{ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً } سهلة لا يمتنع المشي فيها بالحزونة ، { فامشوا في مناكبها } قال ابن عباس وقتادة : في جبالها ، وقال الضحاك : في آكامها . وقال مجاهد : في طرقها وفجاجها . قال الحسن : في سبلها . وقال الكلبي : في أطرافها . وقال مقاتل : في نواحيها . وقال الفراء : في جوانبها ، والأصل في الكلمة الجانب ، ومنه منكب الرجل ، والريح النكباء ، وتنكب فلان . { وكلوا من رزقه } مما خلقه رزقاً لكم في الأرض . { وإليه النشور } أي : وإليه تبعثون من قبوركم .
وقوله : هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً يقول تعالى ذكره : الله الذي جعل لكم الأرض ذَلُولاً سْهلاً ، سَهّلها لكم فامْشُوا فِي مَناكِبها .
واختلف أهل العلم في معنى مَناكِبها فقال بعضهم : مناكبها : جبالها . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فِي مَناكِبها يقول : جبالها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن بشير بن كعب أنه قرأ هذه الاَية : فامْشُوا فِي مَناكِبها فقال لجارية له : إن دَرَيْت ما مناكُبها ، فأنت حرّة لوجه الله قالت : فإن مناكبها : جبالها ، فكأنما سُفِع في وجهه ، ورغب في جاريته . فسأل ، منهم من أمره ، ومنهم من نهاه ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : الخير في طمأنينة ، والشرّ في ريبة ، فَذرْ ما يريبك إلى ما لا يَريبك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن بشير بن كعب ، بمثله سواء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فامْشُوا في مَناكِبها : جبالها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله فِي مَناكِبها قال : في جبالها .
وقال آخرون : مَناكِبها : أطرافها ونواحيها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فامْشُوا فِي مَناكِبها يقول : امشوا في أطرافها .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة ، أن بشير بن كعب العدويّ ، قرأ هذه الاَية فامْشُوا فِي مَناكِبها فقال لجاريته : إن أخبرتني ما مناكبها ، فأنت حرّة ، فقالت : نواحيها فأراد أن يتزوّجها ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : إن الخير في طمأنينة ، وإن الشرّ في ريبة ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فامْشُوا فِي مَناكِبها قال : طرقها وفجاجها .
وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال : معنى ذلك : فامشوا في نواحيها وجوانبها ، وذلك أن نواحيها نظير مناكب الإنسان التي هي من أطرافه .
وقوله : وكُلُوا مِنْ رزْقِهِ يقول : وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض ، وَإلَيْهِ النّشُورُ يقول تعالى ذكره : وإلى الله نشركم من قبوركم .
والذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلول . فهي كركوب وحلوب ، يقال : ذلول ، بين الذل بضم الذال ، واختلف المفسرون في معنى : المناكب ، فقال ابن عباس : أطرافها وهي الجبال ، وقال الفراء ومنذر بن سعيد : جوانبها ، وهي النواحي ، وقال مجاهد : هي الطرف والفجاج ، وهذا قول جار مع اللغة ، لأنها تنكب يمنة ويسرة ، وينكب الماشي فيها ، في مناكب{[11216]} . وهذه الآية تعديد نعم في تقريب التصرف للناس ، وفي التمتع في رزق الله تعالى ، و { النشور } : الحياة بعد الموت .
استئناف فيه عود إلى الاستدلال ، وإدماج للامتنان ، فإن خلق الأرض التي تحوي الناس على وجهها أدل على قدرة الله تعالى وعلمه من خلق الإِنسان إذ ما الإِنسان إلاّ جزء من الأرض أو كجزء منها قال تعالى : { منها خلقناكم } [ طه : 55 ] ، فلما ضَرب لهم بخلق أنفسهم دليلاً على علمه الدال على وحدانيته شفَّعه بدليل خلق الأرض التي هم عليها ، مع المنة بأنه خلقها هيّنة لهم صالحة للسير فيها مخرِجة لأرزاقهم ، وذُيّل ذلك بأن النشور منها وأن النشور إليه لا إلى غيره .
والذَّلول من الدواب المنقادة المطاوعة ، مشتق من الذل وهو الهوان والانقياد ، فَعول بمعنى فاعل يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وتقدم في قوله تعالى : { إنها بقرة لا ذلول } الآية في سورة البقرة ( 71 ) ، فاستعير الذلول للأرض في تذليل الانتفاع بها مع صلابة خلقتها تشبيهاً بالدابة المسوسة المرتاضة بعد الصعوبة على طريقة المصرحة .
والمناكب : تخييل للاستعارة لزيادة بيان تسخير الأرض للناس فإن المنكب هو ملتقى الكتف مع العضد ، جعل المناكب استعارة لأطراف الأرض أو لسعتها .
وفُرع على هذه الاستعارة الأمر في فامشوا في مناكبها } فصيغة الأمر مستعملة في معنى الإِدامة تذكيراً بما سخّر الله لهم من المشي في الأرض امتناناً بذلك .
ومناسبة { وكلوا من رزقه } أن الرزق من الأرض . والأمر مستعمل في الإِدامة أيضاً للامتنان ، وبذلك تمت استعارة الذلول للأرض لأن فائدة تذليل الذلول ركوبها والأكل منها . فالمشي على الأرض شبيه بركوب الذلول ، والأكلُ مما تنبته الأرض شبيه بأكل الألبان والسمن وأكل العجول والخرفان ونحو ذلك . وجمع المناكب تجريد للاستعارة لأن الذلول لها منكبان والأرض ذات متسعات كثيرة .
وكل هذا تذكير بشواهد الربوبية والإِنعام ليتدبروا فيتركوا العناد ، قال تعالى : { كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون } [ النحل : 81 ] .
وأما عطف { وإليه النشور } فهو تتميم وزيادة عبر استطرون لمناسبة ذكر الأرض فإنها مثوى الناس بعد الموت .
والمعنى : إليه النشور منها ، وذلك يقتضي حذفاً ، أي وفيها تعودون .
وتعريف { النشور } تعريف الجنس فيعم أي كل نشور ، ومنه نشور المخاطبين فكان قوله : { وإليه النشور } بمنزلة التذييل .
والقصر المستفاد من تعريف جزأي { هو الذي جعل لكم الأرض } قصر قلب بتنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد أن الأصنام خلقت الأرض لأن اعتقادهم إلهيتها يقتضي إلزامهم بهذا الظن الفاسد وإن لم يقولوه .
وتقديم المجرور في جملة { وإليه النشور } للاهتمام .
ومناسبة ذكر النشور هو ذكر خلق الأرض فإن البعث يكون من الأرض .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.