الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{قُلۡ إِن كَانَتۡ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةٗ مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (94)

وقوله تعالى : { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة . . . } [ البقرة :94 ] .

أمر لمحمَّد صلى الله عليه وسلم أنْ يوبِّخهم ، والمعنى : إِن كان لكم نعيمُهَا وحُظْوَتُهَا ، وخيرها ، فذلك يقتضي حرْصَكُم على الوصُول إِليها ، { فَتَمَنَّوُاْ الموت } ، و{ الدَّارُ } اسمُ كان ، و{ خَالِصَة } خبرها ، و{ مِّن دُونِ الناس } يحتملُ أن يراد بالنَّاس محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ومن تبعه ، ويحتمل أن يراد العموم ، وهذه آية بيِّنة أعطاها اللَّه رسولَهُ محمَّداً صلى الله عليه وسلم ، لأن اليهود قالَتْ : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] وشبه ذلك من القول ، فأمر اللَّه نبيَّه أن يدعوهم إلى تمنِّي الموت ، وأن يعلمهم أنه من تمنَّاه منهم مات ، ففعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك ، فعلموا صدْقَهُ ، فَأَحْجَمُوا عن تمنِّيه ، فَرَقاً من اللَّه لِقبحِ أفعالهم ، ومعرفتهم بكذبِهم ، وحرصاً منهم على الحَيَاة ، وقيل : إِن اللَّه تعالى منعهم من التمنِّي ، وقصرهم على الإِمساك عنه ، لتظهر الآية لنبيِّه صلى الله عليه وسلم .

( ت ) قال عِيَاضٌ : " ومن الوجوه البَيِّنة في إِعجاز القُرْآن أيٌ وردتْ بتعجيز قومٍ في قضايا ، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها ، فما فَعَلُوا ولا قَدَرُوا على ذلك ، كقوله تعالى لليهود : { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً . . . } [ البقرة :94 ] الآية ، قال أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَاج في هذه الآية : أعظم حجة ، وأظهر دلالة على صحَّة الرسالة ، لأنهُ قال لهم { فَتَمَنَّوُاْ الموت } ، وأعلمهم أنهم لَنْ يتمنَّوْهُ أبداً ، فلم يتمنَّهُ وَاحِدٌ منهم ، وعن النبيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم : ( والَّذي نَفُسِي بيَدِهِ ، لا يقولها رجُلٌ منهم إلا غصَّ بِرِيقِهِ ) يعني : يموتُ مكانه ، قال أبو محمَّدٍ الأصيليُّ : من أَعجب أمرهم أنَّهُ لا تُوجَدُ منهم جماعةٌ ، ولا واحدٌ من يومِ أَمَرَ اللَّهُ تعالى بذلك نبيَّهُ يقدَّم عليه ، ولا يجيب إليه ، وهذا موجودٌ مشاهَدٌ لمن أراد أن يمتحنه منهم " انتهى من «الشِّفَا » .

والمراد بقوله : { تَمَنَّواْ } أريدوهُ بقلوبكم ، واسْألوهُ ، هذا قَوْلُ جماعة من المفسِّرين ، وقال ابن عبَّاس : المراد به السؤالُ فقطْ ، وإِن لم يكن بالقَلْب .