتهيؤ لتلاوة كلام الله. وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مصانعة، ولا يدارى بالإحسان، بخلاف العدو من نوع الإنسان كما دلت على ذلك آيات القرآن في ثلاث من المثاني، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} [الإسراء: 65]، وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري يوم بدر، ومن قتله العدو البشري كان شهيدًا، ومن قتله العدو الباطني كان طرِيدًا، ومن غلبه العدو الظاهر كان مأجورًا، ومن قهره العدو الباطن كان مفتونا أو موزورًا. ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه، استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان...
ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه؛ فإن الشيطان لا يكفُّه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا أمر الله تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عمَّا هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة، قوله في الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} [الأعراف: 199]، فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر، ثم قال: {وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]، وقال تعالى...: {ادفع بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 96 -98]، وقال تعالى في سورة "حم السجدة ": {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34- 36]...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الغرض الذي سيقت له الفاتحة هو إثبات استحقاق الله تعالى لجميع المحامد وصفات الكمال، واختصاصه بملك الدنيا والآخرة، وباستحقاق العبادة والاستعانة، بالسؤال في المن بإلزام صراط الفائزين والإنقاذ من طريق الهالكين مختصا بذلك كله، ومدار ذلك كله مراقبة العباد لربهم، لإفراده بالعبادة، فهو مقصود الفاتحة بالذات، وغيرُه وَسَائلُ إليه، فإنه لا بد في ذلك من إثبات إحاطته تعالى بكل شيء، ولن يثبت حتى يعلم أنه المختص بأنه الخالق الملك المالك، لأن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب نصب الشرائع، والمقصود من نصب الشرائع جمع الخلق على الحق، والمقصود من جمعهم تعريفهم المَلِكَ وبما يرضيه، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة بالقصد الأول، ولن يكون ذلك إلا بما ذكر علما وعملا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يردد المسلم هذه السورة القصيرة ذات الآيات السبع، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى؛ وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن؛ وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلا، غير الفرائض والسنن. ولا تقوم صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين عن رسول الله [ص] من حديث عبادة بن الصامت:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، وكليات التصور الإسلامي، وكليات المشاعر والتوجيهات، ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة، وحكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن، وهي ثلاثة أنواع:
الثناء على الله ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه من جميع النقائص، ولإثبات تفرده بالإلهية وإثبات البعث والجزاء وذلك من قوله {الحمد لله} إلى قوله {ملك يوم الدين}.
والأوامر والنواهي من قوله {إياك نعبد}.
والوعد والوعيد من قوله {صراط الذين} إلى آخرها.
فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله، وغيرها تكميلات لها، لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين وذلك يحصل بالأوامر والنواهي، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر، وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق، لزم تحقيق معنى الصفات، ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب، لزم تحقق الوعد والوعيد.
والفاتحة مشتملة على هذه الأنواع؛ فإن قوله {الحمد لله} إلى قوله {يوم الدين} حمد وثناء. وقوله {إياك نعبد} إلى قوله {المستقيم} من نوع الأوامر والنواهي. وقوله {صراط الذين} إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد، مع أن ذكر المغضوب عليهم والضالين يشير أيضا إلى نوع قصص القرآن.
وقد يؤيد هذا الوجه بما ورد في الصحيح في {قل هو الله أحد} أنها تعدل ثلث القرآن لأن ألفاظها كلها ثناء على الله تعالى...
تشتمل معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية؛ فإن معاني القرآن إما علوم تقصد معرفتها، وإما أحكام يقصد منها العمل بها. فالعلوم كالتوحيد والصفات والنبوءات والمواعظ والأمثال والحكم والقصص، وإما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات، وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة، وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام.
ف {الحمد لله} يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة {الحمد لله} من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص كما سيأتي.
و {رب العالمين} يشمل سائر صفات الأفعال والتكوين عند من أثبتها.
و {الرحمن الرحيم} يشمل أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين.
و {ملك يوم الدين} يشمل أحوال القيامة.
و {إياك نعبد} يجمع معنى الديانة والشريعة.
و {إياك نستعين} يجمع معنى الإخلاص لله في الأعمال.
و {اهدنا الصراط المستقيم} يشمل الأحوال الإنسانية وأحكامها من عبادات ومعاملات وآداب.
و {صراط الذين أنعمت عليهم} يشير إلى أحوال الأمم والأفراد الماضية الفاضلة.
وقوله {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} يشمل سائر قصص الأمم الضالة، ويشير إلى تفاصيل ضلالاتهم المحكية عنهم في القرآن، فلا جرم يحصل من معاني الفاتحة-تصريحا وتضمنا-علم إجمالي بما حواه القرآن من الأغراض. وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على حسب التمكن والقابلية. ولأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصا على التذكر لما في مطاويها.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لعلّ قيمة هذه السورة تكمن في أنها تقدّم، في آياتها، تصوراً شاملاً لعلاقة اللّه بالإنسان وعلاقة الإنسان به من خلال صفاته ذات الصلة الوثيقة بهذه العلاقة المتبادلة، ليكون ذلك بمثابة الثقافة السريعة، والوعي المتحرّك في الوجدان الإنساني، كلما أراد تمثّل تصوّره العقيدي للّه، لتتوازن تصوّراته، ولتستقيم خطواته في هذا الاتجاه؛
فهناك الإطلالة بالفكر على كلّ آفاق الحمد في صفات اللّه وأفعاله، مما يتحسسه الإنسان في سرّ وجوده وحركته وعناصر شخصيته وامتداد حياته، مما يتمثّل فيه عظمة الخلق، وروعة النعمة، فيكون الحمد بكلّ إيحاءاته الفكرية والشعورية هو التعبير الصارخ لكلّ ما يحمله الإنسان من انفتاحٍ على مواقع الحمد للّه.
وهناك الربوبية الشاملة للعالمين التي يتطلع فيها الإنسان إلى اللّه في آفاق ألوهيته التي لا حدود لها، ليجده في مواقع الكون كلّه، في عوالمه التي لا حصر لها، فيتحسس موقعه كإنسان من بين هذه العوالم، ليجد التربية الإلهية تتعهده بالرعاية الكاملة من موقع القدرة المطلقة المنفتحة على آفاق الألوهية، وليشعر بالوحدة الوجودية في ظلال الربوبية مع كلّ العالمين، فلا يحس بأيّ انفصال عن حركة الكون من حوله.
وإذا كانت الكلمتان [اللّه] و [رَبِّ الْعَلَمِينَ] تختزنان إيحاء قوّة العظمة، فإنَّ كلمتي [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] توحيان بالرحمة التي تلامس قلب الإنسان وروحه وكذلك كلّ حياته، لتنساب فيها محبةً وخيراً وطمأنينةً وسلاماً، فترتاح مشاعره لإيحاءات الرحمة في الوقت الذي تسمو فيه أفكاره إلى معاني العظمة،
ثُمَّ تنقله الأجواء الإيمانية إلى عالم آخر، هو عالم الآخرة الذي يواجه فيه الجزاء العادل على أعماله الصالحة أو غير الصالحة في يوم الدين الذي يملكه اللّه، فله وحده السيطرة المطلقة فيه، في كلّ ما يتعلّق بالثواب والعقاب، والجنّة والنّار.. وبذلك تندفع مشاعر المسؤولية في كيان الإنسان لينطلق تصوّره للّه من خلال هذا الأفق الواسع الذي يثير في داخله الرقابة الإلهية الشاملة لتتوازن خطواته في المواقع التي تتوازن فيها أعماله.
وهكذا يكون التصوّر للّه في هذه الصفات الثلاث أساساً لحركة العقيدة باللّه في تفاصيلها الإيحائية التي تتحرّك في حياة الإنسان لتوجهه إلى عبادة اللّه، مِمّا تفرضه الربوبية الشاملة والرحمة الواسعة والمالكية المطلقة للمصير كلّه، وفيما هي الهيمنة كلّها على الكون كلّه، فيتوجه إليه ليعبّر عن خضوعه لعبادته بالمستوى الذي ينفتح فيه على توحيد العبادة، فلا يعبد غيره، ولا تكون المسألة مسألةً تقريريةً، بل هي مسألةٌ إقراريةٌ، لأنه يسجل على نفسه الاعتراف الحاسم بذلك بقوله: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ]. ثُمَّ يتطلّع إلى الوجود كلّه ليجد أنَّ اللّه هو القادر على كلّ شيء فيه، لأنه الخالق لكلّ الوجود، فكلّ مخلوق محتاجٌ إليه بفعل ارتباط وجوده به الذي يمثّل الفقر كلّه، ما يجعله عاجزاً عن إدارة شؤون نفسه، أو إدارة شؤون غيره إلاّ بإذنه، فهو المستعان، فلا يملك أحدٌ أن يحصل على العون إلاَّ بإرادته، وهو الكافي الذي يكفي من كلّ شيءٍ ولا يكفي منه شيء.
وهكذا ينطلق الفقر الإنساني في حاجاته الوجوديّة، ليصرخ، من موقع العقيدة المنفتحة على قدرة اللّه على كلّ شيء، بقوله: [وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]، ما يوحي بالتوحيد في الاستعانة، فلا استعانة للعبد إلاّ بربه الواحد في عمق المعنى، لأنَّ ما يقدّمه الآخرون من معونةٍ، فهو مستمدٌّ من اللّه. وإذا كان اللّه هو المعين، فهو الهادي إلى سواء السبيل، لأن الهداية جزءٌ من معونته، يفتح بها قلب الإنسان وعقله على الحقّ، ويوجه حركته الاتّجاه السليم، في ما يوجهه إليه من رسالاته، ويلطف به من فيوضات ألطافه، ليهتدي بذلك كلّه إلى الطريق المستقيم...في الدعاء له بأن يهديه [الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] الذي يحصل من خلاله على محبته ورضاه وهداه. وبذلك نجد في السورة الإطلالة الواسعة على الأجواء القرآنية الرحبة التي تضع هذه المبادئ عنواناً لها في الواجهة، لتكون آيات القرآن بمثابة التفاصيل لكلّ مفرداتها، ولذلك سميت ب «أمّ الكتاب». وربما أمكننا أن نختصر خطّها العام بتأكيدها على العقيدة والعمل اللذين تندرج تحتهما كلّ المفاهيم القرآنية في حركة الفكر والواقع في تفاصيل الآيات القرآنية المتصلة بالحياة الإنسانية في الواقع كلّه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
سورة الحمد... وتتميز بالخصائص التالية:
- سياق السّورة: تختلف سورة الحمد عن سائر سور القرآن في لحنها وسياقها، فسياق السور الاُخرى يعبّر عن كلام الله، وسياق هذه السّورة يعبّر عن كلام عباد الله. وبعبارة اُخرى: شاء الله في هذه السّورة أن يعلّم عباده طريقة خطابهم له ومناجاتهم إيّاه.
تبدأ هذه السّورة بحمد الله والثناء عليه، وتستمر في إقرار الإِيمان بالمبدأ والمعاد «بالله ويوم القيامة» وتنتهي بالتضرع والطلب.
الإِنسان الواعي المتيقّظ يحسّ وهو يقرأ هذه السّورة بأنّه يعرج على أجنحة الملائكة، ويسمو في عالم الروح والمعنوية، ويدنو باستمرار من ربّ العالمين.
هذه السّورة تعبّر عن اتجاه الإِسلام في رفض الوسطاء بين الله والإِنسان... هؤلاء الوسطاء الذين افتعلتهم المذاهب الزائفة المنحرفة، وتُعلّم البشر أن يرتبطوا بالله مباشرة دونما واسطة
فالإنسان لا يرى في مضامين آيات السّورة سوى الله... يخاطبه... يناجيه... يتضرّع إليه... دونما واسطة حتى وإن كانت الواسطة نبيّاً مرسلا أو ملكاً مقرّباً.
ومن العجيب أن يحتلّ هذا الارتباط المستقيم بين الخالق والمخلوق مكان الصدارة في كتاب الله العزيز!.
محتوى السّورة: كلّ واحدة من الآيات السبع في هذه السّورة تشير إلى حقيقة هامّة:
(بِسْمِ اللهِ...) بداية لكلّ عمل، وتعلّمنا الاستمداد من الباري تعالى لدى البدء بأي عمل.
(اَلْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) درس في عودة كلّ نعمة ورعاية إلى الله تعالى، وإلفات إلى حقيقة انطلاق كلّ هذه المواهب من ذات الله تعالى.
(اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) تبيّن هذه الحقيقة، وهي: أنّ خلق الله ورعايته وحاكميته تقوم على أساس الرّحمة والرّحمانية، وهذا المبدأ يشكّل المحور الأساس لنظام رعاية العالم.
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) استحضار للمعاد ويوم الجزاء، ولحاكمية الله على تلك المحكمة الكبرى.
(إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعيِنُ) تبيّن التوحيد في العبادة، والتوحيد في الاستعانة بالأسباب.
(اهْدِنَا الْصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) توضّح حاجة العباد ورغبتهم الشديدة للهداية، وتؤكّد حقيقة أن كل ألوان الهداية إنما تصدر منه تعالى. وآخر آية من هذه السّورة ترسم معالم (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وتميّز بين صراط الذين أنعم الله عليهم، وصراط الذين ضلّوا والذين استحقّوا غضب الله عليهم.
- ويمكن تقسيم هذه السّورة، من منظار آخر إلى قسمين: قسم يختصّ بحمد الله والثناء عليه، وقسم يتضمّن حاجات العبد...
قال مالك: ليست البسملة في أوائل السور بآية، وإنما هي استفتاح ليعلم مبدأها، قال مالك: ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة، ومن يعرض القرآن عرضا.
قال الشافعي: {بِسْمِ اِللَّهِ اِلرَّحْمانِ اِلرَّحِيمِ} الآية السابعة، فإن تركها، أو بعضها، لم تجزه الركعة التي تركها فيها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه، أدّب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل ما أدبه به من ذلك وعلَّمه إياه منه لجميع خلقه سُنةً يستنون بها، وسبيلاً يتبعونه عليها، في افتتاح أوائل منطقهم وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل «بسم الله»، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف.
"بسم الله" : وذلك أن الباء من «بسم الله» مقتضيةٌ فعلاً يكون لها جالبا، ولا فعل معها ظاهر، فأغنت سامع القائل «بسم الله» معرفته بمراد قائله من إظهار قائل ذلك مراده قولاً، إذ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرا قد أحضر منطقه به، إما معه وإما قبله بلا فصل، ما قد أغنى سامعه من دلالة شاهدة على الذي من أجله افتتح قِيلُه به... وكذلك قوله: «بسم الله» عند نهوضه للقيام أو عند قعوده وسائر أفعاله، ينبئ عن معنى مراده بقوله «بسم الله»، وأنه أراد بِقِيلِه «بسم الله»: أَقُوم بسم الله، وأقعد بسم الله، وكذلك سائر الأفعال...
وأما تأويل قول الله: «الله»، فإنه على معنى ما رُوي لنا عن عبد الله بن عباس: هو الذي يَأْلَهُه كل شيء، ويعبده كل خلق...
"الرّحْمنِ الرّحِيمِ": أما الرحمن: فهو «فعلان»، من رحم. والرحيم: فعيل منه.
فإن قال قائل: فإذا كان الرحمَن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة، فما وجه تكرير ذلك، وأحدهما مؤّد عن معنى الآخر؟ قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤَدي الأخرى منهما عنها.
فإن قال: وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى؟ قيل: أما من جهة العربية، فلا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب أن قول القائل: «الرحمن» عن أبنية الأسماء من «فَعِلَ يَفْعَل» أشد عدولاً من قوله: «الرحيم»، ولا خلاف مع ذلك بينهم أن كل اسم كان له أصل في «فَعِلَ يَفْعَل»، ثم كان عن أصله من فعل ويفعل أشدّ عدولاً، أن الموصوف به مفضل على الموصوف بالاسم المبني على أصله من «فَعِلَ يَفْعل» إذا كانت التسمية به مدحا أو ذما. فهذا ما في قول القائل «الرحمَن» من زيادة المعنى على قوله: «الرحيم» في اللغة...
وأما من جهة الأثر والخبر... [ف] عن عبد الله بن عباس، قال: الرحمن: الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب. قال: الرحمن الرحيم: الرقيق الرفيق بمن أحبّ أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحبّ أن يعنف عليه، وكذلك أسماؤه كلها...
الأحكام التي يتضمنها قوله "بسم الله الرحمن الرحيم": الأمرُ باستفتاح الأمور للتبرك بذلك، والتعظيمُ لله عز وجل به، وذكرُها على الذبيحة شعارٌ وعَلَم من أعلام الدين، وطردُ الشيطان، وفيه إظهار مُخالفة المشركين الذين يفتتحون أمورهم بذكر الأصنام أو غيرها من المخلوقين الذين كانوا يعبدونهم، وهو مفزعٌ للخائف، ودلالةٌ من قائله على انقطاعه إلى الله تعالى ولجوئه إليه، وأنسٌ للسامع، وإقرارٌ بالألوهية، واعترافٌ بالنعمة، واستعانةٌ بالله تعالى، وعياذةٌ به، وفيه اسمان من أسماء الله تعالى المخصوصةِ به، لا يسمَّى بهما غيره وهما الله والرحمن.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
قوله تعالى: {الرحمان الرحيم}: نبأٌ عن صفة من صفات خاصة، وخاصيتها أنها تستدعي سائر الصفات من العلم والقدرة وغيرهما، ثم تتعلق بالخلق- وهم المرحومون- تعلقا يؤنسهم به، ويشوقهم إليه ويرغبهم في طاعته، لا كوصف الغضب لو ذَكَره بدلا عن الرحمة، فإن ذلك يحزن ويخوف ويقبض القلب ولا يشرحه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: بم تعلقت الباء؟ قلت: بمحذوف تقديره: بسم الله أقرأ أو أتلو؛ لأنّ الذي يتلو التسمية مقروء، كما أنّ المسافر إذا حلّ أو ارتحل فقال: بسم الله، كان المعنى: بسم الله أحل وبسم الله أرتحل؛ وكذلك الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله؛ ب «بسم الله» كان مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له.
فإن قلت: لم قدّرت المحذوف متأخراً؟ قلت: لأنّ الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به؛ لأنهم كانوا يبدؤون بأسماء آلهتهم فيقولون: باسم اللات، باسم العزى، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عزّ وجلّ بالابتداء، وذلك بتقديمه وتأخير الفعل كما فعل في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، حيث صرح بتقديم الاسم إرادة للاختصاص، والدليل عليه قوله: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41].
فإن قلت: فقد قال: {اقرأ باسم رَبّكَ} [العلق: 1]، فقدّم الفعل، قلت: هناك تقديم الفعل أوقع لأنها أوّل سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم.
ومعناه تعليم عباده كيف يتبركون باسمه، وكيف يحمدونه ويمجدونه ويعظمونه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
... قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ: إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، فَتَدْخُلُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي الْوُجُوبِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ، أَوْ فِي الِاسْتِحْبَابِ كَذَلِكَ. وَيَكْفِيك أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَالْقُرْآنُ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، فَإِنَّ إنْكَارَ الْقُرْآنِ كُفْرٌ. ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسّمت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ تَعَالَى: مَجَّدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. يَقُولُ الْعَبْدُ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. يَقُولُ اللَّهُ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ». فَقَدْ تَوَلَّى سُبْحَانَهُ قِسْمَةَ الْقُرْآنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَهَذَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ، مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ». وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا غَيْرَ تَمَامٍ».
ومن اللطائف أن قوله {أعوذ بالله} إشارة إلى نفي ما لا ينبغي من العقائد والأعمال، وقوله {بسم الله} إشارة إلى ما ينبغي من الاعتقادات والعمليات، فقوله {بسم الله} لا يصير معلوما إلا بعد الوقوف على جميع العقائد الحقة، والأعمال الصافية، وهذا هو الترتيب الذي يشهد بصحته العقل الصحيح، والحق الصريح.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان المقصود من جمعهم [الناس] على الله تعالى معرفته لأجل عباداته، وكان التزام اسمه تعالى في كل حركة وسكون قائدا إلى مراقبته وداعيا إلى مخافته، واعتقاد أن مصادر الأمور ومواردها منه وإليه، شرعت التسمية أول كل شيء، فصُدِّرت بها الفاتحة. وقُدِّم التعوذ الذي هو من درء المفاسد، تعظيما للقرآن بالإشارة إلى أن يتعين لتاليه أن يجتهد في تصفية سره وجمع متفرق أمره، لينال سؤله ومراده مما أودعه من خزائن السعادة بإعراضه عن العدو الحسود وإقباله على الوالي الودود؛ ومن هنا تعرف مناسبة المعوذتين بالفاتحة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام: القرآن إمامنا وقدوتنا، فافتتاحه بهذه الكلمة إرشاد لنا بأن نفتتح أعمالنا بها... وحاصل المعنى أنني أعمل عملي متبرئا من أن يكون باسمي، بل هو باسمه تعالى، لأنني أستمد القوة والعناية منه وأرجو إحسانه عليه، فلولاه لم أقدر عليه ولم أعمله، بل وما كنت عاملا له على تقدير القدرة عليه لولا أمره ورجاء فضله، فلفظ الاسم معناه مراد، ومعنى لفظ الجلالة مراد أيضا، وكذلك كل من لفظ الرحمان الرحيم. وهذا الاستعمال معروف مألوف في كل اللغات، وأقربه إليكم اليوم ما ترونه في المحاكم النظامية حيث يبتدئون الأحكام قولا وكتابة باسم السلطان فلان [ولله المثل الأعلى.]
ومعنى البسملة في الفاتحة أن جميع ما يقرر في القرآن من الأحكام والآيات وغيرها هو لله ومنه، ليس لأحد غير الله فيه شيء. ا ه...
أقول: وهاهنا نظر آخر فيه، وهو أن القرآن كان وحيا يلقيه الروح الأمين في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وكل سورة منه مبتدأة ببسملة، فمتعلق البسملة من ملك الوحي تعلم من أول آية نزل بها وهي قوله تعالى {اقرأ باسم ربك}.
فمعنى البسملة الذي كان يفهمه النبي صلى الله عليه وسلم من روح الوحي: اقرأ يا محمد هذه السورة باسم الله الرحمان الرحيم على عباده، أي اقرأها على أنها منه تعالى لا منك، فإنه برحمته بهم أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة، وعلى هذا كان يقصد النبي صلى الله عليه وسلم من متعلق البسملة: إنني أقرأ السورة عليكم أيها الناس باسم الله لا باسمي، وعلى أنها منه لا مني، فإنما أنا مبلغ عنه عز وجل {وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن} [النمل، 91-92]...
[الرحمن الرحيم] قال الأستاذ الإمام: والذي أقول: إن صيغة فعلان تدل على وصف فعلي فيه معنى المبالغة كفعال، وهو في استعمال اللغة للصفات العارضة كعطشان... وأما صيغة فعيل فإنها تدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس؛ كعليم وحكيم وحليم وجميل، والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ في الحكاية عن صفات الله عز وجل التي تعلو عن مماثلة صفات المخلوقين.
فلفظ الرحمان يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل، وهي إفاضة النعم والإحسان، ولفظ الرحيم يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان، وعلى أنها من الصفات الثابتة والواجبة. وبهذا المعنى لا يُستغنى بأحد الوصفين عن الآخر، ولا يكون الثاني مؤكدا للأول، فإذا سمع العربي وصف الله جل ثناؤه بالرحمان وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما، لأن الفعل قد ينقطع إذا لم يكن عن صفة لازمة ثابتة وإن كان كثيرا، فعندما يسمع لفظ الرحيم يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه، ويعلم أن لله صفة ثابتة هي الرحمة التي عنها يكون أثرها، وإن كانت تلك الصفة على غير مثال صفات المخلوقين، ويكون ذكرها بعد الرحمان كذكر الدليل بعد المدلول ليقوم برهانا عليه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإذا كان البدء باسم الله وما ينطوي عليه من توحيد الله وأدب معه يمثل الكلية الأولى في التصور الإسلامي، فإن استغراق معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها في صفتي الرحمن الرحيم يمثل الكلية الثانية في هذا التصور، ويقرر حقيقة العلاقة بين الله والعباد...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}: إن الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نتلو القرآن مبتدئين تالين لآياته باسمه الأقدس؛ نتبرك به ونتيمن ونسبح باسمه، وهو الله، الإله المتفرد بالخلق والتكوين والتدبير، والمتفرد بالعبودية وحده جل جلاله، لأنه بديع السماوات والأرض والوجود كله، وهو (الرحمن) ذو الرحمة الواسعة التي تعم الوجود كله في السماوات والأرض، والدنيا والآخرة، المدبر للوجود برحمته. وهو (الرحيم) بعباده يغفر لهم ويتوب عليهم، ويشرع لهم من الشرائع ما يكون خيرا لهم في معادهم ومعاشهم، وهو بكل شيء عليم...
القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل فيها، نزل مقرونا بسم الله سبحانه وتعالى، ولذلك حينما نتلوه فإننا نبدأ البداية نفسها التي أرادها الله تبارك وتعالى، وهي أن تكون البداية بسم الله. وأول الكلمات التي نطق بها الوحي لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت {اقرأ بسم ربك الذي خلق}. وهكذا كانت بداية نزول القرآن الكريم ليمارس مهمته في الكون هي: بسم الله.
على أننا نبدأ أيضا تلاوة القرآن بسم الله، لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أنزله لنا، ويسر لنا أن نعرفه ونتلوه، فالأمر لله علما وقدرة ومعرفة. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (سورة يونس 16) لذلك أنت تقرأ القرآن بسم الله، لأنه جل جلاله هو الذي يسره لك كلاما وتنزيلا وقراءة.
ولكن هل نحن مطالبون أن نبدأ فقط تلاوة القرآن بسم الله؟ إننا مطالبون أن نبدأ كل عمل بسم الله، لأننا لابد أن نحترم عطاء الله في كونه، فحين نزرع الأرض مثلا، لابد أن نبدأ بسم الله، لأننا لم نخلق الأرض التي نحرثها، ولا خلقنا البذرة التي نبذرها، ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع.
إن الفلاّح الذي يمسك الفأس ويرمي البذرة قد يكون أجهل الناس بعناصر الأرض ومحتويات البذرة وما يفعله الماء في التربة لينمو الزرع.. إن كل ما يفعله الإنسان هو أنه يعمل فكره المخلوق من الله في المادة المخلوقة من الله بالطاقة التي أوجدها الله في أجسادنا ليتم الزرع. والإنسان لا قدرة له على إرغام الأرض لتعطيه الثمار، ولا قدرة له على خلق الحبة لتنمو وتصبح شجرة، ولا سلطان له على إنزال الماء من السماء، فكأنه حين يبدأ العمل بسم الله، يبدأه بسم الله الذي سخر له الأرض، وسخر له الحَبّ، وسخر له الماء، وكلها لا قدرة له عليها، ولا تدخل في طاقته ولا في استطاعته، فكأنه يعلن أنه يدخل على هذه الأشياء جميعا باسم من سخرها له، والله تبارك وتعالى سخر لنا الكون جميعا وأعطانا الدليل على ذلك، فلا تعتقد أن لك قدرة أو ذاتية في هذا الكون، ولا تعتقد أن الأسباب والقوانين في الكون لها ذاتية، بل هي تعمل بقدرة خالقها، الذي إن شاء أجراها وإن شاء أوقفها...
كل شيء في هذا الكون بسم الله.. يتم بسم الله وبإذن من الله.. الكون تحكمه الأسباب نعم؛ ولكن إرادة الله فوق كل الأسباب.
أنت حين تبدأ كل شيء بسم الله، كأنك تجعل الله في جانبك يعينك، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا أن نبدأ كل شيء بسم الله، لأن الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه وتعالى، والفعل عادة يحتاج إلى صفات متعددة، فأنت حين تبدأ عملا تحتاج إلى قدرة الله وإلى عونه وإلى رحمته، فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات، كان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها.. كأن نقول بسم الله القوي، وبسم الله الرازق، وبسم الله المجيب، وبسم الله القادر، وبسم الله النافع... إلى غير ذلك من الأسماء والصفات التي نريد أن نستعين بها، ولكن الله تبارك وتعالى جعلنا نقول: بسم الله... بسم الله الجامع لكل هذه الصفات.
على أننا لابد أن نقف هنا عند الذين لا يبدؤون أعمالهم بسم الله، وإنما يريدون الجزاء المادي وحده. إنسان غير مؤمن لا يبدأ عمله بسم الله، وإنسان مؤمن يبدأ كل عمل وفي باله الله، كلاهما يأخذ من الدنيا لأن الله رب للجميع، له عطاء ربوبية لكل خلقه الذين استدعاهم للحياة، ولكن الدنيا ليست هي الحياة الحقيقية للإنسان، بل الحياة الحقيقية هي الآخرة. الذي في باله الدنيا وحدها يأخذ بقدر عطاء الربوبية.. بقدر عطاء الله في الدنيا، والذي في باله الله يأخذ بقدر عطاء الله في الدنيا والآخرة.. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير} (سورة سبأ: 1)؛ لأن المؤمن يحمد الله على نعمه في الدنيا، ثم يحمده عندما ينجيه من النار والعذاب ويدخله الجنة في الآخرة، فلله الحمد في الدنيا والآخرة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع"، ومعنى أقطع أي: مقطوع الذنب أو الذيل، أي عمل ناقص، فيه شيء ضائع؛ لأنك حين لا تبدأ العمل بسم الله قد يصادفك الغرور والطغيان بأنك أنت الذي سخّرت ما في الكون ليخدمك وينفعل لك، وحين لا تبدأ العمل باسم الله، فليس لك عليه جزاء في الآخرة، فتكون قد أخذت عطاءه في الدنيا وبترت أو قطعت عطاءه في الآخرة. فإذا كنت تريد عطاء الدنيا والآخرة، فأقبل على كل عمل باسم الله؛ قبل أن تأكل قل: باسم الله، لأنه هو الذي خلق لك هذا الطعام ورزقك به. عندما تدخل الامتحان قل: بسم الله، فيعينك على النجاح. عندما تدخل إلى بيتك قل: بسم الله، لأنه هو الذي يسر لك هذا البيت. عندما تتزوج قل بسم الله: لأنه هو الذي خلق هذه الزوجة وأباحها لك... في كل عمل تفعله ابدأه باسم الله، لأنها تمنعك من أي عمل يغضب الله سبحانه وتعالى؛ فأنت لا تستطيع أن تبدأ عملا يغضب الله باسم الله، إذا أردت أن تسرق أو أن تشرب الخمر أو أن تفعل عملا يغضب الله، وتذكرت بسم الله، فإنك ستمتنع عنه، ستستحي أن تبدأ عملا بسم الله يغضب الله، وهكذا ستكون أعمالك كلها فيما أباحه الله.
الله تبارك وتعالى حين نبدأ قراءة كلامه بسم الله، فنحن نقرأ هذا الكلام لأنه من الله، والله هو الإله المعبود في كونه، ومعنى معبود أنه يطاع فيما يأمر به، ولا نقدم على ما نهى عنه، فكأنك تستقبل القرآن الكريم بعطاء الله في العبادة، وبطاعته في افعل ولا تفعل. وهذا هو المقصود أن تبدأ قراءة القرآن بسم الله الذي آمنت به ربا وإلها، والذي عاهدته على أن تطيعه فيما أمر وفيما ينهى، والذي بموجب عبادتك لله سبحانه وتعالى تقرأ كتابه لتعمل بما فيه، والذي خلق وأوجد، ويحيي ويميت، وله الأمر في الدنيا والآخرة، والذي ستقف أمامه يوم القيامة ليحاسبك أحسنت أم أسأت، فالبداية من الله، والنهاية إلى الله سبحانه وتعالى.
بعض الناس يتساءل كيف أبدأ بسم الله، وقد عصيت وقد خالفت؟ نقول إياك أن تستحي أن تقرأ القرآن، وأن تبدأ بسم الله إذا كنت قد عصيت، ولذلك أعطانا الله سبحانه وتعالى الحيثية التي نبدأ بها قراءة القرآن فجعلنا نبدأه بسم الله الرحمن الرحيم. فالله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن العاصي، بل يفتح له باب التوبة، ويحثه عليها، ويطلب منه أن يتوب وأن يعود إلى الله، فيغفر له ذنبه، لأن الله رحمن رحيم... يطلب من كل عاص أن يعود إلى حظيرة الإيمان وهو رحمن رحيم...فرحمة الله تسع كل ذنوب خلقه، وهو سبحانه وتعالى الذي يغفر الذنوب جميعا. والرحمة والرحمن والرحيم، مشتق منها الرحم الذي هو مكان الجنين في بطن أمه، هذا المكان الذي يأتيه فيه الرزق بلا حول ولا قوة، ويجد فيه كل ما يحتاج إليه نموه ميسراً، رزقا من الله سبحانه وتعالى بلا تعب ولا مقابل، انظر إلى حنو الأم على ابنها وحنانها عليه، وتجاوزها عن سيئاته و [فرحتها] بعودته إليها، ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي: "أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته". الله سبحانه وتعالى يريد أن نتذكر دائما أنه يحنو ويرزقنا، ويفتح لنا أبواب التوبة بابا بعد آخر. ونعصي، فلا يأخذنا بذنوبنا ولا يحرمنا من نعمه، ولا يهلكنا بما فعلنا. ولذلك فنحن نبدأ تلاوة القرآن الكريم بسم الله الرحمن الرحيم، لنتذكر دائما أبواب الرحمة المفتوحة لنا، نرفع أيدينا إلى السماء ونقول: يا رب رحمتك، تجاوز عن ذنوبنا وسيئاتنا، وبذلك يظل قارئ القرآن متصلا بأبواب رحمة الله، كلما ابتعد عن المنهج أسرع ليعود إليه، فمادام الله رحمانا ورحيما لا تغلق أبواب الرحمة أبدا.
على أننا نلاحظ أن الرحمن الرحيم من صيغ المبالغة، يقال: راحم ورحمن ورحيم... والله سبحانه وتعالى رحمن الدنيا ورحيم الآخرة.. صفات الله سبحانه وتعالى لا تتأرجح بين القوة والضعف، وإياكم أن تفهموا أن الله تأتيه الصفات مرة قليلة ومرة كثيرة، بل هي صفات الكمال المطلق، ولكن الذي يتغير هو متعلقات هذه الصفات، اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرةٍ} (سورة النساء 40) هذه الآية الكريمة نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى، ثم تأتي الآية الكريمة بقول الله جل جلاله: {وما ربك بظلامٍ للعبيد} (سورة فصلت 46) نلاحظ هنا استخدام صيغة المبالغة "ظلام "أي شديد الظلم.. وقول الحق سبحانه وتعالى: {ليس بظلام}.. لا تنفي الظلم ولكنها تنفي المبالغة في الظلم، تنفي أن يظلم ولو مثقال ذرة.. نقول إنك لم تفهم المعنى.. إن الله لا يظلم أحدا.. الآية الأولى نفت الظلم عن الحق تبارك وتعالى ولو مثقال ذرة بالنسبة للعبد.. والآية الثانية لم تقل للعبد ولكنها قالت للعبيد.. والعبيد هم كل خلق الله.. فلو أصاب كل واحد منهم أقل من ذرة من الظلم مع هذه الأعداد الهائلة.. فإن الظلم يكون كثيراً جداً، ولو أنه قليل في كميته لأن عدد من سيصاب به هائل.. ولذلك فإن الآية الأولى نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى. والآية الثانية نفت الظلم أيضا عن الله تبارك وتعالى.. ولكن صيغة المبالغة استخدمت لكثرة عدد الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة.
نأتي بعد ذلك إلى رحمن ورحيم؛ رحمن في الدنيا لكثرة عدد الذين يشملهم الله سبحانه وتعالى برحمته، فرحمة الله في الدنيا تشمل المؤمن والعاصي والكافر؛ يعطيهم الله مقومات حياتهم ولا يؤاخذهم بذنوبهم، يرزق من آمن به ومن لم يؤمن به، ويعفو عن كثير. إذن عدد الذين تشملهم رحمة الله في الدنيا هم كل خلقه، بصرف النظر عن إيمانهم أو عدم إيمانهم، ولكن في الآخرة الله رحيم بالمؤمنين فقط، فالكفار والمشركون مطرودون من رحمة الله، إذن الذين تشملهم رحمة الله في الآخرة أقل عددا من الذين تشملهم رحمة الله في الدنيا، فمن أين تأتي المبالغة؟ تأتي المبالغة في العطاء وفي الخلود في العطاء، فنعم الله في الآخرة أكبر كثيراً منها في الدنيا. المبالغة هنا بكثرة النعم وخلودها، فكأن المبالغة في الدنيا بعمومية العطاء، والمبالغة في الآخرة بخصوصية العطاء للمؤمن وكثرة النعم والخلود فيها...
[و] نلاحظ أن هناك ثلاثة أسماء لله قد تكررت في بسم الله الرحمن الرحيم، وفي فاتحة الكتاب، وهذه الأسماء هي: الله والرحمن والرحيم. نقول إنه ليس هناك تكرار في القرآن الكريم، وإذا تكرر اللفظ يكون معناه في كل مرة مختلفا عن معناه في المرة السابقة، لأن المتكلم هو الله سبحانه وتعالى، ولذلك فهو يضع اللفظ في مكانه الصحيح، وفي معناه الصحيح. قولنا: {بسم الله الرحمن الرحيم} هو استعانة بقدرة الله حين نبدأ فعل الأشياء، إذن فلفظ الجلالة "الله" في بسم الله، معناه الاستعانة بقدرات الله سبحانه وتعالى وصفاته، لتكون عونا لنا على ما نفعل. ولكن إذا قلنا: الحمد لله، فهي شكر لله على ما فعل لنا؛ ذلك أننا لا نستطيع أن نقدم الشكر لله إلا إذا استخدمنا لفظ الجلالة الجامع لكل صفات الله تعالى؛ لأننا نحمده على كل صفاته ورحمته بنا حتى لا نقول باسم القهار وباسم الوهاب وباسم الكريم وباسم الرحمن.. نقول الحمد لله على كمال صفاته، فيشمل الحمد كمال الصفات كلها. وهناك فرق بين "بسم الله" الذي نستعين به على ما لا قدرة لنا عليه. لأن الله هو الذي سخر كل ما في هذا الكون، وجعله يخدمنا، وبين "الحمد لله" فإن لفظ الجلالة إنما جاء هنا لنحمد الله على ما فعل لنا، فكأن "بسم الله" في البسملة طلب العون من الله بكل كمال صفاته، وكأن "الحمد لله" في الفاتحة تقديم الشكر لله بكل كمال صفاته.
و {الرحمن الرحيم} في البسملة لها معنى غير {الرحمن الرحيم} في الفاتحة، ففي البسملة هي تذكرنا برحمة الله سبحانه وتعالى وغفرانه حتى لا نستحي ولا نهاب أن نستعين بسم الله إن كنا قد فعلنا معصية، فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نستعين باسمه دائما في كل أعمالنا، فإذا سقط واحد منا في معصية، قال كيف أستعين بسم الله وقد عصيته؟ نقول له: ادخل عليه سبحانك وتعالى من باب الرحمة، فيغفر لك، وتستعين به فيجيبك... ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى ألا تمنعنا المعصية عن أن ندخل إلى كل عمل باسم الله، فعلمنا أن نقول: {بسم الله الرحمن الرحيم} لكي نعرف أن الباب مفتوح للاستعانة بالله، وأن المعصية لا تمنعنا من الاستعانة في كل عمل بسم الله.. لأنه رحمن رحيم، فيكون الله قد أزال وحشتك من المعصية في الاستعانة به سبحانه وتعالى. ولكن الرحمن الرحيم في الفاتحة مقترنة برب العالمين، الذي أوجدك من عدم، وأمدك بنعم لا تعد ولا تحصى. أنت تحمده على هذه النعم التي أخذتها برحمة الله سبحانه وتعالى في ربوبيته، ذلك أن الربوبية ليس فيها من القسوة بقدر ما فيها من رحمة، والله سبحانه وتعالى رب للمؤمن والكافر، فهو الذي استدعاهم جميعا إلى الوجود، ولذلك فإنه يعطيهم من النعم برحمته، وليس بما يستحقون.. فالشمس تشرق على المؤمن والكافر، ولا تحجب أشعتها عن الكافر وتعطيها للمؤمن فقط، والمطر ينزل على من يعبدون الله ومن يعبدون أوثانا من دون الله، والهواء يتنفسه من قال لا إله إلا الله ومن لم يقلها، وكل النعم التي هي من عطاء الربوبية لله هي في الدنيا لخلقه جميعا، وهذه رحمة، فالله رب الجميع، من أطاعه ومن عصاه، وهذه رحمة، والله قابل للتوبة، وهذه رحمة.. إذن ففي الفاتحة تأتي {الرحمن الرحيم} بمعنى رحمة الله في ربوبيته لخلقه، فهو يمهل العاصي ويفتح أبواب التوبة لكل من يلجأ إليه، وقد جعل الله رحمته تسبق غضبه، وهذه رحمة تستوجب الشكر. فمعنى" الرحمن الرحيم "في البسملة يختلف عنها في الفاتحة...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
{بسم الله الرحمن الرحيم}: الجار والمجرور متعلق بمحذوف؛ وهذا المحذوف يقَدَّر فعلاً متأخراً مناسباً؛ ... وقدرناه متأخراً لفائدتين:
الفائدة الأولى: التبرك بتقديم اسم الله عزّ وجل.
والفائدة الثانية: الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأنك تقول: لا آكل باسم أحد متبركاً به ومستعيناً به، إلا باسم الله عزّ وجلّ... ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"من لم يذبح فليذبح باسم الله"1.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
البداية عندما تكون [بسْمِ اللّه]، فإنها تفتح وعي الإنسان على كلام اللّه النازل من خلال وحيه... على أساس ما يرمز إليه اسم اللّه من الذات المقدسة المطلقة التي يرجع إليها الأمر كلّه، فتكون بداية كلّ شيء منه ونهايته إليه.
وكلمة الجلالة «اللّه» لا تدل إلاَّ على ذاته سبحانه، بالوضع، أو لغلبة الاستعمال، وذلك من خلال التبادر الذي يوحي بذلك... ولذلك كانت كلمة التوحيد: «لا إله إلاّ اللّه» تعني الالتزام بالوحدانية من دون حاجةٍ إلى أيّ لفظ آخر يكمل المعنى، لتعيّن المعنى التوحيدي من خلال الكلمة.
الرحمن الرحيم: هاتان الكلمتان الدالّتان على وصف واحد هو الرحمة، التي تمثّل في مدلولها الإنساني، حالة انفعالٍ إيجابيٍّ، تصيب القلب بفعل احتضانه لآلام الآخرين وآمالهم ومشاكلهم، في رعاية محبَّبةٍ، وعناية ودودةٍ، وحنانٍ دافقٍ، وتنفذ إلى عمق حاجتهم،... إلى الحنان الظامئ وإلى الحبّ المتحرّك نحو احتواء الموقف كلّه.
أمّا في الجانب الإلهي، فهي لا تقترب من مشاعر الانفعال الممتنع على اللّه، لأنه من حالات الجسد المادّي، ولكنها تنطلق في النتائج العملية المنفتحة على وجود الإنسان الذي يمثّل وجهاً من وجوه حركة الرحمة الإلهية لديه، وعلى كلّ تفاصيل حياته في النعم التي يغدقها اللّه عليه، وعلى كلّ مواقع خطاياه التي يغفرها اللّه له، وعلى كلّ مجالات حركته العامة أو الخاصة في آلامه ومشاكله ليخفّفها عنه أو ليبعدها عن حياته، وعلى كلّ تطلعاته في أحلامه ليحقّقها له، وعلى كلّ مصيره في الدنيا والآخرة ليجعل السعادة له في دائرة رضوانه في ذلك كلّه...
إنَّ الوجود كلّه هو مظهر الرحمة الإلهية التي هي صفة من صفات الكمال للّه في ما تعبّر عنه من الموقع الرحيم الذي يطل به اللّه على الوجود وعلى الإنسان في كلّ مواقعه في داخل طبيعة الوجود وفي عمق حركته، وهذا ما يريد اللّه في الإنسان أن يتصوّره به، ليشعر دائماً بقربه إليه من خلال حركة الرحمة التي وسعت كلّ شيء، باعتبار أنها تلاحق الإنسان لتضمّد له جراحه، ولتفتح قلبه على الأمل كلّه والخير كلّه، ولتَعِدَه بمستقبل مشرق كبير. وهذا هو ما يوحي به الدعاء المأثور: «اللّهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فإنَّ رحمتك أهلٌ أن تبلغني وتسعني لأنها وسعت كلّ شيء». ولعلّ هذا هو الأسلوب التربوي الذي يعمل على تأكيد التصوّر الإنساني للّه من موقع الرحمة، ليبقى قريباً منه في مواقع حاجته إليه، من حيث الأفق الواسع المليء بالعطف واللطف والحنان والرضوان.
ولعلّ هذا الأسلوب أيضاً، هو الذي أوجب التعبير عن الرحمة بكلمتين، ليزداد تأكيد هذا المضمون في الوعي الشعوري للإنسان تجاه ربه. وإذا كان التأكيد يمثّل لوناً من التكرار للفكرة، فإنَّ الحاجة إليه لا تقتصر على دفع احتمال الاشتباه، كما يقرر النحويون، بل قد تكون المسألة فيه هي الحاجة إلى تعميق المعنى الذي تتضمنه الكلمة بشكلٍ عميقٍ واسعٍ، مما لا يحصل الإنسان عليه بالكلمة الواحدة، فلا ينافي ذلك بلاغة القرآن، لأنَّ التأكيد في مدلوله التصويري التعميقي لا يكرّر المعنى بشكلٍ جامدٍ، بل يعمقه بشكل حيٍّ متحرّكٍ...
وقد أفاض المفسّرون في توضيح الفرق بين الكلمتين، فذهب بعضٌ منهم إلى أن [الرَّحْمَنِ] هو المنعم بجلائل النعم، وأنَّ [الرَّحِيمِ] هو المنعم بدقائقها، وذهب آخرون إلى أنَّ [الرَّحمَن] هو المنعم على جميع الخلق، وأنَّ [الرَّحِيمِ] هو المنعم على المؤمنين خاصة... وذهب رأي ثالث إلى أنَّ الوصفين بمعنى واحد، وأنَّ الثاني تأكيدٌ للأول.