بسم الله الرحمان الرحيم . وبه نستعين .
الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستهذيه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
وبعد ، فهذا كتاب جمعته من أقوال العلماء في علوم القرآن وسميته : " اللباب في علوم الكتاب " ، ومن الله أسأل العون ، وبلوغ الأمل ، والعصمة من الخطأ والزلل .
الاستعاذة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
هذا ليس من القرآن إجماعا ، وإنما تعرضت له ؛ لأنه واجب في أول القراءة ، أو مندوب ، وقيل : واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم وحده .
وأصح كيفيات اللفظ هذا اللفظ المشهور ؛ لموافقته قوله تعالى : { فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] ورووا فيه حديثين :
قال الشافعي{[1]}-رضي الله عنه- : واجب أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وهو قول أبي حنيفة{[2]}-رضي الله عنه- قالوا : لأن هذا النظم موافق للآية المتقدمة وموافق لظاهر الخبر .
وقال أحمد{[3]}-رضي الله تعالى عنه- : الأولى أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، إنه هو السميع العليم ؛ جمعا بين الآيتين .
وقال بعض الشافعية : الأولى أن يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ؛ لأن هذا –أيضا- جمع بين الآيتين .
وروى البيهقي{[4]} : في كتاب " السنن " بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم كبّر ثلاثا ، وقال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم{[5]} .
وقال الثوري{[6]} ، والأوزاعي{[7]} : الأولى أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم .
وروى الضحاك{[8]} عن ابن عباس ، أن أول ما نزل جبريل-عليه السلام- على محمد- عليه الصلاة والسلام- قال : قل يا محمد : استعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قال : قل : { بسم الله الرحمان الرحيم } { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق :1 ] .
ونقل عن بعضهم ، أنه كان يقول : أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد .
اتفق الأكثرون على أن وقت الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة .
وعن النخعي{[9]} : أنه بعدها ، وهو قول داود الأصفهاني{[10]} ، وإحدى الروايتين عن ابن سيرين{[11]} .
وقالوا : إذا [ قرأ ]{[12]} الفاتحة وأمّن ، يستعيذ بالله .
دليل الجمهور : ما روى جبير بن مطعم{[13]}-رضي الله عنه- : أن النبي –صلى الله عليه وسلم- وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم وفخّم-حين افتتح الصلاة قال : " الله أكبر كبيرا ، ثلاث مرات ، والحمد لله كثيرا ، ثلاث مرات ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، ثلاث مرات ، ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه " {[14]} .
واحتج المخالف بقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] دلت هذه الآية على أن قراءة القرآن شرط ، وذكر الاستعاذة جزاء ، والجزاء متأخر عن الشرط ؛ فوجب أن تكون الاستعاذة متأخرة عن القراءة .
ثم قالوا : وهذا موافق لما في العقل ؛ لأن من قرأ القرآن ، فقد استوجب الثواب العظيم ، فربما يداخله العجب ؛ فيسقط ذلك الثواب ، لقوله –عليه الصلاة والسلام- : ( ثلاث مهلكات ) وذكر منها إعجاب المرء بنفسه{[15]} ، فلهذا السبب أمره الله- تعالى- [ بأن يستعيذ من الشيطان ؛ لئلا يحمله الشيطان بعد القراءة ]{[16]} على عمل محبط ثواب تلك الطاعة .
قالوا : ولا يجوز أن يكون المراد من قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } أي : إذا أردت قراءة القرآن ؛ كما في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [ المائدة :6 ] .
والمعنى : إذا أردتم القيام فتوضئوا ؛ لأنه لم يقل : فإذا صليتم فاغسلوا ؛ فيكون نظير قوله : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } وإن سلمنا كون هذه الآية نظير تلك ، فنقول : نعم ، إذا قام يغسل عقيب قيامه إلى الصلاة ؛ لأن الأمر إنما ورد بالغسل عقيب قيامه ، وأيضا : فالإجماع{[17]} دل على ترك هذا الظاهر ، وإذا ترك الظاهر في موضع لدليل ، لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل .
أما جمهور الفقهاء –رحمهم الله تعالى- فقالوا : إن قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } يحتمل أن يكون المراد منه : إذا أردت ، وإذا ثبت الاحتمال ، وجب حمل اللفظ عليه توفيقا بين الآية وبين الخبر الذي رويناه ، ومما يقوّي ذلك من المناسبات العقلية ، أن المقصود من الاستعاذة نفي وساوس الشيطان عند القراءة ؛ قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسولا ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } [ الحج : 52 ] فأمره الله تعالى –بتقديم الاستعاذة قبل القراءة ؛ لهذا السبب .
قال ابن الخطيب{[18]} –رحمه الله تعالى- : " وأقول : هاهنا قول ثالث : وهو [ أن ]{[19]} يقرأ الاستعاذة قبل القراءة ؛ بمقتضى الخبر ، وبعدها ؛ بمقتضى القرآن ؛ جمعا بين الدلائل بقدر الإمكان " .
قال عطاء{[20]}-رحمه الله تعالى- : الاستعاذة واجبة لكل قراءة ، سواء كانت في الصلاة أو غيرها .
وقال ابن سيرين –رحمه الله تعالى- : إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره ، فقد كفى في إسقاط الوجوب ، وقال الباقون : إنها غير واجبة .
حجة الجمهور : أن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجّل وعظّم- لم يُعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة .
ولقائل أن يقول : إن ذلك الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة ، فلم يلزم من عدم الاستعاذة فيه ، عدم وجوبها .
واحتج عطاء على وجوب الاستعاذة بوجوه :
الأول : أنه –عليه الصلاة والسلام- واظب عليه ؛ فيكون واجبا- لقوله تعالى : { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] .
الثاني : أن قوله تعالى : { فاستعذ } أمر ؛ وهو للوجوب ، ثم إنه يجب القول بوجوبه عند كل [ قراءة ] ، لأنه تعالى قال : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل ، والحكم يتكرر بتكرر العلة .
الثالث : أنه -تعالى- أمر بالاستعاذة ؛ لدفع شر الشيطان ؛ وهو واجب ، وما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب{[21]} .
التعوذ في الصلاة مستحب{[22]} قبل القراءة عند الأكثرين .
وقال مالك{[23]}-رضي الله تعالى عنه- لا يتعوذ في المكتوبة ، ويتعوذ في قيام شهر رمضان للآية والخبر ، وكلاهما يفيد الوجوب ، فإن لم يثبت الوجوب ، فلا أقل من الندب .
روي أن عبد الله بن عمر{[24]} –رضي الله تعالى عنهما- لما قرأ ، أسر بالتعويذ .
وعن أبي هريرة{[25]}-رضي الله تعالى عنه- : أنه جهر به ؛ ذكره الشافعي –رحمه الله تعالى- في " الأم " ، ثم قال : فإن جهر به جاز ، [ وإن أسرّ به جاز ]{[26]} .
فصل في موضع الاستعاذة من الصلاة
قال ابن الخطيب{[27]} : " أقول : إن الاستعاذة إنما تقرأ بعد الاستفتاح ، وقبل الفاتحة ، فإن ألحقناها بما قبلها ، لزم الإسرار ، وإن ألحقناها بالفاتحة ، لزم الجهر ، إلا أن المشابهة بينها ، وبين الاستفتاح أتمّ ؛ لكون كل منهما نافلة " .
فصل في بيان هل التعوذ في كل ركعة ؟
قال بعض العلماء –رحمهم الله- : إنه يتعوذ في كل ركعة .
وقال بعضهم : لا يتعوذ إلا في الركعة الأولى .
حجته : أن الأصل هو العدم ، وما لأجله أمرنا بالاستعاذة ؛ هو قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] وكلمة " إذا " لا تفيد العموم .
ولقائل أن يقول : إن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على العلة ؛ فيتكرر الحكم بتكرر العلة .
التعوذ في الصلاة ، لأجل القراءة ، أم لأجل الصلاة ؟
عند أبي حنيفة{[28]} ومحمد{[29]}-رضي الله تعالى عنهما- أنه للقراءة{[30]} [ وعند أبي يوسف{[31]} : أنه للصلاة ]{[32]} ويتفرع على هذا الأصل فرعان :
الأول : أن المؤتم هل يتعوذ خلف الإمام ؟
عندهما : لا يتعوذ ؛ لأنه لا يقرأ ، وعنده يتعوذ ؛ وجه قولهما قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } [ النحل : 98 ] علّق الاستعاذة على القراءة ، ولا قراءة على المقتدي .
وجه قول أبي يوسف-رحمه الله- أن التعوذ لو كان للقراءة ؛ لكان يتكرر بتكرر القراءة ، ولما لم يكن كذلك ، بل يتكرر بتكرر الصلاة ؛ دل على أنها للصلاة .
الفرع الثاني : إذا افتتح صلاة العيد فقال : سبحانك اللهم ، هل يقول : أعوذ بالله ، ثم يكبر ، أم لا ؟
عندهما أنه يكبر التكبيرات ، ثم يتعوذ عند القراءة .
وعند أبي يوسف-رحمه الله- يقدم التعوذ على التكبيرات .
السنة أن يقرأ القرآن مرتلا ؛ لقوله تبارك وتعالى : { ورتل القرآن ترتيلا } [ المزمل :4 ]
والترتيل : هو أن يذكر الحروف مبنية ظاهرة ، والفائدة فيه أنه إذا وقعت القراءة على هذا الوجه ؛ فهم من نفسه معاني تلك الألفاظ ، وأفهم غيره تلك المعاني ، وإذا قرأها سردا ، لم يفهم ولم يفهم ، فكان الترتيل أولى .
روى أبو داود{[33]} -رحمه الله تعالى- بإسناده عن ابن عمر –رضي الله تعالى عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقال للقارئ : اقرأ وارق ، ورتل ، كما كنت ترتل في الدنيا ؛ [ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها ){[34]} ]{[35]} .
قال أبو سليمان الخطابي{[36]}-رحمه الله- : جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة ؛ يقال للقارئ : اقرأ وارق في الدرج على عدد ما كنت تقرأ من القرآن ، فمن استوفى ، فقرأ جميع آي القرآن استولى على أقصى الجنة .
فصل في استحباب تحسين القراءة جهرا
إذا قرأ القرآن جهرا ، فالسنة أن يحسن في القراءة ؛ روى أبو داود ، عن البراء بن عازب{[37]}-رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( زينوا القرآن بأصواتكم ){[38]} .
فصل في صحة الصلاة مع النطق بالضاد والظاء .
قال ابن الخطيب-رحمه الله تعالى- : " المختار عندنا أن اشتباه الضاد بالظاء عندنا لا يبطل الصلاة ؛ ويدل عليه أن المشابهة حاصلة بينهما جدا ، والتمييز عسر ، فوجب أن يسقط التكليف بالفرق .
بيان المشابهة أنهما من الحروف المجهورة ، وأيضا من الحروف الرّخوة ، وأيضا من الحروف المطبقة ، وأيضا : أن النطق بحرف الضاد مخصوص بالعرب ؛ قال-عليه الصلاة والسلام- : " أنا أفصح من نطق بالضاد " {[39]} فثبت بما ذكر أن المشابهة بينهما شديدة ، والتمييز عسير .
وأيضا : لم يقع السؤال عنه في زمن النبي –عليه الصلاة والسلام- وأزمنة الصحابة ، لا سيما عند دخول العجم في الإسلام ، فلما لم ينقل وقوع السؤال عن هذا البتة ، علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين ، ليس في محل التكليف .
فصل في عدم جواز الصلاة بالوجوه الشاذة
اتفق على أنه لا تجوز القراءة [ في الصلاة ]{[40]} بالوجوه الشاذة : لأن الدليل ينفي جواز القراءة مطلقا ، لأنها لو كانت من القرآن ، لوجب بلوغها إلى حد التواتر ، ولما لم يكن كذلك ، علمنا أنها ليست من القرآن ، عدلنا عن هذا الدليل في جواز القراءة بها خارج الصلاة ، فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على أصل المنع .
فصل في قولهم : " القراءات المشهورة منقولة بالتواتر "
اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالتواتر{[41]} ، وفيه إشكال ؛ وذلك لأنا نقول : هذه القراءة إما أن تكون منقولة بالتواتر ، أو لا .
فإن كان الأول ، فحينئذ قد ثبت بالنقل المتواتر أن الله-تعالى- قد خير المكلفين بين هذه القراءة ، وسوى بينهما في الجواز .
وإذا كان كذلك ، كان ترجيح بعضها على البعض واقعا على خلاف الحكم المتواتر ؛ فواجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض ، مستوجبين للتفسيق إن لم يلزمهم التكفير ، لكنا نرى أن كل واحد يختص بنوع معين من القراءة ، ويحمل الناس عليها ، ويمنعهم من غيرها ، فوجب أن يلزم في حقهم ما ذكرناه .
وإن قلنا : هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر ؛ بل بطريق الآحاد ، فحينئذ يخرج القرآن عن كونه مفيدا للجزم ، والقطع اليقين ؛ وذلك باطل بالإجماع ؛ ولقائل أن يجيب عنه ؛ فيقول : بعضها متواتر ، ولا خلاف بين الأمة فيه ، وتجويز القراءة بكل واحد منها ؛ وبعضها من باب الآحاد ، لا يقتضي كون القراءة بكليته خارجا عن كونه قطعيا ، والله أعلم ؛ ذكره ابن الخطيب .
فصل في اشتقاق الاستعاذة وإعرابها
العوذ له معنيان : أحدهما : الالتجاء والاستجارة .
والثاني : الالتصاق ؛ ويقال : " أطيب [ اللحم ]{[42]} عوّذه " هو : ما التصق بالعظم .
فعلى الأول : أعوذ بالله ، أي : ألتجئ إلى رحمة الله ، ومنه العوذة : وهي ما يعاذ به من الشر .
وقيل للرقية ، والتميمة-وهي ما يعلق على الصبي : عوذة ، وعوذة [ بفتح العين وضمها ]{[43]} ، وكل أنثى وضعت فهي عائذ إلى سبعة أيام .
ويُقال : عاذ يعوذُ عَوذاً ، وعياذا ، ومَعَاذا ، فهو عائذ ومعوذ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ] .
1-ألحق عذابك بالقوم الذين طغوا وعائذا بك أن يعلوا فيطغوني{[44]}
قيل : عائذ -هنا- أصله اسم فاعل ؛ ولكنه وقع موقع المصدر ؛ كأنه قال : " وعياذا بك " وسيأتي تحقيق هذا القول إن شاء الله تعالى .
و " أعوذُ " فعل مضارع ، وأصله : " أعوذُ " بضم الواو ؛ مثل " أقتلُ ، وأخرجُ أنا " وإنما نقلوا حركة الواو إلى السّاكن قبلها ؛ لأن الضمة ثقيلة ، وهكذا كل مضارع من " فَعَلَ " عينه واو ؛ نحو : " أقوم ، ويقومُ ، وأجولُ ، ويجولُ " وفاعله ضمير المتكلم .
وهذا الفاعل لا يجوز بروزه ؛ بل هو من المواضع السبعة التي يجب فيها استتار الضمير على خلاف في السابع ولا بد من ذكرها ؛ لعموم فائدتها ، وكثرة دورها :
الأول : المضارع المسند للمتكلم وحده ؛ نحو : " أَفْعَلُ " .
الثاني : المضارع المسند للمتكلم مع غيره ، أو المعظم نفسه ؛ نحو : " نَفْعَلُ نحنُ " .
الثالث : المضارع المسند للمخاطب ؛ نحو " تَفْعَلُ أنْتَ " ، ويوحّد المخاطب بقيد الإفراد ، والتذكير ؛ لأنه متى كان مثنى ، أو مجموعا ، أو مؤنثا –وجب بروزه ؛ نحو : " تقومان-يقومون-تقومين " .
الرابع : فعل الأمر المسند للمخاطب ؛ نحو " أفعل أنت " ويوحد المخاطب أيضا- بقيد الإفراد ، والتذكير ؛ لأنه متى كان مثنى ، أو مجموعا ، أو مؤنثا-وجب بروزه ؛ نحو : " افعلا-افعلوا-افعلي " .
الخامس : اسم فعل الأمر مطلقا ، سواء كان المأمور مفردا ، أو مثنى ، أو مجموعا ، أو مؤنثا ؛ نحو : " صه يا زيد- يا زيدان- يا زيدون- يا هند- يا هندان- يا هندات " .
بخلاف فعل الأمر ؛ فإنه يبرز فيه ضمير غير المفرد المذكر ، كما تقدم .
السادس : اسم الفعل المضارع ؛ نحو : " أوَّهْ " أي : أتوجَّعُ ، و " أفٍّ " أي : أتضجّر ، و " وَيْ " أي : أعجب .
وهذه الستة لا يبرز فيها الضمير ؛ بلا خلاف .
وتحرزت بقولي : اسم فعل الأمر ، واسم الفعل المضارع " عن اسم الفعل الماضي ؛ فإنه لا يجب فيه الاستتار كما سيأتي .
السابع : المصدر الواقع موقع الفعل بدلا من لفظه ؛ نحو : " ضربا زيدا " ؛ وقول الشاعر : [ الطويل ] .
2- يمرّون بالدّهْنَا خِفافا عيابهم ويرجعن من دارين بجر الحقائب
على حين ألهى الناسَ جلُّ أمورهم فندلا زريق المال ندل الثعالب{[45]}
وقوله تعالى : { فضرب الرقاب } [ محمد :4 ] .
هذا إذا جعلنا في " ضربا " ضميرا مستترا ؛ وأما من يقول من النحويين : إنه لا يتحمل ضميرا ألبتة ؛ فلا يكون من المسألة في شيء .
والضابط فيما يجب استتاره ، وإن عرف من تعداد الصور المتقدمة- " أن كل ضمير لا يحل محله ظاهر ، ولا ضمير متصل ، فهو واجب الاستتار كالمواضع المتقدمة ، وما جاز أن يحل محله أحدهما ، فهو جائز الاستتار ؛ نحو : " زيد قام " في " قام " ضمير جائز الاستتار ، ويحل محله الظاهر ؛ نحو : " زيد قام أبوه " أو الضمير المنفصل ، نحو : " زيد ما قام إلا هو " فإن وجد من لسانهم في أحد المواضع المتقدمة ، الواجب فيها الاستتار ضمير منفصل ، فليعتقد كونه توكيدا للضمير المستتر ؛ كقوله تعالى : { اسكن أنت وزوجك الجنة } [ البقرة : 35 ] ف " أنتَ " مؤكد لفاعل " اسكن " .
و " بالله " جار ومجرور ، وكذلك : " من الشيطان " وهما متعلقان ب " أعوذ " .
ومعنى الباء : الاستعانة ، و " مِنْ " للتعليل ، أي : أعوذ مستعينا بالله من أجل الشيطان ، ويجوز أن تكون " مِنْ " لابتداء الغاية ، ولها معان أخر ستأتي إن شاء الله تعالى .
وأما الكلام على الجلالة ، فيأتي في البسملة إن شاء الله تعالى .
والشيطان : المتمرد من الجن ، وقيل : الشياطين أقوى من الجن ، والمردة أقوى من الشياطين ، والعفريت أقوى من المردة ، والعفاريت أقواها .
وقال أبو عبيدة{[46]} –رحمه الله- : الشيطان : اسم لكل عارم من الجن ، والإنس ، والحيوانات ؛ [ لبعده ]{[47]} من الرشاد قال تبارك وتعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] ، فجعل من الإنس شياطين .
وركب عمر{[48]} –رضي الله تعالى عنه- بَرْذَوْناً ، فطفق يتبختر ، فجعل يضربه ، فلا يزداد إلا تبخترا ؛ فنزل عنه ، وقال : " ما حملتموني إلا على شيطان " {[49]} .
وقد يطلق على كل قوة ذميمة في الإنسان ؛ قال-عليه الصلاة والسلام- : " الحسد شيطان ، والغضب شيطان " {[50]} ؛ وذلك لأنهما ينشآن عنه .
فقال جمهورهم : هو مشتق من : " شطَنَ-يَشْطُنُ " أي : بَعُدَ ؛ لأنه بعيد من رحمة الله تعالى ؛ وأنشد : [ الوافر ] .
3-نأتي بسعاد عنك نوى شطون فبانت والفؤاد بها رهين{[51]}
4-أيما شاطن عصاه عكاه *** ثم يلقى في السجن والأكبال{[52]}
وحكى سيبويه{[53]} –رحمه الله- : " تَشَيْطَنَ " أي :فَعَل فِعْلَ الشياطين ؛ فهذا كله يدل على أنه من " شَطَنَ " لثبوت النون ، وسقوط الألف في تصاريف الكلمة ، ووزنه على هذا : " فَيْعَالَ " .
وقيل : هو مشتق من " شَاطَ – يَشِيطُ " أي : هَاجَ ، واحترقَ ، ولا شك أن هذا المعنى موجود فيه ، فأخذوا بذلك أنه مشتق من هذه المادة ؛ لكن لم يسمع في تصاريفه إلا ثابت النون ، محذوف الألف ؛ كما تقدم ، ووزنه على هذا " فعلان " ، ويترتب على القولين : صرفه وعدم صرفه ، إذا سمي به ، وأما إذا لم يسم به ، فإنه متصرف ألبتة ؛ لأن من شرط امتناع " فعلان " الصفة ألا يؤنث بالتاء ، وهذا يؤنث بها ؛ قالوا : " شيطانة " .
قال ابن الخطيب : و " الشيطان " مبالغة في الشّيطَنة ؛ كما أن " الرحمن " مبالغة في الرحمة . و " الرجيم " في حق الشيطان " فَعِيلٌ " بمعنى " فاعل " .
إذا عرفت هذا ، فهذه الكلمة تقتضي الفرار من الشيطان الرجيم إلى الرحمن الرحيم .
قوله : " الرجيم " نعت له على الذم ، وفائدة النعت : إما إزالة اشتراك عارض في معرفة ؛ نحو : " رأيت زيدا العاقل " .
وإما تخصيص نكرة ؛ نحو : " رأيت رجلا تاجرا " وإما لمجرد مدح ، أو ذم ، أو ترحم ؛ نحو : " مررت بزيد المسكين " وقد يأتي لمجرد التوكيد ؛ نحو قوله : { نفخة واحدة } [ الحاقة : 13 ] ولا بد من ذكر قاعدة في النعت ، تعم فائدتها :
اعلم أن النعت إن كان مشتقا بقياس ، وكان معناه لمتبوعه ، لزم أن يوافقه في أربعة من عشرة ؛ أعني في واحد من ألقاب الإعراب : الرفع ، والنصب ، والجر ، وفي واحد من الإفراد ، والتثنية ، والجمع ، وفي واحد من : التذكير ، والتأنيث ، وفي واحد من : التعريف ، والتنكير .
وإن كان معناه لغير متبوعه ، وافقه في اثنين من خمسة : في واحد من ألقاب الإعراب ، وفي واحد من التعريف والتنكير{[54]} ، نحو : " مررت برجلين عاقلة أمهما " ، فلم يتبعه في تثنية ولا تذكير .
وإذا اختصرت ذلك كله ، فقل : النعت يلزم أن يتبع منعوته في اثنين من خمسة مطلقا : في واحد من ألقاب الإعراب ، وفي واحد من التعريف والتنكير ، وفي الباقي كالفعل ؛ يعني : أنك تضع موضع النعت فعلا ، فمهما ظهر في الفعل ، ظهر في النعت ؛ مثاله ما تقدم في : " مررت برجلين [ عاقلة أمهما " ]{[55]} ؛ لأنك تقول : " مررت برجلين عقلت أمهما " .
" والرجيم " قد تبع موصوفه في أربعة من عشرة ؛ لما عرفت ، وهو مشتق من " الرجم " والرجم أصله : الرمي بالرجام ، وهي الحجارة ، ويستعار الرجم للرمي بالظن والتوهم . قال زهير{[56]} : [ الطويل ]
5-وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم{[57]}
ويعبر به -أيضا- عن الشتم ؛ قال تعالى : { لئن لم تنته لأرجمنك } [ مريم : 46 ] قيل : أقول فيك قولا سيئا .
والمراجمة : المسابة الشديدة استعارة كالمقاذفة ، فالرجيم معناه : المرجوم ، فهو " فعيلٌ " بمعنى " مفعول " ؛ كقولهم : كف خضيب أي : مخضوب ؛ ورجل لعين أي : ملعون قال الراغب{[58]} : والترجمان تفعلان من ذلك كأنه يعني أنه يرمي بكلام{[59]} من يترجم عنه إلى غيره ؛ والرجمة : أحجار القبر ، ثم عبر بها عنه ؛ وفي الحديث : ( لا ترجموا قبري ) ، أي : لا تضعوا عليه الرجمة .
ويجوز أن يكون بمعنى " فاعل " ؛ لأنه يرجم غيره بالشر ، ولكنه بمعنى " مفعول " أكثر ، وإن كان غير مقيس .
الأول : أن معنى كونه مرجوما كونه ملعونا من قبل الله تعالى ؛ قال الله تعالى : { فاخرج منها فإنك رجيم } [ الحجر :34 ] واللعن يسمى رجما .
وحكى الله تعالى –عن والد إبراهيم-عليه الصلاة والسلام- أنه قال : { لئن لم تنته لأرجمنك } قيل : عنى بقوله الرجم بالقول .
وحكى الله -تعالى- عن قوم نوح عليه السلام أنهم قالوا : { لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين } [ الشعراء : 116 ] وفي سورة يس : { لئن لم تنتهوا لنرجمنكم } [ يس :18 ] .
والوجه : أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجوما ؛ لأنه -تعالى- أمر الملائكة برمي الشياطين بالشهب والثواقب ؛ طردا لهم من السماوات ، ثم وصف بذلك كل شرير متمرد وأما قوله في بعض وجوه الاستعاذة : إن الله هو السميع العليم ، ففيه وجهان :
الأول : أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ، ومعلوم أن الوسوسة كأنها كلام خفي في قلب الإنسان ، ولا يطلع عليها أحد ، فكأن العبد يقول : يا من هو يسمع كل مسموع ، ويعلم كل سر خفي أنت تعلم وسوسة الشيطان ، وتعلم غرضه منها ، وأنت القادر على دفعها عني ، فادفعها عني بفضلك ؛ فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار .
الثاني : أنه إنما تعين هذا الذكر بهذا الموضع ؛ اقتداء بلفظ القرآن ؛ وهو قوله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } [ الأعراف :200 ] .
وقال في حم السجدة : { إنه هو السميع العليم } [ فصلت : 36 ] .
فصل في احتجاج المعتزلة لإبطال الجبر
قال ابن الخطيب –رحمه الله تعالى- : قالت المعتزلة{[60]} قوله : " أعوذ بالله " يبطل القول بالجبر من وجوه :
الأول : أن قوله : " أعوذ بالله " اعتراف بكون العبد فاعلا ، لتلك الاستعاذة ، ولو كان خالق الأعمال هو الله تعالى ، لامتنع كون العبد فاعلا ؛ لأن تحصيل الحاصل محال ، وأيضا فإذا خلقه الله في العبد ، امتنع دفعه ، وإذا لم يخلقه الله فيه ، امتنع تحصيله ، فثبت أن قوله : " أعوذ بالله " اعتراف بكون العبد موجدا لأفعال{[61]} نفسه .
والثاني : أن الاستعاذة من الشيطان إنما تحسن إذا لم يكن الله تعالى ، خالقا للأمور التي منها يستعاذ .
أما إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى ، امتنع أن يستعاذ بالله منها ؛ لأن بهذا التقدير يصير كأن العبد استعاذ بالله في غير ما يفعله الله تعالى .
والثالث : أن الاستعاذة بالله من المعاصي تدل على أن العبد غير راض بها ، ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق الله تعالى ، وقضائه ، وحكمه ، وجب أن العبد يكون راضيا بها ؛ لما ثبت بالإجماع أن الرضا بقضاء الله تعالى واجب .
والرابع : أن الاستعاذة بالله من الشيطان إنما تحسن لو كانت تلك الوسوسة فعلا للشيطان ، أما إذا كانت فعلا لله ، ولم يكن للشيطان في وجودها أثر ألبتة ، فكيف يستعاذ من شر الشيطان ؟ بل الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شر الله ؛ لأنه لا شر إلا من قبله .
والخامس : أن الشيطان يقول إذا كنت ما فعلت شيئا أصلا ، وأنت يا إله الخلق علمت{[62]} صدور الوسوسة عني ، ولا قدرة لي على مخالفة قدرتك ، وحكمت بها علي ، ولا قدرة لي على مخالفة حكمك ، ثم قلت : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } [ البقرة : 286 ] ، وقلت : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] وقلت : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] فمع هذه الأعذار الظاهرة ، والأسباب القوية فكيف يجوز في حكمتك ، ورحمتك أن تذمني ، وتلعنني على شيء خلقته في ؟
والسادس : جعلتني مرجوما ملعونا إما أن يكون بسبب جرم صدر مني ، أو لا [ يكون ]{[63]} بسبب جرم صدر مني .
فإن كان الأول ؛ فقد بطل الجبر ، وإن كان الثاني ، فهذا محض الظلم ، وأنت قلت : { وما الله يريد ظلما للعباد } [ غافر : 31 ] فكيف يليق هذا بك ؟
فإن قال قائل : هذه الإشكالات إنما تلزم على قول من يقول بالجبر ، وأنا لا [ أقول ]{[64]} بالجبر ، ولا بالقدر ، بل أقول : الحق حالة متوسطة بين الجبر والقدر ؛ وهو الكسب .
فنقول : هذا ضعيف ؛ لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل على سبيل الاستقلال ، أو لا يكون . فإن كان الأول ، فهو تمام القول بالاعتزال ، وإن كان الثاني ، فهو الجبر المحض ، و[ الأسئلة ]{[65]} المذكورة واردة على هذا القول ، فكيف يعقل حصول الواسطة ؟
قال أهل السنة والجماعة-رحمهم الله- أما الإشكالات التي ألزمتموها علينا ، فهي بأسرها واردة عليكم من وجهين :
الأول : أن قدرة العبد إما أن تكون معينة لأحد الطرفين ، أو كانت صالحة للطرفين معا ، فإن كان الأول ، فالجبر لازم ، وإن كان الثاني ، فرجحان أحد الطرفين على الآخر ، إما أن يتوقف على المرجح ، أو لا يتوقف .
فإن كان الأول ، ففاعل ذلك المرجح يصير الفعل واجب الوقوع ، وعندما لا يفعله يصير الفعل ممتنع الوقوع . وحينئذ يلزمكم كل ما ذكرتموه .
وأما الثاني : وهو أن يقال : إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يتوقف على مرجح ؛ فهذا باطل لوجهين :
الأول : أنه لو جاز لك ، لبطل الاستدلال [ بترجح ]{[66]} أحد طرفي الممكن على الآخر على وجود المرجح .
والثاني : أن بهذا التقدير يكون ذلك الرجحان واقعا على سبيل الاتفاق ، ولا يكون صادرا عن العبد ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد عاد الجبر المحض ، فثبت بهذا البيان أن كل ما أوردتموه علينا ، فهو وارد عليكم .
الوجه الثاني في السؤال : أنكم سلمتم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات ، ووقوع الشيء على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلا ؛ وذلك محال ؛ والمفضي إلى المحال محال ، فكان كل ما أوردتموه علينا في القضاء والقدر لازما عليكم لزوما لا جواب عنه .
ثم قال أهل السنة : قوله : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " - يبطل القول بالاعتزال من وجوه :
الأول : أن المطلوب من قولك : " أعوذ بالله " إما أن يكون هو أن يمنع الله الشيطان من عمل الوسوسة منعا بالنهي والتحذير ؛ أو على سبيل القهر والجبر .
أما الأول فقد فعله ، ولما فعله كان طلبه من الله تعالى محالا ؛ لأن تحصيل الحاصل محال .
وأما الثاني فهو غير جائز ؛ لأن الإلجاء ينافي كون الشياطين مكلفين ، وقد ثبت كونهم مكلفين .
أجاب عنه المعتزلة فقالوا : المطلوب بالاستعاذة فعل الألطاف التي تدعو المكلف إلى فعل الحسن ، وترك القبيح .
لا يقال : فتلك الألطاف قد فعلها الله تعالى بأسرها في الفائدة في الطلب ؛ لأنا نقول : إن من الألطاف ما لا يحسن فعله إلا عند الدعاء ، فلو لم يتقدم هذا الدعاء لم يحسن فعله .
أجاب أهل السنة عن هذا السؤال بوجوه :
أحدها : أن فعل تلك الألطاف إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، أو لا أثر فيه ، فإن كان الأول فعند حصول الترجيح يصير الفعل واجب الوقوع : والدليل عليه أن عند حصول رجحان جانب الوجود لو حصل العدم ، فحينئذ يلزم أن يحصل عند رجحان جانب الوجود رجحان جانب العدم ، وهو جمع بين النقيضين ؛ وهو محال .
فثبت أن عند حصول الرجحان يحصل الوجوب ، وذلك يبطل القول بالاعتزال وإن لم يحصل بسبب تلك الألطاف رجحان [ طرف ]{[67]} الوجود ، لم يكن لفعلها ألبتة أثر ؛ فيكون فعلها عبثا محضا ؛ وذلك في حق الله تعالى محال .
الوجه الثاني : أن يقال : إن الله تعالى إما أن يكون مريدا لصلاح العبد ، أو لا يكون فإن كان الحق هو الأول ، فالشيطان إما أن يتوقع منه إفساد العبد ، أو لا يتوقع .
فإن توقع منه إفساد العبد ، مع أن الله تعالى يريد إصلاح العبد ، فلم خلقه ، ولم سلطه على العبد ؟ وإن كان لا يتوقع من الشيطان إفساد العبد ، فأي حاجة [ للعبد ]{[68]} إلى الاستعاذة منه ؟ .
وأما إذا قيل : إن الله قد لا يريد ما هو صلاح حال العبد ، فالاستعاذة بالله كيف تفيد الاعتصام من شر الشيطان ؟
الوجه الثالث : أن الشيطان إما أن يكون مجبورا على فعل الشر ، أو يكون قادرا على فعل الخير والشر ، وعلى فعل أحدهما .
فإن كان الأول ، فقد أجبره الله على الشر ؛ وذلك يقدح في قولهم : إنه -تعالى- لا يريد إلا الصلاح والخير ، وإن كان الثاني ، وهو أنه قادر على فعل الشر والخير ؛ فها هنا يمتنع أن يترجح فعل الخير على فعل الشر إلا بمرجح ، وذلك المرجح يكون من الله تعالى ، وإذا كان ذلك ، فأي فائدة في الاستعاذة ؟
الوجه الرابع : هب أن البشر إنما وقعوا في المعاصي بسبب وسوسة الشيطان ، فإن الشيطان كيف وقع في المعاصي ؟
فإن قلنا : إنه وقع فيها بسبب وسوسة شيطان آخر ، لزم التسلسل .
وإن قلنا : وقع الشيطان في المعاصي لا لأجل شيطان آخر ، فلم لا يجوز مثله في البشر ؟
وعلى هذا التقدير لا فائدة للاستعاذة من الشيطان ، وإن قلنا : إنه -تعالى- سلّطه الشيطان على البشر ، ولم يسلط على الشيطان شيطانا آخر ، فهذا أحيف على البشر ، وتخصيص له بمزيد التثقيل ، والإضرار ؛ وذلك ينافي كون الإله رحيما ناظرا لعباده .
الوجه الخامس : أن الفعل المستعاذ منه إن كان ممتنع الوقوع ، فلا فائدة في الاستعاذة منه ، وإن كان واجب الوقوع ، كذلك .
اعلم أن هذه المناظرة تدل على أنه لا حقيقة لقوله : " أعوذ بالله " إلا أن ينكشف أن الكل من الله تعالى ، وبالله .
وحاصل الكلام ما قاله الرسول –عليه الصلاة والسلام- أعوذ برضاك من سخطك{[69]} . . . الحديث .
أحدهما : أن يقال : " أعوذ بالله " .
والثاني : أن يقال : " أعوذ بكلمات الله التامات " . فأما الاستعاذة بالله ، فبيانه إنما يتم بالبحث عن لفظة " الله " وسيأتي ذلك في تفسير : " بسم الله " وأما الاستعاذة بكلمات الله ، فاعلم أن المراد ب " كلمات الله " هو قوله : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 40 ] .
والمراد من قوله : " كن " نفاذ قدرته في الممكنات ، وسريان مشيئته في الكائنات ؛ بحيث يمتنع أن يعرض له عائق ومانع ، ولا شك أنه لا تحسن الاستعاذة بالله -تعالى- إلا لكونه موصوفا بتلك القدرة القاهرة ، والمشيئة النافذة .
قال ابن الخطيب{[70]} رحمه الله تعالى- فرق بين أن [ يقول ]{[71]} : " أعوذ بالله " وبين أن يقول : " بالله أعوذ " ، فإن الأول لا يفيد الحصر ، والثاني يفيده ، فلم ورد الأمر بالأول دون الثاني ، مع أنا بينا أن الثاني أكمل ؟
وأيضا : جاء قوله : " الحمد لله " وجاء أيضا : قوله : " لله الحمد " وأما ها هنا ، فقد جاء قوله : " أعوذ بالله " ، وما جاء " بالله أعوذ " فما الفرق ؟
اعلم أن قوله : " أعوذ بالله " أمر منه لعباده أن يقولوا ذلك ، وهو{[72]} غير مختص بشخص معين ، فهو أمر على سبيل العموم ، لأنه –تعالى- حكى ذلك عن الأنبياء ، والأولياء ، وذلك يدل على أن كل مخلوق يجب أن يكون مستعيذا بالله تعالى ؛ كما حكي عن نوح –عليه الصلاة والسلام- أنه قال : { أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } [ هود :47 ] ؛ فأعطاه [ الله ]{[73]} خلعتين : السلام والبركات ؛ { اهبط بسلام منا وبركات عليك } [ هود : 48 ] .
وقال يوسف –عليه الصلاة والسلام- : { معاذ الله إنه ربي } [ يوسف : 23 ] ، فأعطاه الله خلعتين صرف السوء عنه والفحشاء ، وقال أيضا : { معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } [ يوسف : 79 ] فأكرمه الله تعالى بخلعتين : رفع أبويه على العرش العرش وخروا له سجدا .
وحكي عن موسى –عليه الصلاة والسلام- قال : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ البقرة : 67 ] ؛ فأعطاه الله خلعتين : إزالة التهمة ، وإحياء القتيل .
وحكي عن موسى –عليه الصلاة والسلام- أيضا : { وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون } [ الدخان : 20 ] ، وفي آية أخرى : { إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } [ غافر : 27 ] ؛ فأعطاه الله خلعتين : أفنى عدوه ، وأورثهم أرضهم وديارهم .
وحكي أن أم مريم قالت : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } [ آل عمران :36 ] ؛ فأعطاها الله -تعالى- خلعتين : { فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا } [ آل عمران :37 ] .
ومريم –عليها السلام- لما رأت جبريل- عليه الصلاة والسلام- في صورة بشر يقصدها : { قالت إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا } [ مريم : 18 ] ؛ فوجدت نعمتين : ولدا من غير أب ، [ وتبرئة ]{[74]} الله إياها بلسان ذلك الولد عن السوء ؛ وهو قوله تعالى : { إني عبد الله } [ مريم :30 ] .
وأمر نبيه -محمدا- عليه الصلاة والسلام- بالاستعاذة مرة أخرى : فقال : { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون } [ المؤمنون : 97 ، 98 ] .
وقال تعالى : { قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق } [ الفلق : 1 و 2 ] ، وقال تعالى : { قل أعوذ برب الناس } [ الناس : 1 ] ، وقال تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } [ الأعراف : 200 ] ، فهذه الآيات دالة على أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام –كانوا أبدا في الاستعاذة بالله –عز وجل- من شر شياطين الجن والإنس .
عن معاذ بن جبل{[75]}-رضي الله عنه- قال : استب رجلان عند النبي –صلى الله عليه وسلم- وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم ، وفخّم- وأغرقا فيه ؛ فقال عليه الصلاة والسلام- : " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذلك عنه ؛ هي قوله : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " {[76]} .
وعن معقل بن يسار{[77]} -رضي الله تعالى عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال : ( من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم ) ، وفي رواية : ( من الشيطان الرجيم ) . وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ؛ وكّل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، ومن قالها حين يمسي ، كان بتلك المنزلة{[78]} .
وعن ابن عباس{[79]} عن النبي –صلى الله عليه وسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم وفخّم- أنه قال : " من استعاذ بالله في اليوم عشر مرات ، وكّل الله تعالى به ملكا ؛ يذوذ عنه الشيطان " {[80]} .
وعن خولة بنت حكيم{[81]} –رضي الله تعالى عنها- عن النبي- عليه الصلاة والسلام- أنه قال : ( من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق ؛ لم يضره شيء حتى يرتحل من ذلك المنزل ){[82]} .
وعن عمرو بن شعيب{[83]} عن أبيه ، عن جده –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا فرغ أحدكم من النوم فليقل أعوذ بكلمات الله التامة : من غضبه ، وعقابه ، وشر عباده ، ومن شر همزات الشياطين ، وأن يحضرون ، فإنها لن تضره ){[84]} ؛ وكان عبد الله بن عمر-رضي الله تعالى عنهما- يعلمها من بلغ من عبيده ، ومن لم يبلغ كتبها في صك ثم علقها في عنقه .
وعن ابن عباس –رضي الله تعالى عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم- : كان يعوذ الحسن{[85]} والحسين{[86]}-عليهما السلام ويقول : :أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامّة{[87]} ؛ ويقول : " كان إبراهيم-عليه الصلاة والسلام- يعوذ بها إسماعيل ، وإسحاق-عليهما الصلاة والسلام " .
وكان –عليه السلام- يعظم أمر الاستعاذة ؛ حتى أنه لما تزوج امرأة ، ودخل بها ، وقالت : أعوذ بالله منك ؛ فقال –عليه الصلاة والسلام : ( عذت بمعاذ ، فالحقي بأهلك ){[88]} .
وروى الحسن –رضي الله عنه- قال : بينما رجل يضرب مملوكا له فجعل المملوك يقول : أعوذ بالله ، إذ جاء نبي الله –عليه الصلاة والسلام- فقال : أعوذ برسول الله ؛ فأمسك عنه فقال –عليه السلام- : ( عائذ الله أحق أن يمسك عنه ) قال : فإني أشهدك يا رسول الله أنه حر ؛ لوجه الله -تعالى- ، فقال عليه السلام : ( أما والذي نفسي بيده ، لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار ) .
وعن سويد{[89]} ، سمعت أبا بكر الصديق{[90]}-رضي الله عنه- يقول على المنبر : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ؛ وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم وفخّم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فلا أحب أن أترك ذلك ما بقيت " .
وكان عليه الصلاة والسلام{[91]} يقول : " اللهم ، أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك " {[92]} .
في المستعاذ منه ؛ وهو الشيطان .
اعلم أن الشيطان إما أن يكون بالوسوسة أو بغيرها ؛ كما قال تبارك وتعالى : كما يقول الذي يتخبطه الشيطان من المس } [ البقرة : 275 ] .
فأما كيفية الوسوسة بناء على أن ما روي من الآثار ذكروا : أنه يغوص في باطن الإنسان ، ويضع رأسه على حبة قلبه ، ويلقى إليه الوسوسة ؛ واحتجوا بما روي أن النبي-صلى الله عليه وسلم- وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم وفخّم- قال : ( إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ؛ ألا فضيقوا مجاريه بالجوع ){[93]} وقال -عليه الصلاة والسلام- : ( لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم ، لنظروا إلى ملكوت السماوات ){[94]} .
وقال الغزالي{[95]}-رحمه الله- في كتاب الإحياء : القلب مثل قبة لها أبواب تنصب إليها الأحوال من كل باب ، ومثل هدف ترمى إليه السهام من كل جانب ، ومثل مرآة منصوبة تجتاز عليها الأشخاص ؛ فتتراءى فيها صورة بعد صورة ، ومثل حوض تنصب إليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة .
قال ابن الخطيب{[96]}-رحمه الله تعالى- لقائل أن يقول : لم لم يقل : أعوذ بالملائكة مع أن أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشيطان ؟ فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر الله تعالى ؟
وجوابه : كأنه تعالى يقول : عبدي إنه يراك ، وأنت لا تراه ؛ لقوله تعالى : { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } [ الأعراف : 27 ] ؛ فإنه يفيد كيده فيكم ؛ لأنه يراكم ، وأنتم لا ترونه ؛ فتمسكوا بمن يرى الشيطان ولا يراه ؛ وهو الله تعالى فقيل : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " .
اختلف الناس في وجود الجن والشياطين ، [ فمن الناس من أنكر الجن والشياطين ]{[97]} . وعلم أنه لا بد أولا من البحث عن ماهية الجن والشياطين ؛ فنقول : أطبق الكل على أنه ليس الجن والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة ، تجيء وتذهب ؛ مثل الناس والبهائم ؛ بل القول المحصل فيه قولان :
الأول : أنها أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ، ولها عقول وأفهام ، وقدرة على أعمال صعبة شاقة .
والقول الثاني : أن كثيرا من الناس أثبتوا أنها موجودات{[98]} غير متحيزة ، ولا حالة في المتحيز ، وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية .
ثم إن هذه الموجودات قد تكون عالية مقدسة عن تدبير الأجسام [ بالكلية ]{[99]} ؛ وهم الملائكة المقربون –عليهم السلام- كما قال تعالى : { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون } [ الأنبياء : 19 ] .
ويليها مرتبة الأرواح المتعلقة بتدبير الأجسام ، وأشرفها حملة العرش ؛ كما قال تعالى : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] .
والمرتبة الثالثة : ملائكة الكرسي .
والمرتبة الرابعة : ملائكة السماوات طبقة بطبقة .
والمرتبة الخامسة : ملائكة كرة الأثير .
والمرتبة السادسة : ملائكة الهواء الذي هو في طبع النسيم .
والمرتبة السابعة : ملائكة كرة الزمهرير .
والمرتبة الثامنة : مرتبة الأرواح{[100]} المتعلقة بالبحار .
والمرتبة التاسعة : مرتبة الأرواح المعلقة بالجبال .
والمرتبة العاشرة : مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية الموجودة في هذا العالم .
واعلم أنه على كلا القولين ؛ فهذه الأرواح قد تكون مشرقة الهيئة ، خيرية سعيدة ؛ وهي المسماة بالصالحين من الجن ، وقد تكون كدرة سفلية شريرة شقية ، وهي المسماة بالشياطين .
واعلم{[101]} أن القرآن والأخبار يدلان على وجود الجن والشياطين :
أما القرآن فآيات : منها قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق } [ الأحقاف : 29و 30 ] ، وهذا نص على وجودهم ، وعلى أنهم سمعوا القرآن ، وعلى أنهم أنذروا قومهم .
وقوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ) [ البقرة : 102 ] .
وقوله : { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات } [ سبأ :13 ] .
وقوله : { والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد } [ ص : 37 و38 ] .
وقوله : { ولسليمان الريح } إلى قوله : { ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه }
وقوله : { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنقذوا } [ الرحمان : 33 ] .
وقوله تعالى : { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد } [ الصافات : 6 و 7 ] وأما الأخبار فكثيرة منها :
ما روى مالك في " الموطأ " ، عن صيفي بن أفلح{[102]} ، عن أبي السائب{[103]} مولى هشام ابن زهرة ، أنه دخل على أبي سعيد الخدري{[104]} ، قال : فوجدته يصلي ، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته ، قال : فسمعت تحريكا تحت سريره في بيته ، فإذا حية ، ففرت فهممت أن أقتلها ، فأشار أبو سعيد : أن اجلس ، فلما انصرف من صلاته ، أشار إلى بيت في الدار ، فقال : أترى هذا البيت ؟ قلت نعم ، قال : إنه كان فيه فتى قريب عهد بعرس ، وساق الحديث إلى أن قال : فرأى امرأته واقفة بين الناس . فهيأ الرمح ؛ ليطعنها ؛ بسبب الغيرة ، فقالت امرأته : ادخل بيتك لترى ، فدخل [ بيته ]{[105]} فإذا هو بحية على فراشه ، فركز فيها الرمح ، فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا : الفتى أم الحية ؛ فسألنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال : ( إن بالمدينة جنا قد أسلموا ، فمن بدا لكم منه فاذنوه ثلاثة أيام ، فإن عاد فاقتلوه فإنه شيطان ){[106]} .
وروى في " الموطأ " ، عن يحيى بن سعيد{[107]} ، قال : لنا أسري برسول الله –صلى الله عليه وسلم- رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار ، كلما التفت رآه ، فقال جبريل –عليه الصلاة والسلام- ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن طفئت شعلته ، قل : ( أعوذ بوجه الله الكريم ، وبكلماته التامات اللاتي ذرأ في الأرض لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، من شر ما ينزل من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما نزل إلى الأرض ، وشر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر طوارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ){[108]} .
وروى مالك -أيضا- في " الموطأ " أن كعب الأحبار{[109]} كان يقول : أعوذ بوجه لله العظيم ، الذي ليس شيء أعظم منه ، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وبأسمائه كلها ما قد علمت منها ، وما لم أعلم ، من شر ما خلق وذرأ وبرأ . {[110]}
وروى مالك أيضا في الموطأ ، أن خالد بن الوليد{[111]} قال : يا رسول الله ، إني [ أروَّع ] في منامي ، فقال : قل : ( أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه ، وعقابه ، وشر عباده ، ومن همزات الشياطين ، وأن يحضرون ){[112]} .
وخبر خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن ، وقراءته عليهم ، ودعوته إلى الإسلام .
وروى القاضي أبو بكر في " الهداية " أن عيسى عليه الصلاة والسلام دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم ، فأراه ذلك ، فإذا رأسه مثل رأس الحية ، واضع رأسه ]{[113]} على قلبه ، فإذا ذكر الله تعالى ، [ خنس ]{[114]} ؛ وإذا لم يذكره ، وضع رأسه على حبة قلبه .
وقال –عليه الصلاة والسلام- ( إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ) .
وقال : ( وما منكم من أحد إلا وله شيطان ) قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا ، إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم ){[115]} والأحاديث كثيرة .
فصل في قدرة الجن على النفوذ خلال البشر
المشهور أن الجن لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر ، وأنكر أكثر المعتزلة ذلك .
الأول : أنه إن كان الجن عبارة عن موجود ليس بجسم ، ولا جسماني ، فحينئذ يكون معنى كونه قادرا على النفوذ في باطنه ؛ أنه يقدر على التصرف في باطنه ، وذلك غير مستبعد .
وإن كان عبارة عن حيوان هوائي لطيف نفاذ كما وصفناه ، كان نفاذه في باطن بني آدم-أيضا- غير ممتنع قياسا على النفس وغيره .
الثاني : قوله تعالى : { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } [ البقرة : 275 ] .
الثالث : قوله –عليه الصلاة والسلام- : ( إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ) .
وأما المنكرون ، فاحتجوا بقوله تعالى حكاية عن إبليس : { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } [ إبراهيم : 22 ] صرح بأنه ما كان له على البشر سلطان ، إلا من الوجه الواحد ، وهو : إلقاء الوسوسة ، والدعوة إلى الباطل .
وأيضا : فلا شك أن الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- والعلماء المحققين- يدعون الناس إلى لعن الشياطين ، والبراءة منهم ، فوجب أن تكون العداوة بين الشياطين وبينهم ، أعظم أنواع العداوة ، فلو كانوا قادرين على النفوذ في البواطن ، وعلى إيصال البلاء ، والشر إليهم ، وجب أن يكون تضرر{[116]} الأنبياء ، والعلماء ، منهم أشد من تضرر كل واحد ?