غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{قُلۡ إِن كَانَتۡ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةٗ مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (94)

92

{ قل إن كانت لكم الدار الآخرة } الدار اسم " كان " وفي الخبر ثلاثة أوجه : الأول : { خالصة } و{ عند } ظرف لخالصة أو للاستقرار الذي في

{ لكم } ويجوز أن يكون { عند } حالاً من الدار والعامل فيها " كان " أو الاستقرار . وأما { لكم } فيكون على هذا متعلقاً ب " كان " لأنها تعمل في حروف الجر ، ويجوز أن يكون للتبيين فيكون موضعها بعد { خالصة } أي خالصة لكم فيتعلق بنفس خالصة ، ويجوز أن يكون صفة لخالصة قدمت عليها فيتعلق حينئذ بمحذوف . الثاني : أن يكون خبر كان { لكم } و{ عند الله } ظرف و{ خالصة } حال والعامل " كان " أو الاستقرار . الثالث : أن يكون { عند الله } هو الخبر و{ خالصة } حال والعامل فيها إما عند ، و ما يتعلق به أو " كان " أو " لكم " وسوغ أن يكون { عند } خبر { كانت لكم } إذ كان فيه تخصيص وتبيين نحو { ولم يكن له كفواً أحد } [ الإخلاص : 4 ] وقوله { من دون الناس } نصب ب { خالصة } لأنك تقول : خلص كذا من كذا . والمراد بالدار الآخرة الجنة لأنها هي المطلوبة من الدار الآخرة دون النار . والمراد بقوله { عند الله } الرتبة والمنزلة ، وحمله على عندية المكان ممكن ههنا إذ لعلهم كانوا مشبهة . ومعنى خالصة لكم أي سالمة خاصة بكم لا حق لأحد فيها سواكم . و{ دون } ههنا يفيد التجاوز والتخطي في المكان كما تقول لمن وهبته منك ملكاً : هذا لك من دون الناس . أي لا يتجاوز منك إلى غيرك . والناس للجنس وقيل للعهد وهم المسلمون والجنس أولى لقوله { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] ولأنه لم يوجد ههنا معهود . فإن قلت : من أين ثبت أنهم ادعوا ذلك ؟ قلنا : لأنه لا يجوز أن يقال في معرض الاستدلال على الخصم إن كان كذا وكذا فافعل كذا إلا والأول مذهبه ليصح إلزامه بالثاني ، ولقوله تعالى { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] { نحن أبناء الله وأحباؤه }

[ المائدة : 18 ] ولما اعتقدوا في أنفسهم أنهم هم المحقون ، لأن النسخ غير جائز عندهم ، ولزعمهم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ويوصلونهم إلى ثواب الله فلهذه الأسباب عظموا شأن أنفسهم وكانوا يفتخرون على العرب ، وربما جعلوه كالحجة في أن النبي صلى الله عليه وسلم المنتظر المبشر به في التوراة منهم لا من العرب ، وكانوا يصرفون الناس بسبب هذه الشبهة عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، فبين الله تعالى فساد معتقدهم بالآية . وبيان الملازمة أن متاع الدنيا قليل في جنب نعم الآخرة ، وذلك القليل كان أيضاً منغصاً عليهم بعد ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ومنازعته معهم بالجدال والقتال . فالموت خير لهم لا محالة لأنه يوصل إلى الخيرات الكثيرة الدائمة الصافية عن النغص ، ولا يفوت إلا القليل النكد . والوسيلة وإن كانت مكروهة نظراً إلى ذاتها لكنه لا يتركها العاقل نظراً إلى غايتها كالفصد ونحوه . والنهي عن تمني الموت في قوله صلى الله عليه وسلم " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وإن كان ولابد فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً إليّ وأمتني ما كانت الوفاة خيراً لي " محمول على تمن سببه عدم الصبر على الضر ونكد العيش كما قال قائل :

ألا موت يباع فأشتريه *** فهذا العيش ما لا خير فيه

ألا رحم المهيمن روح عبد *** تصدق بالوفاة على أخيه

فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقضاء ويدل على الجزع وضيق العطن وينافي قضية التوكل والتسليم ، أو على تمن سببه الجزم بالوصول إلى نعيم الآخرة فإن ذلك خارج عن قانون الأدب ، ونوع من الأخبار بالغيب لا يليق إلا ببعض أولياء الله . روي أن علياً عليه السلام كان يطوف بين الصفين في غلالة وهي شعار يلبس تحت الثوب وتحت الدرع أيضاً . فقال له ابنه الحسن : ما هذا بزي المحاربين . فقال : يا بني ، لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت . وعن حذيفة أنه رضي الله عنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال رضي الله عنه : حبيب جاء على فاقة لا يفلح من ندم . يعني على التمني . وقال عمار بصفين : الآن ألاقي الأحبة ، محمداً وحزبه . وكان كل واحد من العشرة المبشرة بالجنة يحب الموت ويحن إليه لجزمهم بلقاء الله و نيل ثوابه وذلك لمكان البشارة ، فأما أحدنا فلا يليق به تمني الموت إلا على سبيل الرجاء وحسن الظن بالله " أنا عند ظن عبدي بي " وعن النبي صلى الله عليه وسلم " لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على الأرض يهودي " وليس لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد صلى الله عليه وسلم فيقولوا : إنك تدعي أن الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر ، فارض بأن نقتلك ونقتل أمتك فإنا نراك وأمتك في الضر الشديد والبلاء العظيم ، وبعد الموت تتخلصون إلى دار الكرامة والنعيم ، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث لتبليغ الشرائع وتنفيذ الأحكام ولا يتم المقصود إلا بحياته وحياة أمته ، فله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأجل هذا لا أرضى بالقتل مع أن المؤمن من هذه الأمة قلما يخلو من النزاع والشوق إلى لقاء ربه ، فالعبد المطيع يحب الرجوع إلى سيده ، والعبد الآبق يكره العود إلى مولاه ، ولهذا جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وبذلوا أرواحهم دون الدين والذب عن الملة الحنيفية { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر } [ الأحزاب : 23 ] عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة أو بعض أزواجه إنا لنكره الموت قال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه . وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه " .