قوله تعالى : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله } . وذلك أن اليهود ادعوا دعاوى باطلة مثل قولهم : { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ، ولن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } وقولهم :{ نحن أبناء الله وأحباؤه } فكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال : قل لهم يا محمد إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله يعني الجنة . قوله تعالى : { خالصة } . أي خاصة .
قوله تعالى : { من دون الناس فتمنوا الموت } . أي فأريدوه ، أو اسألوه ، لأن من علم أن الجنة مأواه حن إليها ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد الموت فاستعجلوه بالتمني .
قوله تعالى : { إن كنتم صادقين } . في قولكم ، وقيل : فتمنوا الموت أي ادعوا بالموت على الفرقة الكاذبة . وروي عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات " .
{ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }
أي : { قُلْ } لهم على وجه تصحيح دعواهم : { إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ } يعني الجنة { خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ } كما زعمتم ، أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة ، فإن كنتم صادقين بهذه الدعوى { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ } وهذا نوع مباهلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وليس بعد هذا الإلجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم ، إلا أحد أمرين : إما أن يؤمنوا بالله ورسوله ، وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير عليهم ، وهو تمني الموت الذي يوصلهم إلى الدار التي هي خالصة لهم ، فامتنعوا من ذلك .
ثم أمر الله - تعالى - نبيه " صلى الله عليه وسلم " أن يرد على اليهود في دعواهم أن الجنة لن يدخلها إلا من كان على ملتهم فقال - تعالى - :
{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة . . . }
قل - يا محمد - لأولئك اليهود الين ادعوا أن الجنة لن يدخلها إلأا من كان هودا : إن انت الجنة مختصة بكم ، وسالمة لكم دون غيركم ، وليس لأحد سواكم فيها حق . فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في دعواكم ، لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وأحب الوصول إليها .
ثم أخبر الله أن هذا التمني لن يحصل منهم فقال : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } أي الموت { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي بسبب ما ارتكبوه من كفر ومعصية { والله عَلِيمٌ بالظالمين } الذين وضعوا الأمور في غير موضعها ، فادعوا ما ليس لهم ، ونفوه عمن هو لهم .
ثم أخبر القرآن بأن حرصهم على الحيباة لا نظير له ولا مثيل فقال : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } متطاولة { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } أي : وأحرص عليها - أيضاًٍ - من الذين أشركوا الذين لا يعرفون إلا الحياة الدنيا { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } أي يتمنى الوحد من هؤلاء اليهود أن يعيش السنين الكثيرة ولو تجاوزت الحدود المعقولة لعمر الإِنسان والحال أنه ما أحد منهم بمزحزحه ومنجيه تعميره من العذاب { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون } أي : لا يخفى عليه أعمالهم ، فهو محاسبهم عليها ، ومجازيهم بما يستحقونه من عقاب .
وقوله تعالى : { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً مِّن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } رد على زعمهم الباطل أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً ، والمراد بالدار الآخرة : الجنة ونعيمها ، ومعنى { خَالِصَةً } سالمة لكم مختصة بكم ، لا يشارككم فيها أحد من الناس .
قال الإِمام ابن جرير : " يقال : خلص لي فلان بمعنى صار لي وحدي وصفا لي ، ويقال منه خلص هذا الشيء ، فهو يخلص خلوصاً وخالصة ، والخالصة مصدر مثل العافية . . "
وقوله تعالى : { فَتَمَنَّوُاْ الموت } التمنى هو ارتياح النفس ورغبتها القوية في الشيء . بحيث توده وتحب المصير إليه ، وهو يستعمل في المعنى القائم بالقلب كما بينا ، ويستعمل في اللفظ الدال على هذا المعنى ، كأن يقول الإِنسان بلسانه ، ليتني أحصل على كذا .
والاستعمال الثاني هو المراد بقول تعالى : { فَتَمَنَّوُاْ الموت } أي اذكروا بألسنتكم لفظاً يدل على أنكم تحبون الموت وترغبون فيه . وإنما قلنا إن ذلك هو المراد من الآية لأن المعنى الكائن بالقلب لا يعرفه أحد سوى الله - تعالى - والتحدي لا يقع بتحصيل المعاني القائمة بالضمائر والقلوب .
ومعنى الآية الكريمة . قل يا محمد لليهود : إن كانت الجنة خاصة بكم ، ولا منازع لكم فيها ولا مزاحم كما تزعمون ، فتمنوا الموت بألسنتكم لكي تظفروا بنعيمها الدائم ، إن كنتم صادقين في دعواكم أنها خالصة لكم ، وإلا فإنكم لا تكونون صادقين في دعواكم ، إذ لا يقعل أن يرغب الإِنسان عن السعادة المحضة الدائمة المضمونة له في الآخرة ، إلى سعادة ممزجة بالشقاء في الدنيا .
قال الإِمام الرازي : ( وبيان هذه الملازمة أن نعم الدنيا قليلة حقيرة بالقياس إلى نعم الآخرة . ثم إن نعم الدنيا على قلتهها كانت منغصة عليهم بسبب ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ومنازعته معهم ، بالجدال والقتال ، ومن كان في النعم القليلة المنغصة . ثم تيقن أنه بعد الموت لابد أن ينتقل إلى تلك النعم العظيمة مطلوبة ولا سبيل إليها إلا الموت وحيث كان الموت يتوقف عليه المطلوب وجب أن يكون هذا الإِنسان راضياً بالموت متمنياً له ، فثبت أن الدار الآخرة لو كانت خالصة لهم ، لوجب أن يتمنوا الموت . ثم إن الله - تعالى - أخبر أنهم ما تمنوا الموت ، بل لن يتمنوه أبداً ، وحينئذ يلزم قطعاً بطلان ادعائها في قولهم : " إن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس " .
وتحديهم بتمنى الموت يكون بأن يقولوا بألسنتهم ليتنا نموت ، أو يقولوا ما في معنى هذه الكلمة كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ، وهذا رأي جمهور المفسرين .
وروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن ذلك يكون عن طريق المباهلة ، بأن يحضروا مع المؤمنين في صعيد واحد ، ثم يدعو الفريقان بالموت على الكاذب منهما .
ويبدو لنا أن الرأي الأول أرجح لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ الذي نطقت به الآية وأقرب أيضاً إلى معناها . إذ ليس في الآية إشارة ما إلى طلب المباهلة ، والقرآن حينما دعا إليها نصارى نجران ، جاء اللفظ بها صريحاً في قوله تعالى : { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين }
{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
قال أبو جعفر : وهذه الآية مما احتجّ الله بها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره ، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم . وذلك أن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم فيما كان بينه وبينهم من الخلاف ، كما أمره الله أن يدعو الفريق الاَخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه وجادلوا فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة . وقال لفريق اليهود : إن كنتم محقين فتمنوا الموت ، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدّعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله ، بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جنانه ، إن كان الأمر كما تزعمون أن الدار الاَخرة لكم خالصة دوننا . وإن لم تُعْطَوْها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا وانكشف أمرنا وأمركم لهم . فامتنعت اليهود من إجابة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها . كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في عيسى إذ دُعوا إلى المباهلة من المباهلة فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لَوْ أنّ اليَهُودَ تَمَنّوُا المَوْتَ لَمَاتُوا وَلَرَأَوْا مَقاعِدَهُمْ مِنَ النّارِ ، وَلَوْ خَرَجَ الّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَرَجَعُوا لا يَجِدُونَ أَهْلاً وَلا مالاً » .
حدثنا بذلك أبو كريب ، قال : حدثنا أبو زكريا بن عديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام بن عليّ ، عن الأعمش ، عن ابن عباس في قوله : { فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال : لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة في قوله : { فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال : قال ابن عباس : لو تمنى اليهود الموت لماتوا .
حدثني موسى ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، قال أبو جعفر فيما أروي : أنبأنا عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ، ما بقي على ظهر الأرض يهودي إلا مات .
قال أبو جعفر : فانكشف ، لمن كان مشكلاً عليه أمر اليهود يومئذ ، كذبهم وبَهْتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم ، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل . وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : { فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لأنهم } فيما ذكر لنا قالُوا { نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحبّاؤهُ } وقالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كَانَ هُودا أوْ نَصَارَى } فقال الله لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون فتمنوا الموت فأبان الله كذبهم بامتناعهم من تمني ذلك ، وأفلج حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت ، وعلى أيّ وجه أمروا أن يتمنوه .
فقال بعضهم : أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَة عندَ اللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ ، فَتَمَنّوا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي ادعوا بالموت على أيّ الفريقين أكذب . وقال آخرون بما :
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِنْدَ اللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ } وذلك أنهم قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصارى وَقالُوا : { نحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ } فقيل لهم :
{ فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : قالت اليهود : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كَانَ هُودا أوْ نَصَارَى } ، { وَقالُوا : نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ } فقال الله : { قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِنْدَ الله خَالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فلم يفعلوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثني أبو جعفر ، عن الربيع قوله : { قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً } الآية ، وذلك بأنهم قالُوا { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى } وقالُوا : { نَحْنُ أَبْناءُ اللّهِ وأحِباؤُهُ } .
وأما تأويل قوله : { قلْ إنْ كانَت لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةِ عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً }فإنه يقول : قل يا محمد إن كان نعيم الدار الاَخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله . فاكتفى بذكر «الدار » من ذكر نعيمها لمعرفة المخاطبين بالآية معناها . وقد بينا معنى الدار الاَخرة فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما تأويل قوله : خالِصَةً فإنه يعني به صافية ، كما يقال : خلص لي فلان بمعنى صار لي وحدي وصَفَا لي يقال : منه خلص لي هذا الشيء ، فهو يخلص خُلُوصا وخالصة ، والخالصة مصدر مثل العافية ، ويقال للرجل : هذا خُلْصاني ، يعني خالصتي من دون أصحابي . وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يتأول قوله : خالِصَةً خاصة ، وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس : { قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ } قال : قل يا محمد لهم يعني اليهود إن كانت لكم الدار الاَخرة يعني الخير عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً يقول : خاصة لكم .
وأما قوله : مِنْ دُونِ النّاسِ فإن الذي يدل عليه ظاهر التنزيل أنهم قالوا : لنا الدار الاَخرة عند الله خالصة من دون جميع الناس . ويبين أن ذلك كان قولهم من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم إخبارُ الله عنهم أنهم قالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى } . إلا أنه رُوي عن ابن عباس قول غير ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { مِنْ دُونِ النّاسِ } يقول : من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين استهزأتم بهم ، وزعمتم أن الحق في أيديكم ، وأن الدار الاَخرة لكم دونهم .
وأما قوله : { فَتَمَنّوُا المَوْتَ } فإن تأويله : تشهّوه وأَرِيدُوه . وقد رُوي عن ابن عباس أنه قال في تأويله : «فسلوا الموت » . ولا يعرف التمني بمعنى المسألة في كلام العرب ، ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى الأمنية إذا كانت محبة النفس وشهوتها إلى معنى الرغبة والمسألة ، إذ كانت المسألة هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس : { فَتَمَنّوُ ا المَوْتَ } فسلوا الموت { إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
{ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة } خاصة بكم كما قلتم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا } ونصبها على الحال من الدار . { من دون الناس } سائرهم ، واللام للجنس ، أو المسلمين واللام للعهد { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاقها ، وأحب التخلص إليها من الدار ذات الشوائب ، كما قال علي رضي الله تعالى عنه : ( لا أبالي سقطت على الموت ، أو سقط الموت علي ) . وقال عمار رضي الله تعالى عنه بصفين : " الآن ألاقي الأحبة محمدا وحزبه " . وقال حذيفة رضي الله عنه حين اختصر : " جاء حبيب على فاقة لا أفلح من ندم " أي : على التمني ، سيما إذا علم أنها سالمة له لا يشاركه فيها غيره .
إبطال لدعوى قارة في نفوسهم اقتضاها قولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] الذي أرادوا به الاعتذار عن إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بعذر أنهم متصلبون في التمسك بالتوراة لا يعدونها وأنهم بذلك استحقوا محبة الله إياهم وتكون الآخرة لهم فلما أبطلت دعوى إيمانهم بما أنزل عليهم بإلزامهم الكذب في دعواهم بسند ما أتاه سلفهم وهم جدودهم من الفظائع مع أنبيائهم والخروج عن أوامر التوراة بالإشراك بالله تعالى بعبادة العجل ، عقب ذلك بإبطال ما في عقائدهم من أنهم أهل الانفراد برحمة الله ما داموا متمسكين بالتوراة وأن من خالفها لا يكون له حظ في الآخرة ، وارتكب في إبطال اعتقادهم هذا طريقة الإحالة على ما عقدوا عليه اعتقادهم من الثقة بحسن المصير أو على شكهم في ذلك فإذا ثبت لديهم شكهم في ذلك علموا أن إيمانهم بالتوراة غير ثابت على حقه وذلك أشد ما يفت في أعضادهم ويسقط في أيديهم لأن ترقب الحظ الأخروي أهم ما يتعلق به المعتقد المتدين فإن تلك هي الحياة الدائمة والنعيم المقيم .
وقد قيل : إن هذه الآية رد لدعوى أخرى صدرت من اليهود تدل على أنهم يجعلون الجنة خاصة بهم مثل قولهم نحن { أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] وقولهم { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً } [ البقرة : 111 ] ، وإلى هذا مال القرطبي والبيضاوي ، وعليه فيكون ذكر الرد عليهم بينا لمجرد المناسبة في رد معتقد لهم باطل أيضاً لا في خصوص الغرض المسوق فيه الآيات المتقدمة بناءً على أن الآيات لا يلزم أن تكون متناسبة تمام المناسبة ، ونحن لا نساعد على ذلك فعلى هذا الوجه تكون هاته الآية هنا نزلت مع سوابقها للرد على أقوالهم المتفرقة المحكية في آيات أخرى وإنما اتصلت مع الآيات الراجعة إلى رد دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم للمناسبة بجمع رد جميع دعاويهم ولكن فيما ذكرناه غنية . وأيّاً ما كان فهذه الآية تحدت اليهود كما تحدى القرآن مشركي العرب بقوله : { فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] . وإنما فصلت هاته الجملة عما قبلها لاختلاف السياق لأن هذه الآية إلقاء حجة عليهم والآيات السابقة تفظيع لأحوالهم وإن كان في كل من ذلك احتجاج لكن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب كان محسناً للفصل دون العطف لا سيما مع افتتاح الاحتجاج بقل .
والكلام في { لكم } مشعر بأن المراد من الدار الآخرة نعيمها و { لكم } خبر { كانت } قدم للحصر بناء على اعتقادهم كتقديمه في قول الكميت يمدح هشاماً بن عبد الملك حين عفا عنه من قصيدة :
لكم مسجداً الله المزوران والحصى *** لكم قبضة من بين أثرى وأقترا
و { عند الله } ظرف متعلق بكانت والعندية عندية تشريف وادخار أي مدخرة لكم عند الله وفي ذلك إيذان بأن الدار الآخرة مراد بها الجنة .
وانتصب { خالصة } على الحال من اسم ( كان ) ولا وجه لتوقف بعض النحاة في مجيء الحال من اسم ( كان ) . ومعنى الخالصة السالمة من مشاركة غيركم لكم فيها فهو يؤول إلى معنى خاصة بكم .
وقوله : { من دون الناس } دون في الأصل ظرف للمكان الأقرب من مكان آخر غير متصرف وهو مجاز في المفارقة فلذلك تدل على تخالف الأوصاف أو الأحوال ، تقول هذا لك دون زيد أي لاحق لزيد فيه فقوله : { من دون الناس } توكيد لمعنى الاختصاص المستفاد من تقديم الخبر ومن قوله : { خالصة } لدفع احتمال أن يكون المراد من الخلوص الصفاء من المشارك في درجاتهم مع كونه له حظ من النعيم . والمراد من الناس جميع الناس فاللام فيه للاستغراق لأنهم قالوا : { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً } [ البقرة : 111 ] .
وقوله : { فتمنوا الموت } جواب الشرط ووجه الملازمة بين الشرط وهو أن الدار الآخرة لهم وجزائه وهو تمني الموت أن الدار الآخرة لا يخلص أحد إليها إلا بالروح حين تفارق جسده ومفارقة الروح الجسد هو الموت فإذا كان الموت هو سبب مصيرهم إلى الخيرات كان الشأن أن يتمنوا حلوله كما كان شأن أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم كما قال عمير بن الحمام رضي الله عنه :
جرياً إلى الله بغير زاد *** إلا التقى وعملَ المعاد
وارتجز جعفر بن أبي طالب يوم غزوة مؤتة حين اقتحم على المشركين بقوله :
يا حبذا الجنةُ واقترابُها *** طيبة وبارد شرابها
وقال عبد الله بن رواحة عند خروجه إلى غزوة مؤتة ودعا المسلمون له ولمن معه أن يردهم الله سالمين :
لكني أسأل الرحمان مغفـــرةً *** وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنةً من يدي حران مُجهِزة *** بحربة تُنفِذُ الأحشاءَ والكبِــدا