الأولى : أمر الله تعالى بالاستعاذة عند أول كل قراءة فقال تعالى : " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " [ النحل :98 ] أي إذا أردت أن تقرأ ، فأوقع الماضي موقع المستقبل كما قال الشاعر :
وإني لآتيكم لذكرى الذي مضى *** من الود واستئناف ما كان في غد
أراد ما يكون في غد . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، وأن كل فعلين تقاربا في المعنى جاز تقديم أيهما شئت ، كما قال تعالى : " ثم دنا فتدلى " [ النجم :8 ] المعنى فتدلى ثم دنا ، ومثله : " اقتربت الساعة وانشق القمر " [ القمر :1 ] وهو كثير .
الثانية : هذا الأمر على الندب في قول الجمهور في كل قراءة في غير الصلاة . واختلفوا فيه في الصلاة . حكى النقاش عن عطاء : أن الاستعاذة واجبة . وكان ابن سيرين والنخعي وقوم يتعوذون في الصلاة كل ركعة ، ويمتثلون أمر الله في الاستعاذة على العموم ، وأبو حنيفة والشافعي يتعوذان في الركعة الأولى من الصلاة ويريان قراءة الصلاة كلها قراءة واحدة ، ومالك لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في قيام رمضان .
الثالثة : أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه ، وهو قول القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . وهذا اللفظ هو الذي عليه الجمهور من العلماء في التعوذ لأنه لفظ كتاب الله تعالى . وروي عن ابن مسعود أنه قال : قلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا ابن أم عبد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأني جبريل عن اللوح المحفوظ عن القلم ) .
الرابعة : روى أبو داود وابن ماجه في سننهما عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة فقال عمرو{[1]} : لا أدري أي صلاة هي ؟ فقال : ( الله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً - ثلاثاً - الحمد لله كثيراً الحمد لله كثيراً - ثلاثاً - وسبحان الله بكرة وأصيلا - ثلاثاً - وأعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه ) . قال عمرو : همزه المؤتة ، ونفثه الشعر ، ونفخه الكبر . وقال ابن ماجه : المؤتة يعني الجنون . والنفث : نفخ الرجل من فيه من غير أن يخرج ريقه . والكبر : التيه . وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر ثم يقول : ( سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك - ثم يقول : - لا إله إلا الله - ثلاثاً ثم يقول : - الله أكبر كبيراً - ثلاثاً - أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ) ، ثم يقرأ .
وروى سليمان بن سالم عن أبي القاسم{[2]} رحمه الله أن الاستعاذة : أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم بسم الله الرحمن الرحيم . قال ابن عطية : " وأما المقرئون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله تعالى وفي الجهة الأخرى ، كقول بعضهم : أعوذ بالله المجيد ، من الشيطان المريد ، ونحو هذا مما لا أقول فيه : نعمت البدعة ، ولا أقول : إنه لا يجوز " .
الخامسة : قال المهدوي : أجمع القراء على إظهار الاستعاذة في أول سورة " الحمد " إلا حمزة فإنه أسرها . وروى السدي{[3]} عن أهل المدينة أنهم كانوا يفتتحون القراءة بالبسملة .
وذكر أبو الليث السمرقندي عن بعض المفسرين أن التعوذ فرض ، فإذا نسيه القارئ وذكره في بعض الحزب قطع وتعوذ ، ثم ابتدأ من أوله . وبعضهم يقول : يستعيذ ثم يرجع إلى موضعه الذي وقف فيه ، وبالأول قال أسانيد الحجاز والعراق ، وبالثاني قال أسانيد الشام ومصر .
السادسة : حكى الزهراوي قال : نزلت الآية في الصلاة ، وندبنا إلى الاستعاذة في غير الصلاة ، وليس بفرض . قال غيره : كانت فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، ثم تأسينا به .
السابعة : روي عن أبي هريرة أن الاستعاذة بعد القراءة ، وقاله داود . قال أبو بكر بن العربي : " انتهى العي بقوم إلى أن قالوا : إذا فرغ القارئ من قراءة القرآن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم " . وقد روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة ، وهذا نص . فإن قيل : فما الفائدة في الاستعاذة من الشيطان الرجيم وقت القراءة ؟ قلنا : فائدتها امتثال الأمر ، وليس للشرعيات فائدة إلا القيام بحق الوفاء لها في امتثالها أمراً أو اجتنابها نهياً ، وقد قيل : فائدتها امتثال الأمر بالاستعاذة من وسوسة الشيطان عند القراءة ، كما قال تعالى : " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته{[4]} " [ الحج :52 ] .
قال ابن العربي : " ومن أغرب ما وجدناه قول مالك في المجموعة في تفسير هذه الآية : " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم{[5]} " [ النحل :98 ] قال : ذلك بعد قراءة القرآن لمن قرأ في الصلاة . وهذا قول لم يرد به أثر ، ولا يعضده نظر ، فإن كان هذا كما قال بعض الناس : أن الاستعاذة بعد القراءة ، كان تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة ، ولا تشبه أصل مالك ولا فهمه ، فالله أعلم بسر هذه الرواية .
الثامنة : في فضل التعوذ : روى مسلم عن سليمان بن صرد قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه ، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) . فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هل تدري ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً ؟ قال : ( إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) . فقال له الرجل : أمجنوناً تراني ! أخرجه البخاري أيضاً .
وروى مسلم أيضاً عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ذاك شيطان يقال له خنزب{[6]} فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً ) قال : ففعلت فأذهبه الله عني .
وروى أبو داود عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل عليه الليل قال : ( يا أرض ربي وربك الله ، أعوذ بالله من شرك ومن شر ما خلق فيك ومن شر ما يدب عليك ومن أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكني البلد ووالد وما ولد ) .
وروت خولة بنت حكيم قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من نزل منزلاً ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل ) . أخرجه الموطأ ومسلم والترمذي وقال : حديث حسن غريب صحيح . وما يتعوذ منه كثير ثابت في الأخبار ، والله المستعان .
التاسعة : معنى الاستعاذة في كلام العرب : الاستجارة والتحيز إلى الشيء ، على معنى الامتناع به من المكروه ، يقال : عذت بفلان واستعذت به ، أي لجأت إليه . وهو عياذي ، أي ملجئي . وأعذت غيري به وعوذته بمعنى . ويقال : عوذ بالله منك ، أي أعوذ بالله منك . قال الراجز :
قالت وفيها حَيْدَة وذُعْرُ *** عَوْذٌ بربي منكم وحُجْرُ
والعرب تقول عند الأمر تنكره{[7]} : حُجْراً له ( بالضم ) أي دفعاً ، وهو استعاذة من الأمر . والعوذة والمعاذة والتعويذ كله بمعنى . وأصل أعوذ : أعوذ نقلت الضمة إلى العين لاستثقالها على الواو فسكنت .
العاشرة : الشيطان واحد الشياطين ، على التكسير والنون أصلية ، لأنه من شطن إذا بعد عن الخير . وشطنت داره أي بعدت ، قال الشاعر{[8]} :
نأت بسعاد عنك نوىً شطونُ *** فبانت والفؤادُ بها رهينُ
وبئر شطون أي بعيدة القعر . والشطن : الحبل ، سمي لبعد طرفيه وامتداده . ووصف أعرابي فرساً لا يحفى{[9]} فقال : كأنه شيطان في أشطان . وسمي الشيطان شيطاناً لبعده عن الحق وتمرده ، وذلك أن كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان ، قال جرير :
أيام يدعونني الشيطانَ من غَزَلٍ *** وهُنَّ يَهْوَيْنَنِي إذ كنتُ شيطاناَ
وقيل : إن شيطانا مأخوذ من شاط يشيط إذا هلك{[10]} ، فالنون زائدة . وشاط إذا احترق . وشيطت اللحم إذا دخنته ولم تنضجه . واشتاط الرجل إذا احتد غضباً . وناقة مشياط التي يطير فيها السمن . واشتاط إذا هلك . قال الأعشى :
قد نَخْضِب العَيْر من مكنون فَائلِه{[11]} *** وقد يشيط على أرماحنا البطلُ
أي يهلك . ويرد على هذه الفرقة أن سيبويه حكى أن العرب تقول : تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشياطين ، فهذا بين أنه تفعيل من شطن ، ولو كان من شاط لقالوا : تشيط ، ويرد عليهم أيضاً بيت أمية بن أبي الصلت :
أيُّمَا شَاِطنٍ عصاهُ عَكَاه{[12]} *** ورماه في السجن والأغلال
الحادية عشرة : الرجيم أي المبعد من الخير المهان . وأصل الرجم : الرمي بالحجارة ، وقد رجمته أرجمه ، فهو رجيم ومرجوم . والرجم : القتل واللعن والطرد والشتم ، وقد قيل هذا كله في قوله تعالى : " لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين " [ الشعراء :116 ] . وقول أبي إبراهيم : " لئن لم تنته لأرجمنك " [ مريم :46 ] . وسيأتي{[13]} إن شاء الله تعالى .
الثانية عشرة : روى الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال : قال علي بن أبي طالب عليه السلام : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الصفا وهو مقبل على شخص في صورة الفيل وهو يلعنه ، قلت : ومن هذا الذي تلعنه يا رسول الله ؟ قال : ( هذا الشيطان الرجيم ) فقلت : يا عدو الله ، والله لأقتلنك ولأريحن الأمة منك ، قال : ما هذا جزائي منك ، قلت : وما جزاؤك مني يا عدو الله ؟ قال : والله ما أبغضك أحد قط إلا شرِكت أباه في رحم أمه .
تفسير سورة الفاتحة " بحول الله وكرمه " ، وفيها أربعة أبواب :
الباب الأول : في فضائلها وأسمائها وفيه سبع مسائل :
الأولى : روى الترمذي عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما أنزل الله في التوارة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة{[14]} بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ] أخرج مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب : أنا أبا سعيد مولى عبد الله بن عامر بن كريز أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبيّ بن كعب وهو يصلي ، فذكر الحديث . قال ابن عبد البر : أبو سعيد لا يوقف له على اسم وهو معدود في أهل المدينة . روايته عن أبي هريرة وحديثه هذا مرسل ، وقد روي هذا الحديث عن أبي سعيد بن المعلى رجل من الصحابة لا يوقف على اسمه أيضا ، رواه عنه حفص بن عاصم وعبيد بن حنين .
قلت : كذا قال في التمهيد : " لا يوقف له على اسم " . الاختلاف في اسمه . والحديث خرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ، فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي فقال : ألم يقل الله " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم{[15]} " [ الأنفال : 24 ] - ثم قال : - ( لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال : الحمد لله رب العالمين هي السبع الثماني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) . قال ابن عبد البر وغيره : أبو سعيد بن المعلى من جلة الأنصار وسادات الأنصار تفرد به البخاري واسمه رافع ، ويقال : الحارث بن نفيع بن المعلى ، ويقال : أوس بن المعلى ، ويقال : أبو سعيد بن أوس بن المعلى ، توفي سنة أربع وسبعين وهو ابن أربع وستين{[16]} سنة ، وهو أول من صلى إلى القبلة حين حوّلت وسيأتي{[17]} .
وقد أسند حديث أبيٍّ يزيد بن زريع قال : حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُبَي وهو يصلي فذكر الحديث بمعناه .
وذكر ابن الأنباري في كتاب الرد له : حدثني أبي حدثني أبو عبيدالله الوراق حدثنا أبو داود حدثنا شيبان عن منصور عن مجاهد قال : إن إبليس - لعنه الله - رنّ أربع رنات : حين لعن وحين أهبط من الجنة وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم وحين أنزلت فاتحة الكتاب ، وأنزلت بالمدينة .
الثانية : اختلف العلماء في تفضيل بعض السور والآي على بعض ، وتفضيل بعض أسماء الله تعالى الحسنى على بعض ، فقال قوم : لا فضل لبعض على بعض ؛ لأن الكل كلام الله وكذلك أسماؤه لا مفاضلة بينها . ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر بن الطيب وأبو حاتم محمد بن حبان البستي وجماعة من الفقهاء . وروي معناه عن مالك . قال يحيى بن يحيى : تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها . وقال عن مالك في قول الله تعالى : " نأت بخير منها أو مثلها " [ البقرة : 106 ] قال : محكمة مكان منسوخة . وروى ابن كنانة مثل ذلك كله عن مالك .
واحتج هؤلاء بأن قالوا : إن الأفضل يشعر بنقص المفضول والذاتية في الكل واحدة وهي كلام الله وكلام الله تعالى لا نقص فيه . قال البستي : ومعنى هذه اللفظة ( ما في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن ) : أن الله تعالى لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن إذ الله بفضله فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه وهو فضل منه لهذه الأمة . قال ومعنى قوله : ( أعظم سورة ) أراد به في الأجر لا أن بعض القرآن أفضل من بعض .
وقال قوم بالتفضيل وأن ما تضمنه قوله تعالى " إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " [ البقرة : 163 ] وآية الكرسي وآخر سورة الحشر وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجودا مثلا في " تبت يدا أبي لهب " [ المسد : 1 ] وما كان مثلها . والتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها لا من حيث الصفة وهذا هو الحق . وممن قال بالتفضيل إسحاق بن راهويه{[18]} وغيره من العلماء والمتكلمين ، وهو اختيار القاضي أبي بكر بن العربي وابن الحصار لحديث أبي سعيد بن المعلى وحديث أبي بن كعب أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أبي أي آية معك في كتاب الله أعظم ؟ ) قال فقلت : " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " [ البقرة : 255 ] . قال : فضرب في صدري وقال : ( ليهنك العلم يا أبا المنذر ) أخرجه البخاري ومسلم .
قال ابن الحصار : عجبي ممن يذكر الاختلاف مع هذه النصوص .
وقال ابن العربي : قوله : ( ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها ) وسكت عن سائر الكتب كالصحف المنزلة والزبور وغيرها ؛ لأن هذه المذكورة أفضلها وإذا كان الشيء أفضل الأفضل صار أفضل الكل . كقولك : زيد أفضل العلماء فهو أفضل الناس .
وفي الفاتحة من الصفات ما ليس لغيرها حتى قيل : إن جميع القرآن فيها . وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت جميع علوم القرآن . ومن شرفها أن الله سبحانه قسمها بينه وبين عبده . ولا تصح القربة إلا بها ولا يلحق عمل بثوابها ، وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم كما صارت " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن ؛ إذ القرآن توحيد وأحكام ووعظ و " قل هو الله أحد " فيها التوحيد كله .
وبهذا المعنى وقع البيان في قول عليه السلام لأبي . ( أي آية في القرآن أعظم ) قال : " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " [ البقرة : 255 ] . وإنما كانت أعظم آية لأنها توحيد كلها كما صار قوله : ( أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) أفضلَ الذكر ؛ لأنها كلمات حوت جميع العلوم في التوحيد ، والفاتحة تضمنت التوحيد والعبادة والوعظ والتذكير ، ولا يستبعد ذلك في قدرة الله تعالى .
الثالثة : روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فاتحة الكتاب وآية الكرسي و " شَهِدَ الله أنه لا إله إلا هو " و " قل اللهم مالك الملك " هذه الآيات معلقات بالعرش ليس بينهن وبين الله حجاب ) . أسنده أبو عمرو الداني في كتاب البيان له .
الرابعة : في أسمائها - وهي اثنا عشر اسما : ( الأول ) : الصلاة{[19]} ، قال الله تعالى{[20]} : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) الحديث . وقد تقدم .
( الثاني ) : [ سورة ] الحمد ؛ لأن فيها ذكر الحمد كما يقال : سورة الأعراف والأنفال والتوبة ونحوها .
( الثالث ) : فاتحة الكتاب ، من غير خلاف بين العلماء ، وسميت بذلك لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطًّا وتفتتح بها الصلوات .
( الرابع ) : أم الكتاب ، وفي هذا الاسم خلاف ، جوزه الجمهور ، وكرهه أنس والحسن وابن سيرين . قال الحسن : أم الكتاب الحلال والحرام ، قال الله تعالى : " آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " [ آل عمران : 7 ] . وقال أنس وابن سيرين : أم الكتاب اسم اللوح المحفوظ . قال الله تعالى : " وإنه في أم الكتاب " . [ الزخرف : 4 ] .
( الخامس ) : أم القرآن ، واختلف فيه أيضا ، فجوزه الجمهور ، وكرهه أنس وابن سيرين . والأحاديث الثابتة ترد هذين القولين . روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني ) قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي البخاري قال : وسميت أم الكتاب ؛ لأنه يبتدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة . وقال يحيى بن يعمر : أم القرى : مكة ، وأم خراسان : مرو ، وأم القرآن : سورة الحمد . وقيل : سميت أم القرآن لأنها أوله ومتضمنة لجميع علومه ، وبه سميت مكة أم القرى لأنها أول الأرض ومنها دحيت ، ومنه سميت الأم أما لأنها أصل النسل ، والأرض أما في قول أمية بن أبي الصلت :
فالأرض مَعْقلُنا وكانت أمنا *** فيها مقابرنا وفيها نولد
ويقال لراية الحرب : أم ، لتقدمها واتباع الجيش لها . وأصل أم أمهة ، ولذلك تجمع على أمهات قال الله تعالى : " وأمهاتكم " . ويقال أمات بغير هاء . قال :
*** فَرَجْتَ الظلام بأمّاتكا***
وقيل : إن أمهات في الناس ، وأمّات في البهائم ، حكاه ابن فارس في المجمل .
( السادس ) : المثاني ، سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة ، وقيل : سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخرا لها .
( السابع ) : القرآن العظيم ، سميت بذلك لتضمنها جميع علوم القرآن ؛ وذلك أنها تشتمل على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله ، وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها ، والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلا بإعانته تعالى ، وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم وكفاية أحوال الناكثين ، وعلى بيانه عاقبة الجاحدين .
( الثامن ) : الشفاء ، روى الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فاتحة الكتاب شفاء من كل سم{[21]} ) .
( التاسع ) : الرقية ، ثبت ذلك من حديث أبى سعيد الخدري وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي رقى سيد الحي : ( ما أدراك أنها رقية ) فقال : يا رسول الله شيء ألقى في روعي . . . الحديث . خرّجه الأئمة وسيأتي بتمامه .
( العاشر ) : الأساس ، شكا رجل إلى الشعبي وجع الخاصرة ، فقال : عليك بأساس القرآن فاتحة الكتاب ، سمعت ابن عباس يقول : لكل شيء أساس وأساس الدنيا مكة لأنها منها دحيت ، وأساس السماوات عَريباً{[22]} وهي السماء السابعة ، وأساس الأرض عجيباً وهي الأرض السابعة السفلى ، وأساس الجنان جنة عدن وهي سُرّة الجنان عليها أسست الجنة ، وأساس النار جهنم وهي الدركة السابعة السفلى عليها أسست الدركات ، وأساس الخلق آدم وأساس الأنبياء نوح وأساس بني إسرائيل يعقوب وأساس الكتب القرآن وأساس القرآن الفاتحة وأساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى{[23]} .
( الحادي عشر ) : الوافية ، قاله سفيان بن عيينة ؛ لأنها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال ، ولو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة ونصفها الآخر في ركعة لأجزأ ولو نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز .
( الثاني عشر ) : الكافية ، قال يحيى بن أبي كثير : لأنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها . يدل عليه ما روى محمد بن خلاد الإسكندراني قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أم القرآن عوض من غيرها وليس غيرها منها عوضا ) .
الخامسة : قال المهلب : إن موضع الرقية منها إنما هو " إياك نعبد وإياك نستعين " [ الفاتحة : الآية 5 ] . وقيل : السورة كلها رقية لقوله عليه السلام للرجل لما أخبره : ( وما أدراك أنها رقية ) ولم يقل : أن فيها رقية ، فدل هذا على أن السورة بأجمعها رقية ؛ لأنها فاتحة الكتاب ومبدؤه ومتضمنة لجميع علومه كما تقدم والله أعلم .
السادسة : ليس في تسميتها بالمثاني وأم الكتاب ما يمنع من تسمية غيرها بذلك ، قال الله عز وجل : " كتابا متشابها مثاني " [ الزمر : 23 ] فأطلق على كتابه : مثاني لأن الأخبار تثنى فيه . وقد سميت السبع الطول أيضا مثاني لأن الفرائض والقصص تثنى فيها . قال ابن عباس : أوتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني قال : السبع الطول . ذكره النسائي وهي من " البقرة " إلى " الأعراف " ست واختلفوا في السابعة فقيل : يونس وقيل : الأنفال والتوبة وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير . وقال أعشى همدان :
فَلِجُوا المسجدَ وادعوا ربكم *** وادرسوا هذي المثاني والطُّوَل
وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " الحجر{[24]} " إن شاء الله تعالى .
السابعة : المثاني جمع مثنى وهي التي جاءت بعد الأولى والطول جمع أطول . وقد سميت الأنفال من المثاني لأنها تتلو الطول في القدر . وقيل : هي التي تزيد آياتها على المفصل وتنقص عن المئين . والمئون : هي السور التي تزيد كل واحدة منها على مائة آية .
الباب الثاني - في نزولها وأحكامها : وفيه عشرون مسألة :
الأول : أجمعت الأمة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات إلا ما روي عن حسين الجعفي : أنها ست وهذا شاذ . وإلا ما روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل " إياك نعبد " آية وهي على عدة ثماني آيات وهذا شاذ . وقوله تعالى : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني " [ الحجر : 87 ] قوله : ( قسمت الصلاة ) الحديث يرد هذين القولين .
وأجمعت الأمة أيضا على أنها من القرآن . فإن قيل : لو كانت قرآنا لأثبتها عبد الله بن مسعود في مصحفه فلما لم يثبتها دل على أنها ليست من القرآن كالمعوذتين عنده .
فالجواب ما ذكره أبو بكر الأنباري قال : حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا سليمان بن الأشعث حدثنا ابن أبي قدامة حدثنا جرير عن الأعمش قال : أظنه عن إبراهيم قال : قيل لعبد الله بن مسعود : لِمَ لَمْ تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك ؟ قال : لو كتبتها لكتبتها مع كل سورة . قال أبو بكر : يعني أن كل ركعة سبيلها أن تفتتح بأم القرآن قبل السورة المتلوة بعدها فقال : اختصرت بإسقاطها ووثقت بحفظ المسلمين لها ولم أثبتها في موضع فيلزمني أن أكتبها مع كل سورة ، إذ كانت تتقدمها في الصلاة .
الثانية : اختلفوا أهي مكية أم مدنية ؟ فقال ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياحي - واسمه رُفيع - وغيرهم : هي مكية . وقال أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري وغيرهم : هي مدنية . ويقال : نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة . حكاه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في تفسيره . والأول أصح لقوله تعالى : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم " [ الحجر : 87 ] والحجر مكية بإجماع . ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة . وما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير " الحمد لله رب العالمين " يدل على هذا قوله عليه السلام : ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) . وهذا خبر عن الحكم لا عن الابتداء ، والله أعلم .
وقد ذكر القاضي ابن الطيب اختلاف الناس في أول ما نزل من القرآن فقيل : المدثر وقيل : اقرأ وقيل : الفاتحة . وذكر البيهقي في دلائل النبوة عن أبي ميسرة عمرو بن شَرَحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : ( إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء ، وقد والله خشيت أن يكون هذا أمراً ) قالت : معاذ الله ما كان الله ليفعل بك فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث . فلما دخل أبو بكر - وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم - ذكرت خديجة حديثه له قالت : يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل . فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده فقال : انطلق بنا إلى ورقة فقال : ( ومن أخبرك ) . قال : خديجة فانطلقا إليه فقصا عليه فقال : ( إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض ) فقال : لا تفعل ، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني . فلما خلا ناداه : يا محمد ! قل " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين - حتى بلغ - ولا الضالين " ، قل : لا إله إلا الله . فأتى ورقة فذكر ذلك له ، فقال له ورقة : أبشر ثم أبشر ، فأنا أشهد أنك الذي بشر به عيسى ابن مريم ، وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ، وإن يدركني ذلك لأجاهدن معك . فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد رأيت القَسّ في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني ) يعني ورقة . قال البيهقي رضي الله عنه : هذا منقطع . يعني هذا الحديث ، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزل عليه " اقرأ باسم ربك " [ العلق : 1 ] و " يا أيها المدثر " [ المدثر : 1 ] .
الثالثة : قال ابن عطية : ظن بعض العلماء أن جبريل عليه السلام لم ينزل بسورة الحمد لما رواه مسلم عن ابن عباس قال : بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا{[25]} من فوقه فرفع رأسه فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته . قال ابن عطية : وليس كما ظن فإن هذا الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام تقدم الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم مُعْلِما به وبما ينزل معه ، وعلى هذا يكون جبريل شارك في نزولها والله أعلم .
قلت : الظاهر من الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك . وقد بينا أن نزولها كان بمكة نزل بها جبريل عليه السلام لقوله تعالى : " نزل به الروح الأمين " [ الشعراء : 193 ] وهذا يقتضي جميع القرآن فيكون جبريل عليه السلام نزل بتلاوتها بمكة ونزل الملك بثوابها بالمدينة . والله أعلم . وقد قيل : إنها مكية مدنية نزل بها جبريل مرتين حكاه الثعلبي . وما ذكرناه أولى . فإنه جمع بين القرآن والسنة ولله الحمد والمنة .
الرابعة : قد تقدم أن البسملة ليست بآية منها على القول الصحيح ، وإذا ثبت ذلك فحكم المصلي إذا كبر أن يصله بالفاتحة ولا يسكت ، ولا يذكر توجيها ولا تسبيحا ، لحديث عائشة وأنس المتقدمين وغيرهما .
وقد جاءت أحاديث بالتوجيه والتسبيح والسكوت ، قال بها جماعة من العلماء فروي عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان إذا افتتحا الصلاة : سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك . وبه قال سفيان وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي . وكان الشافعي يقول بالذي روي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال : ( وجهت وجهي ) الحديث ، ذكره مسلم ، وسيأتي بتمامه في آخر سورة الأنعام ، وهناك يأتي القول في هذه المسألة مستوفى إن شاء الله{[26]} .
قال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ ، يقول : ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ) واستعمل ذلك أبو هريرة . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : للإمام سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة . وكان الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل يميلون إلى حديث النبي في هذا الباب .
الخامسة : واختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة فقال مالك وأصحابه : هي متعينة للإمام والمنفرد في كل ركعة . قال ابن خويز مَنداد البصري المالكي : لم يختلف قول مالك أنه من نسيها في صلاة ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل ولا تجزيه . واختلف قوله فيمن تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية فقال مرة : يعيد الصلاة وقال مرة أخرى : يسجد سجدتي السهو ، وهي رواية ابن عبدالحكم وغيره عن مالك . قال ابن خويز منداد وقد قيل : إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام .
قال ابن عبدالبر : الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة ويأتي بركعة بدلا منها كمن أسقط سجدة سهوا . وهو اختيار ابن القاسم .
وقال الحسن البصري وأكثر أهل البصرة والمغيرة بن عبدالرحمن المخزومي المدني : إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزأه ولم تكن عليه إعادة لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن وهي تامة لقوله عليه السلام : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ) وهذا قد قرأ بها .
قلت : ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كل ركعة ، وهو الصحيح على ما يأتي . ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في أكثر عدد الركعات ، وهذا هو سبب الخلاف والله أعلم .
وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي : إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك . وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن : أقله ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الدين . وعن محمد بن الحسن أيضا قال : أسوغ الاجتهاد في مقدار آية ومقدار كلمة مفهومة نحو : " الحمد لله " ولا أسوغه في حرف لا يكون كلاما .
وقال الطبري : يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آيها وحروفها . قال ابن عبدالبر : وهذا لا معنى له ؛ لأن التعيين لها والنص عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها ، ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه فتركها وهو قادر عليها ؛ وإنما عليه أن يجيء بها ويعود إليها كسائر المفروضات المتعينات في العبادات .
السادسة : وأما المأموم فإن أدرك الإمام راكعا فالإمام يحمل عنه القراءة لإجماعهم ، على أنه إذا أدركه راكعا أنه يكبر ويركع ولا يقرأ شيئا وإن أدركه قائما فإنه يقرأ ، وهي المسألة :
السابعة : ولا ينبغي لأحد أن يدع القراءة خلف إمامه في صلاة السر ، فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه عند مالك وأصحابه . وأما إذا جهر الإمام وهي المسألة :
الثامنة : فلا قراءة بفاتحة الكتاب ولا غيرها في المشهور من مذهب مالك لقول الله تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " [ الأعراف : 204 ] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما لي أنازع القرآن ) وقوله في الإمام : ( إذا قرأ فأنصتوا ) وقوله : ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ) .
وقال الشافعي فيما حكى عنه البويطي وأحمد بن حنبل : لا تجزئ أحدا صلاة حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة ، إماما كان أو مأموما ، جهر إمامه أو أسر . وكان الشافعي بالعراق يقول في المأموم : يقرأ إذا أسر ولا يقرأ إذا جهر كمشهور مذهب مالك . وقال بمصر : فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة قولان : أحدهما : أن يقرأ ، والآخر يجزئه ألا يقرأ ويكتفي بقراءة الإمام . حكاه ابن المنذر . وقال ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن حبيب والكوفيون : لا يقرأ المأموم شيئا جهر إمامه أو أسر لقوله عليه السلام : ( فقراءة الإمام له قراءة ) وهذا عام ، ولقول جابر : من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام .
التاسعة : الصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة لكل أحد على العموم لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ) وقوله : ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ) ثلاثا . وقال أبو هريرة : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه : ( لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد ) أخرجه أبو داود . كما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها ، وبه قال عبد الله بن عون وأيوب السختياني وأبو ثور وغيره من أصحاب الشافعي وداود بن علي ، وروي مثله عن الأوزاعي وبه قال مكحول .
وروي عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن عباس وأبي هريرة وأبي بن كعب وأبي أيوب الأنصاري وعبدالله بن عمرو بن العاص وعبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري وعثمان بن أبي العاص وخوّات بن جُبير أنهم قالوا : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب . وهو قول ابن عمر والمشهور من مذهب الأوزاعي ، فهؤلاء الصحابة بهم القدوة وفيهم الأسوة كلهم يوجبون الفاتحة في كل ركعة .
وقد أخرج الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه ما يرفع الخلاف ويزيل كل احتمال فقال : حدثنا أبو ريب حدثنا محمد بن فضيل وحدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر جميعا عن أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة في فريضة أو غيرها ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال للذي علّمه الصلاة : ( وافعل ذلك في صلاتك كلها ) وسيأتي .
ومن الحجة في ذلك أيضا ما رواه أبو داود عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري قال : أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة فصلى أبو نعيم بالناس وأقبل عبادة بن الصامت وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم وأبو نعيم يجهر بالقراءة فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن ، فلما انصرف قلت لعبادة : سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر ؟ قال : أجل ! صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فالتبست عليه فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال : ( هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة ) فقال بعضنا : إنا نصنع ذلك قال : ( فلا . وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن ) . وهذا نص صريح في المأموم . وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث محمد بن إسحاق بمعناه وقال : حديث حسن . والعمل على هذا الحديث في القراءة خلف الإمام عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي والتابعين وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق يرون القراءة خلف الإمام . وأخرجه أيضا الدارقطني قال : هذا إسناد حسن ، ورجاله كلهم ثقات ، وذكر أن محمود بن الربيع كان يسكن إيلياء{[27]} ، وأن أبا نعيم أول من أذن في بيت المقدس . وقال أبو محمد عبدالحق : ونافع بن محمود لم يذكره البخاري في تاريخه ولا ابن أبي حاتم ولا أخرج له البخاري ومسلم شيئا . وقال فيه أبو عمر : مجهول . وذكر الدارقطني عن يزيد بن شريك قال : سألت عمر عن القراءة خلف الإمام فأمرني أن أقرأ قلت : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت أنا ، قلت : وإن جهرت ، قال : وإن جهرت . قال الدارقطني : هذا إسناد صحيح . وروي عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الإمام ضامن فما صنع فاصنعوا ) . قال أبو حاتم : هذا يصح لمن قال بالقراءة خلف الإمام وبهذا أفتى أبو هريرة الفارسي أن يقرأ بها في نفسه حين قال له : إني أحيانا أكون وراء الإمام ، ثم استدل بقوله تعالى{[28]} : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اقرؤوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين ) الحديث .
العاشرة : أما ما استدل به الأولون بقوله عليه السلام : ( وإذا قرأ فأنصتوا ) أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري وقال : وفي حديث جرير عن سليمان عن قتادة من الزيادة ( وإذا قرأ فأنصتوا ) قال الدارقطني : هذه اللفظة لم يتابع سليمان التيمي فيها عن قتادة ، وخالفه الحفاظ من أصحاب قتادة فلم يذكروها ، منهم شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة وهمام وأبو عوانة ومعمر وعدي بن أبي عمارة . قال الدارقطني : فإجماعهم يدل على وَهَمِه . وقد روي عن عبد الله بن عامر عن قتادة متابعة التيمي ولكن ليس هو بالقوي تركه القطّان . وأخرج أيضا هذه الزيادة أبو داود من حديث أبي هريرة وقال : هذه الزيادة ( إذا قرأ فأنصتوا ) ليست بمحفوظة . وذكر أبو محمد عبد الحق : أن مسلما صحح حديث أبي هريرة وقال : هو عندي صحيح .
قلت : ومما يدل على صحتها عنده إدخالها في كتابه من حديث أبي موسى وإن كانت مما لم يجمعوا عليها . وقد صححها الإمام أحمد بن حنبل وابن المنذر . وأما قوله تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " [ الأعراف : 204 ] فإنه نزل بمكة وتحريم الكلام في الصلاة نزل بالمدينة - كما قال زيد بن أرقم فلا حجة فيها فإن المقصود كان المشركين على ما قال سعيد بن المسيب . وقد روى الدارقطني عن أبي هريرة أنها نزلت في رفع الصوت خلف رسول الله . وقال : عبدالله بن عامر ضعيف . وأما قوله عليه السلام : ( ما لي أنازع القرآن ) فأخرجه مالك عن ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي ، واسمه فيما قال مالك : عمرو وغيره يقول عامر وقيل يزيد وقيل عمارة وقيل عباد ، يكنى أبا الوليد توفي سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وسبعين سنة ، لم يرو عنه الزهري إلا هذا الحديث الواحد وهو ثقة وروى عنه محمد بن عمرو وغيره . والمعنى في حديثه : لا تجهروا إذا جهرت فإن ذلك تنازع وتجاذب وتخالج اقرؤوا في أنفسكم . يبينه حديث عبادة وفتيا الفاروق وأبي هريرة الراوي للحديثين . فلو فهم المنع جملة من قوله : ( ما لي أنازع القرآن ) لما أفتى بخلافه ، وقول الزهري في حديث ابن أكيمة : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله يريد بالحمد على ما بينا وبالله توفيقنا .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ) فحديث ضعيف أسنده الحسن بن عمارة وهو متروك ، وأبو حنيفة{[29]} وهو ضعيف ، كلاهما عن موسى بن أبي عائشة عن عبدالله بن شداد عن جابر . أخرجه الدارقطني وقال : رواه سفيان الثوري وشعبة وإسرائيل بن يونس وشريك وأبو خالد الدالاني وأبو الأحوص وسفيان بن عيينة وجرير بن عبدالحميد وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة عن عبدالله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب . وأما قول جابر : من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام ، فرواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر قوله . قال ابن عبدالبر : ورواه يحيى بن سلام صاحب التفسير عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصوابه موقوف على جابر كما في الموطأ . وفيه من الفقه إبطال الركعة التي لا يقرأ فيها بأم القرآن ، وهو يشهد لصحة ما ذهب إليه ابن القاسم ورواه عن مالك في إلغاء الركعة والبناء على غيرها ولا يعتد المصلي بركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب . وفيه أيضا أن الإمام قراءته لمن خلفه قراءة ، وهذا مذهب جابر وقد خالفه فيه غيره .
الحادية عشرة : قال ابن العربي : لما قال : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) واختلف الناس في هذا الأصل هل يحمل هذا النفي على التمام والكمال أو على الإجزاء ؟ اختلفت الفتوى بحسب اختلاف حال الناظر ، ولما كان الأشهر في هذا الأصل والأقوى أن النفي على العموم كان الأقوى من رواية مالك أن من لم يقرأ الفاتحة في صلاته بطلت . ثم نظرنا في تكرارها في كل ركعة ، فمن تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( افعل ذلك في صلاتك كلها ) لزمه أن يعيد القراءة كما يعيد الركوع والسجود . والله أعلم .
الثانية عشرة : ما ذكرناه في هذا الباب من الأحاديث والمعاني في تعيين الفاتحة يرد على الكوفيين قولهم في أن الفاتحة لا تتعين ، وأنها وغيرها من آي القرآن سواء . وقد عينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله كما ذكرناه ، وهو المبين عن الله تعالى مراده في قوله : " وأقيموا الصلاة " . وقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال : أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر . فدل هذا الحديث على أن قوله عليه السلام للأعرابي : ( اقرأ ما تيسر معك من القرآن ) ما زاد على الفاتحة ، وهو تفسير قوله تعالى : " فاقرؤوا ما تيسر منه " [ المزمل : 20 ] وقد روى مسلم عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن - زاد في رواية - فصاعدا " . وقوله عليه السلام : ( هي خداج - ثلاثا - غير تمام ) أي غير مجزئة بالأدلة المذكورة . والخداج : النقص والفساد . قال الأخفش : خدجت الناقة إذا ألقت ولدها لغير تمام ، وأخدجت إذا قذفت به قبل وقت الولادة وإن كان تام الخلق .
والنظر يوجب في النقصان ألا تجوز معه الصلاة ؛ لأنها صلاة لم تتم ، ومن خرج من صلاته وهي لم تتم فعليه إعادتها كما أمر ، على حسب حكمها . ومن ادعى أنها تجوز مع إقراره بنقصها فعليه الدليل ، ولا سبيل إليه من وجه يلزم والله أعلم .
الثانية عشرة : روي عن مالك أن القراءة لا تجب في شيء من الصلاة وكذلك كان الشافعي يقول بالعراق فيمن نسيها ، ثم رجع عن هذا بمصر فقال : لا تجزئ صلاة من يحسن فاتحة الكتاب إلا بها ولا يجزئه أن ينقص حرفا منها فإن لم يقرأها أو نقص منها حرفا أعاد صلاته وإن قرأ بغيرها . وهذا هو الصحيح في المسألة ، وأما ما روي عن عمر رحمه الله أنه صلى المغرب فلم يقرأ فيها فذكر ذلك له فقال : كيف كان الركوع والسجود قالوا : حسن قال : لا بأس إذاً ، فحديث منكر اللفظ منقطع الإسناد ، لأنه يرويه إبراهيم بن الحارث التيمي عن عمر ، ومرة يرويه إبراهيم عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عمر ، وكلاهما منقطع لا حجة فيه . وقد ذكره مالك في الموطأ وهو عند بعض الرواة وليس عند يحيى وطائفة معه ، لأنه رماه مالك من كتابه بأَخَرَةٍ{[30]} ، وقال ليس عليه العمل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ) وقد روي عن عمر أنه أعاد تلك الصلاة وهو الصحيح عنه . روى يحيى بن يحيى النيسابوري قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث أن عمر نسي القراءة في المغرب فأعاد بهم الصلاة . قال ابن عبدالبر : وهذا حديث متصل شهده همام من عمر ، روي ذلك من وجوه . وروى أشهب عن مالك قال : سئل مالك عن الذي نسي القراءة ، أيعجبك ما قال عمر ؟ فقال : أنا أنكر أن يكون عمر فعله - وأنكر الحديث - وقال : يرى الناس عمر يصنع هذا في المغرب ولا يسبحون به ! أرى أن يعيد الصلاة من فعل هذا .
الرابعة عشرة : أجمع العلماء على أن لا صلاة إلا بقراءة ، على ما تقدم من أصولهم في ذلك . وأجمعوا على أن لا توقيت في ذلك بعد فاتحة الكتاب إلا أنهم يستحبون ألا يقرأ مع فاتحة الكتاب إلا سورة واحدة لأنه الأكثر مما جاء عن النبي .
قال مالك : وسنة القراءة أن يقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة ، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب . وقال الأوزاعي : يقرأ بأم القرآن فإن لم يقرأ بأم القرآن وقرأ بغيرها أجزأه ، وقال : وإن نسي أن يقرأ في ثلاث ركعات أعاد . وقال الثوري : يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة ويسبح في الأخريين إن شاء ، وإن شاء قرأ وإن لم يقرأ ولم يسبح جازت صلاته ، وهو قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين . قال ابن المنذر : وقد روينا عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال : اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين وبه قال النخعي . قال سفيان : فإن لم يقرأ في ثلاث ركعات أعاد الصلاة لأنه لا تجزئه قراءة ركعة . قال : وكذلك إن نسي أن يقرأ ركعة في صلاة الفجر . وقال أبو ثور : لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة ، كقول الشافعي المصري وعليه جماعة أصحاب الشافعي ، وكذلك قال ابن خويز منداد المالكي قال : قراءة الفاتحة واجبة عندنا في كل ركعة ، وهذا هو الصحيح في المسألة . روى مسلم عن أبي قتادة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ، ويسمعنا الآية أحيانا ، وكان يطول في الركعة الأولى من الظهر ويقصر الثانية وكذلك في الصبح . وفي رواية : ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب وهذا نص صريح وحديث صحيح لما ذهب إليه مالك . ونص في تعيّن الفاتحة في كل ركعة خلافا لمن أبى ذلك ، والحجة في السنة لا فيما خالفها .
الخامسة عشرة : ذهب الجمهور إلى أن ما زاد على الفاتحة من القراءة ليس بواجب ، لما رواه مسلم عن أبي هريرة قال : في كل صلاة قراءة فما أسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم أسمعناكم ، وما أخفى منا أخفينا منكم ، فمن قرأ بأم القرآن فقد أجزأت عنه ومن زاد فهو أفضل . وفي البخاري : وإن زدت فهو خير . وقد أبى كثير من أهل العلم ترك السورة لضرورة أو لغير ضرورة ، منهم عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وخوات بن جبير ومجاهد وأبو وائل وابن عمر وابن عباس وغيرهم قالوا : لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشيء معها من القرآن ، فمنهم من حد آيتين ، ومنهم من حد آية ، ومنهم من لم يحد ، وقال : شيء من القرآن معها وكل هذا موجب لتعلم ما تيسر من القرآن على كل حال مع فاتحة الكتاب ، لحديث عبادة وأبي سعيد الخدري وغيرهما . وفي المدونة : وكيع عن الأعمش عن خيثمة قال : حدثني من سمع عمر بن الخطاب يقول : لا تجزئ صلاة من لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشيء معها . واختلف المذهب في قراءة السورة على ثلاثة أقوال : سنة ، فضيلة ، واجبة .
الأولى : قال العلماء : " بسم الله الرحمن الرحيم " قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة ، يقسم لعباده إن هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حق ، وإني أفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري . و " بسم الله الرحمن الرحيم " مما أنزله الله تعالى في كتابنا وعلى هذه الأمة خصوصا بعد سليمان عليه السلام . وقال بعض العلماء : " إن " بسم الله الرحمن الرحيم " تضمنت جميع الشرع ، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات ، وهذا صحيح .
الثانية : قال بن أبي سكينة : بلغني أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نظر إلي رجل يكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال له : جودها فإن رجلا جودها فغفر له . قال سعيد : وبلغني أن رجلا نظر إلى قرطاس فيه " بسم الله الرحمن الرحيم " فقبله ووضعه على عينيه فغفر له . ومن هذا المعنى قصة بشر الحافي ، فإنه لما رفع الرقعة التي فيها اسم الله وطيبها طيب اسمه{[31]} ، ذكره القشيري . وروى النسائي عن أبي المليح عن ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا عثرت بك الدابة فلا تقل تعس الشيطان فإنه يتعاظم حتى يصير مثل البيت ويقول بقوته صنعته ولكن قل بسم الله الرحمن الرحيم ، فإنه يتصاغر حتى يصير مثل الذباب ) . وقال علي بن الحسين في تفسير قوله تعالى : " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا{[32]} " [ الإسراء :46 ] قال معناه : إذا قلت " بسم الله الرحمن الرحيم " . وروى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود قال : من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد . فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم : " عليها تسعة عشر " [ المدثر : 30 ] وهم يقولون في كل أفعالهم : " بسم الله الرحمن الرحيم " فمن هنالك هي قوتهم ، وببسم الله استضلعوا . قال ابن عطية : ونظير هذا قولهم في ليلة القدر : إنها سبع وعشرين ، مراعاة للفظة " هي " من كلمات سورة " إنا أنزلناه " [ القدر : 1 ] . ونظيره أيضا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل : ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، فإنها بضعة وثلاثون حرفا ، فلذلك قال النبي الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول ) . قال ابن عطية : وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم .
الثالثة : روى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب " باسمك اللهم " حتى أمر أن يكتب " بسم الله " فكتبها ، فلما نزلت : " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " [ الإسراء :110 ] كتب " بسم الله الرحمن الرحيم " فلما نزلت : " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " [ النمل :30 ] كتبها . وفي مصنف أبي داود قال الشعبي وأبو مالك وقتادة وثابت بن عمارة : إن النبي الله صلى الله عليه وسلم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت سورة " النمل " .
الرابعة : روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال : البسملة تيجان السور .
قلت : وهذا يدل على أنها ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها . وقد اختلف العلماء في هذا المعنى على ثلاثة أقوال :
( الأول ) ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها ، وهو قول مالك .
( الثاني ) أنها آية من كل سورة ، وهو قول عبدالله بن المبارك .
( الثالث ) قال الشافعي : هي آية في الفاتحة ، وتردد قوله في سائر السور ، فمرة قال : هي آية من كل سورة ، ومرة قال : ليست بآية إلا في الفاتحة وحدها . ولا خلاف بينهم في أنها آية من القرآن في سورة النمل .
واحتج الشافعي بما رواه الدارقطني من حديث أبي بكر الحنفي عن عبدالحميد{[33]} بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم أحد آياتها ) . رفع هذا الحديث عبدالحميد بن جعفر ، وعبدالحميد هذا وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد ويحيى بن معين ، وأبو حاتم يقول فيه : محله الصدق ، وكان سفيان الثوري يضعفه ويحمل عليه . ونوح بن أبي بلال ثقة مشهور .
وحجة ابن المبارك وأحد قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أبي أنس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما ، فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : ( نزلت علي آنفا سورة ) فقرأ : " بسم الله الرحمن الرحيم . إنا أعطيناك الكوثر . فصل لربك وانحر . إن شانئك هو الأبتر " [ الكوثر : الآية ] . وذكر الحديث ، وسيأتي في سورة الكوثر إن شاء الله تعالى{[34]} .
الخامسة : الصحيح من هذه الأقوال قول مالك ؛ لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه . قال ابن العربي : " ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها ، والقرآن لا يختلف فيه " . والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلا في النمل وحدها . روى مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد " الحمد لله رب العالمين " قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال العبد " الرحمن الرحيم " قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال العبد " مالك يوم الدين " قال مجدني عبدي - وقال مرة فوض إلي عبدي - فإذا قال " إياك نعبد وإياك نستعين " قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) . فقوله سبحانه : ( قسمت الصلاة ) يريد الفاتحة ، وسماها صلاة ؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بها ، فجعل الثلاث الآيات الأول لنفسه ، واختص بها تبارك اسمه ، ولم يختلف المسلمون فيها . ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده ؛ لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة منه ، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى ، ثم ثلاث آيات تتمة سبع آيات . ومما يدل على أنها ثلاث قوله : ( هؤلاء لعبدي ) أخرجه مالك ، ولم يقل : هاتان ، فهذا يدل على أن " أنعمت عليهم " آية . قال ابن بكير : قال مالك : " أنعمت عليهم " آية ، ثم الآية السابعة إلى آخرها . فثبت بهذه القسمة التي قسمها الله تعالى وبقوله عليه السلام لأبي : ( كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ) قال : فقرأت " الحمد لله رب العالمين " حتى أتيت على آخرها - أن البسملة ليست بآية منها ، وكذا عد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة ، وأكثر القراء عدوا " أنعمت عليهم " آية ، وكذا روى قتادة عن أبي نضرة عن أبي هريرة قال : الآية السادسة " أنعمت عليهم " . وأما أهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها " بسم الله الرحمن الرحيم " ولم يعدوا " أنعمت عليهم " .
فإن قيل : فإنها ثبتت في المصحف وهي مكتوبة بخطه ونقلت نقله ، كما نقلت في النمل ، وذلك متواتر عنهم . قلنا : ما ذكرتموه صحيح ، ولكن لكونها قرآناً أو لكونها فاصلة بين السور - كما روي عن الصحابة : كنا لا نعرف انقضاء السورة حتى تنزل " بسم الله الرحمن الرحيم " أخرجه أبو داود - أو تبركا بها ، كما قد اتفقت الأمة على كتبها في أوائل الكتب والرسائل ؟ كل ذلك محتمل . وقد قال الجريري{[35]} : سئل الحسن عن " بسم الله الرحمن الرحيم " قال : في صدور الرسائل . وقال الحسن أيضا : لم تنزل " بسم الله الرحمن الرحيم " في شيء من القرآن إلا في " طس " " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " [ النمل : 30 ] . والفيصل أن القرآن لا يثبت بالنظر والاستدلال ، وإنما يثبت بالنقل المتواتر القطعي الاضطراري . ثم قد اضطرب قول الشافعي فيها في أول كل سورة فدل على أنها ليست بآية من كل سورة ، والحمد لله .
فإن قيل : فقد روى جماعة قرآنيتها ، وقد تولى الدارقطني جمع ذلك في جزء صححه . قلنا : لسنا ننكر الرواية بذلك وقد أشرنا إليها ، ولنا أخبار ثابتة في مقابلتها ، رواها الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات . روت عائشة في صحيح مسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة بالحمد لله رب العالمين ، الحديث . وسيأتي بكماله . وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ، لا يذكرون " بسم الله الرحمن الرحيم " لا في أول قراءة ولا في آخرها .
ثم إن مذهبنا يترجح في ذلك بوجه عظيم ، وهو المعقول ؛ وذلك أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور ، ومرت عليه الأزمنة والدهور ، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك ، ولم يقرأ أحد فيه قط " بسم الله الرحمن الرحيم " اتباعا للسنة ، وهذا يرد أحاديثكم . بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك . قال مالك : ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة ومن يعرض القرآن عرضاً .
وجملة مذهب مالك وأصحابه : أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها ، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ولا في غيرها سراً ولا جهراً ، ويجوز أن يقرأها في النوافل . هذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه . وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل ، ولا تقرأ أول أم القرآن . وروى عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال . ومن أهل المدينة من يقول : إنه لابد فيها من " بسم الله الرحمن الرحيم " منهم ابن عمر ، وابن شهاب ، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد . وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية ، كما ظنه بعض الجهال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين ، وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور ، والحمد لله .
وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة ، منهم : أبو حنيفة والثوري ؛ وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار وابن الزبير ، وهو قول الحكم وحماد ، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد ؛ وروي عن الأوزاعي مثل ذلك ، حكاه أبو عمر بن عبدالبر في ( الاستذكار ) . واحتجوا من الأثر في ذلك بما رواه منصور بن زاذان عن أنس بن مالك قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه فلم نسمع قراءة " بسم الله الرحمن الرحيم " . وما رواه عمار بن رزيق{[36]} عن الأعمش عن شعبة عن ثابت عن أنس قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر ، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم .
قلت : هذا قول حسن ، وعليه تتفق الآثار عن أنس ولا تتضاد ويخرج به من الخلاف في قراءة البسملة . وقد روي عن سعيد بن جبير قال : هذا محمد يذكر رحمان اليمامة - يعنون مسيلمة - فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم ، ونزل : " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " [ الإسراء :110 ] . قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله : فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم وإن زالت العلة ، كما بقي الرمل في الطواف وإن زالت العلة ، وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة .
السادسة : اتفقت الأمة على جواز كتبها في أول كل كتاب من كتب العلم والرسائل ، فإن كان الكتاب ديوان شعر فروى مجاهد عن الشعبي قال : أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر " بسم الله الرحمن الرحيم " . وقال الزهري : مضت السنة ألا يكتبوا في الشعر " بسم الله الرحمن الرحيم " . وذهب إلى رسم التسمية في أول كتب الشعر سعيد بن جبير ، وتابعه على ذلك أكثر المتأخرين . قال أبو بكر الخطيب : وهو الذي نختاره ونستحبه .
السابعة : قال الماوردي ويقال لمن قال بسم الله : مبسمل ، وهي لغة مولدة ، وقد جاءت في الشعر ، قال عمر بن أبي ربيعة :
لقد بسملتْ ليلى غداةَ لقيتها *** فيا حبَّذَا ذاك الحبيبُ المبسمِلُ
قلت : المشهور عن أهل اللغة بسمل . قال يعقوب بن السكيت والمطرز والثعالبي وغيرهم من أهل اللغة : بسمل الرجل . إذا قال : بسم الله . يقال : قد أكثرت من البسملة ، أي من قول بسم الله . ومثله حوقل الرجل ، إذا قال : لا حول ولا قوة إلا بالله . وهلل ، إذا قال : لا إله إلا الله . وسبحل ، إذا قال : سبحان الله . وحمدل ، إذا قال : الحمد لله . وحيصل ، إذا قال : حي على الصلاة . وجعفل ، إذا قال : جعلت فداك . وطبقل ، إذا قال : أطال الله بقاءك . ودمعز ، إذا قال : أدام الله عزك . وحيفل ، إذا قال : حي على الفلاح . ولم يذكر المطرز : الحيصلة ، إذا قال : حي على الصلاة . وجعفل ، إذا قال : جعلت فداك . وطبقل ، إذا قال : أطال الله بقاءك . ودمعز ، إذا قال : أدام الله عزك .
الثامنة : ندب الشرع إلى ذكر البسملة في أول كل فعل ، كالأكل والشرب والنحر ، والجماع والطهارة وركوب البحر ، إلى غير ذلك من الأفعال ؛ قال الله تعالى : " فكلوا مما ذكر اسم الله عليه " . [ الأنعام :118 ] . " وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها " [ هود :41 ] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك{[37]} واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله ) . وقال : ( لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً ) . وقال لعمر بن أبي سلمة : ( يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ) . وقال : ( إن الشيطان ليستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه ) وقال : ( من لم يذبح فليذبح باسم الله ) . وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ) . هذا كله ثابت في الصحيح . وروى ابن ماجه والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله ) . وروى الدارقطني عن عائشة . قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مس طهوره سمى الله تعالى ، ثم يفرغ الماء على يديه .
التاسعة : قال علماؤنا : وفيها رد على القدرية وغيرهم ممن يقول : إن أفعالهم مقدورة لهم . وموضع الاحتجاج عليهم من ذلك أن الله سبحانه أمرنا عند الابتداء بكل فعل أن نفتتح بذلك ، كما ذكرنا .
فمعنى " بسم الله " أي بالله . ومعنى " بالله " أي بخلقه وتقديره يوصل إلى ما يوصل إليه . وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله . وقال بعضهم : معنى قوله " بسم الله " يعني بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته ، وهذا تعليم من الله تعالى عباده ، ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها ، حتى يكون الافتتاح ببركة الله عزو جل .
العاشرة : ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى إلى أن " اسم " صلة زائدة ، واستشهد بقول لبيد :
إلى الحولِ ثم اسم السلامُ عليكما *** ومن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتذر
فذكر " اسم " زيادة ، وإنما أراد : ثم السلام عليكما .
وقد استدل علماؤنا بقول لبيد هذا على أن الاسم هو المسمى . وسيأتي الكلام فيه في هذا الباب وغيره ، إن شاء الله تعالى .
الحادية عشرة : اختلف في معنى زيادة " اسم " ، فقال قطرب : زيدت لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه . وقال الأخفش : زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك ؛ لأن أصل الكلام : بالله .
الثانية عشرة : واختلفوا أيضا في معنى دخول الباء عليه ، هل دخلت على معنى الأمر ؟ والتقدير : ابدأ بسم الله . أو على معنى الخبر ؟ والتقدير : ابتدأت بسم الله ، قولان : الأول للفراء ، والثاني للزجاج . ف " بسم الله " في موضع رفع خبر الابتداء : وقيل : الخبر محذوف ، أي ابتدائي مستقر أو ثابت باسم الله ، فإذا أظهرته كان " بسم الله " في موضع نصب بثابت أو مستقر ، وكان بمنزلة قولك : زيد في الدار وفي التنزيل " فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي " [ النمل :40 ] ف " عنده " في وضع نصب ، روي هذا عن نحاة أهل البصرة . وقيل : التقدير ابتدائي ببسم الله موجود أو ثابت ، ف " بسم " في موضع نصب بالمصدر الذي هو ابتدائي .
الثالثة عشرة : " بسم الله " تكتب بغير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال ، بخلاف قوله : " اقرأ باسم ربك " [ العلق :1 ] فإنها لم تحذف لقلة الاستعمال . واختلفوا فيحذفها مع الرحمن والقاهر ، فقال الكسائي وسعيد الأخفش : تحذف الألف . وقال يحيى بن وثاب : لا تحذف إلا مع " بسم الله " فقط ؛ لأن الاستعمال إنما كثر فيه .
الرابعة عشرة : واختلف في تخصيص باء الجر بالكسر على ثلاثة معان ، فقيل : ليناسب لفظها عملها . وقيل : لما كانت الباء لا تدخل إلا على الأسماء خصت بالخفض الذي لا يكون إلا في الأسماء . الثالث : ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما ، نحو الكاف في قول الشاعر{[38]} :
ورُحْنَا بكَابْنِ الماء يُجْنَبُ وَسْطَنَا
أي بمثل ابن الماء أو ما كان مثله .
الخامسة عشرة : اسم ، وزنه إفع ، والذاهب منه الواو ؛ لأنه من سموت ، وجمعه أسماء ، وتصغيره سمي . واختلف في تقدير أصله ، فقيل : فعل ، وقيل : فعل . قال الجوهري : وأسماء يكون جمعا لهذا الوزن ، وهو مثل جذع وأجذاع ، وقفل وأقفال ، وهذا لا تدرك صيغته إلا بالسماع . وفيه أربع لغات : اسم الكسر ، واسم بالضم . قال أحمد ين يحيى : من ضم الألف أخذه من سموت أسمو ، ومن كسر أخذه من سميت أسمي . ويقال : سم وسم ، وينشد :
والله أسماك سُماً مباركا *** آثرك الله به إيثارَكا
وعامُنا أعجبنا مقدّمه *** يدعى أبا السَّمْحِ وَقِرْضَابٌ سُمُه
مبتركا{[39]} لكل عظم يلحمه
قرضب الرجل : إذا أكل شيئا يابسا ، فهو قرضاب . " سمه " بالضم والكسر جميعا .
وسكنت السين من " باسم " اعتلالا{[40]} غير قياس ، وألفه ألف وصل ، وربما جعلها الشاعر ألف قطع للضرورة ، كقول الأحوص :
وما أنا بالمَخْسُوسِ في جِذْمِ مالكٍ *** ولا من تسمَّى ثم يلتزم الاسما{[41]}
تقول العرب في النسب إلي الاسم : سموي ، وإن شئت اسمي ، تركته على حاله ، وجمعه أسماء وجمع الأسماء أسام . وحكى الفراء : أعيذك بأسماوات الله .
السابعة عشرة : اختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين ، فقال البصريون : هو مشتق من السمو وهو العلو والرفعة ، فقيل : اسم لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به . وقيل : لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره . وقيل : إنما سمي الاسم اسما ؛ لأنه علا بقوته على قسمي الكلام : الحرف والفعل ، والاسم أقوى منهما بالإجماع لأنه الأصل ، فلعلوه عليهما سمي اسما ، فهذه ثلاثة أقوال .
وقال الكوفيون : إنه مشتق من السمة وهي العلامة ؛ لأن الاسم علامة لمن وضع له ، فأصل اسم على هذا " وسم " . والأول أصح ؛ لأنه يقال في التصغير سمي وفي الجمع أسماء ، والجمع والتصغير سمي وفي الجمع أسماء ، والجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها ، فلا يقال : وسيم ولا أوسام . ويدل على صحته أيضا فائدة الخلاف وهي :
الثامنة عشرة : فإن من قال الاسم مشتق من العلو يقول : لم يزل الله سبحانه موصوفا قبل وجود الخلق وبعد وجودهم وعند فنائهم ، ولا تأثير لهم في أسمائه ولا صفاته ، وهذا قول أهل السنة . ومن قال الاسم مشتق من السمة يقول : كان الله في الأزل بلا اسم ولا صفة ، فلما خلق الخلق جعلوا له أسماء وصفات ، فإذا أفناهم بقي بلا اسم ولا صفة ، وهذا قول المعتزلة وهو خلاف ما أجمعت عليه الأمة ، وهو أعظم في الخطأ من قولهم : إن كلامه مخلوق ، تعالى الله عن ذلك ! وعلى هذا الخلاف وقع الكلام في الاسم والمسمىوهي : التاسعة عشرة : فذهب أهل الحق فيما نقل القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن الاسم هو المسمى ، وارتضاه ابن فورك ، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه . فإذا قال قائل : الله عالم ، فقوله دال على الذات الموصوفة بكونه عالما ، فالاسم كونه عالما وهو المسمى بعينه . وكذلك إذا قال : الله خالق ، فالخالق هو الرب ، وهو بعينه الاسم . فالاسم عندهم هو المسمى بعينه من غير تفصيل .
قال ابن الحصار : من ينفي الصفات من المبتدعة يزعم أن لا مدلول للتسميات إلا الذات ، ولذلك يقولون : الاسم غير المسمى ، ومن يثبت الصفات يثبت للتسميات مدلولا هي أوصاف الذات وهي غير العبارات وهي الأسماء عندهم . وسيأتي لهذه مزيد بيان في " البقرة " و " الأعراف " إن شاء الله تعالى .
الموفية عشرين : قوله : " الله " هذا الاسم أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها ، حتى قال بعض العلماء : إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره ؛ ولذلك لم يثن ولم يجمع ؛ وهو أحد تأويلي قوله تعالى : " وهل تعلم له سميا " [ مريم :65 ] أي تسمى باسمه الذي هو " الله " . فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية ، المنعوت بنعوت الربوبية ، المنفرد بالوجود الحقيقي ، لا إله إلا هو سبحانه . وقيل : معناه الذي يستحق أن يعبد . وقيل : معناه واجب الوجود الذي لم يزل ولا يزال ، والمعنى واحد .
الحادية والعشرون : واختلفوا في هذا الاسم هل هو مشتق أو موضوع للذات علم ؟ . فذهب إلى الأول كثير من أهل العلم . واختلفوا في اشتقاقه وأصله ، فروى سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه ، مثل فعال ، فأدخلت الألف واللام بدلا عن الهمزة . قال سيبويه : مثل الناس أصله أناس . وقيل : أصل الكلمة " لا " وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم ، وهذا اختيار سيبويه . وأنشد :
لاهِ ابنُ عمك لا أفضلتَ في حسب *** عني ولا أنت ديَّاني فتخزوني
كذا الرواية : فتخزوني ، بالخاء المعجمة ومعناه : تسوسني .
وقال الكسائي والفراء : معنى " بسم الله " بسم الإله ، فحذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية فصارتا لاما مشددة ، كما قال عز وجل : " لكنا هو الله ربي " [ الكهف :38 ] ومعناه : لكن أنا ، كذلك قرأها الحسن . ثم قيل : هو مشتق من " وله " إذا تحير ، والوله : ذهاب العقل . يقال : رجل واله وامرأة والهة وواله ، وماء موله{[42]} : أرسل في الصحارى . فالله سبحانه تتحير الألباب وتذهب في حقائق صفاته والفكر في معرفته . فعلى هذا أصل " إلاه " " ولاه " وأن الهمزة مبدلة من واو كما أبدلت في إشاح ووشاح ، وإسادة ووسادة ، وروي عن الخليل . وروي عن الضحاك أنه قال : إنما سمي " الله " إلها ، لأن الخلق يتألهون إليه في حوائجهم ، ويتضرعون إليه عند شدائدهم . وذكر عن الخليل بن أحمد أنه قال : لأن الخلق يألهون إليه ( بنصب اللام ) ويألهون أيضا ( بكسرها ) وهما لغتان . وقيل : إنه مشتق من الارتفاع ، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع : لاهاً ، فكانوا يقولون إذا طلعت الشمس : لاهت . وقيل : هو مشتق من أله الرجل إذا تعبد . وتأله إذا تنسك ، ومن ذلك قوله تعالى : " ويذرك وءالهتك " [ الأعراف :127 ] على هذه القراءة ، فإن ابن عباس وغيره قالوا : وعبادتك .
قالوا : فاسم الله مشتق من هذا ، فالله سبحانه معناه المقصود بالعبادة ، ومنه قول الموحدين : لا إله إلا الله ، معناه لا معبود غير الله . و " إلا " في الكلمة بمعنى غير ، لا بمعنى الاستثناء . وزعم بعضهم أن الأصل فيه " الهاء " التي هي الكناية عن الغائب ، وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية عن الغائب ، وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية ثم زيدت فيه لام الملك إذ قد علموا أنه خالق الأشياء ومالكها فصار " له " ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيماً وتفخيماً .
القول الثاني : ذهب إليه جماعة من العلماء أيضاً منهم الشافعي وأبو المعالي والخطابي والغزالي والمفضل وغيرهم ، وروي عن الخليل وسيبويه : أن الألف واللام لازمة له لا يجوز حذفهما منه . قال الخطابي : والدليل على أن الألف واللام من بنية هذا الاسم ، ولم يدخلا للتعريف : دخول حرف النداء عليه ، كقولك : يا الله ، وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام للتعريف ، ألا ترى أنك لا تقول : يا الرحمن ولا يا الرحيم ، كما تقول : يا الله ، فدل على أنهما من بنية الاسم . والله أعلم .
الثانية والعشرون : واختلفوا أيضاً في اشتقاق اسمه الرحمن ، فقال بعضهم : لا اشتقاق له لأنه من الأسماء المختصة به سبحانه ، ولأنه لو كان مشتقاً من الرحمة لا تصل بذكر المرحوم ، فجاز أن يقال : الله رحمن بعباده ، كما يقال : رحيم بعباده . وأيضاً لو كان مشتقاً من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعوه ، إذ كانوا لا ينكرون رحمة ربهم ، وقد قال الله عز وجل : " وإذ قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن " [ الفرقان :60 ] الآية . ولما كتب علي رضي الله عنه في صلح الحديبية بأمر النبي صلى الله عليه وسلم : " بسم الله الرحمن الرحيم " قال سهيل بن عمرو : أما " بسم الله الرحمن الرحيم " فما ندري ما " بسم الله الرحمن الرحيم " ! ولكن اكتب ما نعرف : باسمك اللهم ، الحديث . قال ابن العربي : إنما جهلوا الصفة دون الموصوف ، واستدل على ذلك بقولهم : وما الرحمن ؟ ولم يقولوا : ومن الرحمن ؟ قال ابن الحصار : وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى : " وهم يكفرون بالرحمن " [ الرعد :30 ] وذهب الجمهور من الناس إلى أن " الرحمن " مشتق من الرحمة مبني على المبالغة ، ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها ، فلذلك لا يثنى ولا يجمع كما يثنى " الرحيم " ويجمع .
قال ابن الحصار : ومما يدل على الاشتقاق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول : ( قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ) . وهذا نص من الاشتقاق ، فلا معنى للمخالفة والشقاق ، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وبما وجب له .
الثالثة والعشرون : زعم المبرد فيما ذكر ابن الأنباري في كتاب " الزاهر " له : أن " الرحمن " اسم عبراني جاء معه ب " الرحيم " . وأنشد{[43]} :
لن تُدرِكُوا المَجْدَ أو تُشْرُوا عَبَاءَكُم *** بالخز أو تجعلوا اليَنْبُوتَ ضَمْرَانَا
أو تتركون{[44]} إلى القَسَّيْنِ هِجْرَتَكُم *** وَمَسْحَكُم صُلْبَهُم رَحمانَ قُرْبَانَا
قال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن : وقال أحمد بن يحيى : " الرحيم " عربي و " الرحمن " عبراني ، فلهذا جمع بينهما . وهذا القول مرغوب عنه .
وقال أبو العباس : النعت قد يقع للمدح ، كما تقول : قال جرير الشاعر : وروى مطرف عن قتادة في قول الله عز وجل : " بسم الله الرحمن الرحيم " قال : مدح نفسه . قال أبو إسحاق وهذا قول حسن . وقال قطرب : يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد . قال أبو إسحاق : وهذا قول حسن . وفي التوكيد أعظم الفائدة ، وهو كثير في كلام العرب ، ويستغني عن الاستشهاد ، والفائدة في ذلك ما قاله محمد بن يزيد : إنه تفضل بعد تفضل ، وإنعام بعد إنعام ، وتقوية لمطامع الراغبين ، ووعد لا يخيب آمله .
الرابعة والعشرون : واختلفوا هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين ؟ فقيل : هما بمعنى واحد ، كندمان ونديم . قاله أبو عبيدة . وقيل : ليس بناء فعلان كفعيل ، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل ، نحو قولك : رجل غضبان ، للممتلىء غضباً . وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول . قال عَمَلَّس{[45]} :
فأما إذا عَضَّت بك الحربُ عَضَّةً *** فإنك معطوفٌ عليك رحيمُ
ف " الرحمن " خاص الاسم عام الفعل . و " الرحيم " عام الاسم خاص الفعل . هذا قول الجمهور .
قال أبو علي الفارسي : " الرحمن " اسم عام في جميع أنواع الرحمة ، يختص به الله . " والرحيم " إنما هو في وجهة المؤمنين ؛ كما قال تعالى : " وكان بالمؤمنين رحيما " [ الأحزاب :43 ] . وقال العرزمي{[46]} : " الرحمن " بجميع خلقه في الأمطار ونعم الحواس والنعم العامة ، " والرحيم " بالمؤمنين في الهداية لهم ، واللطف بهم . وقال ابن المبارك : " الرحمن " إذا سئل أعطي ، و " الرحيم " إذا لم يسأل غضب . وروى ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يسأل الله يغضب عليه " لفظ الترمذي . وقال ابن ماجه : " من لم يدع الله سبحانه غضب عليه " . وقال : سألت أبا زرعة عن أبي صالح هذا ، فقال : هو الذي يقال له : الفارسي وهو خوزي{[47]} ولا أعرف اسمه . وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال :
الله يغضب إن تركت سؤاله *** وبُنَيّ آدم حين يسأل يغضبُ
وقال ابن عباس : هما اسمان رقيقان ، أحدهما أرق من الآخر ، أي أكثر رحمة .
قال الخطابي : وهذا مشكل ؛ لأن الرقة لا مدخل لها في شيء من صفات الله تعالى . وقال الحسين بن الفضل البجلي : هذا وهم من الراوي ؛ لأن الرقة ليست من صفات الله تعالى في شيء ، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر ، والرفق من صفات الله عز وجل ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ) .
الخامسة والعشرون : أكثر العلماء على أن " الرحمن " مختص بالله عز وجل ، لا يجوز أن يسمى به غيره ، ألا تراه قال : " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن{[48]} " [ الإسراء :110 ] فعادل الاسم الذي لا يشركه فيه غيره . وقال : " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون{[49]} " [ الزخرف :45 ] فأخبر أن " الرحمن " هو المستحق للعبادة جل وعز . وقد تجاسر مسيلمة الكذاب - لعنه الله - فتسمى برحمان اليمامة ، ولم يتسم به حتى قرع مسامعه نعت الكذاب فألزمه الله تعالى نعت الكذاب لذلك ، وإن كان كل كافر كاذباً ، فقد صار هذا الوصف لمسيلمة علماً يعرف به ، ألزمه الله إياه . وقد قيل في اسمه الرحمن : إنه اسم الله الأعظم ، ذكره ابن العربي .
السادسة والعشرون : " الرحيم " صفة مطلقة للمخلوقين ، ولما في " الرحمن " من العموم قدم في كلامنا على " الرحيم " مع موافقة التنزيل ، وقيل : إن معنى " الرحيم " أي بالرحيم وصلتم إلى الله وإلى الرحمن ، ف " الرحيم " نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، أي وبمحمد صلى الله عليه وسلم وصلتم إلي ، أي باتباعه وبما جاء به وصلتم إلى ثوابي وكرامتي والنظر إلى وجهي ، والله أعلم .
السابعة والعشرون : روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال في قوله " بسم الله " : إنه شفاء من كل داء ، وعون على كل دواء . وأما " الرحمن " هو عون لكل من آمن به ، وهو اسم لم يسم به غيره . وأما " الرحيم " ، فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحاً .
وقد فسره بعضهم على الحروف ، فروي عن عثمان بن عفان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال : ( أما الباء فبلاء الله وروحه ونضرته وبهاؤه وأما السين فسناء الله وأما الميم فملك الله وأما الله فلا إله غيره وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر من خلقه وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة ) . وروي عن كعب الأحبار أنه قال : الباء بهاؤه والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه والميم ملكه وهو على كل شيء قدير فلا شيء يعازّه . وقد قيل : إن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه ، فالباء مفتاح اسمه بصير ، والسين مفتاح اسمه سميع ، والميم مفتاح اسمه مليك ، والألف مفتاح اسمه الله ، واللام مفتاح اسمه لطيف ، والهاء مفتاح اسمه هادي ، والراء مفتاح اسمه رازق ، والحاء مفتاح اسمه حليم ، والنون مفتاح اسمه نور ، ومعنى هذا كله دعاء الله تعالى عند افتتاح كل شيء .
الثامنة والعشرون : واختلف في وصل " الرحيم " ب " الحمد لله " ، فروي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " الرحيم . الحمد " يسكن الميم ويقف عليها ، ويبتدئ بألف مقطوعة . وقرأ به قوم من الكوفيين . وقرأ جمهور الناس : " الرحيم الحمد " ، تعرب " الرحيم " بالخفض وبوصل الألف من " الحمد " . وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ " الرحيمَ الحمد " بفتح الميم وصلة الألف ، كأنه سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت . قال ابن عطية : ولم ترو عن هذه قراءة عن أحد فيما علمت . وهذا نظر يحيى بن زياد في قوله تعالى : " الَم الله "