السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

ثم رد الله تعالى عليهم إعراضهم منكراً عليهم موبخاً لهم بما معناه أنه ليس الأمر مردوداً ولا موقوفاً عليهم بل إلى الله تعالى وحده والله أعلم حيث يجعل رسالاته بقوله تعالى : { أهم } أي : أهؤلاء الجهلة العجزة { يقسمون } أي : على التجدد والاستمرار { رحمة ربك } أي : إكرام المحسن إليك وإنعامه وتشريفه أنواع اللطف والبر وإعظامه بما رباك له من تخصيصك بالإرسال إليهم لإنقاذهم من الضلال وجعلك وأنت أفضل العالمين الرسول إليهم ، ففضلوا بفضيلتك مع أنك أشرفهم نسباً وأفضلهم حسباً وأعظمهم عقلاً وأصفاهم لباً وأرحمهم قلباً ، ليتصرفوا في تلك الرحمة التي هي روح الوجود وسر الأمر لا يحب شهواتهم ولا يقدرون على التصرف في المتاع الزائل بمثل ذلك كما قال تعالى : { نحن قسمنا } بما لنا من العظمة { بينهم } أي : في الأمر الزائل الذي يعمهم ويجب تخصيص كل منهم لما لديه { معيشتهم } أي : التي يعدونها رحمة ويقصرون عليهم النعمة { في الحياة الدنيا } التي هي أدنى الأشياء عندنا وأشار بتأنيثها إلى أنها حياة ناقصة لا يرضاها عاقل ، وأما الآخرة فعبر بالحيوان لأنا لو تركنا قسمها إليهم لتفانوا على ذلك فلم يبق منهم أحد ، فكيف يدخل في الوهم أن نجعل إليهم شيئاً من الكلام في أمر النبوة التي هي روح الوجود وبها سعادة الدارين { ورفعنا } أي : بما لنا من نفوذ الأمر { بعضهم } وإن كان ضعيف البدن قليل العقل { فوق بعض } وإن كان قوياً غزير العقل { درجات } في الجاه والمال ونفوذ الأمر وعظم القدر لينتظم حال الوجود ، فإنه لا بد في انتظامه من تشارك الموجودين وتعاونهم ففاوتنا بينهم في الجثث والقوى والهمم ، ليقتسموا الصنائع والمعارف ويكون كل ميسراً لما خلق له وجانحاً لما هُيئ لتعاطيه فلم يقدر أحد من دني أو غني أن يعدو قدره ويرتقي فوق منزلته .

ثم علل ذلك بما ثمرته عمارة الأرض بقوله تعالى : { ليتخذ } أي : بغاية جهده { بعضهم بعضاً سخرياً } أي : ليستخدم بعضهم بعضاً فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل ، فيكون بعضهم سبباً لمعاش بعض هذا بماله وهذا بأعماله فيلتئم قوام العالم ؛ لأن المقادير لو تساوت لتعطلت المعايش فلم يقدر أحد منهم أن ينفك عما جعلناه إليه من هذا الأمر الدنيء ، فكيف يطمعون في الاعتراض في أمر النبوة أيتصور عاقل أن نتولى قسم الناقص ونكل العالي إلى غيرنا .

قال ابن الجوزي : فإذا كانت الأرزاق بقدر الله تعالى لا بحول المحتال وهي دون النبوة فكيف تكون النبوة وهذا هو المراد بقوله تعالى : صارفاً القول عن مظهر العظمة إلى الوصف بالإحسان إظهار لشرف النبي صلى الله عليه وسلم .

{ ورحمة ربك } أي : المربي لك والمدبر لأمرك بإرسالك وإنارة الوجود برسالتك التي هي لعظمتها جديرة بأن تضاف إليه ولا يسمي غيرها رحمة { خير مما يجمعون } من حطام الدنيا الفاني فإنه وإن تأتَّى فيه خير في استعماله في وجوه البر بشرطه فهو بالنسبة إلى النبوة وما قاربها مما دعا إلى الإعراض عن الدنيا متلاش ، وقيل : المراد بالرحمة : الجنة ، وجرى عليه البغوي وتبعه الجلال المحلي وابن عادل ، وجرى على الأول البيضاوي وتبعه البقاعي وهو الظاهر من الآية الكريمة .

فائدة : اتفق القراء هنا على قراءة سخريا بضم السين .