المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{قُلۡ إِن كَانَتۡ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةٗ مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (94)

{ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }( 94 )

وقوله تعالى : { قل إن كانت لكم الدار الآخرة } الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم ، والمعنى : إن كان لكم نعيمها وحظوتها وخيرها فذلك يقتضي حرصكم على الوصول إليها { فتمنوا الموت } ، { الدار } اسم { كانت } ، و { خالصة } خبرها ، ويجوز أن يكون نصب { خالصة } على الحال ، و { عند الله } خبر كان( {[964]} ) ، و { من دون الناس } : يحتمل أن يراد ب { الناس } محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعه ، ويحتمل أن يراد العموم التام( {[965]} ) وهو قول اليهود فيما حفظ عنهم ، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسر الواو من «تمنوا » للالتقاء( {[966]} ) ، وحكى الأهوازي عن أبي عمرو أنه قرأ «تمنوا الموت » بفتح الواو( {[967]} ) ، وحكي عن غيره اختلاس الحركة في الرفع ، وقراءة الجماعة بضم الواو . وهذه آية بينة أعطاها الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لأن اليهود قالت : نحن أبناء الله وأحباؤه( {[968]} ) ، وشبه ذلك من القول ، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت ، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات ، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فعلم اليهود صدقه ، فأحجموا عن تمنيه ، فرقاً من الله لقبح أعمالهم ومعرفتهم بكذبهم في قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وحرصاً منهم على الحياة . ( {[969]} )

وقيل إن الله تعالى منعهم من التمني وقصرهم على الإمساك عنه ، لتظهر الآية لنبيه صلى الله عليه وسلم( {[970]} ) .

والمراد بقوله «تمنوا » أريدوه بقلوبكم واسألوه ، هذا قول جماعة من المفسرين ، وقال ابن عباس : المراد فيه السؤال فقط وإن لم يكن بالقلب( {[971]} ) ، وقال أيضاً هو وغيره : إنما أمروا بالدعاء بالموت على أردأ الحزبين من المؤمنين أو منهم( {[972]} ) ، وذكر المهدوي وغيره أن هذه الآية كانت مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وارتفعت بموته( {[973]} ) . والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمنى الموت إنما كانت أياماً كثيرة عند نزول الآية ، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة ، وقالت فرقة : إن سبب هذا الدعاء إلى تمني الموت أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد به هلاك الفريق المكذب أو قطع حجتهم ، لا أن علته قولهم نحن أبناء الله . ( {[974]} )


[964]:- الظاهر أن الخبر- على نصبها على الحال- (عند)، والظرف لا يستقل معنى الكلام به وحده.
[965]:- ينافيه قولهم في الآية الأخرى: [وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى].
[966]:- تشبيها لها بواو [لو استطعنا].
[967]:- تخفيفا لأن الكسر والضم يثقلان مع الواو.
[968]:- من الآية (18) من سورة (المائدة).
[969]:- أخرج البيهقي في الدلائل، من رواية الكلبي، عن أي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهنما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: (إن كنتم صادقين فقولوا: اللهم أمتنا، فو الذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلا غص بريقه ومات مكانه)، فأنزل الله قوله: [ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم].
[970]:- هذا هو الوجه الثالث في تركهم للتمني، والأول أنهم تركوه خوفا من الموت لأنهم لو تمنوه لماتوا، كما روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني أنهم تركوه خوفا من الله تعالى لكفرهم وقبح أعمالهم، والأوجه الثلاثة أشار إليها المؤلف رحمه الله. وهذه الآية التي أعطيها صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى اليهود مثل آية المباهلة التي أعطيها صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى النصارى.
[971]:- المراد بالتمني هنا: التلفظ بما يدل عليه، لا مجرد خطوره بالقلب، وميل النفس إليه، فإن ذلك لا يليق في مقام المحاجة والتحدي، لأنه من ضمائر القلوب، فقوله تعالى: [فتمنوا الموت] معناه: فاسألوه بألسنتكم سواء كانت معه قلوبكم أم لا. والمراد بتمنيهم الموت هنا إلزامهم الحجة، وإقامة البرهان على بطلان أباطيلهم، فلا منافاة بين ما هنا وبين النهي عن تمني الموت.
[972]:- أي على أي الفريقين أردى وأكذب، وهذا أبلغ في إقامة الحجة، وأسلم من المعارضة.
[973]:- أكانت هذه المعجزة- وهي موت من تمنى الموت من اليهود- طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ترتفع إلا بعد موته، أم كانت أياما كثيرة عند نزول الآية الكريمة، لا طول حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟ الصحيح القول الثاني كما قال المؤلف. وما قاله المهدوي، وابن عطية، رحمهما الله تعالى خلاف ظاهر القرآن، فإن قوله: (ولن يتمنوه أبدا) ظاهر في استغراق مدة أعمارهم، والله أعلم.
[974]:- هو كذلك، ويشير ابن عطية رحمه الله- بما نقله عن هذه الفرقة، وبما نقله عن ابن عباس وغيره في تفسير الآية الكريمة من أنهم إنما أمروا بالدعاء بالموت على أردى الحزبين من المؤمنين أو منهم، وبقوله سابقا: وهي –أي هذه الآية- بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة- يشير بذلك كله إلى ما ترجح عنده في تفسير الآية، وهو الدعاء على الفريقين أكذب –منهم أو من المسلمين- على وجه المباهلة العادلة الفاصلة، وهذا ما حققه الحافظ ابن (ك) رحمه الله في تفسيره. وأما على التأويل الآخر فإنه لا يظهر الحجة عليهم إذ لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنون الموت، فإنه لا ملازمة بين وجود الصدق والصلاح وبين تمني الموت، وكم من صالح لا يتمنى الموت، بل يود أن يعمر ليزداد خيره، وترتفع درجته، كما ورد في الحديث: (خيركم من طال عمره وحسن عمله). وعلى ما فسر ابن عباس رضي الله عنهما فإنه لا يلزم عليه شيء من ذلك، بل قيل لهم كلام حق: إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس، وأنكم أبناء الله وأحباؤه وأنكم من أهل الجنة، ومن عداكم من أهل النار فباهلوا على ذلك، وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم بالموت، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة، وسميت مباهلة اليهود بتمني الموت لأن كل محق يتمنى لو أهلك الله المبطل- وكانت بالموت لأن الحياة عزيزة وعظيمة لما يعلمون من سوء المآل بعد الموت، وفي كلام بعض أئمة التفسير اضطراب وخلط وتلفيق. والله أعلى وأعلم.