المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

32- ليس بأيدي المشركين مفاتيح الرسالة ، حتى يجعلوها في أصحاب الجاه ، نحن تولينا تدبير معيشتهم لعجزهم عن ذلك ، وفضلنا بعضهم على بعض في الرزق والجاه ، ليتخذ بعضهم من بعض أعواناً يسخرونهم في قضاء حوائجهم ، حتى يتساندوا في طلب العيش وتنظيم الحياة والنبوة وما يتبعها من سعادة الدارين خير من أكبر مقامات الدنيا .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

قال الله تعالى{ أهم يقسمون رحمةً ربك } أي النبوة ، قال مقاتل ، يقول : بأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا ؟ ثم قال :{ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا } فجعلنا هذا غنياً وهذا فقيراً وهذا ملكاً وهذا مملوكاً ، فكما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق كما شئنا ، كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا . { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } بالغنى والمال ، { ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } ليستخدم بعضهم بعضا فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل ، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش ، هذا بماله ، وهذا بأعماله ، فيلتئم قوام أمر العالم . وقال قتادة والضحاك : يملك بعضهم بمالهم بعضاً بالعبودية والملك . { ورحمة ربك } يعني الجنة ، { خير } للمؤمنين ، { مما يجمعون } مما يجمع الكفار من الأموال .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

قال اللّه ردا لاقتراحهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } أي : أهم الخزان لرحمة اللّه ، وبيدهم تدبيرها ، فيعطون النبوة والرسالة من يشاءون ، ويمنعونها ممن يشاءون ؟

{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أي : في الحياة الدنيا ، والحال أن رَحْمَةَ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الدنيا .

فإذا كانت معايش العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد اللّه تعالى ، وهو الذي يقسمها بين عباده ، فيبسط الرزق على من يشاء ، ويضيقه على من يشاء ، بحسب حكمته ، فرحمته الدينية ، التي أعلاها النبوة والرسالة ، أولى وأحرى أن تكون بيد اللّه تعالى ، فاللّه أعلم حيث يجعل رسالته .

فعلم أن اقتراحهم ساقط لاغ ، وأن التدبير للأمور كلها ، دينيها ودنيويها ، بيد اللّه وحده . هذا إقناع لهم ، من جهة غلطهم في الاقتراح ، الذي ليس في أيديهم منه شيء ، إن هو إلا ظلم منهم ورد للحق .

وقولهم : { لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } لو عرفوا حقائق الرجال ، والصفات التي بها يعرف علو قدر الرجل ، وعظم منزلته عند اللّه وعند خلقه ، لعلموا أن محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب صلى اللّه عليه وسلم ، هو أعظم الرجال قدرا ، وأعلاهم فخرا ، وأكملهم عقلا ، وأغزرهم علما ، وأجلهم رأيا وعزما وحزما ، وأ كملهم خلقا ، وأوسعهم رحمة ، وأشدهم شفقة ، وأهداهم وأتقاهم .

وهو قطب دائرة الكمال ، وإليه المنتهى في أوصاف الرجال ، ألا وهو رجل العالم على الإطلاق ، يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه ، فكيف يفضل عليه المشركون من لم يشم مثقال ذرة من كماله ؟ ! ، ومن جرمه ومنتهى حمقه أن جعل إلهه الذي يعبده ويدعوه ويتقرب إليه صنما ، أو شجرا ، أو حجرا ، لا يضر ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، وهو كل على مولاه ، يحتاج لمن يقوم بمصالحه ، فهل هذا إلا من فعل السفهاء والمجانين ؟

فكيف يجعل مثل هذا عظيما ؟ أم كيف يفضل على خاتم الرسل وسيد ولد آدم صلى اللّه عليه وسلم ؟ ولكن الذين كفروا لا يعقلون .

وفي هذه الآية تنبيه على حكمة اللّه تعالى في تفضيل اللّه بعض العباد على بعض في الدنيا { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } أي : ليسخر بعضهم بعضا ، في الأعمال والحرف والصنائع .

فلو تساوى الناس في الغنى ، ولم يحتج بعضهم إلى بعض ، لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم .

وفيها دليل على أن نعمته الدينية خير من النعمة الدنيوية كما قال تعالى في الآية الأخرى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

وقد وبخهم الله - تعالى - على جهلهم هذا بقوله : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } فالاستفهام للإِنكار والتهكم بهم ، والتعجب من تفكيرهم .

والمراد بالرحمة : ما يشمل النبوة ، وما أنزله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - من وحى ، وما منحه إياه من خلق كريم ، وخير عميم .

أى : كيف بلغ الجهل والغباء بهؤلاء المشركين إلى هذه الدرجة ؟ إنهم ليس بيدهم ولا بيد غيرهم عطاء ربك ، وليس عندهم مفاتيح الرسالة ليضعوها حيث شاؤا ، وليختاروا لها من أرادوا . وما دام الأمر كذلك فكيف يعترضون على نزول القرآن عليك - أيها الرسول الكريم - ؟ .

ثم بين - سبحانه - مظاهر قدرته فى خلقه فقال : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا . . } أى : نحن قسمنا بينهم أرزاقهم فى هذه الدنيا ، ولم نترك تقسيمها لأحد منهم ، ونحن الذين - بحكمتنا - تولينا تدبير أسبابها ولم نكلها إليهم لعلمنا بعجزهم وقصورهم . ونحن الذين رفعنا بعضهم فوق بعض درجات فى الدنيا ، فهذا غنى وذاك فقير ، هذا مخدوم ، وذاك خادم ، وهذا قوى ، وذاك ضعيف .

ثم ذكر - سبحانه - الحكمة من هذا التفاوت فى الأرزاق فقال : { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } .

أى : فعلنا ذلك ليستخدم بعضهم بعضا فى حوائجهم ، ويعاون بعضهم بعضا فى مصالحهم ، وبذلك تنتظم الحياة ، وينهض العمران . ويعم الخير بين الناس ، ويصل كل واحد إلى مطلوبه على حسب ما قدر الله - تعالى - له من رزق واستعداد . .

ولو أنا تركنا أم تقسيم الأرزاق إليهم لتهارجوا وتقاتلوا ، وعم الخراب فى الأرض ، لأن كل واحد منهم يريد أن يأخذ ما ليس من حقه ، لأن الحرص والطمع من طبيعته .

وإذا كان هذا هو حالهم بالنسبة لأمور دنياهم فكيف أباحوا لأنفسهم التحكم فى منصب النبوة ، وهو بلا شك أعلى شأنا ، وأبعد شأوا من أمور الدنيا .

وقوله { سُخْرِيّاً } بضم السين - من التسخير ، بمعنى تسخير بعضهم لبعض وخدمة بعضهم لبعض ، وعمل بعضهم لبعض ، فالغنى - مثلا - يقدم المال لغيره ، نظير ما يقدمه له ذلك الغير من عمل معين . .

وبذلك تنتظم أمور الحياة ، وتسير فى طريقها الذى رسمه - سبحانه - لها .

قال الجمل ما ملخصه : قوله : { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } أى : ليستخدم بعضهم بعضا ، فيسخر الأغنياء بأموالهم ، الأجراء الفقراء بالعمل ، فيكون بعضهم سببا لمعاش بعض ، هذا بماله ، وهذا بأعماله ، فيلتئم قوام العالم ، لأن الأرزاق لو تساوت لتعطلت المعايش ، فلم يقدر أحد منهم أن ينفك عما جعلناه إليه من هذا الأمر الدنئ ، فكيف يطمعون فى الاعتراض فى أمر النبوة ، أيتصور عاقل أن نتولى قسم الناقص ، ونكل العالى إلى غيرنا . .

هذا ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها تقرر سنة من سنن الله - تعالى - التى لا تغيير لها ولا بتديل ، والتى تؤيدها المشاهدة فى كل زمان ومكان ، فحتى الدول التى تدعى المساواة فى كل شئ . . ترى سمة التفاوت فى الأرزاق وفى غيرها وضحة جلية ، وصدق الله فى قوله : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } .

ومن الآيات التى تشبه هذه الآية قوله - تعالى - : { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق . . . } وقوله - سبحانه - : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

وقوله : أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ يقول تعالى ذكره : أهؤلاء القائلون : لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم يا محمد ، يقسمون رحمة ربك بين خلقه ، فيجعلون كرامته لمن شاؤوا ، وفضله لمن أرادوا ، أم الله الذي يقسم ذلك ، فيعطه من أحبّ ، ويحرمه مَنْ شاء ؟ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : لما بعث الله محمدا رسولاً ، أنكرت العرب ذلك ، ومن أنكر منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد ، قال : فأنزل الله عزّ وجلّ : أكانَ للنّاسِ عَجَبا أنْ أوْحَيْنا إلى رَجُل مِنْهُمْ أنْ أَنْذِر النّاسَ وقال وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهِمْ ، فاسْئَلُوا أهْلَ الذّكْرِ يعني : أهل الكتب الماضية ، أبشرا كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة ؟ فإن كانوا ملائكة أتتكم ، وإن كانوا بشرا فلا تنكرون أن يكون محمد رسولاً : قال : ثم قال : وَما أرْسَلَنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ أهْلِ القُرَى : أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم قال : فلما كرّر الله عليهم الحجج قالوا ، وإذ كان بشرا فغير محمد كان أحقّ بالرسالة فلَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنَ على رَجُل مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يقولون : أشرف من محمد صلى الله عليه وسلم ، يعنون الوليد بن المغيرة المخزومي ، وكان يسمى ريحانة قريش ، هذا من مكة ، ومسعود بن عمرو بن عبيد الله الثقفي من أهل الطائف ، قال : يقول الله عزّ وجلّ ردّا عليهم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ أنا أفعل ما شئت .

وقوله : نَحْن قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا يقول تعالى ذكره : بل نحن نقسم رحمتنا وكرامتنا بين من شئنا من خلقنا ، فنجعل من شئنا رسولاً ، ومن أردنا صدّيقا ، ونتخذ من أردنا خليلاً ، كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون بها في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات ، فجعلنا بعضهم فيها أرفع من بعض درجة ، بل جعلنا هذا غنيا ، وهذا فقيرا ، وهذا ملكا ، وهذا مملوكا لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الله تبارك وتعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا فتلقاه ضعيف الحيلة ، عيي اللسان ، وهو مبسوط له في الرزق ، وتلقاه شديد الحيلة ، سليط اللسان ، وهو مقتور عليه ، قال الله جلّ ثناؤه : نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا كما قسم بينهم صورهم وأخلاقهم تبارك ربنا وتعالى .

وقوله : لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا يقول : ليستسخر هذا هذا في خدمته إياه ، وفي عود هذا على هذا بما في يديه من فضل ، يقول : جعل تعالى ذكره بعضا لبعض سببا في المعاش في الدنيا .

وقد اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله : لِيتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا فقال بعضهم : معناه ما قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا قال : يستخدم بعضهم بعضا في السخرة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا قال : هم بنو آدم جميعا ، قال : وهذا عبد هذا ، ورفع هذا على هذا درجة ، فهو يسخره بالعمل ، يستعمله به ، كما يقال : سخر فلان فلانا .

وقال بعضهم : بل عنى بذلك : ليملك بعضهم بعضا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، في قوله : لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا يعني بذلك : العبيد والخدم سخر لهم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا مِلْكة .

وقوله : وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ يقول تعالى ذكره : ورحمة ربك يا محمد بإدخالهم الجنة خير لهم مما يجمعون من الأموال في الدنيا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ يعني الجنة .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَرَحْمَةُ رَبّكَ يقول : الجنة خير مما يجمعون في الدنيا .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ" يقول تعالى ذكره: أهؤلاء القائلون: لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم يا محمد، يقسمون رحمة ربك بين خلقه، فيجعلون كرامته لمن شاءوا، وفضله لمن أرادوا، أم الله الذي يقسم ذلك، فيعطه من أحبّ، ويحرمه مَنْ شاء؟...

وقوله: "نَحْن قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا "يقول تعالى ذكره: بل نحن نقسم رحمتنا وكرامتنا بين من شئنا من خلقنا، فنجعل من شئنا رسولاً، ومن أردنا صدّيقا، ونتخذ من أردنا خليلاً، كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون بها في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات، فجعلنا بعضهم فيها أرفع من بعض درجة، بل جعلنا هذا غنيا، وهذا فقيرا، وهذا ملكا، وهذا مملوكا. "لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا"... يقول: ليستسخر هذا هذا في خدمته إياه، وفي عود هذا على هذا بما في يديه من فضل، يقول: جعل تعالى ذكره بعضا لبعض سببا في المعاش في الدنيا...

وقوله: "وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ" يقول تعالى ذكره: ورحمة ربك يا محمد بإدخالهم الجنة خير لهم مما يجمعون من الأموال في الدنيا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا} وهو يخرّج على وجهين:

أحدهما: أي أنهم لا يملكون قسمها على تدبير ما أُنشئوا وعلى تقدير ما خُلقوا، وهي ما ذكر من المعاش وأسباب الرزق من التوسيع والتفضيل، فالذي لم يُجعل إليهم في ذلك شيء من تدبيره وتقديره أحق وأولى ألا يملكوا قسمة ذلك بينهم واختياره، وهو النبوّة والرسالة ووضعها حيث شاء، وهذا أحد التأويلين...

{ورحمة ربك خير مما يجمعون} يحتمل قوله: {ورحمة ربك} أي النبوة أي ما اختار لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الرسالة والنبوة خير مما يجمع أولئك الكفرة.

ويحتمل ما يدعوهم محمد صلى الله عليه وسلم ويختار لهم من التوحيد والدين {خير مما يجمعون} هم من الأموال.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

"نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا" وقيل: الوجه في اختلاف الرزق بين الخلق في الضيق والسعة زيادة على ما فيه من المصلحة أن في ذلك تسخير بعض العباد لبعض بإحواجهم إليهم، لما في ذلك من الأحوال التي تدعو إلى طلب الرفعة وارتباط النعمة، ولما فيه من الاعتبار بحال الغنى والحاجة، وما فيه من صحة التكليف على المثوبة.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

الحقَّ -سبحانه- لم يجعل قسمةَ السعادةِ والشقاوةِ إلى أحد، وإنما المردودُ مَنْ ردّه بحكمه وقضائه وقَدَرِه، والمقبولُ- من جملة عباده -مَنْ أراده وقَبِلَه- لا لِعلَّةٍ أَو سبب، وليس الردُّ أو القبولُ لأمرِ مُكتَسب.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ثم ضرب لهم مثلاً فأعلم أنهم عاجزون عن تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم في دنياهم، وأنّ الله عز وعلا هو الذي قسم بينهم معيشتهم وقدرها ودبر أحوالهم تدبير العالم بها، ولو وكلهم إلى أنفسهم وولاهم تدبير أمرهم، لضاعوا وهلكوا. وإذا كانوا في تدبير أمر المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة، فما ظنك بهم في تدبير أمور الدين الذي هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى...

الله تعالى قسم لكل عبد معيشته وهي مطاعمه ومشاربه وما يصلحه من المنافع وأذن له في تناولها، ولكن شرط عليه وكلفه أن يسلك في تناولها الطريق التي شرعها فإذا سلكها فقد تناول قسمته من المعيشة حلالاً، وسماها رزق الله؛ وإذا لم يسلكها تناولها حراماً، وليس له أن يسميها رزق الله؛ فالله تعالى قاسم المعايش والمنافع، ولكن العباد هم الذين يكسبونها صفة الحرمة بسوء تناولهم، وهو عدولهم فيه عما شرعه الله إلى ما لم يشرعهم...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

ثم وقف تعالى –على جهة التوبيخ لهم- بقوله: (أهم يقسمون رحمة ربك)، المعنى: أعلى اختيارهم وإرادتهم تنقسم الفضائل والمكانة عند الله تعالى؟

و "الرَّحمةُ "اسم يعُمُّ جميع هذا، ثم أخبر تعالى خبرا جازما بأنه تعالى قاسم المعايش والدرجات في الدنيا ليسخر بعض الناس بعضا، المعنى: فإذا كان اهتمامنا بهم أن نقسم هذا الحقير الفاني فالأحرى أن نقسم الأهمّ الخطير، وفي قوله تعالى: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم" تزهيد في السعايات، وعون على التوكل على الله تعالى...

لاشك أن الجنة هي الغاية، ورحمة الله تبارك وتعالى في الدنيا بالهداية والإيمان خير من كل مال، وهذا اللفظ تحقير للدنيا...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

المسألة الأولى: أنا أوقعنا هذا التفاوت بين العباد في القوة والضعف والعلم والجهل والحذاقة والبلاهة والشهرة والخمول، وإنما فعلنا ذلك لأنا لو سوينا بينهم في كل هذه الأحوال لم يخدم أحد أحدا ولم يصر أحد منهم مسخرا لغيره، وحينئذ يفضي ذلك إلى خراب العالم وفساد نظام الدنيا،

المسألة الثانية: قوله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا} يقتضي أن تكون كل أقسام معايشهم إنما تحصل بحكم الله وتقديره، وهذا يقتضي أن يكون الرزق الحرام والحلال كله من الله تعالى.

والوجه الثاني في الجواب ما هو المراد من قوله {ورحمت ربك خير مما

يجمعون}؟ وتقريره أن الله تعالى إذا خص بعض عبيده بنوع فضله ورحمته في الدين؛ فهذه الرحمة خير من الأموال التي يجمعها؛ لأن الدنيا على شرف الانقضاء والانقراض وفضل الله ورحمته تبقى أبد الآباد.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{يقسمون} أي على التجدد والاستمرار: ولفت القول عن إفراد الضمير إلى صفة الرحمة المضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً له وإظهاراً لعلي قدره:

{رحمت ربك} أي إكرام المحسن إليك وإنعامه وتشريفه بأنواع اللطف والبر وإعظامه بما رباك له من تخصيصك بالإرسال إليهم بتأهيلهم للإنقاذ من الضلال، وجعلك وأنت أفضل العالمين الرسول إليهم ففضلوا بفضيلتك مع أنك أشرفهم نسباً وأفضلهم حسباً وأعظمهم عقلاً وأصفاهم لباً وأرحمهم قلباً ليتصرفوا في تلك الرحمة التي هي روح الوجود وسر الأمر بحسب شهواتهم، وهم لا يقدرون على التصرف في المتاع الزائل بمثل ذلك. ولما نفى أن يكون لهم شيء من القسم قال جواباً لمن كأنه قال: فمن القاسم؟ دالاً على بعدهم عن أن يكون إليهم شيء من قسم ما أعد لأديانهم بما يشاهدونه من بعدهم عن قسم ما أعد لأبدانهم، لافتاً القوم عن صفة الإحسان إلى مظهر العظمة إشارة إلى أنها تأبى المشاركة في شيء وتقتضي التفرد: {نحن قسمنا} أي بما من لنا العظمة {بينهم} أي في الأمر الذي يعمهم ويوجب تخصيص كل منهم بما لديهم {معيشتهم} التي يعدونه رحمة ويقصرون عليها النعمة {في الحياة الدنيا} التي هي أدنى الأشياء عندنا، وأشار إلى أنها حياة ناقصة لا يرضاها عاقل، وأما الآخرة فعبر عنها بالحيوان لأنا لو تركنا قسمها إليهم لتعاونوا على ذلك فلم يبق منهم أحد فكيف يدخل في الوهم أن يجعل إليهم شيئاً من الكلام في أمر النبوة التي هي روح الوجود، وبها سعادة الدارين:

{ورفعنا} بما لنا من نفوذ الأمر {بعضهم} وإن كان ضعيف البدن قليل العقل

{فوق بعض} وإن كان قوياً عزيز العقل {درجات} في الجاه والمال ونفوذ الأمر وعظم القدر لينتظر حال الوجود، فإنه لا بد في انتظامه من تشارك الموجودين وتعاونهم، تفاوتنا بينهم في الجثث والقوى والهمم ليقتسموا الصنائع، والمعارف والبضائع، ويكون كل ميسر لما خلق له، وجانحاً إلى ما هي له لتعاطيه، فلم يقدر أحد من دنيء أو غني أن يعدو قدره وترتقي فوق منزلته.

ولما ذكر ذلك، علله بما ثمرته عمارة الأرض فقال: {ليتخذ} أي بغاية جهده

{بعضهم بعضاً} ولما كان المراد هنا الاستخدام دون الهزء؛ لأنه لا يليق التعليل به، أجمع القراء على ضم هذا الحرف هنا فقال: {سخرياً} أي أن يستعمله فيما ينوبه أو يتعسر أو يتعذر عليه مباشرته ويأخذ للآخر منه من المال ما هو مفتقر إليه، فهذا بماله، وهذا بأعماله، وقد يكون الفقير أكمل من الغني ليكمل بذلك نظام العالم لأنه لو تساوت المقادير لتعطلت المعايش، فلم يقدر أحد أن ينفك عما جعلناه إليه من هذا الأمر الدنيء فكيف يطمعون في الاعتراض في أمر النبوة، أيتصور عاقل أن يتولى قسم الناقص ونكل العالي إلى غيرنا، قال ابن الجوزي: فإذا كانت الأرزاق بقدر الله لا بحول المحتال وهي دون النبوة فكيف تكون النبوة -انتهى. وهذا هو المراد بقوله تعالى صارفاً القول عن مظهر العظمة والسلطان إلى الوصف بالإحسان إظهاراً لشرف النبي صلى الله عليه وسلم {ورحمة ربك} أي المربي لك والمدبر لأمرك بإرسالك وإنارة الوجود برسالتك التي هي لعظمتها جديرة بأن تضاف إليه ولا يسمى غيرها رحمة {خير مما يجمعون} من الحطام الفاني فإنه وإن تأتي فيه خير باستعماله في وجوه البر بشرطه، فهذا بالنسبة إلى النبوة، وما قارنا مما دعا إلى الإعراض عن الدنيا متلاش.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

أهم يقسمون رحمة ربك؟ يا عجباً! وما لهم هم ورحمة ربك؟ وهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، ولا يحققون لأنفسهم رزقاً حتى رزق هذه الأرض الزهيد نحن أعطيناهم إياه؛ وقسمناه بينهم وفق حكمتنا وتقديرنا لعمران هذه الأرض ونمو هذه الحياة... ليسخر بعضهم بعضاً.. ودولاب الحياة حين يدور يسخر بعض الناس لبعض حتما. وليس التسخير هو الاستعلاء.. استعلاء طبقة على طبقة، أو استعلاء فرد على فرد.. كلا! إن هذا معنى قريب ساذج، لا يرتفع إلى مستوى القول الإلهي الخالد. كلا! إن مدلول هذا القول أبقى من كل تغير أو تطور في أوضاع الجماعة البشرية؛ وأبعد مدى من ظرف يذهب وظرف يجيء.. إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض. ودولاب الحياة يدور بالجميع، ويسخر بعضهم لبعض في كل وضع وفي كل ظرف. المقدر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق. والعكس كذلك صحيح. فهذا مسخر ليجمع المال، فيأكل منه ويرتزق ذاك. وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء. والتفاوت في الرزق هو الذي يسخر هذا لذاك، ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة.. العامل مسخر للمهندس ومسخر لصاحب العمل والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل. وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على السواء.. وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات، والتفاوت في الأعمال والأرزاق...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

إنكار عليهم قولهم {لولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم} [الزخرف: 31]، فإنهم لما نصبوا أنفسهم منصب من يتخير أصناف النّاس للرسالة عن الله، فقد جعلوا لأنفسهم ذلك لا لله، فكان من مقتضَى قولهم أن الاصطفاء للرسالة بيدهم، فلذلك قُدّم ضمير {هُمْ} المجعول مسنداً إليه، على مسندٍ فعلي ليفيد معنى الاختصاص فسلط الإنكار على هذا الحصر إبطالاً لقولهم وتخطئة لهم في تحكمهم...

أي قسمنا بينهم معيشتهم، أي أسبابَ معيشتهم ليستعين بعضهم ببعض فيتعارفوا ويتجمعوا لأجل حاجة بعضهم إلى بعض فتتكون من ذلك القبائل والمدن...

وعلى هذا يكون قوله: {بعضهم بعضاً} عاماً في كل بعض من النّاس إذ ما من أحد إلا وهو مستعمِل لغيره وهو مستعمَل لغيرٍ آخر...

وجملة {ورحمة ربك خير مما يجمعون} تذييل للرد عليهم، وفي هذا التذييل ردّ ثانٍ عليهم بأن المال الذي جعلوه عماد الاصطفاء للرسالة هو أقل من رحمة الله فهي خير مما يجمعون من المال الذي جعلوه سبب التفضيل حين قالوا: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] فإن المال شيء جَمَعه صاحبه لنفسه فلا يكون مثل اصطفاء الله العبد ليرسله إلى النّاس...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

يعني: إذا كنا قسمنا بينهم أبسط الأشياء وهي معايشهم في الدنيا أيريدون هم أنْ يقسموا رحمة الله وفضل الله حسْب أهوائهم، ورحمة الله يختصُّ بها مَنْ يشاء من عباده، فهي من يده سبحانه لا دخَلْ لأحد في توزيعها.

فقوله تعالى {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} دلَّ على عجز الإنسان، وأن حركة الحياة لا تنصلح إلا بمنهج الله الذي ينظمها.

ومن حكمة هذه القسمة أنْ جعل بعضَ الناس أغنياء وبعضهم فقراء، بعضهم سادةٌ وبعضهم خَدَم، ولولا هذه القسمة ما استقامتْ حركة المجتمع وما وجدنا مَنْ يقوم بالأعمال الشاقة أو الأعمال الحقيرة.

وسبق أنْ أوضحنا أن حركة المجتمع وتقدمه لا يقوم على التفضُّل، إنما على الحاجة، فحاجة الفقير هي التي تدفعه للعمل.

والرحمة المرادة هنا {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} هي النبوة، فهم يطمعون في أنْ يجعلوها اختياراً يختارونه من ساداتهم وكبراء القوم فيهم، فالحق سبحانه يُصحِّح لهم ويقول: كيف تطمعون في ذلك وأنتم لا تقدرون على قسمة أبسط الأشياء؟

ثم تلاحظ أن كلمة {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} كلمة مبهمة تعني أن الكلّ مرفوع ومرفوع عليه، مرفوع في شيء، ومرفوع عليه في شيء آخر.

وهكذا يتكامل الخَلْق، وتتم المصالح، وتُقضى حاجات المجتمع كما قال الشاعر:

فأنت مرفوع فيما تُحسنه من الأعمال، ومرفوع عليك فيما لا تجيده، هذا معنى قوله تعالى: {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً}..

{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} المراد برحمة ربك هنا الرسالة والمنهج الذي يهدي الخَلْق إلى طريق الحق، هذه الرحمة في الحقيقة خيرٌ من هذا المتاع الزائل الذي تتنافسون عليه في الدنيا، لأن الإنسان مهما وصل في الدنيا إلى الرفاهية والترف والنعيم فسوف يموت ويتركه ولن يبقى له منه شيء.

أما منهج الله فيُورثك فوزاً باقياً تسعد به في الدنيا وتفوز به في الآخرة. إذن: هو خير وهو أبْقى، وهو أنفع لك وأدوم، هذا المنهج يضمن لك صلاحَ الدنيا وسلامة الآخرة؛ لذلك كان هو {خَيْرٌ} من كل ما تراه من بريق الدنيا.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

لقد نسي هؤلاء أنّ حياة البشر حياة جماعيّة، ولا يمكن أن تدار هذه الحياة إلاّ عن طريق التعاون والخدمة المتبادلة، فإذا ما تساوى كلّ الناس في مستوى معيشتهم وقابليّاتهم ومكانتهم الاجتماعية، فإنّ أصل التعاون والخدمة المتبادلة سيتزلزل...

بناء على هذا فينبغي أن لا يخدعهم هذا التفاوت، ويظنّوا أنّه معيار القيم الإِنسانية، إذ: (ورحمة ربّك خير ممّا يجمعون) بل إن كل المقامات والثروات لا تعدل جناح بعوضة في مقابل رحمة الله والقرب منه...