سورة   الفاتحة
 
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفاتحة

معنى الفاتحة في الأصل أول ما من شأنه أن يفتتح به ، ثم أطلقت على أول كل شيء كالكلام ، والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية ، فسميت هذه السورة " فاتحة الكتاب " لكونه افتتح بها ، إذ هي أول ما يكتبه الكاتب من المصحف ، وأول ما يتلوه التالي من الكتاب العزيز ، وإن لم تكن أول ما نزل من القرآن . وقد اشتهرت هذه السورة الشريفة بهذا الاسم في أيام النبوة . قيل هي مكية ، وقيل مدنية .

وقد أخرج الواحدي في أسباب النزول ، والثعلبي في تفسيره عن علي رضي الله عنه قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة ، والثعلبي والواحدي من حديث عمر بن شرحبيل " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكا إلى خديجة ما يجده عند أوائل الوحي ، فذهبت به إلى ورقة فأخبره فقال له : إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي : يا محمد يا محمد يا محمد فأنطلق هارباً في الأرض ، فقال : لا تفعل ، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني ، فلما خلا ناداه يا محمد قل : بسم الله الرحمن الرحيم ، حتى بلغ ولا الضالين " الحديث . وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن رجل من بني سلمة قال : لما أسلمت فتيان بني سلمة وأسلم ولد عمرو بن الجموح قالت امرأة عمرو له : هل لك أن تسمع من أبيك ما روي عنه ؟ فسأله فقرأ عليه : الحمد لله رب العالمين ، وكان ذلك قبل الهجرة . وأخرج أبو بكر بن الأنباري في المصاحف عن عبادة قال : فاتحة الكتاب نزلت بمكة . فهذا جملة ما استدل به من قال إنها نزلت بمكة . واستدل من قال إنها نزلت بالمدينة بما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ، وأبو سعيد بن الأعرابي في معجمه ، والطبراني في الأوسط من طريق مجاهد عن أبي هريرة " رن إبليس حين أنزلت فاتحة الكتاب " وأنزلت بالمدينة .

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبو نعيم في الحلية وغيرهم من طرق عن مجاهد قال : نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة ، وقيل : إنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة جمعاً بين هذه الروايات .

وتسمى : " أم الكتاب " قال البخاري في أول التفسير : وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ، ويبدأ بقراءتها في الصلاة . وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن عن أيوب عن محمد بن سيرين كان يكره أن يقول أم الكتاب ويقول : قال الله تعالى : " وعنده أم الكتاب " ولكن يقول فاتحة الكتاب . ويقال لها الفاتحة لأنها يفتتح بها القراءة ، وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام . قال ابن كثير في تفسيره : وصح تسميتها بالسبع المثاني ، قالوا : لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة . وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم القرآن : " هي أم القرآن ، وهي السبع المثاني ، وهي القرآن العظيم " . وأخرج ابن جرير في تفسيره عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هي أم القرآن ، وهي فاتحة الكتاب ، وهي السبع المثاني " . وأخرج نحوه ابن مردويه في تفسيره والدارقطني من حديثه ، وقال : كلهم ثقات . وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى : " سبعاً من المثاني " بالفاتحة .

ومن جملة أسمائها كما حكاه في الكشاف سورة الكنز ، والوافية ، وسورة الحمد ، وسورة الصلاة . وقد أخرج الثعلبي أن سفيان بن عيينة كان يسمى فاتحة الكتاب الواقية . وأخرج الثعلبي أيضاً عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير أنه سأله سائل عن قراءة الفاتحة خلف الإمام ، فقال عن الكافية تسال ؟ قال السائل : وما الكافية ! ؟ قال : الفاتحة ، أما علمت أنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها . وأخرج أيضاً عن الشعبي أن رجلاً اشتكى إليه وجع الخاصرة ، فقال : عليك بأساس القرآن ، قال : وما أساس القرآن ؟ قال : فاتحة الكتاب . وأخرج البيهقي في الشعب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله أعطاني فيما من به علي فاتحة الكتاب ، وقال : هي من كنوز عرشي " وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده عن علي نحوه مرفوعاً . وقد ذكر الدارقطني في تفسيره للفاتحة اثني عشر اسماً وهي سبع آيات بلا خلاف كما حكاه ابن كثير في تفسيره . وقال القرطبي : أجمعت الأمة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات إلا ما روي عن حسين الجعفي أنها ست وهو شاذ . وإلا ما روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل إياك نعبد آية ، فهي عنده ثمان ، وهو شاذ انتهى . وإنما اختلفوا في البسملة كما سيأتي إن شاء الله . وقد أخرج عبد بن حميد ، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة ، وابن الأنباري في المصاحف عن محمد بن سيرين أن أبي بن كعب وعثمان بن عفان كانا يكتبان فاتحة الكتاب والمعوذتين ، ولم يكتب ابن مسعود شيئاً منهن . وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم قال : كان عبد الله بن مسعود لا يكتب فاتحة الكتاب في المصحف ، وقال : لو كتبتها لكتبت في أول كل شيء .

وقد ورد في فضل هذه السورة أحاديث ، منها ما أخرجه البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي سعيد بن المعلى " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد " ، قال : فأخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت : يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن ؟ قال : " نعم : { الحمد لله رب العالمين } هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " . وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ؟ ثم أخبره أنها الفاتحة " . وأخرجه النسائي وأخرج أحمد في المسند من حديث عبد الله بن جابر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " ألا أخبرك بأخير سورة في القرآن ؟ " قلت : بلى يا رسول الله ، قال : " اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها " . وفي إسناده ابن عقيل ، وقد احتج به كبار الأئمة ، وبقية رجاله ثقات . وعبد الله بن جابر هذا هو العبدي كما قال ابن الجوزي ، وقيل : الأنصاري البياضي كما قال ابن عساكر . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أخبروه بأن رجلاً رقى سليماً بفاتحة الكتاب : وما كان يدريه أنها رقية " الحديث . وأخرج مسلم في صحيحه ، والنسائي في سننه من حديث ابن عباس قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال : هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط ، قال : فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته " وأخرج مسلم والنسائي والترمذي ، وصححه من حديث أبي هريرة : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثاً ، غير تامة " . وأخرج البزار في مسنده بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب و{ قل هو الله أحد } فقد أمنت من كل شيء إلا الموت " وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن أبي زيد وكان له صحبة قال : " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج المدينة ، فسمع رجلاً يتهجد ويقرأ بأم القرآن ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع حتى ختمها ثم قال : ما في القرآن مثلها " . وأخرج سعيد بن منصور في سننه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم " . وأخرج أبو الشيخ نحوه من حديثه ، وحديث أبي هريرة مرفوعاً . وأخرج الدارمي ، والبيهقي في شعب الإيمان بسند رجاله ثقات عن عبد الملك بن عمير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فاتحة الكتاب : " شفاء من كل داء " . وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن السني في عمل اليوم والليلة ، وابن جرير والحاكم ، وصححه عن خارجة بن الصلت التميمي عن عمه " أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل راجعاً من عنده ، فمر على قوم وعندهم رجل مجنون موثق بالحديد ، فقال أهله : أعندك ما تداوي به هذا ! ؟ فإن صاحبكم قد جاء بخير ، قال : فقرأت عليه فاتحة الكتاب ثلاثة أيام في كل يوم مرتين غدوة وعشية ، أجمع بزاقي ثم أتفل فبرأ ، فأعطاني مائة شاة ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : كل ، فمن أكل برقية باطل ، فقد أكلت برقية حق " . وأخرج الفريابي في تفسيره عن ابن عباس قال : " فاتحة الكتاب ثلث القرآن " . وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ أم القرآن و{ قل هو الله أحد } فكأنما قرأ ثلث القرآن " وأخرج عبد بن حميد في مسنده بسند ضعيف عن ابن عباس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : " فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن " . وأخرج الحاكم وصححه ، وأبو ذر الهروي في فضائله ، والبيهقي في الشعب عن أنس قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسير له ، فنزل فمشى رجل من أصحابه إلى جنبه ، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ألا أخبرك بأفضل القرآن ، فتلا عليه { الحمد لله رب العالمين } . وأخرج أبو نعيم والديلمي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فاتحة الكتاب تجزئ ما لا يجزي شيء من القرآن ، ولو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان ، وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات " . وأخرج أبو عبيد في فضائله عن الحسن مرسلاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ فاتحة الكتاب فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان " .

ثم وبخهم الله سبحانه ، وقرعهم بقوله : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان } وهذا من جملة ما يقال لهم . والعهد : الوصية ، أي ألم أوصكم ، وأبلغكم على ألسن رسلي أن لا تعبدوا الشيطان أي : لا تطيعوه . قال الزجاج : المعنى ألم أتقدّم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم . وقال مقاتل : يعني الذين أمروا بالاعتزال . قال الكسائي : لا للنهي ، وقيل : المراد بالعهد هنا : الميثاق المأخوذ عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم . وقيل : هو ما نصبه الله لهم من الدلائل العقلية التي في سماواته وأرضه ، وجملة { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تعليل لما قبلها من النهي عن طاعة الشيطان وقبول وسوسته .

/خ70