سورة   الفاتحة
 
الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (1)

{ بِسمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ }

مصدر بَسْمَلَ ، أي قال : بسم الله ، نحو : حَوْقَلَ وهيْلَلَ وحَمْدَلَ ، أي : قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا إله إلا الله ، والحمد لله . وهذا شَبيه بباب النحت في النسب ، أي إنهم يأخذون اسمَيْن فَيَنْحِتون منهما لفظاً واحداً ، فينسِبون إليه كقولهم : حَضْرَميّ وعَبْقَسيّ وعَبْشَميّ نسبةً إلى حَضْرَمَوْت وعبدِ القَيْس وعبدِ شمس . قال :

وتضحَكُ مني شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّة *** كَأَنْ لم تَرَيْ قبلي أسيراً يَمانياً

وهو غيرُ مقيس ، فلا جرم أن بعضهم قال في : بَسْمل وهَيْلل إنها لغة مُوَلَّدَة ، [ قال الماوردي : يقال لمَنْ قال : بسم الله : مُبَسْمِل وهي ] لغةٌ مُوَلَّدة وقد جاءَتْ في الشعر ، قال عمر بن أبي ربيعة :

لقد بَسْمَلَتْ ليلى غداةَ لقِيتُها *** ألا حَبَّذا ذاكَ الحديثُ المُبَسْمِلُ

وغيرُه من أهلِ اللغةِ نَقَلها ولَم يقُلْ إنها مُوَلَّدَة ك ثعلب والمطرِّز .

وبِسْم : جارٌّ ومجرور ، والباء هنا للاستعانة كعَمِلت وبالقَدُوم ، لأنَّ المعنى : أقرأ مستعيناً بالله ، ولها معانٍ أُخَرُ تقدَّم الوعدُ بذكرها ، وهي : الإِلصاقُ حقيقةً أو مجازاً ، نحو : مَسَحْتُ برأسي ، مررْتُ بزيدٍ ، والسببية : [ نحو ]

{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ } [ النساء : 160 ] ، أي بسببِ ظلمهم ، والمصاحبة نحو : خرج زيدٌ بثيابه ، أي مصاحباً لها ، والبدلُ كقوله عليه السلام : " ما يَسُرُّنِي بها حُمْرُ النَّعَم " أي بدلها ، وكقول الآخر :

فليتَ لي بِهِمُ قوماً إذا ركبوا *** شَنُّوا الإِغارةَ فرساناً ورُكْبانا

أي : بَدَلَهم ، والقسم : أحلفُ باللهِ لأفعلنَّ ، والظرفية نحو : زيد بمكة أي فيها ، والتعدية نحو : { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] ، والتبعيض كقول الشاعر :

شَرِبْنَ بماءِ البحر ثم ترفَّعَتْ *** متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ

أي من مائه ، والمقابلة : " اشتريتهُ بألف " أي : قابلتُه بهذا الثمنِ ، والمجاوزة مثلُ قولِه تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ } [ الفرقان : 25 ] أي عن الغمام ، ومنهم مَنْ قال : لا تكون كذلك إلا مع السؤال خاصة نحو :

{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] أي عنه ، وقول علقمة :

فإنْ تَسْأَلوني بالنساءِ فإنني *** خبيرٌ بأَدْواءِ النساء طبيبُ

إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه *** فليس له في وُدِّهِنَّ نَصيبُ

والاستعلاء كقوله تعالى : { مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } [ آل عمران : 75 ] . والجمهورُ يأبَوْن جَعْلها إلا للإِلصاق أو التعديةِ ، ويَرُدُّون جميعَ المواضعِ المذكورةِ إليهما ، وليس هذا موضعَ استدلال وانفصال .

وقد تُزاد مطَّردةً وغيرَ مطَّردة ، فالمطَّردةُ في فاعل " كفى " نحو :

{ وَكَفَى بِاللَّهِ } [ النساء : 6 ]/ أي : كفى اللهُ ، بدليل سقوطِها في قول الشاعر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كفى الشيبُ والإِسلامُ للمرءِ ناهياً

وفي خبرِ ليس و " ما " أختِها غيرَ موجَبٍ ب إلاَّ ، كقوله تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ [ عَبْدَهُ ] } [ الزمر : 36 ] ، { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ } [ الأنعام : 132 ] وفي : بحَسْبكِ زيدٌ . وغيرَ مطَّردةٍ في مفعولِ " كفَى " ، كقوله :

فكفى بنا فَضْلاً على مَنْ غيرُنا *** حُبُّ النبيِّ محمدٍ إيانا أي : كَفانا ، وفي البيت كلامٌ آخرُ ، وفي المبتدأ غيرَ " حَسْب " ومنه في أحدِ القولين : { بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ } [ القلم : 6 ] وقيل : المفتون مصدر كالمَعْقول والمَيْسور ، فعلى هذا ليست زائدةً ، وفي خبر " لا " أختِ ليس ، كقوله :

فكُنْ لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ *** بمُغْنٍ فتيلاً عن سَوادِ بنِ قاربِ

أي : مُغْنياً ، وفى خبرِ كان مَنْفِيَّةً نحو :

وإنْ مُدَّتِ الأيدي إلى الزادِ لم أكنْ *** بِأعجلِهم ، إذْ أَجْشَعُ القومِ أَعْجَلُ

أي : لم أكنْ أعجلَهم ، وفي الحال وثاني مفعولَيْ ظنَّ منفيَّيْنِ أيضاً كقوله :

فما رَجَعَتْ بخَائِبَةٍ رِكابٌ *** حكيمُ بنُ المُسَيَّب مُنْتَهاها

وقولِ الآخر :

دعاني أخي والخيلُ بيني وبينه *** فلمَّا دعاني لم يَجِدْني بقُعْدَدِ

أي : ما رَجَعَت رِكابُ خائبةً ، ولم يَجِدْني قُعْدَداً ، وفي خبر " إنَّ " كقول امرئ القيس :

فإنْ تَنْأَ عنها حِقْبَةً لا تُلاقِها *** فإنك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ

أي : فإنك المجرِّب ، وفي : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ } [ الأحقاف : 33 ] وشبهه .

والاسمُ لغةً : ما أبانَ عن مُسَمَّى ، واصطلاحاً : ما دلَّ على معنىً في نفسه فقط غيرَ متعرِّضٍ بِبُنْيَتِهِ لزمان ولا دالٍّ جزءٌ من أجزائه على جزءٍ من أجزاء معناه ، وبهذا القيدِ الأخيرِ خَرَجت الجملةُ الاسميةُ ، والتسميةُ : جَعْلُ ذلك اللفظِ دالاًّ على ذلك المعنى .

واختلف الناسُ : هل الاسمُ عينُ المُسَمَّى أو غيرُه ؟ وهي مسألةٌ طويلةٌ ، تكلَّم الناسُ فيها قديماً وحديثاً واستشكلوا على كونه هو المُسَمَّى إضافَتَه إليه ، فإنه يلزم منه إضافةُ الشيء إلى نفسِه ، وأجاب أبو البقاء عن ذلك بثلاثة أجوبة ، أجودُها : أنَّ الاسم هنا بمعنى التسمية ، والتسميةُ غيرُ الاسم ، لأنَّ التسمية هي اللفظُ بالاسم ، والاسمَ هو اللازمُ للمُسَمَّى فتغايرا . الثاني : أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه : باسم مُسَمَّى اللهِ . الثالث : أن لفظَ " اسم " زائدٌ كقولِه :

إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السلامِ عليكما *** ومَنْ يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذَرْ

أي : السلام عليكما ، وقول ذي الرمة :

لاَ يَرْفَعُ الطرفَ إلاَّ ما تَخَوَّنَهُ *** داعٍ يُناديه باسمِ الماءِ مَبْغَومُ

وإليه ذهب أبو عبيدة والأخفش وقطرب .

واختلفوا في معنى الزيادة فقال الأخفش : ليخرجَ من حُكْمِ القسم إلى قَصْدِ التبرُّك " . وقال قطرب : " زيد للإِجلال والتعظيم " ، وهذان الجوابان ضعيفان لأنَّ الزيادةَ والحذفَ لا يُصار إليهما إلاَّ إذا اضطُرَّ إليهما .

ومن هذا القَبيلِ - أعني ما يُوهِمُ إضافةَ الشيءِ إلى نفسِه - إضافةُ الاسمِ إلى اللقبِ والموصوفِ إلى صفتهِ ، نحو : سعيدُ كُرزٍ وزيدُ قُفَّةٍ ومسجدُ الجامعِ وبَقْلَةُ الحمقاءِ ، ولكن النحويين أوَّلوا النوع الأول بأنْ جعلوا الاسمَ بمعنى المُسَمَّى واللقبَ بمعنى اللفظِ ، فتقديرُه : جاءني مسمَّى هذا اللفظِ ، وفي الثاني جَعَلوه على حَذْفِ مضافٍ ، فتقديرُ بقلةِ الحمقاءِ : بقلةُ الحبِّةِ الحمقاءِ ، ومسجدُ الجامعِ : مسجدُ المكانِ الجامعِ .

واختلف النحويون في اشتقاقه : فذهب أهلُ البصرة إلى أنه مشتقٌ من السُّمُوِّ وهو الارتِفاعُ ، لأنه يَدُلُّ على مُسَمَّاه فيرفعُه ويُظْهِرهُ ، وذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من الوَسْم وهو العلامةُ لأنه علامةٌ على مُسَمَّاه ، وهذا وإنْ كان صحيحاً من حيث المعنى لكنه فاسدٌ من حيث التصريفُ .

استدلَّ البصريون على مذهبهم بتكسيرِهم له على " أَسْماء " وتصغيرهم له على سُمَيّ ، لأن التكسير والتصغير يَرُدَّان الأشياء إلى أصولها ، وتقولُ العَربُ : فلانٌ سَمِيُّك ، وسَمَّيْتُ فلاناً بكذا ، وأَسْمَيْتُه بكذا ، فهذا يَدُلُّ على اشتقاقه من السموّ ، ولو كان من الوَسْم لقيل في التكسير : أَوْسام ، وفي التصغير : وُسَيْم ، ولقالوا :

وَسِيمُك فلانٌ ووَسَمْتُ وأَوْسَمْتُ فلاناً بكذا ، فدلَّ عدمُ قولِهم ذلك أنه ليس كذلك . وأيضاً فَجَعْلُه من السموّ مُدْخِلٌ له في البابِ الأكثرِ ، وجَعْلُه من الوَسْم مُدْخِلٌ له في الباب الأقلِّ ؛ وذلك أن حَذْفَ اللام كثيرٌ وحذفَ الفاءِ قليلٌ ، وأيضاً فإنَّا عَهِدْناهم غالباً يُعَوِّضون في غير محلِّ الحَذْفَ فَجَعْلُ همزةِ الوصل عوضاً من اللام موافقٌ لهذا الأصل بخلافِ ادِّعاءِ كَوْنِها عوضاً من الفاء . فإن قيل : قولُهم " أسماء " في التكسير و " سُمَيّ " في التصغير لا دلالةَ فيه لجوازِ أن يكون الأصلُ : أَوْسَاماً ووُسَيْماً ، ثم قُلِبَتِ الكلمةُ بأَنْ أُخِّرَتْ فاؤُها بعد لامها فصار لفظُ أَوْسام : أَسْماواً ، ثم أُعِلَّ إعلالَ كساء ، وصار وُسَيْم سُمَيْوَاً ، ثم أُعِلَّ إعلالَ جُرَيّ تصغير جَرْو . فالجوابُ أنَّ ادِّعاء ذلك لا يفيدُ ، لأنَّ القَلْبَ على خلافِ القياس فلا يُصارُ إليه ما لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ . وهل لهذا الخلافِ فائدةٌ أم لا ؟ والجوابُ أن له فائدةً ، وهي أَنَّ مَنْ قال باشتقاقِه من العلوِّ يقول : إنه لم يَزَلْ موصوفاً قبل وجودِ الخلق وبعدَهم وعند فَنائِهم ، لا تأثيرَ لهم في أسمائه ولا صفاتِه وهو قول أهل السُّنَّةِ . وَمنْ قال بأنه مشتقٌّ من الوَسْم يقول : كان الله في الأزل بلا اسم ولا صفةٍ ، فلما خَلَقَ الخلق جعلوا له أسماءً وصفاتٍ وهو قول المعتزلة ، وهذا أشدُّ خطأً من قولِهم بخلق القرآن وعلى هذا الخلافِ وَقَعَ الخلافُ أيضاً في الاسم والمُسَمَّى .

وفي الاسم خمسُ لغاتٍ : " اسم " بضم الهمزة وكسرها ، و " سُِم " بكسر السين وضمها . وقال أحمد بن يحيى : " سُمٌ بضم السين أَخَذَه من سَمَوْتُ أسْمُو ، ومَنْ قاله بالكسر أخذه من سَمَيْتُ أَسْمي ، وعلى اللغتين قوله :

وعامُنا أَعْجبنا مُقَدَّمُهْ *** يُدْعى أبا السَّمْحِ وقِرضابٌ سُِمُهْ

مُبْتَرِكاً لكلِّ عَظْمٍ يَلْحُمُهْ

يُنْشَدُ بالوجهين ، وأنشدوا على الكسر :

باسمِ الذي في كلِّ سورةٍ سِمُهْ

[ فعلى هذا يكون في لام " اسم " وجهان ، أحدُهما : أنها واو ، والثاني : أنها ياء وهو غريبٌ ، ولكنَّ ] أحمد بن يحيى جليلُ القدر ثقةٌ فيما ينقل . و " سُمَىً " مثل هُدَىً . واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر :

واللهُ أَسْماك سُمَىً مُبارَكاً *** آثرك اللهُ به إيثارَكَا

ولا دليلَ في ذلك لجوازِ أن يكونَ من لغةِ مَنْ يجعله منقوصاً مضمومَ السين وجاء به منصوباً ، وإنما كان ينتهض دليلاً لو قيل : سُمَىً حالةَ رفعٍ أو جَرٍّ .

وهمزتُه همزةُ وصلٍ أي تُثْبَت ابتداءً وتُحْذَفُ دَرْجَاً ، وقد تُثْبَتُ ضرورةً كقوله :

وما أنا بالمَخْسوسِ في جِذْمِ مالكٍ *** ولا مَنْ تسمَّى ثم يلتزِم الإِسْما

وهو أحدُ الأسماءِ العشرةِ التي ابتُدِئ في أوائِلها بهمزةِ الوصلِ/ وهي : اسم واست وابن وابنُم وابنة وامرؤ وامرأة واثنان واثنتان وايمنُ في القسم . والأصل في هذه الهمزةِ أن تُثْبَتَ خَطَّاً كغيرِها من همزاتِ الوصل ، وإنما حَذَفوها حين يُضاف الاسمُ إلى الجلالةِ خاصةً لكثرة الاستعمال . وقيل : ليوافقَ الخطُّ اللفظَ . وقيل لا حذفَ أصلاً ، وذلك لأن الأصل : " سِمٌ " أو " سُم " بكسر السين أو ضمها فلمَّا دخلتِ الباءُ سَكَنَتِ العينُ تخفيفاً ، لأنه وقع بعد الكسرة كسرةٌ أو ضمةٌ ، [ وهذا حكاه النحاس وهو حسن ] ، فلو أضيف إلى غير الجلالة ثَبَتَتْ ، نحو : باسم الرحمن ، هذا هو المشهور ، وحُكِيَ عن الكسائي والأخفش جوازُ حََذْفِها إذا أُضيفت إلى غيرِ الجلالة من أسماء الباري تعالى نحو : بسمِ ربِّك ، بسمِ الخالق .

واعْلم أنَّ كلَّ جار ومجرور لا بُدَّ له من شيءٍ يَتَعَلَّقُ به ، فعلٍ أو ما في معناه ، إلا في ثلاثِ صور : حرفِ الجر الزائد ولعلَّ ولولا عند مَنْ يجر بهما ، وزاد الاستاذ ابن عصفور كافَ التشبيه ، وليس بشيء فإنها تتعلَّق . إذا تقرر ذلك ف " بسم الله " لا بدَّ من شيء يتعلق به ولكنه حُذِف .

واختلف النحويون في ذلك ، فذهب أهلُ البصرةِ إلى أنَّ المُتَعَلَّقَ به اسمٌ ، وذهب أهلُ الكوفة إلى أنه فِعْلٌ ، ثم اختَلَفَ كلٌ من الفريقين : فذهب بعضُ البصريين إلى أنَّ ذلك المحذوفَ مبتدأٌ حُذِفَ هو وخبرهُ وبقي معمولُه ، تقديره : ابتدائي باسم الله كائنٌ أو مستقرٌ ، أو قراءتي باسم الله كائنةٌ أو مستقرة . وفيه نظرٌ من حيث إنه يلزمُ حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معمولِه وهو ممنوعٌ ، وقد نص مكي على مَنْع هذا الوجهِ . وذهبَ بعضُهم إلى أنه خبرٌ حُذِف هو ومبتدؤه أيضاً وبقي معمولُه قائماً مَقامَه ، والتقدير : ابتدائي كائنٌ باسمِ الله ، أو قراءتي كائنةٌ باسم الله نحو : زيدٌ بمكةَ ، فهو على الأول منصوبُ المحلِّ وعلى الثاني مرفوعُه لقيامِهِ مقامَ الخبر . وذهب بعضُ الكوفيين إلى أنَّ ذلك الفعلَ المحذوفَ مقدَّرٌ قبله ، قال : لأنَّ الأصلَ التقديمُ ، والتقدير : أقرأُ باسم الله أو أبتدئُ باسم الله . ومنهم مَنْ قدَّر بعده : والتقدير : باسم الله أقرأ أو أبتدئ أو أتلو ، وإلى هذا نحا الزمخشري قال : " ليفيدَ التقديمُ الاختصاصَ لأنه وقع ردًّاً على الكفرة الذين كانوا يبدؤون بأسماءِ آلهتهم كقولهم : باسم اللات ، باسم العُزَّى " وهذا حسنٌ جداً ، ثم اعترض على نفسِه بقولِه تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } [ القلم : 1 ] ، حيث صَرَّح بهذا العامل مُقَدَّماً على معمولِه ، ثم أجاب بأنَّ تقديمَ الفعل في سورة العلق أوقعُ لأنها أولُ سورةٍ نَزَلَت فكان الأمرُ بالقراءة أهمَّ " . وأجاب غيرُه بأنَّ ب " اسم ربك " ليس متعلقاً ب " اقرأ " الذي قبله ، بل ب " اقرأ " الذي بعده ، فجاء على القاعدة المتقدمة .

وفي هذا نظرٌ لأن الظاهرَ على هذا القول أن يكون " اقرأ " الثاني توكيداً للأول فيكون قد فَصَلَ بمعمول المؤكِّد بينه وبين ما أكَّده مع الفصلِ بكلامٍ طويل .

واختلفوا أيضاً : هل ذلك الفعلُ أمرٌ أو خبرٌ ؟ فذهب الفراء أنه أَمْرٌ تقديرُه : اقرأ أنت باسم الله ، وذهب الزجاج أنه خبرٌ تقديره : اقرأ أنا أو أبتَدِئُ ونحوهُ .

و " الله " في " بسم الله " مضافٌ إليه ، وهل العاملُ في المضاف إليه المضافُ أو حرفُ الجرِّ المقدََّرِ أو معنى الإِضافة ؟ ثلاثةُ أقوال خَيْرُها أوسطُها . وهو عَلَمٌ على المعبودِ بحق ، لاَ يُطلق على غيره ، ولَم يَجْسُرْ أحدٌ من المخلوقين أن يَتَسَّمى به ، وكذلك الإِله قبل النقل والإِدغامِ لا يُطْلق إلا على المعبودِ بحقٍّ . قال الزمخشري : " كأنه صار عَلَماً بالغلَبة " ، وأمّا " إله " المجردُ من الألف واللام فيُطلق على المعبود بحقٍّ وعلى غيره ، قال تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] ، { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } [ المؤمنون : 117 ] ، { [ أَرَأَيْتَ ] مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [ الفرقان : 43 ] . واختلف الناسُ هل هو مُرْتَجَلٌ أو مشتق ؟ ، والصوابُ الأولُ ، وهو أعرفُ المعارف . يُحْكى أن سِيبوِيه رُئيَ في المنام فقيل [ له ] : ما فعلَ اللهُ بك ؟ فقال : خيراً كثيراً ، لجَعْلِي اسمَه أعرفَ المعارفِ .

ثم القائلونَ باشتقاقِه اختلفوا اختلافاً كثيراً ، فمنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من لاهَ يليه أي ارتفع ، ومنه قيل للشمس : إلاَهة بكسر الهمزة وفتحها لارتفاعها ، وقيل : لاتخاذِهِم إياها معبوداً ، وعلى هذا قيل : " لَهْيَ أبوك " يريدونَ : للهِ أبوك ، فَقَلَب العينَ إلى موضع اللام . وخَفَّفه فَحَذَفَ الألفَ واللامَ وحَذَفَ حرفَ الجرِ . وأَبْعد بعضُهم فَجَعَلَ مِنْ ذلك قولَ الشاعر :

ألا ياسَنا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمى *** لَهِنَّكَ من برقٍ عليَّ كريمُ

قال : الأصلُ : لله إنك كريمٌ عليَّ ، فَحَذََفَ حرف الجر وحرف التعريف والألفَ التي قبل الهاء من الجلالة ، وسَكَّن الهاءَ إجراءً للوصل مُجْرى الوقف ، فصار اللفظ : لَهْ ، ثم أَلقى حركة همزة " إنَّ " على الهاء فبقي : لَهِنَّك كما ترى ، وهذا سماجَةٌ من قائلِه . وفي البيت قولان أيسرُ من هذا .

ومنهمَ مَنْ قال : " هو مشتقٌّ من لاه يَلُوه لِياهاً . أي احتجَبَ ، فالألف على هذين القولين أصليةٌ ، فحينئذ أصلُ الكلمة لاَهَ ، ثم دخل عليه حرفُ التعريف فصار اللاه ، ثم أُدْغِمت لام التعريف في اللام بعدها لاجتماعِ شروطِ الإِدغام ، وفُخِّمت لامُه . ووزنُه على القولين المتقدِّمين إمَّا : فَعَل أو فَعِل بفتح العين أو كسرِها ، وعلى كل تقدير : فتحرَّك حرفُ العلة وانفتحَ ما قبلَه فقُلِب ألفاً ، وكان الأصلَ : لَيَهاً أو لَيِهاً أو لَوَهاً أو لَوِهاً .

ومنهم مَنْ جَعَلَه مشتقاً من أَلَه ، وأَلَه لفظٌ مشترك بين معانٍ وهي : العبادةُ والسكون والتحيُّر والفزع ، فمعنى " إله " أنَّ خَلْقَه يعبدونه ويسكنون إليه ويتحيَّرون فيه ويفزعون إليه . ومنه قولُ رؤبة :

لِلَّهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ *** سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألُّهي

أي : من عبادتِه ، ومنه { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } [ الأعراف : 127 ] أي عبادتك . وإلى معنى التحيُّر أشار أمير المؤمنين بقوله : " كَلَّ دون صِفاته تحبيرُ الصفات وضَلَّ هناك تصاريفُ اللغات " وذلك أن العبد إذا تفكَّر في صفاته تحيَّر ، ولهذا/ رُوي : " تفكروا في آلاء الله ، ولا تتفكروا في الله " وعلى هذا فالهمزةُ أصلية والألفُ قبل الهاء زائدةٌ ، فأصلُ الجلالة الكريمة : الإِله ، كقولِ الشاعر :

معاذَ الإِله أن تكونَ كظبيةٍ *** ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيْلَةٍ رَبْرَبِ

ثم حُذِفت الهمزةُ لكثرةِ الاستعمال كما حُذفت في ناس ، والأصل أُناس كقوله :

إنَّ المَنايا يَطَّلِعْ *** نَ على الأُناس الآمِنينا

فالتقى حرفُ التعريفِ مع اللامِ فأُدْغِم فيها وفُخِّم . أو نقول : إن الهمزة من الإِله حُذِفت للنقل ، بمعنى أنَّا نَقَلْنا حَرَكتَها إلى لام التعريف وحَذَفْناها بعد نقل حركتها كما هو المعروف في النقل ، ثم أُدغم لامُ التعريف كما تقدَّم ، إلا أنَّ النقلَ هنا لازِمٌ لكثرةِ الاستعمال .

ومنهم مَنْ قال : هو مشتقٌ من وَلِهَ لكونِ كلِّ مخلوقٍ والِهاً نحوَه ، وعلى ذلك قال بعض الحكماء : " الله محبوب للأشياءِ كلها ، وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء : 44 ] ، فأصله : وِلاه ثم أُبدلت الواو همزةً كما أُبدلت في إشاح وإعاء ، والأصلُ : وِشاح ووِعاء ، فصار الفظُ به : إلاهاً ، ثم فُعِل به ما تقدَّم مِنْ حَذْفِ همزتِه والإِدغام ، ويُعْزَى هذا القول للخليل ، فعلى هذين القولين وزنُ إلاه : فِعال ، وهو بمعنى مَفْعول أي : مَعْبود أو متحيِّرٌ فيه كالكِتاب بمعنى مكتوب .

وُردَّ قولُ الخليل بوجهين ، أحدهما : أنه لو كانت الهمزةُ بدلاً من واو لجاز النطق بالأصلِ ، ولم يَقُلْه أحد ، ويقولون : إشاح ووشاح وإعاء ووعاء . والثاني : أنه لو كان كذلك لجُمع على أَوْلِهة كأَوْعِية وأَوشِحَة فتُرَدُّ الهمزة إلى أَصلها ، ولم يُجْمع " إله " إلا على آلهة .

وللخليل أن ينفصِلَ عن هذين الاعتراضين بأنَّ البدلَ لزِم في هذا الاسمِ لأنه اختصَّ بأحكامٍ لم يَشْرَكَهْ فيها غيرُه ، كما ستقف عليه ، ثم جاء الجمع على التزامِ البدل .

وأمَّا الألفُ واللامُ فيترتَّب الكلامُ فيها على كونِه مشتقاً أو غيرَ مشتقٍّ ، فإنْ قيل بالأول كانَتْ في الأصل مُعَرِّفةً ، وإنْ قيل بالثاني كانت زائدةً . وقد شَذَّ حذفُ الألفِ واللامِ من الجلالة في قولهم " لاهِ أبوك " ، والأصل : للهِ أبوك كما تقدم ، قالوا : وحُذِفَت الألفُ التي قبل الهاء خَطَّاً لئلا يُشْبَّهَ بخط " اللات " اسم الصنم ، لأن بعضهم يقلبُ هذه التاء في الوقف هاءً فيكتُبها هاءً تَبَعَاً للوقف فمِنْ ثمَّ جاء الاشتباه .

وقيل : لئلا يُشَبَّه بخط " اللاه " اسمَ فاعل من لها يلهو ، وهذا إنما يَتِمُّ على لغة مَنْ يحذف ياءَ المنقوص المعرَّف وقفاً لأن الخطَّ يتبعه ، وأمَّا مَنْ يُثْبِتُها وقفاً فيثبتها خطَّاً فلا لَبْس حينئذ . وقيل : حَذْفُ الألف لغةٌ قليلة جاء الخط عليها ، والتُزمَ ذلك لكثرة استعماله ، قال الشاعر :

أقبلَ سَيْلٌ كان من أمر اللهْ *** يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّة المُغِلَّهْ

وحكمُ لامِه التفخيمُ تعظيماً ما لم يتقدَّمْه كسرٌ فترقّقُ ، وإن كان أبو القاسم الزمخشري قد أطلق التفخيمَ ، ولكنه يريد ما قلته . ونقل أبو البقاء أنَّ منهمِ مَنْ يُرَقِّقُها على كل حال . وهذا ليس بشيءٍ لأن العربَ على خِلافِه كابراً عن كابرٍ كما ذكره الزمخشري . ونقل أهلُ القراءة خلافاً فيما إذا تقدَّمَه فتحةٌ ممالةٌ أي قريبة من الكسرة : فمنهم مَنْ يُرَقِّقها ، ومنهم مَنْ يُفَخِّمُها ، وذلك كقراءة السوسي في أحدِ وَجْهَيْه : " حتى نَرَى اللهَ جَهْرةً " .

ونقل السهيلي وابن العربي فيه قولاً غريباً وهو أنَّ الألف واللام فيه أصليةٌ غيرُ زائدةٍ ، واعتذرا عن وَصْلِ الهمزةِ بكثرة الاستعمال ، كما يقول الخليل في همزةِ التعريف ، وقد رُدَّ قولهُما بأنه كان ينبغي أن يُنَوَّن لفظُ الجَلالةِ لأنَّ وزنَه حينئذ فَعَّال نحو : لآَّل وسَآَّل ، وليس فيه ما يمنعه من التنوينِ فدلَّ على أنَّ أل فيه زائدةٌ على ماهيةِ الكلمةِ .

ومن غريبِ ما نُقِل فيه أيضاً أنه ليس بعربي بل هو مُعَرَّب ، وهو سُريانيُّ الوَضْعِ وأصله : " لاها " فَعَرَّبَتْه العربُ فقالوا : الله ، واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر :

كحَلْفَةٍ من أبي رياحِ *** يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبارُ

فجاء به على الأصلِ قبل التعريبِ ، ونقل ذلك أبو زيد البلخي .

[ ومِنْ غريب ما نُقل فيه أيضاً أنَّ الأصل فيه الهاءُ التي هي كنايةٌ عن الغائب ] قالوا : وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في نظر عقولِهم فأشاروا إليه بالضمير ، ثم زِيدَتْ فيه لامُ المِلْك ، إذ قد عَلِموا أنه خالقُ الأشياء ومالِكُها فصار اللفظ : " لَهُ " ثم زِيدت فيه الألف واللام تعظيماً وتفخيماً ، وهذا لا يُشبه كلامَ أهل اللغة ولا النَحْويين ، وإنما يشبه كلامَ بعض المتصوفة .

ومن غريب ما نُقل فيه أيضاً أنه صفةٌ وليس باسم ، واعتلَّ هذا الذاهب إلى ذلك أنَّ الاسم يُعَرِّفَ المُسَمَّى والله تعالى لا يُدْرَكُ حِسَّاً ولا بديهةً فلا يُعَرِّفُه اسمه ، إنما تُعَرِّفه صفاتُه ، ولأن العَلَم قائمٌ مقامَ الإِشارة ، واللهُ تعالى ممتنعٌ ذلك في حقه . وقد رَدَّ الزمخشري هذا القولَ بما معناه أنك تصفه ولا تَصِفُ به ، فتقول : إله عظيم واحد ، كما تقول : شيءٌ عظيم ورجلٌ كريم ، ولا تقول : شيء إله ، كما لا تقول : شيء رجل ، ولو كان صفةً لوقع صفةً لغيره لا موصوفاً ، وأيضاً فإنَّ صفاتِه الحسنى لا بُدَّ لها من موصوف تَجْري عليه ، فلو جَعَلْتَها كلَّها صفاتٍ ، بقيت غيرَ جاريةٍ على اسمٍ موصوفٍ بها ، وليس فيما عدا الجلالة خلافٌ في كونِه صفةً فَتَعَيَّن أن تكونَ الجلالةُ اسماً لا صفةً .

والقولُ في هذا الاسم الكريمِ يحتمل الإِطالةَ أكثرَ ممَّا ذكرْتُ لك ، إنما اختصرْتُ ذلك خوفَ السآمة للناظر في هَذا الكتاب .

الرحمن الرحيم : صفتان مشتقتان من الرحمة ، وقيل : الرحمنُ ليس مشتقاً لأن العربَ لم تَعْرِفْه في قولهم : { وَمَا الرَّحْمَنُ } [ الفرقان : 60 ] وأجاب ابن العربي عنه بأنهم جَهِلوا الصفةَ دونَ الموصوفِ ، ولذلك لم يقولوا : وَمَنْ الرحمن ؟ وقد تَبِعا موصوفَهما في/ الأربعةِ من العشرة المذكورة .

وذهب الأعلمُ الشنتمريُّ إلى أن " الرحمن " بدلٌ من اسمِ الله لا نعتٌ له ، وذلك مبنيٌّ على مذهبه من أنَّ الرحمن عنده عَلَمٌ بالغلَبة . واستدَلَّ على ذلك بأنه قد جاء غيرَ تابعٍ لموصوفٍ ، كقوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ } [ الرحمن : 1-2 ] { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] . وقد رَدَّ عليه السُّهيلي بأنه لو كان بدلاً لكان مبيَّناً لِما قبله ، وما قبله - وهو الجلالة - لا يفتقرُ إلى تبيين لأنها أعرفُ الأعلامِ ، ألا تراهم قالوا :

{ وَمَا الرَّحْمَنُ } [ الفرقان : 60 ] ولم يقولوا : وما اللهُ . انتهى . أمَّا قوله : " جاء غيرَ تابع " فذلك لا يمنعُ كونَه صفةً ، لأنه إذا عُلم الموصوفُ جاز حَذْفُه وبقاءُ صفتِه ، كقولِه تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } [ فاطر : 28 ] أي نوع مختلف ، وكقول الشاعر :

كناطحٍ صخرةً يوماً لِيُوْهِنَها *** فلم يَضِرْها وأَوْهَى قرنَه الوَعِلُ

أي : كوعلٍ ناطح ، وهو كثير .

والرحمة لغةً : الرقةُ والانعطافُ ، ومنه اشتقاق الرَّحِم ، وهي الابطنُ لانعطافِها على الجنين ، فعلى هذا يكون وصفُه تعالى بالرحمة مجازاً عن إنعامِه على عبادِه كالمَلِك إذا عَطَف على رعيَّته أصابَهم خيرُه . هذا معنى قول أبي القاسم الزمخشري . ويكونُ على هذا التقدير صفةَ فعلٍ لا صفةَ ذاتٍ ، وقيل : الرحمة إرادةُ الخيرِ لمَنْْ أرادَ اللهُ به ذلك ، ووَصْفُه بها على هذا القولِ حقيقةٌ ، وهي حينئذ صفةُ ذاتٍ ، وهذا القولُ هو الظاهرُ .

وقيل : الرحمة رِقَّةٌ تقتضي الإِحسانَ إلى المرحومِ ، وقد تُستعملُ تارةً في الرقة المجردة وتارةً في الإِحسان المجرَّد ، وإذا وُصِف به الباري تعالى فليس يُراد به إلا الإِحسانُ المجردُ دونَ الرقةِ ، وعلى هذا رُوي : " الرحمةُ من الله إنعامٌ وإفضالٌ ، ومن الآدميين رقةٌ وتعطُّف " .

[ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " وهما اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ من الآخر أي : أكثرُ رحمة " . قال الخطَّابي : وهو مُشْكِلٌ ؛ لأن الرقة ] لا مَدْخَلَ لها في صفاتهِ . وقال الحسين بن الفضل : " هذا وَهْمٌ من الراوي ، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أَرْفَقُ من الآخر والرفق من صفاته " وقال عليه الصلاة والسلام : " إن الله رفيقٌ يحبُّ الرِفقَ ، ويُعطي عليه ما لا يُعْطي على العنف " ، ويؤيِّده الحديثُ ، وأمَّا الرحيمُ فالرفيق بالمؤمنين خاصة .

واختلف أهلُ العلمِ في " الرحمن الرحيم " بالنسبة إلى كونِهما بمعنىً واحدٍ أو مختلفين .

فذهب بعضُهم إلى أنهما بمعنى واحد كَنْدمان ونَدِيم ، ثم اختلف هؤلاء على قولين ، فمنهم مَنْ قال : جُمِع بينهما تأكيداً ، ومنهم مَنْ قال : لمَّا تَسَمَّى مُسَيْلمة - لعنه الله- بالرحمن قال الله لنفسه : الرحمنُ الرحيم ، فالجمعُ بين هاتين الصفتين لله تعالى فقط . وهذا ضعيفٌ جداً ، فإنَّ تسميَته بذلك غيرُ مُعْتَدٍّ بها البتَة ، وأيضاً فإن بسم الله الرحمن الرحيم قبلَ ظهورِ أمرِ مُسَيْلَمَةَ .

ومنهم مَنْ قال : لكلِّ واحد فائدةٌ غيرُ فائدةِ الآخر ، وجَعَل ذلك بالنسبة إلى تغايُرِ متعلِّقِهما إذ يقال : " رَحْمن الدنيا ورحيمُ الآخرة " ، يُروى ذلك عن النبي صلَى الله عليه وسلم ، وذلك لأنَّ رحمته في الدنيا تَعُمُّ المؤمنَ والكافرَ ، وفي الآخرة تَخُصُّ المؤمنين فقط ، ويُروَى : رحيمُ الدنيا ورحمنُ الآخرة ، وفي المغايَرة بينهما بهذا القَدْر وحدَه نظرٌ لا يَخْفى .

وذهب بعضُهم إلى أنهما مختلفان ، ثم اختلف هؤلاء أيضاً : فمنهم مَنْ قال : الرحمن أبلغُ ، ولذلك لا يُطلق على غيرِ الباري تعالى ، واختاره الزمخشري ، وجعلَه من باب غَضْبان وسَكْران للممتلىءِ غَضَباً وسُكْراً ، ولذلك يقال : رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الآخرة فقط ، قال الزمخشري : " فكان القياسُ الترقِّيَ من الأدنى ، إلى الأعلى ، كما يُقال : شُجاع باسل ولا يقال : باسِلٌ شجاع . ثم أجاب بأنه أَرْدَفَ الرحمنَ الذي يتناول جلائلَ النِّعَمِ وأصولَها بالرحيمِ ليكونَ كالتتمَّةِ والرديف ليتناولَ ما دَقَّ منها ولَطَف .

ومنهم مََنْ عَكَس فجعلَ الرحيمَ أبلغَ ، ويؤيده روايةُ مَنْ قال : " رحيم الدنيا وحمان الآخرة " لأنه في الدنيا يَرْحم المؤمن والكافرَ ، وفي الآخرة لا يَرْحم إلا المؤمن . لكن الصحيح أنَّ الرحمنَ أبلغُ ، وأمَّا هذه الروايةُ فليس فيها دليلٌ ، بل هي دالَّةٌ على أنَّ الرحمنَ أبلغُ ، وذلك لأن القيامَة فيها الرحمةُ أكثرُ بأضعافٍ ، وأثرُها فيها أظهرُ ، على ما يُروى أنه خَبَّأ لعباده تسعاً وتسعينَ رحمةً ليوم القيامة . والظاهر أن جهةَ المبالَغَةِ فيهما مختلفةٌ ، فمبالغةُ " فَعْلان " من حيث الامتلاءُ والغَلَبَةُ ومبالغةُ " فعيل " من حيث التكرارُ والوقوع بمَحَالِّ الرحمة . وقال أبو عبيدة : " وبناء فَعْلان ليس كبناءِ فَعِيل ، فإنَّ بناء فَعْلان لا يقع إلا على مبالغةِ الفِعْل ، نحو : رجل غَضْبانُ للمتلئ غضباً ، وفعيل يكون بمعنى الفاعلِ والمفعول ، قال :

فأمَّا إذا عَضَّتْ بك الحربُ عَضَّةً *** فإنك مَعْطوفٌ عليك رحيمُ

فالرحمنُ خاصٌّ الاسمِ عامُّ الفعل . والرحيمُ عامٌّ الاسمِ خاصُّ الفعلِ ، ولذلك لا يَتَعَدَّى فَعْلان ويتعدَّى فعيل . حكى ابنُ سِيده : " زيدٌ حفيظٌ علمَك وعلمَ غيرك " .

والألفُ واللام في " الرحمن " للغلَبة كهي في " الصَّعِق " ، ولا يُطلق على غير الباري تعالى عند أكثر العلماء ، لقوله تعالى : { قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ } [ الإسراء : 110 ] ، فعادَلَ به ما لا شِرْكَةَ فيه ، بخلاف " رحيم " فإنه يُطلق على غيره تعالى ، قال [ تعالى ] في حَقَّه عليه السلام : { بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ التوبة : 128 ] ، وأمَّا قول الشاعر في مُسَيْلَمََةَ الكذاب -لعنه الله تعالى :-32 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأنت غَيْثُ الوَرى لا زلت رَحْمانا

فلا يُلتفت إلى قوله لَفْرطَ تَعَنُّتهم ، ولا يُستعمل إلاَّ مُعَرَّفاً بالألفِ واللامِ أو مضافاً ، ولا يُلتفت لقوله : " لا زِلْتَ رَحْمانا " لشذوذه .

ومن غريب ما نُقِل فيه أنه مُعَرَّب ، ليس بعربيِّ الأصل ، وأنه بالخاء المعجمة قاله ثعلب [ والمبرد وأنشد ] :

لن تُدْرِكوا المَجْدَ أو تَشْرُوا عَباءَكُمُ *** بِالخَزِّ أو تَجْعلوا اليَنْبُوتَ ضَمْرانا

أو تَتْرُكونَ إلى القَسَّيْنِ هِجْرَتَكُمْ *** ومَسْحكم صُلبَهم رَخْمانَ قُرْبانا

وفي وصل الرحيم بالحمد ثلاثة أوجهٍ ، الذي عليه الجمهور : الرحيمِ بكسر الميم موصولةً بالحمد . وفي هذه الكسرة احتمالان : أحدهما - وهو الأصحُّ - أنها حركةُ إعرابٍ ، وقيل : يُحتمل أنَّ الميم سَكَنَت على نية الوقف ، فلمَّا وقع بعدها ساكن حُرِّكت بالكسر . والثاني من وَجْهَي الوصل : سكونُ الميمِ والوقفُ عليها ، والابتداءُ بقطع ألف " الحمد " ، رَوَتْ ذلك أم سلمة عنه عليه السلام . الثالث : حكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ : الرحيمَ الحمدُ " بفتح الميم ووصل ألف الحمد ، كأنها سكنَّت وقطعَتِ الألفَ ، ثم أَجْرت الوقف مُجرى الوصل ، فألقَتْ حركة همزة الوصل على الميم الساكنة . قال ابن عطية : " ولم تُرْوَ هذه قراءةً عن أحد [ فيما علمت ، " وهذا فيه نظرٌ يجيئ في : { الم اللَّهُ } [ آل عمران : 1-2 ] قلت : يأتي تحقيقه في آل عمران إن شاء الله تعالى ، ويحتمل هذا وجهاً آخر وهو أن تكونَ الحركةُ للنصبِ بفعل محذوفٍ على القطع ] ، وهو أَوْلى من هذا التكلُّف .