سورة   الفاتحة
 
غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة فاتحة الكتاب مكية ويقال مدنية وهي سبع آيات إلا أن المكي والكوفي عدّا التسمية آية دون أنعمت عليهم ومذهب المدني والبصري والشامي بالعكس وكلماتها خمس وعشرون وحروفها مائة وثلاثة وعشرون .

في أسماء هذه السورة وهي كثيرة ، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى .

فالأول : فاتحة الكتاب سميت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف وفي التعليم وفي القراءة في الصلاة ، ولأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن . وقيل : لأنها أول سورة نزلت من السماء .

الثاني : سورة الحمد لأن أولها الحمد .

الثالث : أم الكتاب وأم القرآن لأنها أصل القرآن وأصل كل كتاب منزل لاشتمالها على الإلهيات والمعاد وإثبات القضاء والقدر والنبوات ، أو لأن فيها حاصل جميع الكتب السماوية وذلك هو الثناء على الله والاشتغال بالخدمة والطاعة وطلب المكاشفات والمشاهدات ، أو لأن المقصود من جميع العلوم معرفة عزة الربوبية وذلة العبودية ، أو لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة وهي أم القرى أشرف البلدان ، أو أصل لجميع البلدان حيث دحيت من تحتها ، وكما أن الحمى سميت أم ملدم لأنهم جعلوها معظم الأوجاع واللدم الضرب .

الرابع : السبع المثاني لأنها سبع آيات ولأنها تثنى في كل صلاة ، أو لأن نصفها ثناء العبد للرب والنصف الآخر إعطاء الرب العبد ، أو لأنها مستثناة لهذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة والإنجيل ولا في الزبور مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم " أو لأنها نزلت مرتين ، أو لأنها أثنية ومدائح لله تعالى .

الخامس : الوافية لأنها تجب قراءة كلها ولا يجزئ بعضها في الصلاة .

السادس : الكافية قال صلى الله عليه وسلم : " أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضاً عنها " .

السابع : الشفاء والشافية لقوله صلى الله عليه وسلم " فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم "

الثامن : الأساس لأنها أول سورة القرآن فهي كالأساس ، أو لأنها تشتمل على أساس العبادات والمطالب . قال الشعبي : سمعت عبد الله بن عباس يقول : أساس الكتب القرآن ، وأساس القرآن فاتحة الكتاب ، وأساس الفاتحة " بسم الله الرحمن الرحيم " فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالأساس تشف بإذن الله تعالى .

التاسع : الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " يعني الفاتحة وهو من باب تسمية الشيء بمعظم أركانه . ومنه يعلم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة .

العاشر : سورة تعليم المسألة لأن الله تعالى علم عباده فيها آداب السؤال فبدأ بالثناء ثم بالإخلاص ثم بالدعاء .

الحادي عشر : سورة الكنز لما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش ولهذا قال أكثر العلماء : إنها مكية وخطأ مجاهداً في قوله : إنها مدنية ، وكيف لا ؟ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب أنها من أول ما نزل من القرآن وأنها السبع المثاني ، وسورة الحجر مكية بلا خلاف وفيها قوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } [ الحجر : 87 ] ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب . وقد جمع طائفة من العلماء بين القولين فقالوا إنها نزلت بمكة مرة وبالمدينة أخرى ، وعلى هذا فإنها لم تثبت في المصحف مرتين لأنه لم يقع التواتر على نزولها مرتين .

ومن فضائل هذه السورة أنه لم يوجد فيها الثاء وهو الثبور { لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً } [ الفرقان : 14 ] والجيم وهو جهنم { وإن جهنم لموعدهم أجمعين } [ الحجر : 43 ] والخاء وهو الخزي { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } [ التحريم : 8 ] والزاء وهو الزفير والزقوم . والشين وهو الشهيق { لهم فيها زفير وشهيق } [ هود : 106 ] والظاء وهو لظى { كلا إنها لظى } [ المعارج : 15 ] والفاء وهو الفراق { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } [ الروم : 14 ] فلما أسقط الله تعالى من الفاتحة هذه الحروف الدالة على العذاب وهي بعدد أبواب جهنم لقوله تعالى : { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } [ الحجر : 44 ] غلب على الظن أن من قرأ الفاتحة نجا من جهنم ودخول أبوابها وتخلص من دركات النار وعذابها .

في المباحث الفقهية :

البحث الأول : أجمع الأكثرون ومنهم الشافعي على أن قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة وإن ترك منها حرفا واحداً وهو يحسنها لم تصح صلاته . وعند أبي حنيفة قراءتها غير واجبة لنا أنه صلى الله عليه وسلم واظب طول عمره على قراءتها في الصلاة فتجب علينا لقوله تعالى { فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] وأيضاً أقيموا الصلاة معناه الصلاة التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكنه كان يقرأ الفاتحة فيها فتجب . وأيضاً روي في ذلك أخبار كثيرة مثل " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " " كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج " وروى رفاعة بن مالك أن رجلاً دخل المسجد وصلى ، فلما فرغ من صلاته وذكر الخبر إلى أن قال الرجل : علمني الصلاة يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : " إذا توجهت إلى القبلة فكبر واقرأ بفاتحة الكتاب " وظاهر الأمر للوجوب ولاسيما في معرض التعليم . وأيضاً الخلفاء الراشدون واظبوا على قراءتها طول العمر وقال صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " وأيضاً المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز إن لم تكن واجبة فثبت أنها واجبة . حجة أبي حنيفة { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } [ المزمل : 20 ] قلنا : الفاتحة هي المتيسرة المحفوظة على جميع الألسنة . ثم قال : إذا قرأ آية واحدة كفت مثل { الم } أو { حم } [ الدخان : 1 ] { والطور } [ الطور : 1 ] و{ مدهامتان } [ الرحمن : 64 ] . أبو يوسف ومحمد : لابد من قراءة ثلاث آيات أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين .

0

البحث الخامس : قال الشافعي : ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها . وقال أبو حنيفة : إنها كافية في حق القادر والعاجز . وقال أبو يوسف ومحمد : كافية في حق العاجز لا القادر لنا أنه صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده وجميع الصحابة ما قرأوا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي فوجب علينا اتباعهم ، وكيف يجوّز عاقل قيام الترجمة بأي لغة كانت وهي كلام البشر مقام كلام خالق القوى والقدر ؟ وقالوا : وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يعلم رجلاً أن شجرة الزقوم طعام الأثيم والرجل لا يحسنه . فقال : قل طعام الفاجر ، ثم قال عبد الله : ليس الخطأ في القرآن أن تقرأ مكان العليم الحكيم إنما الخطأ بأن تضع آية الرحمة مكان آية العذاب . قلنا : الظن بابن مسعود غير ذلك . قالوا { وإنه لفي زبر الأولين } [ الشعراء : 196 ] { إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } [ الأعلى : 18 ، 19 ] ولا ريب أن القرآن بهذا اللفظ ما كان في زبر الأولين لكن بالعبرية والسريانية . قلنا إن القصص والمواعظ موجودة لا باللفظ بل بالمعنى ، ولا يلزم من ذلك أن يكون الموجود فيها قرآناً ، فإن النظم المعجز جزء من ماهية القرآن والكل بدون الجزء مستحيل .

البحث السادس : الشافعي في القول الجديد قال : تجب قراءة الفاتحة على المقتدي سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها . وفي القديم : تجب إذا أسر الإمام ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وأحمد أبو حنيفة : تكره القراءة خلف الإمام بكل حال لنا قوله تعالى { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } [ المزمل : 20 ] وقوله : " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " يشمل المنفرد والمقتدي ، وأيضاً روى الترمذي في جامعه بإسناده عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال : إني أراكم تقرأون خلف إمامكم قلنا : أي والله ، قال : لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها . قال : وهذا حديث حسن . وأيضاً قراءتها لا تبطل الصلاة عندهم ولكن يجوّزون تركها ويبطلها عدم القراءة عندنا ، فالأحوط قراءتها . احتج المخالف بقوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } [ الأعراف : 204 ] وبأخبار بين ضعفها البيهقي في كتابه ، ونحن نقول : أما القرآن فمخصوص بغير الفاتحة لما مر ، وأما الأخبار فهب أنها صحيحة إلا أن الترجيح معنا لأن الاشتغال بقراءة القرآن من أعظم الطاعات ولأنه أحوط .

البحث السابع : مذهب الشافعي أن الفاتحة واجبة في كل ركعة فإن تركها في ركعة بطت صلاته ، وبه قال أبو بكر وعمر وعلي عليهم السلام وابن مسعود ومعظم الصحابة ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأوها في كل ركعة ، ولأنه قال للأعرابي الذي علمه الصلاة وكذلك فأفعل في كل ركعة . وعن أبي سعيد الخدري أنه قال : أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة فريضة كانت أو نافلة . وأيضاً القراءة في كل ركعة أحوط فيجب المصير إليها . وقيل : غير واجبة أصلاً ، وقيل : تجب في كل صلاة في ركعة واحدة فقط وبه يحصل امتثال قوله " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " وعند أبي حنيفة القراءة تجب في الركعتين الأوليين لقول عائشة : فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر . فهما أصل والزائد تبع . قلنا : ما ذكرنا أحوط ، وقيل : تجب الفاتحة في الأوليين وتكره في الآخرتين . وعند مالك تجب في أكثر الركعات ، ففي الثنائية فيهما وفي الثلاثية في اثنتين وفي الرباعية في ثلاث .

البحث الثامن : إذا ثبت أن القراءة شرط في الصلاة فلو تركها أو حرفاً من حروفها عمداً بطلت صلاته وكذا سهواً على الجديد . وما روي أن عمر بن الخطاب صلى المغرب فترك القراءة فقيل له : تركت القراءة . قال : كيف كان الركوع والسجود ؟ قالوا : حسناً . قال : فلا بأس ، معارض بما روى الشعبي عنه أنه أعاد الصلاة . وأيضاً لعله ترك الجهر بالقراءة لا نفس القراءة .

البحث التاسع : يجب رعاية الترتيب في أجزاء الفاتحة وما وقع غير مرتب فغير محسوب .

البحث العاشر : إن لم يحفظ شيئاً من الفاتحة قرأ بقدرها من غيرها من القرآن ، ثم من ذكر من الأذكار ، ثم عليه مثل وقفة بقدرها فإن تعلم قرأ ما لم يفرغ منه .

البحث الحادي عشر : نقل عن ابن مسعود أنه كان ينكر أن تكون الفاتحة والمعوذتان من جملة القرآن والظن به أن هذا النقل عنه كذب وإلا فجحد المتواتر كيف يليق بحاله ؟

في البسملة مسائل :

الأولى : الجار والمجرور لابد له من متعلق وليس بمذكور فيكون مقدراً وأنه يكون فعلاً أو اسماً فيه رائحة الفعل . وعلى التقديرين فإما أن يقدر مقدماً أو مؤخراً نحو : أبدأ بسم الله ، أو ابتدائي بسم الله ، أو بسم الله أبتدئ ، أو بسم الله ابتدائي أو الابتداء ، وتقدير الفعل أولى من تقدير الاسم لأن كل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله يكون مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له ، فيكون المراد أن إنشاء ذلك الفعل إنما هو على اسم الله فيقدر ههنا بسم الله أقرأ أو أتلو أو أبدأ ، لأن الذي يتلو التسمية مقروء ومبدوء به كما أن المسافر إذا حل وارتحل فقال : بسم الله متبركاً ، كان المعنى بسم الله أحل أو ارتحل وكذلك الذابح . ونظيره في حذف متعلق الجار قولهم في الدعاء للمعرس : بالرفاء والبنين ، أي بالرفاء أعرست ، وتقدير المحذوف متأخر أولي على نحو قوله تعالى { بسم الله مجريها ومرساها } [ هود : 41 ] لأن تقديم ذكر الله أدخل في التعظيم ، ولأن ما هو السابق في الوجود يستحق السبق في الذكر ، ولهذا قال المحققون : ما رأينا شيئاً إلا ورأينا الله تعالى قبله . ولأنهم كانوا يبدؤون بأسماء آلهتهم فيقول : باسم اللات باسم العزى ، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عز وجل بالابتداء وذلك بتقديمه وتأخير الفعل كما في { إياك نعبد } صرح بتقديم الاسم إرادة الاختصاص . قال في الكشاف : وإنما قدم الفعل في { اقرأ باسم ربك } [ العلق : 1 ] لأن تقديم الفعل هناك أوقع لأنها أول سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم . وقال صاحب المفتاح : الصواب أن يقال : معنى إقرأ أوجد القراءة ، ثم يكون باسم ربك متعلقاً باقرأ الثاني . وذكر في معنى تعلق اسم الله بالقراءة وجهان : إما تعلق القلم بالكتبة في قولك " كتبت بالقلم " كان فعله لا يجيء معتداً به شرعاً إلا بعد تصديره بذكر الله قال صلى الله عليه وسلم : " كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر " وإما تعلق الدهن بالإنبات في قوله تعالى { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] أي متبركاً باسم الله أقرأ كما في قوله " بالرفاء والبنين " أي أعرست متلبساً بالرفاء وهذا أعرب وأحسن . أما كونه أدخل في العربية فلأنه لا يعرفه إلا من له دربة بفنون الاستعمالات بخلاف الأول فإنه مبتذل . وأما كونه أحسن فلأن جعل اسم الله كالآلة خروج عن الأدب ، لأن الآلة من حيث إنها آلة غير مقصود بالذات ، واسم الله تعالى عند الموحد أهم شيء وأنه مقول على ألسنة العباد تعليماً لهم كيف يتبركون باسمه وكيف يعظمونه ، وكذلك الحمد لله رب العالمين إلى آخره .

الثانية : أنهم استحسنوا تفخيم اللام وتغليظها من لفظ " الله " بعد الفتحة والضمة دون الكسرة أما الأول فللفرق بينه وبين لفظ اللات في الذكر ، ولأن التفخيم مشعر بالتعظيم ، ولأن اللام الرقيقة تذكر بطرف اللسان والغليظة تذكر بكل اللسان فكان العمل فيه أكثر ، فيكون أدخل في الثواب وهذا كما جاء في التوراة : أحبب ربك بكل قلبك . وأما الثاني فلأن النقل من الكسرة إلى اللام الغليظة ثقيل على اللسان لكونه كالصعود بعد الانحدار . وإنما لم يعدّوا اللام الغليظة حرفاً والرقيقة حرفاً آخر كما عدوا الدال حرفاً والطاء حرفاً آخر مع أن نسبة الرقيقة إلى الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء ، فإن الدال بطرف اللسان والطاء بكل اللسان ، لإطراد استعمال الغليظة مكان كل دقيقة ما لم يعق عائق الكسرة وعدم إطراد الطاء مكان كل دال .

الثالثة : طولوا الباء من بسم الله إما للدلالة على همزة الوصل المحذوفة ، وإما لأنهم أرادوا أن لا يستفتحوا كتاب الله إلا بحرف معظم . وكان يقول عمر بن عبد العزيز لكتابه : طولوا الباء وأظهروا السين ودوّروا الميم تعظيماً لكتاب الله . وقال أهل الإشارة : الباء حرف منخفض في الصورة ، فلما اتصل بكتابة لفظ " الله " ارتفعت واستعلت . فلا يبعد أن القلب إذا اتصل بحضرة الله يرتفع حاله ويعلو شأنه .

الرابعة : إبقاء لام التعريف في الخط على أصله في لفظ الله كما في سائر الأسماء المعرفة ، وأما حذف الألف قبل الهاء فلكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة في الصورة عند الكتابة ولأنه يشبه اللات في الكتابة . قال أهل الإشارة : الأصل في قولنا " الله " الإله وهو ستة أحرف ويبقى بعد التصرف أربعة في اللفظ : ألف ولامان وهاء ، فالهمزة من أقصى الحلق ، واللام من طرف اللسان ، والهاء من أقصى الحلق ، وهذه حال العبد يبتدئ من النكرة والجهالة ويترقى قليلاً قليلاً في مقامات العبودية حتى إذا وصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ودخل في عالم المكاشفات والأنوار ، أخذ يرجع قليلاً قليلاً حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد كما قيل : النهاية رجوع إلى البداية . وأما حذف الألف قبل النون من لفظ " الرحمان " فهو جائز في الخط ولو كتب كان أحسن .

الخامسة : الاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون ، وهو عند البصريين في الأصل سمو بدليل تكسيره على أسماء وتصغيره على سميّ وتصريفه على سميت ونحوه ، فاشتقاقه من السمو وهو العلو مناسب لأن التسمية تنويه بالمسمى وإشادة بذكره . وقيل : لأن اللفظ معرف للمعنى ، والمعرف متقدم على المعرف في المعلومية فهو عالٍ عليه حذفوا عجزه كما في " يد " و " دم " فبقي حرفان أولهما متحرك والثاني ساكن ، فلما حرك الساكن للإعراب أسكن المتحرك للاعتدال فاحتيج إلى همزة الوصل إذ كان دأبهم أن يبتدؤوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن حذراً من اللكنة والبشاعة . ومنهم من لم يزد الهمزة وأبقى السين بحاله فيقول : سم كما قال : باسم الذي في كل سورة سمه . وقد يضم السين فيقال : " سم " كأن الأصل عنده " سمو " . وعند الكوفيين اشتقاق الاسم من الوسم والسمة ، لأن الاسم كالعلامة المعرّفة . وزيف بأنه لو كان كذلك لكان تصغيره وسيماً وحجمه أوساماً .

السادسة : قال بعض المتكلمين ومنهم الأشعري : إن الاسم غير المسمى وغير التسمية وهو حق ، لأن الاسم قد يكون موجوداً والمسمى معدوماً كلفظ المعدوم والمنفي ونحو ذلك ، وقد يكون بالعكس كالحقائق التي لم توضع لها أسماء ، ولأنّ الأسماء قد تكون كثيرة مع كون المسمى واحداً كالأسماء المترادفة وكأسماء الله التسعة والتسعين ، أو بالعكس كالأسماء المشتركة ، ولأن كون الاسم اسماً للمسمى وكونه المسمى مسمى له من باب الإضافة كالمالكية والمملوكية ، والمضافان متغايران لا محالة . ولا يشكل ذلك بكون الشخص عالماً بنفسه لأنهما متغايران اعتباراً ، ولأن الاسم أصوات وحروف هي أعراض غير باقية والمسمى قد يكون باقياً بل واجب الوجود لذاته ، ولأنه لا يلزم من التلفظ بالعسل وجود الحلاوة في اللسان ، ومن التلفظ بالنار وجود الحرارة . وقال المعتزلة : الاسم نفس المسمى لقوله تعالى { تبارك اسم ربك } [ الرحمان : 78 ] مكان " تبارك ربك " : والجواب أنه كما يجب علينا تنزيه ذات الله تعالى من النقائص يجب تنزيه اسمه مما لا ينبغي . وأيضاً قد يزاد لفظ الاسم مجازاً كقوله : إلى الحول ثم اسم السلام عليكما . قالوا : إذا قال الرجل : زينب طالق . وكان له زوجة مسماة بزينب طلقت شرعاً . قلنا : المراد الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ طالق فلهذا وقع الطلاق عليها ، والتسمية أيضاً مغايرة للمسمى وللاسم لأنها عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف الذات المعينة ، وذلك التعيين معناه قصد الواضع وإرادته ، والاسم عبارة عن ذلك اللفظ المعين فافترقا .

السابعة : وضع الأسماء والأفعال سابق على وضع الحروف ، لأن الحروف رابطة بينهما . والظاهر أن وضع الأسماء سابق على وضع الأفعال لأن الاسم لفظ دال على الماهية والفعل لفظ دال على حصول الماهية لشيء من الأشياء في زمان معين ، فكأن الاسم مفرد والفعل مركب والمفرد سابق على المركب طبعاً فيكون سابقاً عليه وضعاً . وأيضاً الفعل مفتقر إلى الفاعل ، والفاعل لا يفتقر إلى الفعل . وأيضاً الاسم مستغن في الإفادة عن الفعل دون العكس ، والأظهر أن أسماء الماهيات سابقة بالرتبة على الأسماء المشتقات ، لأن الأولى مفردة والثانية مركبة ، ويشبه أن تكون أسماء الصفات سابقة بالرتبة على أسماء الذوات القائمة بأنفسها لأنا لا نعرف الذوات إلا بتوسط الصفات القائمة بها والمعرف معلوم قبل المعرّف فيناسب السبق في الذكر .

الثامنة : أقسام الأسماء الواقعة على المسميات تسعة : أولها : لاسم الواقع على الذات . ثانيها : الاسم الواقع على الشيء بحسب جزء من أجزائه كاليحوان على الإنسان . ثالثها : الواقع عليه بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كالأسود والحارّ . رابعها : الوقع عليه بحسب صفة إضافية كقولنا للشيء إنه معلوم ومفهوم ومالك ومملوك . خامسها : الواقع عليه بحسب صفة سلبية كالأعمى والفقير . سادسها : الواقع عليه بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كالعالم والقادر عند القائل بأن العلم صفة حقيقية ، ولها إضافة إلى المعلومات وكذا القدرة . سابعها : صفة حقيقية مع صفة سلبية كالمفهوم من مجموع قولنا قادر لا يعجز عن شيء وعالم لا يجهل شيئاً . ثامنها : صفة إضافية مع صفة سلبية كالأول ، فإن معناه سابق غير مسبوق . تاسعها : صفة حقيقية مع صفة إضافية وصفة سلبية ، فهذه أقسام الأسماء لا تكاد تجد اسماً خارجاً عنها ، سواء كان لله تعالى أو لمخلوقاته .

التاسعة : هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا ؟ ذكر بعضهم أن حقيقته تعالى لما كانت غير مدركة للبشر فكيف يوضع له اسم مخصوص بذاته ؟ وما الفائدة في ذلك ؟ أقول : لا ريب أن الإدراك التام عبارة عن الإحاطة التامة ، والمحاط لا يمكن أن يحيط بمحيطه أبداً ، وأنه تعالى بكل شيء محيط فلا يدركه شيء مما دونه كما ينبغي ، إلا أن وضع الاسم للذات لا ينافي عدم إدراكه كما ينبغي ، وإنما ينافي عدم إدراكه مطلقاً . فيجوز أن يقال الشيء الذي تدرك منه هذه الآثار واللوازم مسمى بهذا اللفظ ، وأيضاً إذا كان الواضع هو الله تعالى وأنه يدرك ذاته لا محالة على ما هو عليه ، فله أن يضع لذاته اسماً مخصوصاً لا يشاركه فيه غيره حقيقة ، وإذا كان وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ممكناً فينبغي أن يكون ذلك الاسم أعظم الأسماء وذلك الذكر أشرف الأذكار ، لأن شرف العلم والذكر بشرف المعلوم والمذكور . فلو اتفق لعبد من عبيده المقربين الوقوف على ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلى له معناه ، لم يبعد أن تنقاد له عوالم الجسمانيات والروحانيات . ثم القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه . منهم من قال : هو ذو الجلال والإكرام ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " ورد بأن الجلال من الصفات السلبية والإكرام من الإضافية ، ومن البين أن حقيقته المخصوصة مغايرة للسلوب والإضافات . ومنهم من يقول : إنه الحي القيوم لقوله صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب حين قال له : ما أعظم آية في كتاب الله ؟ فقال : الله لا إله إلا هو الحي القيوم . فقال صلى الله عليه وسلم : " ليهنك العلم يا أبا المنذر " . وزيف بأن الحي هو الدرّاك الفعال وهذا ليس فيه عظمة ولأنه صفة ، وأما القيوم فمعناه كونه قائماً بنفسه مقوّماً لغيره ، والأول مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره ، والثاني إضافي . ومنهم من قال : إن أسماء الله تعالى كلها عظيمة لا ينبغي أن يفاوت بينها ، ورد بما مرّ من أن اسم الذات أشرف من اسم الصفة ، ومنهم من قال : إن الإسم الأعظم هو الله وهذا أقرب ، لأنا سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم العلم في حقه سبحانه ، وإذا كان كذلك كان دالاً على ذاته المخصوصة ، ويؤيد ذلك ما روت أسماء بنت زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم } [ البقرة : 163 ] وفاتحه سورة آل عمران { ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ آل عمران : 1 - 2 ] " وعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . فقال : " والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي بهن أجاب وإذا سئل به أعطى " . ولا شك أن اسم الله في الآية والحديث أصل والصفات مرتبة عليه هذا ، وأما الاسم الدال على المسمى بحسب جزء من أجزائه فمحال في حق الله تعالى ، لأن ذاته تعالى مبرأ عن شائبة التركيب بوجه من الوجوه . وأما الاسم الدال بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته المخصوصة ، فتلك الصفة إما أن تكون هي الوجود ، وإما أن تكون كيفية من كيفيات الوجود ، وإما أن تكون صفة أخرى مغايرة للوجود ولكيفيات الوجود ، فهذه ثلاثة أقسام :

القسم الأول : الأسماء الدالة على الوجود منها الشيء ويجوز إطلاقه على الله تعالى عند الأكثرين لقوله تعالى { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } [ الأنعام : 19 ] { كل شيء هالك إلا وجهه } أي ذاته . وفي الخبر " كان الله ولم يكن شيء غيره " ولأن الشيء عبارة عما يصح أن يعلم ويخبر عنه وذاته تعالى كذلك . حجة المخالف قوله تعالى { الله خالق كل شيء } [ الرعد : 16 ] فلو كان الله تعالى شيئاً لزم أن يكون خالق نفسه . ومثله { وهو على كل شيء قدير } [ التغابن : 1 ] قلنا : خص بالدليل العقلي . قالوا : ليس من صفات المدح . قلنا : نعم هو خير من لا شيء ، وإن كان سائر الأشياء مشتركة معه في ذلك كالموجود والكريم والحليم ، فإن كلاً منها مدح بالنسبة إلى من لا وجود له ولا كرم ولا حلم ، بل الشيء بالحقيقة هو وباقي الأشياء شيئيتها مستعارة كوجودها ومنها الموجود . وأطبق المسلمون على جواز إطلاقه عليه تعالى وكيف لا ؟ ومعنى قول الموحد لا إله إلا الله أي لا إله في الوجود إلا الله . ومنها الذات ولا شك في جواز إطلاقه عليه إذ يصدق على كل حقيقة أنها ذات الصفات أي صاحبة الصفات القائمة بها ، ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن إبراهيم لم يكذب إلا في ثلاث : ثنتين في ذات الله " -أي في طلب مرضاته- ومنها النفس قال تعالى : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } [ المائدة : 116 ] وقال صلى الله عليه وسلم : " أنت كما أثنيت على نفسك " أي على ذاتك وحقيقتك . ومنها الشخص قال : " لا شخص أغير من الله تعالى ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن " " ولا شخص أحب إليه العذْر من الله ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين " " ولا شخص أحب إليه المدحة من الله " والمراد بالشخص الحقيقة المتعينة الممتازة عما عداها . ومنها النور قال عز من قائل : { الله نور السماوات والأرض } [ النور : 35 ] وليس المراد به ما يشبه الكيفية المبصرة وإنما المراد أنه الظاهر في نفسه المظهر لغيره . وإذ لا ظهور ولا إظهار فوق ظهوره وإظهاره فإنه واجب الوجود لذاته أزلاً وأبداً ، ومخرج جميع الممكنات من العدم إلى الوجود . فإذن هو نور الأنوار تعالى وتقدس ، وسوف يأتيك تمام التحقيق إذا وصلنا إلى سورة النور وهو أعلم بحقائق الأمور . ومنها الصورة وقد ورد في الخبر " أن الله خلق آدم على صورته " فقيل : معناه خلق آدم على صورته التي كان عليها يعني ما تولد من نطفة ودم وما كان جنيناً ، ورضيعاً بل خلقه الله تعالى رجلاً كاملاً دفعة واحدة . وقيل في حديث آخر " لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمان " المراد من الصورة الصفة كما يقال : صورة هذه المسألة كذا أي خلقه على صفته في كونه خليفة في أرضه متصرفاً في جميع الأجسام الأرضية كما أنه تعالى نافذ القدرة في جميع العالم . ويمكن أن يقال : الصورة إشارة إلى وجه المناسبة التي ينبغي أن تكون بين كل علة ومعلولها ، فإن الظلمة لا تصدر عن النور وبالعكس ، وكنا قد كتبنا في هذا رسالة . ومنها الجوهر وأنه لا يطلق عليه بمعنى موجود لا في موضوع ، أي إذا وجد كان وجودهن بحيث لا يحتاج إلى محل يقوم به ويستغني المحل عنه ، لأن ذلك ينبئ عن كون وجوده زائداً على ماهيته . وإنما يمكن أن يطلق عليه بمعنى آخر وهو كونه قائماً بذاته غير مفتقر إلى شيء في شيء أصلاً لكن الإذن الشرعي حيث لم يرد بذلك وجب الامتناع عنه . ومنها الجسم ولا يطلقه عليه إلا المجسمة ، فإن أرادوا الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة فمحال للزوم التركيب والتجزي ، وإن أرادوا معنى يليق بذاته من كونه موجوداً قائماً بالنفس غنياً عن المحل فالإذن الشرعي لم يرد به فلزم الامتناع . ومنها الماهية والآنية أي الحقيقة التي يسأل عنها بما هي وثبوته الدال عليه لفظ " ان " ، ولا بأس بإطلاقهما عليه إذا أريد بهما الحقيقة والذات المخصوصة إلا من حيث الشرع . ومنها الحق فإنه تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم ، إما بحسب ذاته فلأنه الموجود الذي يمتنع عدمه وزواله ، والحق يقال بإزاء الباطل والباطل يقال للمعدوم قال لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل . وإما بحسب ما يقال إن هذا الخبر حق وصدق فهذا الخبر أحق وأصدق ، وإما بحسب ما يقال إن هذا الاعتقاد حق فلأن اعتقاد وجوده ووجوبه أصوب الاعتقادات المطابقة .

القسم الثاني في الأسماء الدالة على كيفية الوجود منها القديم وهو في اللغة يفيد طول المدة ، وفي الشرع يرادفه الأزلي ، ويراد بهما ما لا أول له في الطرف الماضي كالأبدي في الطرف المستقبل . وكذا السرمدي واشتقاقه من السرد التوالي والتعاقب ، زيدت الميم للمبالغة . ونعني بالنسبة في هذه الألفاظ أنه تعالى منسوب إلى عدم البداية والنهاية في كلا طرفي الامتداد الوهمي المسمى بالزمان . ومنها الممتد والمستمر ونعني بهما تلاحق الأجزاء وتعاقب الأبعاض ، ولا يخفى أن أمثال هذه الألفاظ إنما يصح إطلاقها بالحقيقة على الزمان والزمانيات ، وأما في حق الله جل ذكره فلا يصح إلا بالمجاز بعد التوقيف . ومنها الباقي قال تعالى : { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ الرحمان : 26 ، 27 ] وأنه تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم . ومنها الدائم وهو كالباقي . ومنها واجب الوجود لذاته أي ذاته اقتضى وجوده ، وما بالذات لا ينفك عنه أبداً فهو ممتنع الفناء والعدم أزلاً وأبداً ولهذا قيل : خداي معناه خوداي أي أنه جاء بنفسه . ومنها الكائن قال تعالى : { وكان الله عليماً حكيماً } [ الفتح : 4 ] وفي بعض الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم " يا كائناً قبل كل كون ، ويا حاضراً مع كل كون ، ويا باقياً بعد انقضاء كل كون " واعلم : أن لفظة " كان " تفيد الحصول والثبوت والوجود ، إلا أن هذا قسمان : منه ما يفيد حصول الشيء في نفسه ، ومنه ما يفيد حصول موصوفية شيء بشيء . والأول يتم باستناده إلى ذلك الشيء وهي التامة ، والثاني لا يتم إلا بذكر شيئين وهي الناقصة نحو : كان زيد عالماً أي حصل موصوفية زيد بالعلم وكلا القسمين يجوز إطلاقه عليه تعالى .

القسم الثالث : في الصفات الحقيقية المغايرة للوجود ولكيفيات الوجود . الفلاسفة والمعتزلة أنكروا قيام مثل هذه الصفات بذات الله تعالى أشد إنكار لأن واجب الوجود لذاته يجب أن يكون واحداً من جميع جهاته ، ولأن تلك الصفة لو كانت واجبة الوجود لزم شريك للباري مع أن الجمع بين الوجود الذاتي وبين كونه صفة للغير ، والصفة مفتقرة إلى الموصوف محال ، وإن كانت ممكنة الوجود فلها علة موجدة ، ومحال أن يكون هو الله تعالى لأنه قابل لها فلا يكون فاعلاً لها ، ولأن ذاته لو كانت كافية في تحصيل تلك الصفة فتكون ذاته بدون تلك الصفة كاملة في العلية وهو المطلوب ، وإن لم تكن كافية لزم النقص المنافي لوجوب الوجود . حجة المثبتين أن إله العالم يجب أن يكون عالماً قادراً حياً ، ثم إنا ندرك التفرقة بين قولنا : " ذات الله تعالى ذات " وبين قولنا : " ذاته عالم قادر " وذلك يدل على المغايرة بين الذات وهذه الصفات . وإذا قلنا بإثبات الصفة الحقيقية فنقول : العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالمعلوم ، والقدرة صفة يلزمها صحة تعلقها بإيجاد المقدور . والصفة الحقيقية العارية عن النسب والإضافات في حقه تعالى ليست إلا صفة الحياة إن لم نقل إنها عبارة عن الدرّاكية والفعالية ، بل يقال : إنها صفة باعتبارها يصح أن عالماً وقادراً ، والتحقيق أن الحياة عبارة عن كون الشيء بحيث يصدر عنه ما من شأنه أن يصدر عنه كما ينبغي أن يصدر عنه ، ولا ريب أن واجب الوجود تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم ، لأن وجوب الوجود يقتضي اتصافه بجميع الصفات الكمالية وصدور الأشياء الممكنة عنه على النحو الأفضل ، ولهذا مدح الله تعالى به نفسه قائلاً { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ البقرة : 255 ]

{ وعنت الوجوه للحي القيوم } [ طه : 111 ] وأما الأسماء الدالة على الصفات الإضافية ، فمنها التكوين وهو عند المعتزلة والأشعري نفس المكوّن . وقال غيرهم : إنه غيره . حجة الأولين أن الصفة المسماة بالتكوين إما أن تؤثر على سبيل الصحة وهي القدرة لا غير ، أو على سبيل الوجوب . ويلزم كونه موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار . وأيضاً إن كانت قديمة لزم قدم الآثار ، وإن كانت حادثة افتقرت إلى تكوين آخر وتسلسل الآخرون . قالوا : كونه خالقاً رازقاً ليس عبارة عن الصفة الإضافية فقط ، بل هو عبارة عن صفة حقيقية موصوفة بصفة إضافية ، لأن المعقول من كونه موجداً مغاير للمعقول من كونه قادراً ، فإن القادر على الفعل قد يوجد وقد لا يوجد . ومنها كونه تعالى معلوماً ومذكوراً مسبحاً ممجداً فيقال : يا أيها المسبح بكل لسان ، ويا أيها الممدوح عند كل إنسان ، ويا أيها المرجوع إليه في كل حين وأوان . ولما كان هذا النوع من الإضافات غير متناه كانت الأسماء الممكنة لله بحسب هذا النوع من الصفات غير متناهية . ومنها ألفاظ متقاربة تدل على مجرد كونه موجداً مثل الموجد ومعناه المؤثر في الموجود ، والمحدث وهو أخص لأنه الذي جعله موجوداً بعد العدم ، والمكوّن وهو كالموجد والمنشئ ومعناه ينشئ على التدريج والمبدع والمخترع ويفهم منهما الإيجاد الدفعي ، وكذا الفاطر مثل الصانع ويفهم منه تكلف ، وأما الخلق فهو التقدير وأنه في حق الله تعالى يرجع إلى العلم ، وأما الباري فهو الذي يحدثه على الوجه الموافق للمصلحة . يقال : برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقاً لغرض معين . ومنها ألفاظ تدل على إيجاد شيء بعينه وأنها تكاد تكون غير متناهية . ومنها ألفاظ تدل على إيجاد النوع الفلاني لأجل الحكمة الفلانية ، فإذا خلق المنافع سمي نافعاً ، وإذا خلق الألم سمي ضاراً ، وإذا خلق الحياة سمي محيياً ، وإذا خلق الموت سمي مميتاً ، وإذا خصهم بالإكرام سمي براً لطيفاً ، وإذا خصهم بالقهر سمي قهاراً جباراً ، وإذا أقلّ العطاء سمي قابضاً ، وإذا أكثر سمي باسطاً ، وإذا جازى الذنوب بالعقاب سمي منتقماً ، وإذا ترك ذلك الجزاء سمي عفوّاً غفوراً رحماناً رحيماً ، وإذا حصل المنع والإعطاء في المال سمي قابضاً باسطاً ، وإذا حصلا في الجاه والحشمة سمي خافضاً رافعاً .

وأما الصفات السلبية فمنها ما يعود إلى الذات كقولنا إنه ليس جوهراً ولا جسماً ولا مكانياً ولا زمانياً ولا حالاً ولا محلاً ولا مفتقراً إلى شيء غيره ، تعالى في ذاته وفي صفاته ، وإنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . ومنها ما يعود إلى الصفات ، ولا يخفى أن كل صفة من صفات النقص يجب تنزيه الله عنها ، وذلك إما راجع إلى أضداد العلم كنفي النوم { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] وكنفي النسيان { وما كان ربك نسياً } [ مريم : 64 ] وكنفي الجهل { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } [ سبأ : 3 ] وكأن لا يمنعه العلم ببعض المعلومات عن العلم بغيره لا يشغله شأن عن شأن . وإما راجع إلى أضداد القدرة ككونه منزهاً في أفعاله عن التعب والنصب { وما مسنا من لغوب } [ ق : 38 ] وإنه لا يحتاج في فعله إلى الآلات وتقديم المادة والمدّة { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 40 ] وأنه لا يتفاوت في قدرته القليل والكثير { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب } [ النحل : 77 ] وأنه لا تنتهي قدرته { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز } [ إبراهيم : 19 ] وإما راجع إلى صفة الوحدة كنفي الأنداد والأضداد

{ ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } [ المؤمنون : 91 ] أو إلى صفة الاستغناء { وهو يطعم ولا يُطْعَم وهو يجير ولا يجار عليه } [ الأنعام : 14 ] ومنها ما يعود إلا الأفعال لا يخلق الباطل { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً } [ ص : 27 ] لا يخلق اللعب { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين } [ الأنبياء : 17 ] لا يخلق العبث { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً } [ المؤمنون : 115 ] لا يرضى بالكفر ، لا يريد الظلم ، لا يحب الفساد لا يؤذي من غير سابقة جرم { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } [ النساء : 146 ] لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها }

[ الإسراء : 7 ] ليس لأحد أن يعترض عليه في أفعاله وأحكامه { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } [ الأنبياء : 23 ] { لا يخلف الميعاد } [ آل عمران : 9 ] ومن أسماء السلوب القدوس والسلام لأنه منزه وسالم من نقائص الإمكان . ومنها العزيز وهو الذي لا يوجد له نظير أو لا يغلبه شيء ، والحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة ولا يمنع من إيصال الرحمة ، والصبور الذي لا يعاقب المسيء مع القدرة عليه ، وربما يفرق بينهما بأن المكلف يأمن العقوبة في صفة الحليم دون صفة الصبور . وأما الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية فمنها : القادر والقدير والمقتدر والمالك والملك ومالك الملك والمليك والقوي وذو القوة ومعانيها ترجع إلى القدرة ومنها ما يرجع إلى العلم

{ ولا يحيطون بشيء من علمه } [ البقرة : 255 ] { عالم الغيب والشهادة } [ التغابن : 18 ] { وهو بكل شيء عليم } [ البقرة : 29 ] { علام الغيوب } [ المائدة : 109 ] { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] { علم الله أنكم كنتم تختانون } [ البقرة : 187 ] { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } [ النحل : 19 ] { وعلم آدم الأسماء } [ البقرة : 31 ] ولم يرد علامة وإن كان يفيد المبالغة لأن ذلك بتأويل أمة أو جماعة . والخبير يقرب من العليم وكذا الشهيد إذا فسر بكونه مشاهداً لها ، وإذ أخذ من الشهادة كان من وصف الكلام . والحكمة تشارك العلم من حيث إنه إدراك حقائق الأشياء كما هي وتباينه بأنها أيضاً صدور الأشياء عنه كما ينبغي . واللطيف قد يراد به إيصال المنافع إلى الغير بطرق خفية عجيبة ، والتحقيق أنه الذي ينفذ تصرفه في جميع الأشياء . ومنها ما يرجع إلى الكلام { وكلم الله موسى تكليماً } [ النساء : 164 ] { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } [ الشورى : 51 ] { وإذ قال ربك } [ البقرة : 30 ] { ما يبدل القول لديَّ } [ ق : 30 ] { ومن أصدق من الله قيلاً } [ النساء : 122 ] { إنما أمره } [ يس : 81 ] { إن الله يأمركم } [ النساء : 58 ] { وعد الله حقاً } [ النساء : 122 ] { فأوحى إلى عبده ما أوحى }

[ النجم : 9 ] { وكان الله شاكراً عليماً } [ النساء : 147 ] { كان سعيكم مشكوراً } [ الدهر : 22 ] وذلك أنه أثنى على عبده بمثل قوله { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون } [ الذاريات : 18 ، 19 ] وهذا صورة الشكر . ومنها ما يرجع إلى الإرادات { يريد الله بكم اليسر } [ البقرة : 185 ] رضي الله عنهم أي صار مريداً لأفعالهم { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] { والله يحب المطهرين } [ التوبة : 108 ] يريد إيصال الخير إليهم { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً } [ الإسراء : 38 ] . الأشعرية : الكراهية عبارة عن إرادة عدم الفعل . المعتزلة : له صفة أخرى غير الإرادة . ومنها ما يرجع إلى السمع والبصر { إنني معكما أسمع وأرى } [ طه : 46 ] { إنه هو السميع البصير } [ الإسراء : 1 ] { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [ الأنعام : 103 ] وأما الصفات الإضافية مع السلبية فكالأول لأنه مركب من معنيين : أحدهما أنه سابق على غيره ، والثاني لا يسبق عليه غيرهن وكالآخر فإنه الذي يبقى بعد غيره ولا يبقى بعد غيرهن ، وكالقيوم فإنه الذي يفتقر إليه غيره ولا يفتقر إلى غيره ، والظاهر إضافة محضة وكذا الباطن ، أي أنه ظاهر بحسب الدلائل باطن بحسب الماهية . وأما الاسم الدال على مجموع الذات والصفات الحقيقية والإضافية والسلبية فالإله ، ولا يجوز إطلاق هذا اللفظ في الإسلام على غير الله وأما الله ، فسيأتي أنه اسم علم . وقد بقي ههنا أسماء يطلقها عليه تعالى أهل التشبيه ككونه متحيزاً أو حالاً في المتحيز استبعاداً منهم أنه كيف يكون موجود خالياً عن كلا الوصفين وهو عند أهل التقديس محال للزوم الافتقار ، اللهم إلا أن يقال استصحاب المكان لا يستلزم الافتقار إلى المكان ومنها العظيم والكبير وهما متقاربان لقوله تعالى في موضع { وهو العلي العظيم } [ البقرة : 255 ] وفي آخر { وهو العلي الكبير } [ سبأ : 23 ] وقد يفرق بينهما بأنه ورد " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري " والرداء أرفع من الإزار . وأيضاً اختص تحريم الصلاة بالله أكبر دون الله أعظم . ولا ريب أن إطلاق العظمة والكبر على الله تعالى بحسب الحجمية والمقدار كما للأجسام محال للزوم التبعيض والتجزئة . ومنها العلي والمتعالي ، فإن العلو بالمعنى المستلزم للتمكن محال على الله فإما أن يراد بمثل هذه الألفاظ مزيد الرتبة والشرف على الممكنات ، وإما أن يقال : إنا نطلق هذه الأسماء للإذن الشرعي فنكل معانيها إلى مراد الله تعالى ، وإما أن نستمد في إدراكها بضرب من الكشف والعيان .

( العاشر في الأسماء المضمرة ) قال عز من قائل : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } [ طه : 14 ] ولا يصح لغيره هذا الذكر إلا حكاية . وما جاء من قول بعض أهل الكمال : أنا من أهوى ومن أهوى أنا . إشارة إلى كمال المحبة وغاية إرادة الاتصاف بصفة المحبوب وفناء إرادته في إرادته ، وقال : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] ولا يصح هذا إلا من العبد بشرط الحضور والمشاهدة . وقال { لا إله إلا هو } [ البقرة : 255 ] وإنما يصح هذا من الغائبين . واعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب والبعد وكمال التجلي ونقصانه ، فكل حاضر غائب بالنسبة إلى ما فوق تلك الدرجة ، ورب غائب حاضر كما قيل :

أيا غائباً حاضراً في الفؤاد *** سلام على الغائب الحاضر

وفي لفظة " هو " أسرار عجيبة منها : أن العبد إذا قال : يا هو فكأنه يقول : ما للتراب ورب الأرباب ؟ وما المناسبة بين المتولد من النطفة والدم وبين الموصوف بالأزلية والقدم ؟ فلهذا ينادي نداء الغائبين ويقول : يا هو . ومنها أنه إذا قال : يا هو فقد حكم على كل ما سوى الله تعالى بأنه نفي محض ، لأنه لو حصل في الوجود شيئان لكان قوله " هو " صالحاً لهما جميعاً فلا يتعين النداء . ومنها إذا قال : يا رحمان فكأنه يتذكر رحمته أو يطلب رحمته ، وكذا إذا قال : يا كريم وغيره من الصفات .

فأما إذا قال : " يا هو " فكأنه استغرق في بحر العرفان وفني عما سوى الذات . ومنها إذا قال : " يا هو " فكأنه يقول : أجلّ حضرتك أن أمدحك ، وأثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك وهي صفات الجلال نحو : لا جسم ولا جوهر ولا عرض ولا في المحل ، أو بإسناد كمالات الممكنات إليك وهي صفات الإكرام ككونه مرتباً للموجودات على النحو الأكمل ، بل لا أمدحك ولا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي . ومنها أن هذا الذكر يفيد أن المنادي بسيط محض لا طريق إلى تصوره إلا بالإشارة العقلية . ومنها أن العبد كأنه دهش حتى ذهل عن كل ما يوصف به مالكه إلا عن هذه الإشارة . ولاختصاص هذا الذكر بهذه الأسرار ذكر الغزالي لا إله إلا الله توحيد العوام ، ولا إله إلا هو توحيد الخواص . وذلك أن قوله " لا هو " معناه كل شيء هالك ، وقوله " إلا هو " معناه إلا وجهه . ومن جملة الأذكار الشريفة : يا هو يا من لا هو إلا هو ، يا أزل يا أبد يا دهر يا ديهور يا من هو الحي الذي لا يموت . ولقد لقنني بعض المشايخ من الذكر : يا هو يا من هو هو يا من لا هو إلا هو يا من لا هو بلا هو إلا هو . فالأول فناء عما سوى الله ، والثاني فناء في الله ، والثالث فناء عما سوى الذات ، والرابع فناء عن الفناء عما سوى الذات .

الحادي عشر في بقية مباحث الأسماء :

اختلفوا في أسماء الله تعالى توقيفية أم لا . فمال بعضهم إلى التوقيف لأنا نصف الله تعالى بكونه عالماً ولا نصفه بكونه طبيباً وفقيهاً ومستيقناً ، فلولا أن أسماءه توقيفية لوصف بمثلها وإن كان على سبيل التجوز . القائلون بعدم التوقيف احتجوا بأن أسماء الله تعالى وصفاته مذكورة بالفارسية والتركية وأن شيئاً منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار ، مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها . والجواب أن عدم التوقيف في غير اللغة العربية لا يوجب عدمه في العربية ، وبأن الله تعالى قال : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [ الأعراف : 180 ] وكل اسم دل على صفات الكمال ونعوت الجلال كان حسناً ويجوز إطلاقه . والجواب أنه يجوز ولكن بعد التوقيف لم قلتم إنه ليس كذلك ؟ والغزالي فرق بين اسم الذات وبين أسماء الصفات فمنع الأول وجوّز الثاني . واعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على معانٍ لا يمكن إثباتها بالحقيقة في حق الله تعالى منها : الاستهزاء { الله يستهزئ بهم } [ البقرة : 15 ] والاستهزاء مذموم لكونه جهلاً { قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ البقرة :67 ] . ومنها المكر { ومكروا ومكر الله } [ آل عمران : 54 ] ومنها الغضب { وغضب الله عليهم } [ الفتح : 6 ] ومنها التعجب { بل عجبت ويسخرون } [ الصافات : 12 ] فيمن قرأ بضم التاء . والتعجب حالة للقلب تعرض عند الجهل بسبب الشيء ومنها التكبر

{ الجبار المتكبر } [ الحشر : 23 ] ومنها الحياء { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً }

[ البقرة : 26 ] والحياء تغير يعرض للقلب والوجه عند فعل شيء قبيح . والقانون في تصحيح هذه الألفاظ أن يقال لكل واحدة من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية وآثار تصدر منها في النهاية مثاله : الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دمه وسخونة مزاجه ، والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه . فالغضب في حقه تعالى محمول على الأثر الحاصل في النهاية لا الأمر الكائن في البداية ، وقس على هذا . قيل : إن لله تعالى أربعة آلاف اسم ، ألف منها في القرآن والأخبار ، وألف في التوراة ، وألف في الإنجيل ، وألف في الزبور . وقد يقال : ألف آخر في اللوح المحفوظ ولم يصل ذلك إلى البشر وهذا غير مستبعد ، فإن أقسام صفات الله تعالى بحسب السلوب والإضافات لا تكاد تنحصر ، وكل من كان اطلاعه على آثار حكمة الله تعالى في تدبير العالم العلوي والعالم السفلي أكثر كان اطلاعه على أسماء الله أكثر . وإن قلنا : إن له بكل مخلوق اسماً وكذا بكل خاصية ومنفعة فيه كمنافع الأعضاء والحيوان والنبات والأحجار ، خرجت الأسماء عن حيز العد والإحصاء كما قال عز من قائل : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 ] فإن قلت : إنا نرى في كتب العزائم أذكاراً غير معلومة ورقى غير مفهومة وقد تكون كتابتها أيضاً غير معلومة ، فما بال تلك الأذكار والرقى ؟ قلت : لا نشك أن تلك الكلمات إن لم تدل على شيء أصلاً لم تفد ، وإن دلت فأحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون شيئاً من هذه الأدعية . ولا ريب أن الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات ، إلا أن أكثر الناس إذا قرأوا هذه الأذكار المعلومة ولم يكن لهم نفوس مشرقة تجذب بهم إلى عالم القدس ويلوح عليهم أثر الإلهيات ، لم يكد يظهر عليهم شروق أنوارها ولهذا قد ورد " رب تال للقرآن والقرآن يلعنه " نعوذ بالله من هذه الحالة . أما إذا قرأوا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئاً وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية ، استولى الفزع والرعب على قلوبهم فيحصل لهم بهذا السبب نوع تجرد عن الجسمانيات وتوجه إلى الروحانيات فتتأثر نفوسهم وتؤثر ، وهذا وجه مناسب في قراءة الرقى المجهولة . واعلم أن بين الخلق وبين أسماء الله تعالى مناسبات عجيبة ، والنفوس مختلفة والجنسية علة الضم ، فكل اسم يغلب معناه على بعض النفوس فإذا واظب صاحبه على ذلك الاسم كان انتفاعه به أسرع والله الموفق . حكي أن الشيخ أبا النجيب البغدادي كان يأمر المريد بالأربعين مرة أو مرتين بقدر ما يرى مصلحته فيه ، ثم يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين . وكان ينظر إلى وجهه فإن رآه عديم التأثر عند قراءتها عليه قال له : اخرج إلى السوق واشتغل بمهمات الدنيا فإنك ما خلقت لهذا الطريق ، وإن رآه تأثر مزيد تأثر عند سماع اسم خاص أمره بالمواظبة على ذلك الذكر وقال : إن أبواب المكاشفات تنفتح عليك من هذا الطريق . وذلك أن الرياضة والمجاهدة لا تغلب النفوس عن أحوالها الفطرية ، ولكنها تضعف بحيث لا تستولي على الإنسان ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " " الأرواح جنود مجندة " " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " فهذا تمام البحث عن مطلق الأسماء .

الثاني عشر في الأبحاث المختصة باسم الله :

المختار عند الخليل ومتابعيه وعند أكثر الأصوليين والفقهاء أن هذا اللفظ ليس بمشتق البتة ، وأنهه اسم علم له سبحانه وتعالى . لأنه لو كان مشتقا لكان معناه معنى كليا لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه ، وحينئذ لا يكون قولنا " إلا الله " موجبا للتوحيد المحض ، فلا يدخل الكافر بقوله : " أشهد أن لا إله إلا الله " في الإسلام كما لو قال : " أشهد أن لا إله إلا الرحمان " أو " إلا الملك " لا يدخل بذلك في الإسلام بالاتفاق وأيضا الترتيب العقلي ذكر الذات ثم تعقيبه بالصفات نحو : زيد الفقيه الأصولي النحوي . ثم إنا نقول : الله الرحمان الرحيم العالم القادر ولا نقول بالعكس ، فدل ذلك على أن " الله " اسم علم . وقراءة من قرأ { إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } [ إبراهيم : 1 ، 2 ] بخفض اسم الله ليست لأجل أن جعله وصفا ، وإنما هو للبيان ، فوازنه وزان قولك : " مررت بالعالم الفاضل الكامل زيد " . وأيضا قال تعالى : { هل تعلم له سميا } [ مريم : 65 ] وليس المراد به الصفة والإلزام خلاف الواقع ، فوجب أن يكون المراد اسم العلم وليس ذلك إلا الله . حجة القائلين باشتقاقه قوله عز من قائل { هو الله في السماوات وفي الأرض } [ الأنعام : 3 ] فإنه لا يجوز أن يقال هو زيد في البلد وإنما يقال هو العالم في البلد . قلنا : لم لا يجوز أن يكون ذلك جاريا مجرى قولك " هو زيد الذي لا نظير له في البلد " ؟ قالوا : لما كانت الإشارة ممتنعة في حقه تعالى ، كان اسم العلم له ممتنعا . وأيضا العلم للتمييز ولا مشاركة فلا حاجة إلى التمييز . قلنا : وضع العلم لتعيين الذات المعينة ولا حاجة فيه إلى الإشارة الحسية ، ولا يتوقف على حصول الشركة ، وكأن النزاع بين الفريقين لفظي ، لأن القائلين بالاشتقاق متفقون على أن الإله مشتق من أله بالفتح إلاهة أي عبد عبادة ، وأنه اسم جنس كالرجل والفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا ، وكذلك السنة على عام القحط والبيت على الكعبة والكتاب على كتاب سيبويه . وأما " الله " بحذف الهمزة فمختص بالمعبود الحق لم يطلق على غيره . وينبغي أن يكون المراد من كون الله تعالى معبوداً كونه مستحقاً ومستأهلاً لأن يعبده كل من سواه كما يليق بحال العابد ، فإن اللائق بحال المعبود لا يقدر عليه أحد من المخلوقات . ولا يخفى أن الاستحقاق والاستئهال حاصل له أزلاً وأبداً ، فيكون إلهاً أزلاً وأبداً وإن كل من سواه عابد له بقدر استعداده وعلى حسب حاله ، حتى النبات والجماد والكافر والفاسق

{ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } [ الإسراء : 44 ] { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمان عبدا } [ مريم : 93 ] والعبد الصالح من يعبد الله تعالى لذاته لا لغرض رغبة في الثواب ورهبة من العقاب ، حتى لو فرض حصول المرغوب أو فقد المرهوب لم يكن عابداً ، ومع ذلك فينبغي أن يقطع النظر عن عبادته أيضاً .

وقيل : اشتقاقه من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه . فالنفوس لا تسكن إلا إليه تعالى ، والعقول لا تقف إلا لديه ، لأن الكمال محبوب لذاته { ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا } [ الرعد : 28-29 ] وقيل : من الوله وهو ذهاب العقل سواء فيه الواصلون إلى ساحل بحر العرفان والواقفون في ظلمات الجهالة وتيه الخذلان . وقيل : من لاه ارتفع لأنه تعالى ارتفع عن مشابهة الممكانات ومناسبة المحدثات .

وقيل : من أله في الشيء إذا تحير فيه ، لأن العقل وقف بين إقدام على إثبات ذاته نظراً إلى وجود مصنوعاته ، وبين تكذيب لنفسه لتعاليه عن ضبط وهمه وحسه ، فلم يبق إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن إدراك كنه الجلال والجمال ، وههنا العجز عن درك الإدراك إدراك .

وقيل : من لاه يلوه إذا احتجب ، لأنه بكنه صمديته محتجب عن العقول . فإنا إنما نستدلّ على كون الشعاع مستفاداً من الشمس بدورانه معها وجوداً وعدماً وشروقاً وأفولاً ، ولو كانت الشمس ثابتة في كبد السماء لما حصل اطمئنان يكون الشعاع مستفاداً منها ، ولما كان ذاته تعالى باقياً على حاله وكذا الممكنات التابعة له ، فربما يخطر ببال الضعفاء أن هذه الأشياء موجودة بذواتها فلا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال ظهوره ، فالحق محتجب والخلق محجوب .

وقيل : من أله الفصيل إذا ولع بأمه ، لأن العباد مولعون بالتضرع إليه في البليات

{ وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه } [ الروم : 33 ] هذا شأن الناقصين ، وأما الكاملون فهو جليسهم وأنيسهم أبداً . شكا بعض المريدين كثرة الوسواس فقال الشيخ : كنت حدّاداً عشر سنين وقصاراً عشراً وبواباً عشراً . فقيل : وكيف وما رأينا منك ؟ قال : القلب كالحديد ألينه بنار الخوف عشراً ، ثم شرعت في غسله عن الأوضار والأوزار عشراً ، ثم وقفت على باب القلب عشراً أسل سيف " لا إله إلا الله " فلم أترك حتى يخرج منه حب غير الله ويدخل فيه حب الله ، فلما خلت عرصة القلب من غيره وقويت فيه محبته سقطت من بحر عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب فبقي في تلك القطرة وفني عن الكل ولم يبق فيه إلا محض سر " لا إله إلا الله " .

وقيل : من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره . والمجير للخلائق من كره المضارّ هو الله { وهو يجير ولا يجار عليه } [ المؤمنون : 88 ] ومن لطائف اسم الله أنك إذا لم تتلفظ بالهمزة بقي " الله " { ولله جنود السماوات والأرض } [ الفتح : 4 ] فإن تركت من هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة " له " { له ما في السماوات وما في الأرض } [ البقرة : 255 ] وإن تركت اللام الباقية أيضاً بقي الهاء المضمومة من " هو " { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع هما هم . هذا بحسب اللفظ ، وأما بحسب المعنى فإذا دعوت الله به فكأنك دعوته بجميع الصفات بخلاف سائر الأسماء ولهذا صحت كلمة الشهادة به فقط والله تعالى أعلم .

الثالث عشر فيما يتعلق بالرحمان الرحيم :

الرحمان فعلان من رحم ، والرحيم فعيل منه واشتقاقه من الرحمة وهي ترك عقوبة من يستحقها أو إرادة الخير لأهله . وأصله الرقة والتعطف ومنه الرحم لرقتها وانعطافها على ما فيها . واختلف في منع صرف رحمان إذ ليس له مؤنث على فعلى كعطشى ، ولا على فعلانة كندمانة ، فمن شرط في منع صرف فعلان صفة وجود فعلي صرفه ، ومن شرط فيه انتفاء فعلانة لم يصرفه ، وإذا تساقط الدليلان للتعارض فللصرف وجه ، وهو أن الأصل في الأسماء الصرف ولمنع الصرف وجه وهو القياس على أخوته من بابه نحو : عطشان وغرثان . وزعم قوم أنهما بمعنى واحد كندمان ونديم ، وجمع بينهما للتأكيد والاتساع كقولهم جاد مجدّ قال طرفة .

متى أدن منه ينأ عني ويبعد *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال قوم : الرحمان أشد مبالغة استدلالاً بالزيادة في اللفظ على الزيادة في المعنى . قالوا : ولهذا جاء رحمان الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا ، وربما يقال رحمان الدنيا ورحيم الآخرة ، لأن رحمته في الدنيا عمت المؤمن والكافر والبر والفاجر ، وفي الآخرة اختصت بالمؤمنين . فالرحمان خاص اللفظ عام المعنى والرحيم بالعكس . أما خصوص الرحمان فمن حيث لا يسمى به إلا الله تعالى لأنه من الصفات الغالبة كالدبران والعيوق ، وأما عمومه فمن حيث إنه يشمل جميع الموجودات من طريق الخلق والرزق والنفع . وأما عموم الرحيم فاشتراك تسمية الخلق به ، وأما خصوصه فرجوعه إلى اللطف بالمؤمنين والتوفيق . الضحاك : الرحمان بأهل السماء حيث أسكنهم السماوات وطوقهم الطاعات وأنطق ألسنتهم بأنواع التسبيحات وجنبهم الآفات وقطع عنهم المطامع واللذات ، والرحيم بأهل الأرض حيث أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب . فقال عكرمة : الرحمان برحمة واحدة والرحيم بمائة رحمة كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن لله تعالى مائة رحمة وإنه أنزل منها رحمة واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه فيها يتعاطفون وبها يتراحمون وأخر تسعاً وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة " قال ابن المبارك : الرحمان الذي إذا سئل أعطى ، والرحيم الذي إذا لم يسأل غضب . قال صلى الله عليه وسلم : " من لم يسأل الله يغضب عليه " الرحمان بالنعماء وهي ما أعطى وحبا ، والرحيم باللأواء وهي ما صرف وزوى . الرحمان بالإنقاذ من النار { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [ آل عمران : 103 ] والرحيم بإدخالهم الجنان { ادخلوها بسلام آمنين } [ الحجر : 46 ] الرحمان الراحم القادر على كشف الضر ، والرحيم الراحم وإن لم يقدر على كشف الضر . وتسمية مسيلمة الكذاب بالرحمان تعنت منهم واقتطاع من أسماء الله تعالى . قال عطاء : ولذلك قرنه الله تعالى بالرحيم لأن هذا المجموع لم يسم غيره . وإنما قدم الرحمان وهو الأعلى على الرحيم ، والعادة التدرج من الأدنى إلى الأعلى ، لأن الرحمان يتناول عظائم النعم وأصولها ، فإردافه بالرحيم كالتتمة ليتناول ما دق منها ولطف . واعلم أن الأشياء التي أنعم الله تعالى بها على الخلق أربعة أقسام :

الأول : ما يكون نافعاً وضرورياً معاً وذلك في الدنيا التنفس ، فإنه لو انقطع لحظة واحدة مات ، وفي الآخرة معرفة الله فإنها إذا زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب واستوجب عذاب الأبد .

الثاني : أن يكون نافعاً لا ضرورياً كالمال في الدنيا وكسائر العلوم والمعارف في الآخرة .

الثالث : أن يكون ضرورياً لا نافعاً كالآفات والعلل ولا نظير لهذا القسم في الآخرة .

الرابع : أن لا يكون نافعاً ولا ضرورياً كالفقر في الدنيا والعذاب في الآخرة . وبالجملة فكل نعمة أو نقمة دنيوية أو أخروية فإنما تصل إلى العبد أو تندفع عنه برحمة الله تعالى وفضله من غير شائبة غرض ولا ضميمة علة ، لأنه الجواد المطلق والغني الذي لا يفتقر ، فينبغي أن لا يرجى إلا رحمته ولا يخشى إلا عقابه .

الرابع عشر في نكت شريفة :

الأولى : كل العلوم تندرج في الكتب الأربعة ، وعلومها في القرآن ، وعلوم القرآن في الفاتحة ، وعلوم الفاتحة في " بسم الله الرحمان الرحيم " ، وعلومها في الباء ، من بسم الله ، وذلك أن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب ، وهذه الباء للإلصاق ، فهو يوصل العبد إلى الرب وهو نهاية المطلب وأقصى الأمد . وقيل : إنما وقع ابتداء كتاب الله تعالى بالباء دون الألف ، لأن الألف تطاول وترفع والباء انكسر وتساقط ومن تواضع لله رفعه الله .

الثانية : مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه ، فشكا إلى الله فدله على عشب في المفازة فأكله فعوفي بإذن الله ، ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه ، فقال : يا رب أكلته أوّلاً فاشتفيت به وأكلته ثانياً فضرني . فقال : لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء . وفي الثانية : ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض . أما علمت أن الدنيا كلها سم وترياقها اسمي .

الثالثة : باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة ، فلما انفجر الصبح نامت فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها ، وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب فوضعها فوجد الباب ، وفعل ذلك ثلاث مرات فنودي من زاوية البيت : ضع القماش واخرج فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان .

الرابعة : كان بعض العارفين يرعى غنماً فحضر في غنمه الذئب ولا يضر أغنامه ، فمر عليه رجل وناداه متى اصطلح الغنم والذئب ؟ قال الراعي : من حين اصطلح الراعي مع الله .

الخامسة : روي أن فرعون قبل أن ادعى الإلهية قصد أو أمر أن يكتب باسم الله على بابه الخارج ، فلما ادعى الإلهية وأرسل الله إليه موسى ودعا فلم ير به أثر الرشد قال : إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيراً ، فقال تعالى : يا موسى لعلك تريد إهلاكه ، أنت تنظر إلى كفره وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه . والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمناً من الهلاك وإن كان كافراً ، فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون حاله ! ؟

السادسة : سمى نفسه رحماناً ورحيماً فكيف لا يرحم ؟ روي أن سائلاً وقف على باب رفيع فسأل شيئاً فأعطي قليلاً فجاء بفأس وأخذ يخرب الباب ، فقيل له : لم تفعل ؟ قال : إما أن تجعل الباب لائقاً بالعطية أو العطية لائقة بالباب . إلهي كما أثبت في أول كتابك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين من فضلك .

السابعة : إذا اشترى العبيد شيئاً من الدواب أو المتاع وضعوا عليه سمة الملك لئلا يطمع فيه العدوّ ، فالله تعالى يقول : عبدي عدوّك الشيطان فإذا شرعت في عمل وطاعة فاجعل عليها سمتي وقل : " بسم الله الرحمان الرحيم " .

الثامنة : اجعل ذكر الله قرينك حتى لا تبعد عنه في أحوالك . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خاتماً إلى أبي بكر وقال : اكتب فيه " لا إله إلا الله " فدفعه إلى النقاش وقال : اكتب فيه " لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " فكتب النقاش ذلك ، فأتى أبو بكر بذلك الخاتم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى النبي فيه " لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق " فقال : يا أبا بكر ما هذه الزوائد ؟ فقال : يا رسول الله ما رضيت أن أفرق اسمك من اسم الله فما رضي الله أن يفرق اسمي عن اسمك .

التاسعة : أن نوحاً صلى الله عليه وسلم لما ركب السفينة قال : { بسم الله مجريها ومرساها } [ هود : 41 ] فنجا بنصف هذه الكلمة ، فما ظنك بمن واظب على الكلمة طول عمره كيف يبقى محروماً عن النجاة ؟

العاشرة : الناس ثلاثة : سابق بالخيرات ومقتصد وظالم لنفسه . فقال : الله للسابقين ، الرحمان للمقتصدين ، الرحيم للظالمين . الله معطي العطاء ، الرحمان المتجاوز عن زلات الأولياء ، الرحيم الساتر لعيوب الأغنياء . يعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك ، ولو علمت المرأة لجفتك ، ولو علمت الأمة لأقدمت على الفرار ، ولو علم الجار لسعى في تخريب الدار . الله يوجب ولايته { الله ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] الرحمان يستدعي محبته { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا } [ مريم : 96 ] الرحيم يفيض رحمته { وكان بالمؤمنين رحيماً } [ الأحزاب : 43 ] هو رحيم بهم في ستة مواضع : في القبر وحسراته ، والقيامة وظلماته ، وقراءة الكتب وفزعاته ، والصراط ومخافاته ، والنار ودركاته والجنة ودرجاته .

الحادية عشرة : مر عيسى عليه السلام بقبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتاً ، فلما انصرف من حاجته مر بالقبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور . فتعجب من ذلك فصلى ودعا الله فأوحى الله تعالى إليه : يا عيسى ، كان هذا العبد عاصياً وكان قد ترك امرأة حبلى فولدت وربت ولده حتى كبر فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعلم " بسم الله الرحمان الرحيم " فاستحييت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض وولده يذكر اسمي على ظهر الأرض .

الثانية عشرة : كتب عارف " بسم الله الرحمان الرحيم " وأوصى أن تجعل في كفنه . فقيل له في ذلك ؟ فقال : أقول يوم القيامة : إلهي بعثت كتاباً وجعلت عنوانه " بسم الله الرحمان الرحيم " فعاملني بعنوان كتابك .

الثالثة عشرة : " بسم الله الرحمان الرحيم " تسعة عشر حرفاً والزبانية تسعة عشر ، فالله تعالى يدفع بليتهم بهذه الحروف التسعة عشر .

الرابعة عشرة : اليوم بليلته أربع وعشرون ساعة ، ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فبقي التسعة عشرة ساعة لا تستغرق بذكر الله تعالى ، وهذه التسعة عشر حرفاً تقع كفارات للذنوب الواقعة في تلك التسع عشرة .

الخامسة عشرة : لما كانت سورة التوبة مشتملة على القتال والبراءة لم يكتب في أولها " بسم الله الرحمان الرحيم " وأيضاً السنة أن يقال عند الذبح : " بسم الله والله أكبر " ولا يقال : " بسم الله الرحمان الرحيم " فلما وفقك الله لذكر هذه الكلمات كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة دل ذلك على أنه ما خلقك للقتل والعذاب وإنما خلقك للرحمة والثواب .

السادسة عشرة : قال صلى الله عليه وسلم : " من رفع قرطاساً من الأرض فيه بسم الله الرحمان الرحيم إجلالاً لله تعالى كتب عند الله من الصدّيقين وخفف عن والديه وإن كانا من المشركين " وعن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت " بسم الله الرحمان الرحيم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أول ما نزلت هذه الآية على آدم قال : أمن ذريتي من العذاب ما داموا على قراءتها ، ثم رفعت فأنزلت على إبراهيم عليه السلام فتلاها وهو في كفة المنجنيق فجعل الله عليه النار برداً وسلاماً ، ثم رفعت بعده فما أنزلت إلا على سليمان وعندها قالت الملائكة : الآن تم والله ملكك ، ثم رفعت فأنزلها الله تعالى عليّ ، ثم يأتي أمتي يوم القيامة وهم يقولون : " بسم الله الرحمان الرحيم " فإذا وضعت أعمالهم في الميزان ترجحت حسناتهم . وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال " يا أبا هريرة إذا توضأت فقل : " بسم الله الرحمان الرحيم " فإن حفظتك لا يستريحون أن يكتبوا لك الحسنات حتى تفرغ ، وإذا غشيت أهلك فقل : " بسم الله الرحمان الرحيم " فإن حفظتك يكتبون لك الحسنات حتى تغتسل من الجنابة ، فإن حصل من تلك المواقعة ولد كتبت له من الحسنات بعدد نفس ذلك الولد وبعدد أنفاس أعقابه إن كان له عقب حتى لا يبقى منهم أحد . يا أبا هريرة إذا ركبت دابة فقل : " باسم الله والحمد لله " يكتب لك الحسنات بعدد كل خطوة ، وإذا ركبت سفينة فقال : " باسم الله والحمد لله " يكتب لك الحسنات حتى تخرج منها " وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا بسم الله الرحمان الرحيم " والإشارة فيه إذا صار هذا الاسم حجاباً بينك وبين أعدائك من الجن في الدنيا أفلا يصير حجاباً بينك وبين الزبانية في العقبى ؟

كانت لنفسي أهواء مفرّقة *** فاستجمعت إذ رأتك النفس أهوائي

فصار يحسدني من كنت أحسده *** وصرت مولى الورى مذ صرت مولاي

تركت للناس دنياهم ودينهم *** شغلاً بذكرك يا ديني ودنيائي

هذا تمام الكلام في تفسير البسملة .

0