المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

275- الذين يتعاملون بالربا لا يكونون في سعيهم وتصرفهم وسائر أحوالهم إلا في اضطراب وخلل ، كالذي أفسد الشيطان عقله فصار يتعثر من الجنون الذي أصابه ، لأنهم يزعمون أن البيع مثل الربا في أن كلا منهما فيه معاوضة وكسب . فيجب أن يكون كلاهما حلالا ، وقد رد الله عليهم زعمهم فبين لهم أن التحليل والتحريم ليس من شأنهم ، وأن التماثل الذي زعموه ليس صادقاً ، والله قد أحل البيع وحرم الربا ، فمن جاءه أمر ربه بتحريم الربا واهتدى به ، فله ما أخذه من الربا قبل تحريمه ، وأمره موكول إلى عفو الله . ومن عاد إلى التعامل بالربا باستحلاله بعد تحريمه ، فأولئك يلازمون النار خالدين فيها{[28]} .


[28]:الربا المذكور في الآية هو ربا الجاهلية: وهو الزيادة في الديون في نظير الأجل. وهو حرام في قليله وكثيره. وقال الإمام أحمد: "لا يسع مسلما أن ينكره". ويقابله ربا البيوع وهو ثابت بالسنة في قوله عليه السلام: "البر بالبر مثلا بمثل يدل بيد، والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد، والذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد، والتمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى. وقد اتفق الفقهاء على تحريم الزيادة عند المبادلة مع اتحاد الجنس في هذه الأشياء، وأباحوا الزيادة إذا اختلف الجنس، ولكن حرموا التأجيل من هذه الأصناف. واختلفوا في قياس غيرها عليها اختلافا طويلا، وأقرب الآراء: أن يقاس عليها كل ما هو مطعوم قابل للادخار. وربا الجاهلية لا خلاف فيه فمنكره "كافر" وأن ربا الجاهلية يصيب أكله ومؤاكلة باضطرابات نفسية وعصبية نتيجة إرهاقه وتركيز ذهنه في المال الذي أقرضه أو أخذه. فالدائن في قلق بسبب انحصار ذهنه وفراغ نفسه من كل عمل، والمدين في هم وخوف من ألا يسدده. وتحريم الربا في القرآن كما هو في كل الديانات السماوية تنظيم اقتصادي ويتفق التحريم مع ما قرره الفلاسفة. ذلك لأن النقد لا يلد النقد، والاقتصاديون يقررون أن طرق الكسب أربعة: ثلاثة منها منتجة، والرابعة غير منتجة، فالثلاثة المنتجة: العمل ويتبعه الصناعة والزراعة والتجارة لأنها بنقل الأشياء من مكان إنتاجها إلى مكان استهلاكها تتعرض لمخاطر تزيد قيمتها بهذا الانتقال وذلك في ذاته إنتاج. أما الرابعة فهي الفائدة أو الربا، وهذه لا مخاطرة فيها لأن القرض لا يتعرض للخسارة بل له الكسب دائما. وإذا كان المسبب هو القرض فهو بتوسيط غيره من تعرض للخسارة والطبيعي إن كان ينتج بنفسه ويفرض ذلك فإن شيوع الكسب الفائدة يؤدي إلى تحكم رؤوس الأموال في العمل ويؤدي إلى فراغ وعطل فيكون الاضطراب والكسل.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

قوله تعالى : { الذين يأكلون الربا } . أي يعاملون به ، وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال .

قوله تعالى : { لا يقومون } . يعني يوم القيامة من قبورهم .

قوله تعالى : { إلا كما يقوم الذي يتخبطه } . أي يصرعه .

قوله تعالى : { الشيطان } . أصل الخبط الضرب والوطء ، وهو ضرب على غير استواء يقال : ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائمها .

قوله تعالى : { من المس } . أي الجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنوناً ، ومعناه : أن آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كمثل المصروع .

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف ، أخبرنا عبد الله ابن يحيى ، أخبرنا يعقوب بن سفيان ، أخبرنا إسماعيل بن سالم ، أخبرنا عباد بن عباد ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء قال : " فانطلق بي جبريل عليه السلام إلى رجال كثير ، كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم منضدين على سابلة آل فرعون ، وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً ، قال : فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر ، لا يسمعون ولا يعقلون ، فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا ، فتميل بهم بطونهم فيصرعون ، ثم يقوم أحدهم فيميل أحدهم فيميل به بطنه فيصرع ، فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيردوهم مقبلين ومدبرين ، فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة قال : وآل فرعون يقولون : اللهم لا تقم الساعة أبداً ، قال ويوم القيامة يقال : ( أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) قلت : يا جبريل من هم هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " .

قوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } . أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هذا ، واستحلالهم إياه ، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه به فيقوم به فيقول الغريم لصاحب الحق : زدني في الأجل حتى أزيدك في المال ؟ فيفعلان ذلك ، ويقولون سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح ، أو عند المحل لأجل التأخير فكذبهم الله تعالى .

قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } . واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى( وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس ) أي ليكثر . ( فلا يربو عند الله ) فطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة ، إنما المحرم زيادة على صفة مخصوصة ، في مال مخصوص بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا عبد الوهاب ، عن أيوب بن أبي تميمة ، عن محمد بن سيرين ، عن مسلم بن يسار ورجل آخر ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا الورق بالورق ، ولا البر بالبر ، ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء ، عيناً بعين ، يداً بيد ، ولكن بيعوا الذهب بالورق ، والورق بالذهب ، والبر بالشعير ، والشعير بالبر ، والتمر بالملح ، والملح بالتمر يداً بيد ، كيف شئتم ، ونقص أحدهم الملح أو التمر وزاد أحدهما : ومن زاد أو استزاد فقد أربى " . وروي هذا الحديث من طرق محمد بن سيرين ، عن مسلم بن يسار ، و عبد الله بن عتيك عن عبادة .

فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على ستة أشياء ، وذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا يثبت في هذه الأشياء الست بالأوصاف فيها فيتعدى إلى كل مال توجد فيه تلك الأوصاف ، ثم اختلفوا في تلك الأوصاف ، فذهب قوم : إلى أن المعنى في جميعها واحد ، وهو النفع وأثبتوا الربا في جميع الأموال ، وذهب الأكثرون إلى أن الربا يثبت في الدراهم والدنانير بوصف ، وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر ، واختلفوا في ذلك الوصف فقال قوم : ثبت في الدراهم والدنانير بوصف ، النقدية ، وهو قول مالك والشافعي ، وقال قوم : ثبت بعلة الوزن وهو قول أصحاب الرأي ، وأثبتوا الربا في جميع الموزونات مثل الحديد والنحاس والقطن ونحوها . وأما الأشياء الأربعة فذهب قوم إلى أن الربا ثبت فيها بعلة الكيل ، وهو قول أصحاب الرأي ، وأثبتوا الربا في جميع المكيلات مطعوماً كان أو غير مطعوم ، كالجص والنورة ونحوها ، وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل والوزن ، فكل مطعوم وهو مكيل أو موزون يثبت فيه الربا ، ولا يثبت فيما ليس بمكيل ولا موزون ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وقاله الشافعي رحمه الله في القديم ، وقال في الجديد : يثبت فيها الربا بوصف الطعم ، وأثبت الربا في جميع الأشياء المطعومة من الثمار والفواكه والبقول والأدوية مكيلة أو موزونة ، لما روي عن معمر بن عبد الله قال : كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الطعام بالطعام مثلاً بمثل " . فجملة مال الربا عند الشافعي ما كان ثمناً أو مطعوماً .

والربا نوعان : ربا الفضل ، وربا النساء ، فإذا باع مال الربا بجنسه مثلاً بمثل بأن باع أحد النقدين بجنسه أو باع مطعوماً بجنسه كالحنطة بالحنطة ، ونحوها يثبت فيه كلا نوعي الربا حتى لا يجوز إلا متساويين في معيار الشرع ، فإن كان موزوناً كالدراهم والدنانير ، فيشترط المساواة في الوزن ، وإن كان مكيلاً كالحنطة والشعير ، بيع بجنسه ، فيشترط المساواة في الكيل ويشترط التقابض في مجلس العقد ، وإذا باع مال الربا بغير جنسه نظر : إن باع بما لا يوافقه في وصف الربا مثل أن باع مطعوما بأحد النقدين فلا ربا فيه ، كما لو باعه بما يوافقه في الوصف ، مثل أن باع الدراهم بالدنانير أو باع الحنطة بالشعير أو باع مطعوماً بمطعوم آخر من غير جنسه فلا يثبت فيه ربا الفضل حتى يجوز متفاضلاً أو جزافاً ، ويثبت فيه ربا النساء حتى يشترط التقابض في المجلس ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، إلى أن قال إلا سواء بسواء " فيه إيجاب المماثلة ، وتحريم الفضل عند اتفاق الجنس ، وقوله عيناً بعين فيه تحريم النساء ، وقوله يداً بيد كيف شئتم فيه إطلاق التفاضل عند اختلاف الجنس مع إيجاب التقابض في المجلس ، هذا في ربا المبايعة . ومن أقرض شيئاً بشرط أن يرد عليه أفضل فهو قرض جر منفعة ، وكل قرض جر منفعة فهو ربا .

قوله تعالى : { فمن جاءه موعظة من ربه } . تذكير وتخويف ، وإنما ذكر الفعل رداً إلى الوعظ .

قوله تعالى : { فانتهى } . عن أكل الربا .

قوله تعالى : { فله ما سلف } . أي ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له .

قوله تعالى : { وأمره إلى الله } . بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الانتهاء ، وإن شاء خذله حتى يعود ، وقيل : أمره إلى الله فيما يأمره وينهاه ويحل له وحرم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء .

قوله تعالى : { ومن عاد } . بعد التحريم إلى أكل الربا مستحلاً له .

قوله تعالى : { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن المثنى حدثني غندر ، أخبرنا شعبة عن عوف بن أبي جحيفة ، عن أبيه أنه قال : " إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم ، وثمن الكلب وكسب البغي ، ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور " .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا زهير بن حرب ، أخبرنا هشيم أخبرنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه ، وقال : هم سواء " .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو محمد المخلدي ، أنا أبو حامد بن الشرقي ، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا النضر بن محمد ، أخبرنا عكرمة بن عمار ، أخبرنا يحيى هو ابن أبي كثير قال : حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الربا سبعون باباً ، أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمه } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم ، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أي : يصرعه الشيطان بالجنون ، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين ، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال ، فكما تقلبت عقولهم و { قالوا إنما البيع مثل الربا } وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله ، أو متجاهل عظيم عناده ، جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين ، ويحتمل أن يكون قوله : { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أنه لما انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت أحلامهم وضعفت آراؤهم ، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم ، قال الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة { وأحل الله البيع } أي : لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه ، وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع { وحرم الربا } لما فيه من الظلم وسوء العاقبة ، والربا نوعان : ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة ، ومنه جعل ما في الذمة رأس مال ، سلم ، وربا فضل ، وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه متفاضلا ، وكلاهما محرم بالكتاب والسنة ، والإجماع على ربا النسيئة ، وشذ من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة ، بل الربا من كبائر الذنوب وموبقاتها { فمن جاءه موعظة من ربه } أي : وعظ وتذكير وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله بالموعوظ ، وإقامة للحجة عليه { فانتهى } عن فعله وانزجر عن تعاطيه { فله ما سلف } أي : ما تقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة ، دل مفهوم الآية أن من لم ينته جوزي بالأول والآخر { وأمره إلى الله } في مجازاته وفيما يستقبل من أموره { ومن عاد } إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة ، بل أصر على ذلك { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } اختلف العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله ، والأحسن فيها أن يقال هذه الأمور التي رتب الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك ، ولكن الموجب إن لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه ، وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار ، فلولا ما مع الإنسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

ولقد نفر القرآن الناس من تعاطي الربا تنفيراً شديداً وحذرهم من سوء عاقبته تحذيراً مؤكداً فقال - تعالى - :

{ الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ . . . }

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 275 ) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( 276 ) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 277 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 278 ) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ( 279 ) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 280 ) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( 281 )

قوله - تعالى - : { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس . . . } استئناف قصد به الترهيب من تعاطي الربا ، بعد الترغيب في بذل الصدقة لمستحقيها .

ولم يعطف على ما قبله لما بينهما من تضاد ، لأن الصدقة - كما يقول الفخر الرازي - عبارة عن تنقيص المال - في الظاهر - بسبب أمرالله بذلك ، والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهى الله عنه فكانا متضادين .

والأكل في الحقيقة : ابتلاع الطعام ، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص وهو المراد هنا . وعبر عن التعامل بالربا بالأكل ، لأن معظم مكاسب الناس تنفق في الأكل .

والربا في اللغة : الزيادة مطلقاً ، يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد ونما ، ومنه قوله - تعالى - : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ . . . } أي : زادت .

وهو في الشرع : - كما قال الآلوسي - عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال .

وقوله : { يَتَخَبَّطُهُ } : من التخبط بمعنى الخبط وهو الضرب على غير استواء واتساق . يقال : خبطته أخبطه أي ضربته ضرباً متوالبياً على أنحاء مختلفة . ويقالِ : تخبط البعير الأرض إذا ضربها بقوائمه ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه يخبط خبط عشواء . قال زهير بن أبي سلمى في معلقته :

رأيت المناي خبط عشواء من تصب . . . تمته ومن تخطى يعمر فيهرم

والمس : الخبل والجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا أصابه الجنون . وأصل المس اللمس باليد ، ثم استعير للجنون ، لأن الشيطان يمس الإِنسان فيجنه .

والمعنى : { الذين يَأْكُلُونَ } أي يتعاملون به أخذا وإعطاء { لاَ يَقُومُونَ } يوم القيامة للقاء الله إلا قياماً كقيام المتخبط المصروع المجنون حال صرعه وجنونه ، وتخبط الشيطان له ، وذلك لأنه قياماً منكراً مفزعا بسبب أخذه الربا الذي حرم الله أخذه .

فالآية الكريمة تصور المرابي بتلك الصورة المرعبة المفزعة ، التي تحمل كل عاقل على الابتعاد عن كل معاملة يشم منها رائحة الربا .

وهنا نحب أن نوضح أمرين :

أما الأمر الأول : فهو أن جمهو المفسرين يرون أن هذا القيام المفزع للمرابين يكون يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم كما أشرنا إلى ذلك .

قال الآلوسي : وقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار ، فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياك والذنوب التي لا تغفر . الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة ، وأكل الربا فمن أكل الربا فبعثيوم القيامة مجنوناً يتخبط " ثم قرأ الآية ، وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه ، ولعل الله - تعالى - جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له .

. . ثم قال . وقال ابن عطية : المراد تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة : قد جن ، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة ولما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات " .

والذي نراه أنه لا مانع من أن تكون الآية تصور حال المرابين في الدنيا والآخرة ، فهم في الدنيا في قلق مستمر ، وانزعاج دائم ، واضطراب ظاهر بسبب جشعهم وشرهم في جمع المال ، ووساوسهم التي لا تكاد تفارقهم وهم يفكرون في مصير أموالهم . . . ومن يتتبع أحوال بعض المتعاملين بالربا يراهم أشبه بالمجانين في أقوالهم وحركاتهم . أما في الآخرة فقد توعدهم الله - تعالى - بالعقاب الشديد ، والعذاب الأليم .

وقد رجح الإِمام الرازي أن الآية الكريمة تصور حال المرابي في الدنيا والآخرة فقال ما ملخصه : " إن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله ، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً . . . وآكل الربا بلا شك أنه يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكا فيها ، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك حجاباً بينه وبين الله - تعالى - ، فالخبط الذي كان حاصلا له في الدينا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذل الحجاب ، وهذا التأويل أقرب عندي من غيره " .

وأما الأمر الثاني : فهو أن جمهور المفسرين يرون أيضاً أن التشبيه في الآية الكريمة على الحقيقة ، بمعنى أن الآية تشبه حال بحال المجنون الذي مسه الشيطان ، لأن الشسيطان قد يمس الإنسان فيصيبه بالصرع والجنون .

ولكن الزمخشري ومن تابعه ينكرون ذلك ، ويرون أن كون الصرع أو الجنون من الشيطان باطل لأنه لا يقدر على ذلك ، فقد قال الزمخشري في تفسيره : " وتخبط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون أن الشيطان يخبط الإِنسان فيصرع . المس والجنون ، ورجل ممسوس - أي مجنون - وهذا أيضاً من زعماتهم ، وأن الجني يممسه فيختلط عقله ، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن ، ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات " .

ومن العلماء الذين تصدون للرد على الزمخشري ومن تابعه الإِمام القرطبي فقد قال : " وفي هذه الآية دليل على فساد إنكار من إنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع ، وأن الشيطان لا يسلك في الإِنسان ولا يكون منه مس . وقد روى النسائي عن أبي اليسر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول : " اللهم إني أعوذ بك من التردي والغرق والهدم والحريق ، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت ، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبراً وأعوذ بك أن أموت لديغاً " .

وقال الشيخ أحمد بن المنير : ومعنى قول الزمخشري أن تخبط الشيطان من زعمات العرب ، أي من كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها ، كما يقال في الغول والعنقاء ونحو ذلك . وهذا القول من تخبط - الشيسطان بالقدرية - أي المعتزلة - في زعماتهم المردودة بقواطع الشرع ، ثم قال : واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشارع عنها ، والقدرية ينكرون كثيراً مما يزعمونه مخالفاً لقواعدهم . . من ذلك السحر ، وخبطة الشيطان ، وينبئ عنه ظاهر الشرع في خيط طويل لهم ، والذي نراه أن ما عليه جمهور العلماء من أن التشبيه على الحقيقة هو الحق ، لأن الشيطان قد يمس الإِنسان فيصيبه بالجنون ، ولأنه لا يسوغ لنا أن نؤول القرآن بغير ظاهره بسبب اتجاه دليل عليه .

وقوله : { مِنَ المس } متعلق بيقومون أي لا يقومون من المس الذي حل بهم بسبب أكلهم الربا إلا كما المصروع من جنونه .

وقوله - تعالى - : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } بيان لزعمهم الباطل الذي سوغ لهم التعامل بالربا ، ورد عليه بما يهدمه .

واسم الإِشارة " ذلك " سيعود إلى الأكل أو إلى العقاب الذي نزل بهم . والمعنى : ذلك الأكل الذي استحلوه عن طريق الربا ، أو ذلك العذاب الذي حل بهم والذي من مظاهره قيامهم المتخبط ، سببه قولهم إن البيع الذي أحله الله يشابه الريا الذي نتعامل به في أن كلا منهما معاوضة .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : " هلا قيل إنما الربا لا في البيع ، فوجب أن يقال إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه وكانت شبهتهم أنهم قالوا : لو اشتري الرجل الشيء الذي لا يساوي إلا درهما بدرهمين جاز ، فكذلك إذا باع درهما بدرهمين ؟ قلت : جيء به على طريق المبالغة . وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانوناً في الحل حتى شهبوا به البيع " .

وقوله : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } جملة مستأنفة ، وهي رد من الله - تعالى - عليهم ، وإنكار لتسويتهم الربا بالبيع .

قال الآلوسي : وحاصل هذا الرد من الله - تعالى - عليهم : أن ما ذكرتم - " من أن الربا مثل البيع - قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو من عمل الشيطان ، على أن بين البابين فرقاً ، وهو أن من باع ثوباً يساوي درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابلة شيء من الثوب . وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بدون عوض ، ولا يمكن جعل الإِمهال عوضا إذا الإِمهال ليس بمال في مقابلة المال " .

وقوله : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله } .

تفريع على الوعيد السابق في قوله : { الذين يَأْكُلُونَ الربا . . . } إلخ .

والمجيء بمعنى العلم والبلاغ ، والموعظة : ما يعظ الله - تعالى - به عباده عن طريق زجرهم وتخويفهم وتذكيرهم بسوء عاقبة المخالفين لأوامره .

أي : فمن بلغه نهي الله - تعالى - عن الربا ، فامتثل وأطاع وابتعد عما نهاه الله عنه ، { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي فله ما تقدم قبضه من مال الربا قبل التحريم وليس له ما تقدم الاتفاق عليه ولم يقبضه . . لأن الله - تعالى - يقول بعد ذلك { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ . . } .

وقوله : { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } أي أمر هذا المرابي الذي تعامل بالربا قبل التحريم واجتنبه بعده ، أمره مفوض إلى الله - تعالى - فهو الذي يعامله بما يقتضيه فضله وعفوه وكرمه .

قال ابن كثير : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } . . إلخ أي ما بلغه نهى الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة لقوله : { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي خاتين وأول ربا أضع ربا عمي العباس " ، ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال - تعالى - : { فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله } أي ففله ما كان قد أكل من الربا قبل التحريم .

و " من " في قوله : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ } شرطية وهو الظاهر ، ويحتمل أن تكون موصولة وعلى التقديريرن فهي في محل رفع بالابتداء ، وقوله : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } هو الجزاء أو الخبر ، و ( موعظة ) فاعل جاء ، وسقطت التاء من الفعل للفصل بينه وبين الفاعل أو تكون الموعظة هنا بمعنى الوعظ فهي في معنى المذكر .

وقوله : { مِّنْ رَّبِّهِ } جار ومجرور متعلق بجاءه ، أو بمحذوف وقع صفة لموعظة .

وفي قوله : { مِّنْ رَّبِّهِ } تفخيم لشأن الموعظة ، وإغراء بالامتثال والطاعة لأنها صادرة من الله - تعالى - المربى لعباده .

وفي هذه الجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر السماحة فيما شرعه الله لعباده ، لأنه - سبحانه - لم يعاقب المرابين على ما مضى من أمرهم قبل وجود الأمر والنهي ، ولم يجعل تشريعه بأثر رجعي بل جعله للمستقبل ، إذ الإِسلام يجب ما قبله . فما أكله المرابي قبل تحريم الربا فلا عقاب عليه فيه وهو ملك له ، إلا أنه ليس له أن يتعامل به بعد التحريم ، وإذا تعامل به فلن تقبل توبته حتى يتخلص من هذا المال الناتج عنه الربا .

ولقد توعد الله - تعالى - من يعود إلى التعامل بالربا بعد أن حرمه الله - تعالى - فقال { وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

أي ومن عاد إلى التعامل بالربا بعد أن هى الله عنه فأولئك العائدون هم أصحاب النار الملازمون لها ، والماكثون فيها بسبب تعديهم لما نهى الله عنه .

وفي هذه الجملة الكريمة تأكيد للعقاب النازل بأولئك العائدين بوجوه من المؤكدات منها : التعبير فيها بأولئك التي تدل على البعيد فهم بعيدون عن رحمة الله ، والتعبير بالجملة الاسمية التي تفيد الدوام والاستمرار والتعبير ، بكلمة أصحاب الدالة على الملازمة والمصاحبة ، وبكلمة { خَالِدُونَ } التي تدل على طول المكث

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوَاْ إِنّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَا وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رّبّهِ فَانْتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

يعني ذلك جل ثناؤه : الذين يربون ، والإرباء : الزيادة على الشيء ، يقال فيه : أربى فلان على فلان إذا زاد عليه يربي إرباء ، والزيادة هي الربا ، ورباالشيء : إذا زاد على ما كان عليه فعظم ، فهو يربو رَبْوا . وإنما قيل للرابية لزيادتها في العظم والإشراف على مااستوى من الأرض مما حولها من قولهم ربا يربو ، ومن ذلك قيل : فلان في ربا قومه يراد أنه في رفعة وشرف منهم ، فأصل الربا الإنافة والزيادة ، ثم يقال : أَرْبَى فلان : أي أناف صيره زائدا . وإنما قيل للمربي مريب لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالاً ، أو لزيادته عليه فيه ، لسبب الأجل الذي يؤخره إليه ، فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حلّ دينه عليه ، ولذلك قال جلّ ثناؤه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرّبا أضْعافا مُضَاعَفَةً } .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال في الربا الذي نهى الله عنه : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين ، فيقول : لك كذا وكذا وتؤخر عني ، فيؤخر عنه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن ربا الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى ، فإذا حلّ الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخّر عنه .

فقال جل ثناؤه للذين يربون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا ، لا يقومون في الاَخرة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ¹ يعني بذلك : يتخبّله الشيطان في الدنيا ، وهو الذي يتخبطه فيصرعه من المسّ ، يعني من الجنون . وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { الّذِينَ يأكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطَهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } يوم القيامة في أكل الربا في الدنيا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { الّذِينَ يَأَكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : ذلك حين يبعث من قبره .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : يقال يوم القيامة لاَكل الربا : خذ سلاحك للحرب . وقرأ : { لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : ذلك حين يبعث من قبره .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير : { الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } . . . الآية . قال : يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونا يخنق .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ } الآية ، وتلك علامة أهل الربا يوم القيامة ، بعثوا بهم خبل من الشيطان .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لا يَقُومُونَ إِلاّ كما يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : هو التخبّل الذي يتخبّله الشيطان من الجنون .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : يبعثون يوم القيامة وبهم خبل من الشيطان . وهي في بعض القراءة : «لا يقومون يوم القيامة » .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : من مات وهو يأكل الربا بعث يوم القيامة متخبطا كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { الّذِينَ يَأَكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } يعني من الجنون .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { الّذِينَ يَأَكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : هذا مثلهم يوم القيامة لا يقومون يوم القيامة مع الناس ، إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس يوم القيامة كأنه خنق كأنه مجنون .

ومعنى قوله : { يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } يتخبله من مسه إياه ، يقال منه : قد مُسّ الرجل وأُلِقَ فهو ممسوس ومألوق ، كل ذلك إذا ألمّ به اللمم فجنّ ، ومنه قول الله عزّ وجلّ : { إِنّ الّذِينَ اتّقَوْا إذا مَسّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُوا } . ومنه قول الأعشى :

وَتُصْبِحُ عن غِبّ السّرَى وكأنما *** أَلَمّ بِها من طائفِ الجنّ أوْلَقُ

فإن قال لنا قائل : أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الربا في تجارته ولم يأكله ، أيستحقّ هذا الوعيد من الله ؟ قيل : نعم ، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكل ، إلا أن الذين نزلت فيهم هذه الاَيات يوم نزلت كانت طعمتهم ومأكلهم من الربا ، فذكرهم بصفتهم معظما بذلك عليهم أمر الربا ، ومقبحا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم ، وفي قوله جل ثناؤه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بِقَيَ مِنَ الرّبا إِنْ كُنْتُمْ مُوءْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأذْنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } . . . الآية ما ينبىء عن صحة ما قلنا في ذلك ، وأن التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الربا ، وأنْ سواء العمل به وأكلُه وأخذه وإعطاؤه ، كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : «لَعَنَ اللّهُ آكِلَ الرّبا ، وَمُوءْكِلَهُ ، وَكاتِبَهُ ، وَشَاهِدَيْهِ إِذَا عَلِمُوا بِهِ » .

( القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوا إِنّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرّبا } .

يعني بذلك جل ثناؤه : ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المسّ من الجنون ، فقال تعالى ذكره هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم ووحشة قيامهم من قبورهم وسوء ما حلّ بهم من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون إنما البيع الذي أحله الله لعباده مثل الربا ، وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الربا من أهل الجاهلية ، كان إذا حلّ مال أحدهم على غريمه يقول الغريم لغريم الحقّ زدني في الأجل وأزيدك في مالك ، فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك : هذا ربا لا يحلّ ، فإذا قيل لهما ذلك ، قالا : سواء علينا زدنا في أوّل البيع أو عند محلّ المال فكذّبهم الله في قيلهم ، فقال : { وَأحَلّ اللّهُ البَيْعَ } .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأحَلّ اللّهُ البَيْعَ وَحَرّمَ الرّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وأمْرُهُ إِلى اللّهِ وَمَنْ عادَ فأُولَئِكَ أصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خَالِدُونَ } .

يعني جل ثناؤه : وأحلّ الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع ، وحرّم الربا يعني الزيادة التي يزاد ربّ المال بسبب زيادته غريمه في الأجل ، وتأخيره دينه عليه . يقول عزّ وجلّ : وليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع ، والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل سواء ، وذلك أني حرمت إحدى الزيادتين ، وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل¹ وأحللت الأخرى منهما ، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها فيستفضل فضلها ، فقال الله عزّ وجلّ ليست الزيادة من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا ، لأني أحللت البيع ، وحرّمت الربا ، والأمر أمري والخلق خلقي ، أقضي فيهم ما أشاء ، وأستعبدهم بما أريد ، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي ، ولا أن يخالف في أمري ، وإنما عليهم طاعتي والتسليم لحكمي . ثم قال جل ثناؤه : { فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فانْتَهَى } يعني بالموعظة : التذكير والتخويف الذي ذكرهم وخوّفهم به في آي القرآن ، وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب ، يقول جل ثناؤه : فمن جاءه ذلك فانتهى عن أكل الربا ، وارتدع عن العمل به ، وانزجر عنه { فَلَهُ ما سلَفَ } يعني ما أكل ، وأخذ فمضى قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك { وأمرهُ إلى اللّهِ } يعني وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم ، وبعد انتهاء آكله عن أكله إلى الله في عصمته وتوفيقه ، إن شاء عصمه عن أكله وثبته في انتهائه عنه ، وإن شاء خذله عن ذلك . { وَمَنْ عادَ } يقول : ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم ، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم من قوله : { إِنّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرّبا } { فأولئكَ أصحابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يعني ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار ، يعني نار جهنم فيها خالدون . )

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال¹ حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأمْرُهُ إِلى اللّهِ } أما الموعظة فالقرآن ، وأما ما سلف فله ما أكل من الربا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 275 )

وقوله عز وجل : { الذين يأكلون الربا } الآية ، { الربا } هوالزيادة وهو مأخوذ من ربا يربو إذا نما وزاد على ما كان ، وغالبه ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم أتقضي أم تربي ؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ، ويصبر الطالب عليه( {[2705]} ) ، ومن الربا البين التفاضل في النوع الواحد لأنها زيادة ، وكذلك أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال ، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه( {[2706]} ) ، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة ، فإن قيل لفاعلها : آكل ربا فبتجوز وتشبيه ، والربا من ذوات الواو ، وتثنيته ربوان عند سيبويه ، ويكتب الألف . قال الكوفيون : يكتب( {[2707]} ) ويثنى بالياء لأجل الكسرة التي في أوله . وكذلك يقولون في الثلاثية من ذوات الواو إذا انكسر الأول أو انضم ، نحو ضحى ، فإن كان مفتوحاً نحو صفا فكما قال البصري .

ومعنى هذه الآية : الذين يكسبون الربا ويفعلونه ، وقصد إلى لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال ، ولأنها دالة على الجشع ، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله ، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل كله في قوله : { الذي يأكلون }( {[2708]} ) ، وقال ابن عباس رضي الله عنه مجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد : معنى قوله : { لا يقومون } من قبورهم في البعث يوم القيامة ، قال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنفه ، وقالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً عند جمع المحشر ، ويقوي هذا التأويل المجمع عليه في أن قراءة عبد الله بن مسعود «لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم » .

قال القاضي أبو محمد : وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون ، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه ، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه ، مخلط في هيئة حركاته ، إما من فزع أو غيره ، قد جن هذا ، وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله : [ الطويل ]

وَتُصْبِحُ مِنْ غِبّ السُّرى وَكَأَنَّما . . . أَلَم بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَق( {[2709]} )

لكن ما جاءت( {[2710]} ) به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل { ويتخبطه } «يتفعله » من خبط يخبط كما تقول : تملكه وتعبده وتحمله . و { المس } الجنون ، وكذلك الأولق والألس والزؤْد( {[2711]} ) ، وقوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } معناه عند جميع المتأولين في الكفار( {[2712]} ) ، وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها .

والآية كلها في الكفار المربين نزلت ولهم قيل { فله ما سلف } ولا يقال ذلك لمؤمن عاص( {[2713]} ) ، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية ، ثم جزم تعالى الخبر في قوله : { وأحل الله البيع وحرم الربا }( {[2714]} ) وقال بعض العلماء في قوله : { وأحل الله البيع } هذا من عموم القرآن ، لأن العرب كانت تقدر على إنفاذه ، لأن الأخذ والإعطاء عندها بيع ، وكل ما عارض العموم فهو تخصيص منه ، وقال بعضهم : هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم ، والقول الأول عندي أصح( {[2715]} ) ، قال جعفر بن محمد الصادق : حرم الله الربا ليتقارض الناس . وقال بعض العلماء : حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس . وسقطت علامة التأنيث في قوله : { فمن جاءه } لأن تأنيث الموعظة غير حقيقي وهو بمعنى وعظ ، وقرأ الحسن «فمن جاءته » بإثبات العلامة ، وقوله : { فله ما سلف } أي من الربا لا تباعة( {[2716]} ) عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة قاله السدي وغيره ، وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هناك ، و { سلف } معناه تقدم في الزمن وانقضى .

وفي قوله تعالى : { وأمره إلى الله } أربع تأويلات : أحدها أن الضمير عائد على الربا بمعنى : وأمر الربا إلى الله في إمرار( {[2717]} ) تحريمه أو غير ذلك . الثاني أن يكون الضمير عائداً على { ما سلف } . أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعية فيه . والثالث أن يكون الضمير عائداً على ذي الربا بمعنى أمره إلى الله في أن يثيبه على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا . والرابع أن يعود الضمير على المنتهي ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير . كما تقول وأمره إلى طاعة وخير وموضع رجاء . وكما تقول وأمره في نمو أو إقبال إلى الله وإلى طاعته ، ويجيء الأمر هاهنا( {[2718]} ) ليس في الربا خاصة بل وجملة أموره ، وقوله تعالى : { ومن عاد } يعني إلى فعل الربا والقول { إنما البيع مثل الربا } وإن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي ، وإن لحظناها في مسلم عاصٍ فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة . كما تقول العرب : ملك خالد ، عبارة عن دوام ما ، لا على التأبيد الحقيقي .


[2705]:- أي يزيد المطلوب في المال ويزيد الطالب في الأجل.
[2706]:- قال الإمام الشاطبي رحمه الله في "الموافقات": «وإذا كان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض فقد ألحقت به السنة كل ما فيه زيادة بذلك المعنى، فقال عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء، يداً بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد)، ثم زاد على ذلك بيع النِّساء إذا اختلفت الأصناف، وعدَّه من الربا لأن النَّساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة، ويدخل فيه بحكم المعنى: السلف يجر نفعاً، وذلك لأن بيع هذا الجنس بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه لتقارب المنافع فيما يراد منها، فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير شيء وهو ممنوع، والأجل في أحد العوضين لا يكون عادة إلا عند مقارنة الزيادة به في القيمة، إذ لا يسلم الحاضر في الغائب إلا ابتغاء ما هو أعلى من الحاضر في القيمة وهو الزيادة، ويبقى النظر: لم جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما ؟ محل نظر يخفى وجهه على المجتهدين، وهو من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها اليوم، فلذلك بينتها السنة، إذ لو كانت بيِّنة لوكل في الغالب أمرها إلى المجتهدين كما وكل إليهم النظر في كثير من محال الاجتهاد، فمثل هذا جار مجرى الأصل والفرع في القياس»، فتأمل.
[2707]:- يعجبني ما قاله الشوكاني في "فتح القدير" في مثل هذه النقوش الكتابية من أنها أمور اصطلاحية لا يعيب أحد على أحد فيها، وأن رسم الكلمة وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأول، فما كان في النطق ألفا كالصلاة والزكاة كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك، وكون أصل هذا الألف واواً أو باءً لا يخفى على من له معرفة بعلم الصرف فإن هذه النقوش هي لفهم اللفظ الذي يُدلُّ بها عليه كيف هو في نطق من نطق به، لا لفهم أن أصل الكلمة هو كذا مما لا يجري به النطق.
[2708]:- يعني أن القصد من الآية الكريمة هو جميع وجوه الانتفاع ولكنه وقع التعبير بالأكل لأنه أقوى وجوه الانتفاع، ولأنه أدل على معنى الحرص والجشع.
[2709]:- الغبُّ من كل شيء: عاقبته – والسُّرى: سير عامة الليل (يذكر ويؤنث) – ألَمَّ: نزل – والأولق: شبه الجنون، وهو أفعل لأنهم قالوا: ألِق الرجل فهو مَألُوق – على مفعول. قاله في اللسان: وقال أيضا: ومنه قول الشاعر: لعَمْرُك بي من حُبِّ أسماء أولَق. وفي اللسان أيضا: الأولق كالأفكل: الجنون – وقيل: الخفة من النشاط كالجنون – وأصله من الولق الذي هو السرعة.
[2710]:- حاصله أن الآية الكريمة تحتمل أن يكون القيام المشبه بقيام المجنون في الدنيا، كما شبه الأعشى نشاط ناقته بالجنون، ويحتمل أن يكون هذا القيام في الآخرة، وهذا الثاني هو المروي عن السلف الصالح، وهو الذي جاءت به قراءة عبد الله بن مسعود، فيكون الاحتمال الأول ضعيفا، وإن كانت ألفاظ الآية تقبله. ويؤخذ من الآية الكريمة أن صرع الجن بالإنس حقيقة واقعة لا يرتاب فيه إلا من تخبطه الشيطان، وقد ورد أن الشيطان يجري مجرى الدم من الإنسان.
[2711]:- هذه الألفاظ كلها تؤدي معنى الجنون، وهي: (المسُّ): يقال: مسَّه الشيطان، فهو مَمْسوس، وبه مسٌّ – أنشد ابن الأنباري: أُعَلِّل نفسي بما لا يكـونُ كذي المَسِّ جُنَّ ولم يخنق و(الألس) – يقال: أُلِسَ ألْساً فهو مألوس. أي: جُنَّ – (الأولق) – يقال: أُلِق فلان ألْقاً وأُلاقاً: جُنَّ. و(الأولع)، جاء في اللسان: وقال عرَّام: يقال بفلان من حُبِّ فلانة الأولع والأولق، وهو: شبه الجنون.
[2712]:- أي في ربا الجاهلية الذين قالوا فيه: [إنما البيع مثل الربا] وهو فسخ الدين في الدين، يقول الطالب: إما أن تقضي وإما أن تربي، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: [وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون] ودل عليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله).
[2713]:- بل يفسخ عقده، ويرد عمله. وإن كان جاهلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ).
[2714]:- أي أخبر خبراً جازما للرد عليهم، وفي الآية ما يدل على أن القياس مع وجود النص فاسد، إن قلنا: إن في الآية قياس، واعلم أن حكم المستحِلِّ للربا حكم المرتد، وأما إن مارسه دون استحلال فإنه يجوز للإمام محاربته، لأن الله سبحانه قد أذن في ذلك بقوله: [فأذنوا بحرب من الله ورسوله].
[2715]:- وهو أنه من العامِّ المخصص، لا من المجمل المُبَيَّن، والفرق بينهما أن العموم يدل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل ما لم يخص بدليل، والمجمل لا يدل على إباحتها بالتفصيل حتى يقترن به بيان، وإن دل على الإباحة في الجملة.
[2716]:- تباعة الأمر: عاقبته، وما يترتب عليه من أثر، يقال: لي قِبَلَ فلان تِباعة: ظلامة.
[2717]:- أي في استمرار تحريمه على عباده.
[2718]:- أي في التأويل الرابع.