سورة   الفاتحة
 
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفاتحة

قال علي ، وابن عباس ، وعلي بن الحسين ، وقتادة ، وأبو العالية ، وعطاء ، وابن جبير ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وجعفر الصادق ، الفاتحة مكية ، ويؤيده { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم } والحجر مكية ، بإجماع .

وفي حديث أبي : إنها السبع المثاني والسبع الطوال ، أنزلت بعد الحجر بمدد ، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة ، وما حفظ أنه كانت في الإسلام صلاة بغير { الحمد لله رب العالمين } .

وقال أبو هريرة ، وعطاء بن يسار ، ومجاهد ، وسواد بن زياد ، والزهري ، وعبد الله بن عبيد بن عمير : هي مدنية ، وقيل إنها مكية مدنية .

{ بسم الله الرحمن الرحيم } باء الجر تأتي لمعان : للإلصاق ، والاستعانة ، والقسم ، والسبب ، والحال ، والظرفية ، والنقل .

فالإلصاق : حقيقة مسحت برأسي ، ومجازاً مررت بزيد .

والاستعانة : ذبحت بالسكين .

والسبب : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا } والقسم : بالله لقد قام .

والحال : جاء زيد بثيابه .

والظرفية : زيد بالبصرة .

والنقل : قمت بزيد .

وتأتي زائدة للتوكيد : شربن بماء البحر .

والبدل : فليت لي بهم قوماً أي بدلهم .

والمقابلة : اشتريت الفرس بألف .

والمجاوزة : تشقق السماء بالغمام أي عن الغمام .

والاستعلاء : من أن تأمنه بقنطار .

وكنى بعضهم عن الحال بالمصاحبة ، وزاد فيها كونها للتعليل .

وكنى عن الاستعانة بالسبب ، وعن الحال ، بمعنى مع ، بموافقة معنى اللام .

ويقال اسم بكسر همزة الوصل وضمها ، وسم بكسر السين وضمها ، وسمي كهدي ، والبصري يقول : مادته سين وميم وواو ، والكوفي يقول : واو وسين وميم ، والأرجح الأول .

والاستدلال في كتب النحو : أل للعهد في شخص أو جنس ، وللحضور ، وللمح الصفة ، وللغلبة ، وموصولة .

فللعهد في شخص : جاء الغلام ، وفي جنس : اسقني الماء ، وللحضور : خرجت فإذا الأسد ، وللمح الصفة : الحارث ، وللغلبة : الدبران .

وزائدة لازمة ، وغير لازمة ، فاللازمة : كالآن ، وغير اللازمة : باعد أم العمر من أسيرها ، وهل هي مركبة من حرفين أم هي حرف واحد ؟ وإذا كانت من حرفين ، فهل الهمزة زائدة أم لا ؟ مذاهب .

و( الله ) علم لا يطلق إلا على المعبود بحق مرتجل غير مشتق عند الأكثرين ، وقيل مشتق ، ومادته قيل : لام وياء وهاء ، من لاه يليه ، ارتفع .

قيل : ولذلك سميت الشمس إلاهه ، بكسر الهمزة وفتحها ، وقيل : لام وواو وهاء من لاه يلوه لوهاً ، احتجب أو استتار ، ووزنه إذ ذاك فعل أو فعل ، وقيل : الألف زائدة ومادته همزة ولام ، من أله أي فزع ، قاله ابن إسحاق ، أو أله تحير ، قاله أبو عمر ، وأله عبد ، قاله النضر ، أو أله سكن ، قاله المبرد .

وعلى هذه الأقاويل فحذفت الهمزة اعتباطاً ، كما قيل في ناس أصله أناس ، أو حذفت للنقل ولزم مع الإدغام ، وكلا القولين شاذ .

وقيل : مادته واو ولام وهاء ، من وله ، أي طرب ، وأبدلت الهمزة فيه من الواو نحو أشاح ، قاله الخليل والقناد ، وهو ضعيف للزوم البدل .

وقولهم في الجمع آلهة ، وتكون فعالاً بمعنى مفعول ، كالكتاب يراد به المكتوب .

وأل في الله إذا قلنا أصله الإله ، قالوا للغلبة ، إذ الإله ينطلق على المعبود بحق وباطل ، والله لا ينطلق إلا على المعبود بالحق ، فصار كالنجم للثريا .

وأورد عليه بأنه ليس كالنجم ، لأنه بعد الحذف والنقل أو الإدغام لم يطلق على كل إله ، ثم غلب على المعبود بحق ، ووزنه على أن أصله فعال ، فحذفت همزته عال .

وإذا قلنا بالأقاويل السابقة ، فأل فيه زائدة لازمة ، وشذ حذفها في قولهم لاه أبوك شذوذ حذف الألف في أقبل سيل .

أقبل جاء من عند الله .

وزعم بعضهم أن أل في الله من نفس الكلمة ، ووصلت الهمزة لكثرة الاستعمال ، وهو اختيار أبي بكر بن العربي والسهيلي ، وهو خطأ ، لأن وزنه إذ ذاك يكون فعالاً ، وامتناع تنوينه لا موجب له ، فدل على أن أل حرف داخل على الكلمة سقط لأجلها التنوين .

وينفرد هذا الاسم بأحكام ذكرت في علم النحو ، ومن غريب ما قيل : إن أصله لاها بالسريانية فعرب ، قال :

كحلفة من أبي رباح ***

يسمعها لاهه الكبار

قال أبو يزيد البلخي : هو أعجمي ، فإن اليهود والنصارى يقولون لاها ، وأخذت العرب هذه اللفظة وغيروها فقالوا الله .

ومن غريب ما قيل في الله أنه صفة وليس اسم ذات ، لأن اسم الذات يعرف به المسمى ، والله تعالى لا يدرك حساً ولا بديهة ، ولا تعرف ذاته باسمه ، بل إنما يعرف بصفاته ، فجعله اسماً للذات لا فائدة في ذلك .

وكان العلم قائماً مقام الإشارة ، وهي ممتنعة في حق الله تعالى ، وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلا يشكل بخط اللاه اسم الفاعل من لها يلهو ، وقيل طرحت تخفيفاً ، وقيل هي لغة فاستعملت في الخط .

{ الرحمن } : فعلان من الرحمة ، وأصل بنائه من اللازم من المبالغة وشذ من المتعدي ، وأل فيه للغلبة ، كهي في الصعق ، فهو وصف لم يستعمل في غير الله ، كما لم يستعمل اسمه في غيره ، وسمعنا مناقبه ، قالوا : رحمن الدنيا والآخرة ، ووصف غير الله به من تعنت الملحدين ، وإذا قلت الله رحمن ، ففي صرفه قولان ليسند أحدهما إلى أصل عام ، وهو أن أصل الاسم الصرف ، والآخر إلى أصل خاص ، وهو أن أصل فعلان المنع لغلبته فيه .

ومن غريب ما قيل فيه إنه أعجمي بالخاء المعجمة فعرب بالحاء ، قاله ثعلب .

{ الرحيم } : فعيل محوّل من فاعل للمبالغة ، وهو أحد الأمثلة الخمسة ، وهي : فعال ، وفعول ، ومفعال ، وفعيل ، وفعل ، وزاد بعضهم فعيلاً فيها : نحو سكير ، ولها باب معقود في النحو ، وقيل : وجاء رحيم بمعنى مرحوم ، قال العملس بن عقيل :

فأما إذا عضت بك الأرض عضة***

فإنك معطوف عليك رحيم

الباء في بسم الله للاستعانة ، نحو كتبت بالقلم ، وموضعها نصب ، أي بدأت ، وهو قول الكوفيين ، وكذا كل فاعل بدئ في فعله بالتسمية كان مضمرا لأبدأ ، وقدره الزمخشري فعلاً غير بدأت وجعله متأخراً ، قال : تقديره بسم الله أقرأ أو أتلو ، إذ الذي يجيء بعد التسمية مقروء ، والتقديم على العامل عنده يوجب الاختصاص ، وليس كما زعم .

قال سيبويه : وقد تكلم على ضربت زيداً ما نصه : وإذا قدمت الاسم فهو عربي جيد كما كان ذلك ، يعني تأخيره عربياً جيداً وذلك قولك زيداً ضربت .

والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير ، سواء مثله في ضرب زيد عمر ، أو ضرب زيداً عمر ، وانتهى ، وقيل موضع اسم رفع التقدير ابتدائي ثابت ، أو مستقر باسم الله ، وهو قول البصريين ، وأي التقديرين أرجح يرجح الأول ، لأن الأصل في العمل للفعل ، أو الثاني لبقاء أحد جزأي الإسناد .

والاسم هو اللفظ الدال بالوضع على موجود في العيان ، إن كان محسوساً ، وفي الأذهان ، إن كان معقولاً من غير تعرض ببنيته للزمان ، ومدلوله هو المسمى ، ولذلك قال سيبويه : ( فالكل اسم وفعل وحرف ) ، والتسمية جعل ذلك اللفظ دليلاً على ذلك المعنى ، فقد اتضحت المباينة بين الاسم والمسمى والتسمية .

فإذا أسندت حكماً إلى اسم ، فتارة يكون إسناده إليه حقيقة ، نحو : زيد اسم ابنك ، وتارة لا يصح الإسناد إليه إلا مجازاً ، وهو أن تطلق الاسم وتريد به مدلوله وهو المسمى ، نحو قوله تعالى : { تبارك اسم ربك } { وسبح اسم ربك } { وما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } والعجب من اختلاف الناس ، هل الاسم هو عين المسمى أو غيره ، وقد صنف في ذلك الغزالي ، وابن السيد ، والسهيلي وغيرهم ، وذكروا احتجاج كل من القولين ، وأطالوا في ذلك .

وقد تأول السهيلي ، رحمه الله ، قوله تعالى : { سبح اسم ربك } بأنه أقحم الاسم تنبيهاً على أن المعنى سبح ربك ، واذكر ربك بقلبك ولسانك حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان ، لأن الذكر بالقلب متعلقة المسمى المدلول عليه بالاسم ، والذكر باللسان متعلقة اللفظ .

وقوله تعالى : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء } بأنها أسماء كاذبة غير واقعة على حقيقة ، فكأنهم لم يعبدوا إلا الأسماء التي اخترعوها ، وهذا من المجاز البديع .

وحذفت الألف من بسم هنا في الخط تخفيفاً لكثرة الاستعمال ، فلو كتبت باسم القاهر أو باسم القادر .

فقال الكسائي والأخفش : تحذف الألف .

وقال الفراء : لا تحذف إلا مع { بسم الله الرحمن الرحيم } ، لأن الاستعمال إنما كثر فيه ، فأما في غيره من أسماء الله تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف .

والرحمن صفة لله عند الجماعة .

وذهب الأعلم وغيره إلى أنه بدل ، وزعم أن الرحمن علم ، وإن كان مشتقاً من الرحمة ، لكنه ليس بمنزلة الرحيم ولا الراحم ، بل هو مثل الدبران ، وإن كان مشتقاً من دبر صيغ للعلمية ، فجاء على بناء لا يكون في النعوت ، قال : ويدل على علميته وروده غير تابع لاسم قبله ، قال تعالى :

{ الرحمن على العرش استوى } { الرحمن علم القرآن } وإذا ثبتت العلمية امتنع النعت ، فتعين البدل .

قال أبو زيد السهيلي : البدل فيه عندي ممتنع ، وكذلك عطف البيان ، لأن الاسم الأول لا يفتقر إلى تبيين ، لأنه أعرف الأعلام كلها وأبينها ، ألا تراهم قالوا : وما الرحمن ، ولم يقولوا : وما الله ، فهو وصف يراد به الثناء ، وإن كان يجري مجرى الأعلام .

{ الرحمن الرحيم } قيل دلالتهما واحد نحو ندمان ونديم ، وقيل معناهما مختلف ، فالرحمن أكثر مبالغة ، وكان القياس الترقي ، كما تقول : عالم نحرير ، وشجاع باسل ، لكن أردف الرحمن الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم ليكون كالتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف ، واختاره الزمخشري .

وقيل الرحيم أكثر مبالغة ، والذي يظهر أن جهة المبالغة مختلفة ، فلذلك جمع بينهما ، فلا يكون من باب التوكيد .

فمبالغة فعلان مثل غضبان وسكران من حيث الامتلاء والغلبة ، ومبالغة فعيل من حيث التكرار والوقوع بمحال الرحمة ، ولذلك لا يتعدى فعلان ، ويتعدى فعيل .

تقول زيد رحيم المساكين كما تعدى فاعلاً ، قالوا زيد حفيظ علمك وعلم غيرك ، حكاه ابن سيده عن العرب .

ومن رأى أنهما بمعنى واحد ، ولم يذهب إلى توكيد أحدهما بالآخر ، احتاج أنه يخص كل واحد بشيء ، وإن كان أصل الموضوع عنده واحداً ليخرج بذلك عن التأكيد ، فقال مجاهد : رحمن الدنيا ورحيم الآخرة .

وروى ابن مسعود ، وأبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة » وإذا صح هذا التفسير وجب المصير إليه .

وقال القرطبي : رحمن الآخرة ورحيم الدنيا .

وقال الضحاك : لأهل السماء والأرض .

وقال عكرمة : برحمة واحدة وبمائة رحمة .

وقال المزني : بنعمة الدنيا والدين .

وقال العزيزي : الرحمن بجميع خلقه في الأمطار ، ونعم الحواس ، والنعم العامة ، الرحيم بالمؤمنين في الهداية لهم واللطف بهم ، وقال المحاسبي : برحمة النفوس ورحمة القلوب .

وقال يحيى بن معاذ : لمصالح المعاد والمعاش .

وقال الصادق : خاص اللفظ بصيغة عامة في الرزق ، وعام اللفظ بصيغة خاصة في مغفرة المؤمن .

وقال ثعلب : الرحمن أمدح ، والرحيم ألطف ، وقيل : الرحمن المنعم بما لا يتصور جنسه من العباد ، والرحيم المنعم بما يتصور جنسه من العباد .

وقال أبو علي الفارسي : الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة ، يختص به الله ، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين ، كما قال تعالى : { وكان بالمؤمنين رحيماً } ووصف الله تعالى بالرحمة مجاز عن إنعامه على عباده ، ألا ترى أن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم ، أصابهم إحسانه فتكون الرحمة إذ ذاك صفة فعل ؟ وقال قوم : هي إرادة الخير لمن أراد الله تعالى به ذلك ، فتكون على هذا صفة ذات ، وينبني على هذا الخلاف خلاف آخر ، وهو أن صفات الله تعالى الذاتية والفعلية أهي قديمة أم صفات الذات قديمة وصفات الفعل محدثة قولان ؟ وأما الرحمة التي من العباد فقيل هي رقة تحدث في القلب ، وقيل هي قصد الخير أو دفع الشر ، لأن الإنسان قد يدفع الشر عمن لا يرق عليه ، ويوصل الخير إلى من لا يرق عليه .

وفي البسملة من ضروب البلاغة نوعان :

أحدهما : الحذف ، وهو ما يتعلق به الباء في بسم ، وقد مر ذكره ، والحذف قيل لتخفيف اللفظ ، كقولهم بالرفاء والبنين ، باليمن والبركة ، فقلت إلى الطعام ، وقوله تعالى في تسع آيات أي أعرست وهلموا واذهب ، قال أبو القاسم السهيلي : وليس كما زعموا ، إذ لو كان كذلك كان إظهاره وإضماره في كل ما يحذف تخفيفاً ، ولكن في حذفه فائدة ، وذلك أنه موطن ينبغي أن لا يقدم فيه سوى ذكر الله تعالى ، فلو ذكر الفعل ، وهو لا يستغني عن فاعله ، لم يكن ذكر الله مقدماً ، وكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى ، كما تقول في الصلاة الله أكبر ، ومعناه من كل شيء ، ولكن يحذف ليكون اللفظ في اللسان مطابقاً لمقصود القلب ، وهو أن لا يكون في القلب ذكر إلا الله عز وجل .

ومن الحذف أيضاً حذف الألف في بسم الله وفي الرحمن في الخط ، وذلك لكثرة الاستعمال .

النوع الثاني : التكرار في الوصف ، ويكون إما لتعظيم الموصوف ، أو للتأكيد ، ليتقرر في النفس .

وقد تعرض المفسرون في كتبهم لحكم التسمية في الصلاة ، وذكروا اختلاف العلماء في ذلك ، وأطالوا التفاريع في ذلك ، وكذلك فعلوا في غير ما آية وموضوع هذا كتب الفقه ، وكذلك تكلم بعضهم على التعوذ ، وعلى حكمه ، وليس من القرآن بإجماع .

ونحن في كتابنا هذا لا نتعرض لحكم شرعي ، إلا إذا كان لفظ القرآن يدل على ذلك الحكم ، أو يمكن استنباطه منه بوجه من وجوه الاستنباطات .

واختلف في وصل الرحيم بالحمد ، فقرأ قوم من الكوفيين بسكون الميم ، ويقفون عليها ويبتدئون بهمزة مقطوعة ، والجمهور على جر الميم ووصل الألف من الحمد .

وحكى الكسائي عن بعض العرب أنه يقرأ الرحيم الحمد بفتح الميم وصلة الألف ، كأنك سكنت الميم وقطعت الألف ، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت ولم تر ، وهذه قراءة عن أحد .