سورة الفاتحة{[1]}
بسم الله القيوم الشهيد الذي لا يعزب شيء عن علمه ، ولا يكون شيء إلا بإذنه ، الرحمان الذي عمت رحمته الموجودات ، وطبع في مرائي القلوب عظمته فتعالت تلك السبحات ، وأجرى على الألسنة ذكره في العبادات والعادات ، الرحيم الذي تمت نعمته بتخصيص أهل ولايته بأرضي العبادات
قال شيخنا الإمام المحقق أبو الفضل محمد بن العلامة القدوة أبى عبد الله محمد ابن العلامة القدوة أبي القاسم محمد المشدالي{[2]} المغربي{[3]}البجائي{[4]} المالكي علامة الزمان سقى{[5]} الله عهده سحائب الرضوان ، وأسكنه أعلى{[6]} الجنان : الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة ، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات { وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات-{[7]} } في القرب والبعد من المطلوب ، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه{[8]} من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء العليل{[9]} يدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها ؛ فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن ، وإذا{[10]} فعلته تبين لك إن شاء الله{[11]} وجه النظم مفصلا بين كل آية وآية في كل سورة سورة والله الهادي – انتهى . وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ في السنة العاشرة من ابتدائي في عمل هذا الكتاب أن اسم كل سورة مترجم عن مقصودها لأن اسم كل شيء تظهر{[12]} المناسبة بينه وبين مسماه عنوانه الدال إجمالا على تفصيل ما فيه ، وذلك هو الذي أنبأ به آدم عليه الصلاة والسلام{[13]} عند العرض على الملائكة عليهم الصلاة والسلام{[14]} ، ومقصود كل سورة هاد إلى تناسبها{[15]} ؛ فاذكر المقصود من كل سورة ، وأطبق بينه وبين اسمها ، وأفسر كل بسملة بما يوافق مقصود السورة ، ولا أخرج عن معاني كلماتها{[16]} ؛ فالفاتحة{[17]} اسمها " أم الكتاب " و " الأساس " و " المثاني{[18]} " و " الكنز " { و " الشافية " {[19]} } و " الكافية " و " الوافية " { و " الواقية " {[20]} } و " الرقية " و " الحمد " و " الشكر " و " الدعاء " و " الصلاة " ؛ فمدار هذه الأسماء{[21]} كما ترى{[22]} على{[23]} أمر خفي كاف لكل مراد وهو المراقبة التي سأقول إنها{[24]} مقصودها فكل شيء لا يفتتح بها لا اعتداد به ، وهي أم كل خير ، وأساس كل معروف ، ولا يعتد بها إلا إذا ثنيت{[25]} فكانت دائمة التكرار ، وهي كنز لكل شيء{[26]} شافية لكل داء ، كافية لكل هم{[27]} ، وافية{[28]} بكل مرام ، واقية من كل سوء ، رقية لكل ملم ، وهي إثبات للحمد الذي/ هو الإحاطة بصفات الكمال ، وللشكر{[29]} الذي هو تعظيم المنعم ، وهي عين{[30]} الدعاء فإنه التوجه إلى المدعو ، وأعظم بجامعها الصلاة{[31]} .
إذا تقرر{[32]} ذلك فالغرض{[33]} الذي سيقت له الفاتحة و هو إثبات استحقاق الله تعالى لجميع المحامد وصفات الكمال ، واختصاصه بملك الدنيا والآخرة ، وباستحقاق العبادة والاستعانة ، بالسؤال في المن بإلزام صراط الفائزين والإنقاذ{[34]} من طريق الهالكين مختصا بذلك كله ، ومدار ذلك كله مراقبة العباد لربهم{[35]} ، لإفراده بالعبادة{[36]} ، فهو مقصود الفاتحة بالذات وغيره وسائل إليه ، فإنه لا بد في ذلك من إثبات إحاطته تعالى بكل شيء ولن يثبت حتى يعلم أنه المختص بأنه الخالق الملك المالك ، لأن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب نصب الشرائع ، والمقصود{[37]} من نصب الشرائع جمع الخلق على الحق ، والمقصود من جمعهم تعريفهم الملك{[38]} وبما يرضيه{[39]} ، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة بالقصد الأول ، ولن يكون ذلك إلا بما ذكر علما وعملا .
ولما كان المقصود من جمعهم على الله تعالى معرفته لأجل عباداته{[40]} وكان التزام اسمه تعالى في كل حركة وسكون قائدا إلى مراقبته وداعيا إلى مخافته واعتقاد أن مصادر الأمور ومواردها منه{[41]} وإليه شرعت التسمية أول كل شيء فصدرت بها الفاتحة .
وقدم{[42]} التعوذ الذي هو من { درء-{[43]} } المفاسد تعظيما للقرآن بالإشارة إلى أن{[44]} يتعين لتاليه{[45]} أن يجتهد في تصفية سره وجمع متفرق أمره ، لينال سؤله{[46]} ومراده مما{[47]} أودعه من خزائن السعادة بإعراضه عن العدو الحسود وإقباله على الوالي الودود ؛ ومن هنا{[48]} تعرف مناسبة المعوذتين بالفاتحة{[49]} . ولما افتتح التعوذ بالهمزة إشارة{[50]} إلى ابتداء الخلق وختم بالميم إيماء إلى المعاد جعلت البسملة كلها للمعاد لابتدائها بحرف شفوى{[51]} ، وختام أول كلماتها وآخرها بآخر إشارة إلى أن الرجوع إليه في الدنيا معنى بتدبير الأمور وإن كان أكثر الخلق غافلا عنه ، وفي البرزخ حسا{[52]} بالموت ، وفي الآخرة كذلك بالبعث ، كما أشار إلى ذلك تكرير الميم المختتم { بها-{[53]} } في اسمها بذكرها في مرتين إشارة إلى المعادين الحسيين{[54]} والله أعلم ، والمراد بالاسم{[55]} الصفات العليا{[56]} . وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي{[57]} في تفسيره في غريب ألفاظ البسملة : الباء معناها{[58]} أظهره الله سبحانه من حكمة التسبيب{[59]} " الاسم " ظهور ما غاب أو غمض للقلوب بواسطة الآذان على صورة الأفراد{[60]} ؛ " الله " {[61]} اسم ما تعنو إليه القلوب عند موقف العقول فتأله{[62]} فيه أي تتحير فتتالّهه{[63]} وتلهو به أي تغنى به عن كل شيء{[64]} ؛ " الرحمن " شامل الرحمة لكافة ما تناولته الربوبية ، " الرحيم " خاص الرحمة{[65]} بما ترضاه الإلهية . وقال في غريب معناها : لما أظهر{[66]} الله سبحانه حكمة التسبيب وأرى{[67]} الخلق استفادة{[68]}بعض الأشياء من أشياء أخر متقدمة عليها كأنها أسبابها ، وقف بعض الناس عند أول سبب فلم ير ما قبله ، ومنهم من وقف عند سبب السبب إلى ما عساه ينتهي إليه عقله{[69]} ، فطوى{[70]} الحق تعالى تلك الأسباب وأظهر بالبسملة أي بتقديم الجار أن كل شيء باسمه لا بسبب{[71]} سواه . وقال : {[72]}أستفتح أم القرآن بالبسملة لما كانت نسبتها من متلو الصحف والكتب الماضية نسبة{[73]} أم القرآن من القرآن الكتاب الجامع للصحف والكتب لموضع طيها الأسباب ، كما تضمنت أم القرآن سر ظهور / الأفعال بالعناية{[74]} من الحميد المجيد في آية " إياك نعبد وإياك نستعين " هذا في ظاهر الخطاب إلى ما وراء ذلك من باطنه فإن لكل آية ظهرا وبطنا وليلتزمها الخلق في ابتداء أقوالهم وأفعالهم ، هكذا قال . وأشد منه أنه لما كانت نسبة البسملة من الفاتحة نسبة الفاتحة من القرآن صدرت{[75]}بها الفاتحة كما صدر القرآن بالفاتحة ، لأنها لما أفادت نسبة الأمور كلها إليه سبحانه وحده أفادت أنه الإلاه وحده وذلك هو { إجمال تفصيل الفاتحة - {[76]} } إجمال تفصيل القرآن من الأصول والفروع ، والمعارف واللطائف . ولما كان اسم الجلالة علما وكان جامعا لجميع معاني الأسماء الحسنى أولية " الرحمان " من حيث أنه كالعلم في أنه لا يوصف به غيره ، ومن حيث أنه أبلغ من " الرحيم " فأولى الأبلغ { الأبلغ- {[77]} } : وذلك موافق لترتيب الوجود ، الإيجاد ثم النعم العامة ثم الخاصة بالعبادة ، وذكر الوصفان ترغيبا ، وطويت النقمة في إفهام اختصاص الثاني{[78]} لتمام الترغيب بالإشارة{[79]} إلى الترهيب .
والمراد بهما هنا أنه سبحانه يستحق الاتصاف بهما لذاته ، وكررهما بعد تنبيها{[80]} على وجوب ذلك للربوبية والملك ، والدلالة{[81]} على أن الرحمة غلبت{[82]} الغضب ، وفيهما{[83]} إلى ما ذكر من الترغيب الدلالة على سائر الصفات الحسنى ، لأن من{[84]}عمت رحمته امتنع أن يكون فيه شوب نقص ، وفي آخر سبحان لهذا المكان مزيد بيان ؛ {[85]} وكونها تسعة عشر حرفا خطية وثمانية عشر لفظية إشارة إلى أنها دوافع النقمة من النار التي أصحابها تسعة عشر{[86]} ، وجوالب للرحمة بركعات الصلوات الخمس وركعة الوتر اللاتي من أعظم العبادات الكبرى{[87]}