275- الذين يتعاملون بالربا لا يكونون في سعيهم وتصرفهم وسائر أحوالهم إلا في اضطراب وخلل ، كالذي أفسد الشيطان عقله فصار يتعثر من الجنون الذي أصابه ، لأنهم يزعمون أن البيع مثل الربا في أن كلا منهما فيه معاوضة وكسب . فيجب أن يكون كلاهما حلالا ، وقد رد الله عليهم زعمهم فبين لهم أن التحليل والتحريم ليس من شأنهم ، وأن التماثل الذي زعموه ليس صادقاً ، والله قد أحل البيع وحرم الربا ، فمن جاءه أمر ربه بتحريم الربا واهتدى به ، فله ما أخذه من الربا قبل تحريمه ، وأمره موكول إلى عفو الله . ومن عاد إلى التعامل بالربا باستحلاله بعد تحريمه ، فأولئك يلازمون النار خالدين فيها{[28]} .
قوله تعالى : { الذين يأكلون الربا } . أي يعاملون به ، وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال .
قوله تعالى : { لا يقومون } . يعني يوم القيامة من قبورهم .
قوله تعالى : { إلا كما يقوم الذي يتخبطه } . أي يصرعه .
قوله تعالى : { الشيطان } . أصل الخبط الضرب والوطء ، وهو ضرب على غير استواء يقال : ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائمها .
قوله تعالى : { من المس } . أي الجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنوناً ، ومعناه : أن آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كمثل المصروع .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف ، أخبرنا عبد الله ابن يحيى ، أخبرنا يعقوب بن سفيان ، أخبرنا إسماعيل بن سالم ، أخبرنا عباد بن عباد ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء قال : " فانطلق بي جبريل عليه السلام إلى رجال كثير ، كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم منضدين على سابلة آل فرعون ، وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً ، قال : فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر ، لا يسمعون ولا يعقلون ، فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا ، فتميل بهم بطونهم فيصرعون ، ثم يقوم أحدهم فيميل أحدهم فيميل به بطنه فيصرع ، فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيردوهم مقبلين ومدبرين ، فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة قال : وآل فرعون يقولون : اللهم لا تقم الساعة أبداً ، قال ويوم القيامة يقال : ( أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) قلت : يا جبريل من هم هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " .
قوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } . أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هذا ، واستحلالهم إياه ، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه به فيقوم به فيقول الغريم لصاحب الحق : زدني في الأجل حتى أزيدك في المال ؟ فيفعلان ذلك ، ويقولون سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح ، أو عند المحل لأجل التأخير فكذبهم الله تعالى .
قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } . واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى( وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس ) أي ليكثر . ( فلا يربو عند الله ) فطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة ، إنما المحرم زيادة على صفة مخصوصة ، في مال مخصوص بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا عبد الوهاب ، عن أيوب بن أبي تميمة ، عن محمد بن سيرين ، عن مسلم بن يسار ورجل آخر ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا الورق بالورق ، ولا البر بالبر ، ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء ، عيناً بعين ، يداً بيد ، ولكن بيعوا الذهب بالورق ، والورق بالذهب ، والبر بالشعير ، والشعير بالبر ، والتمر بالملح ، والملح بالتمر يداً بيد ، كيف شئتم ، ونقص أحدهم الملح أو التمر وزاد أحدهما : ومن زاد أو استزاد فقد أربى " . وروي هذا الحديث من طرق محمد بن سيرين ، عن مسلم بن يسار ، و عبد الله بن عتيك عن عبادة .
فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على ستة أشياء ، وذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا يثبت في هذه الأشياء الست بالأوصاف فيها فيتعدى إلى كل مال توجد فيه تلك الأوصاف ، ثم اختلفوا في تلك الأوصاف ، فذهب قوم : إلى أن المعنى في جميعها واحد ، وهو النفع وأثبتوا الربا في جميع الأموال ، وذهب الأكثرون إلى أن الربا يثبت في الدراهم والدنانير بوصف ، وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر ، واختلفوا في ذلك الوصف فقال قوم : ثبت في الدراهم والدنانير بوصف ، النقدية ، وهو قول مالك والشافعي ، وقال قوم : ثبت بعلة الوزن وهو قول أصحاب الرأي ، وأثبتوا الربا في جميع الموزونات مثل الحديد والنحاس والقطن ونحوها . وأما الأشياء الأربعة فذهب قوم إلى أن الربا ثبت فيها بعلة الكيل ، وهو قول أصحاب الرأي ، وأثبتوا الربا في جميع المكيلات مطعوماً كان أو غير مطعوم ، كالجص والنورة ونحوها ، وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل والوزن ، فكل مطعوم وهو مكيل أو موزون يثبت فيه الربا ، ولا يثبت فيما ليس بمكيل ولا موزون ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وقاله الشافعي رحمه الله في القديم ، وقال في الجديد : يثبت فيها الربا بوصف الطعم ، وأثبت الربا في جميع الأشياء المطعومة من الثمار والفواكه والبقول والأدوية مكيلة أو موزونة ، لما روي عن معمر بن عبد الله قال : كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الطعام بالطعام مثلاً بمثل " . فجملة مال الربا عند الشافعي ما كان ثمناً أو مطعوماً .
والربا نوعان : ربا الفضل ، وربا النساء ، فإذا باع مال الربا بجنسه مثلاً بمثل بأن باع أحد النقدين بجنسه أو باع مطعوماً بجنسه كالحنطة بالحنطة ، ونحوها يثبت فيه كلا نوعي الربا حتى لا يجوز إلا متساويين في معيار الشرع ، فإن كان موزوناً كالدراهم والدنانير ، فيشترط المساواة في الوزن ، وإن كان مكيلاً كالحنطة والشعير ، بيع بجنسه ، فيشترط المساواة في الكيل ويشترط التقابض في مجلس العقد ، وإذا باع مال الربا بغير جنسه نظر : إن باع بما لا يوافقه في وصف الربا مثل أن باع مطعوما بأحد النقدين فلا ربا فيه ، كما لو باعه بما يوافقه في الوصف ، مثل أن باع الدراهم بالدنانير أو باع الحنطة بالشعير أو باع مطعوماً بمطعوم آخر من غير جنسه فلا يثبت فيه ربا الفضل حتى يجوز متفاضلاً أو جزافاً ، ويثبت فيه ربا النساء حتى يشترط التقابض في المجلس ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، إلى أن قال إلا سواء بسواء " فيه إيجاب المماثلة ، وتحريم الفضل عند اتفاق الجنس ، وقوله عيناً بعين فيه تحريم النساء ، وقوله يداً بيد كيف شئتم فيه إطلاق التفاضل عند اختلاف الجنس مع إيجاب التقابض في المجلس ، هذا في ربا المبايعة . ومن أقرض شيئاً بشرط أن يرد عليه أفضل فهو قرض جر منفعة ، وكل قرض جر منفعة فهو ربا .
قوله تعالى : { فمن جاءه موعظة من ربه } . تذكير وتخويف ، وإنما ذكر الفعل رداً إلى الوعظ .
قوله تعالى : { فانتهى } . عن أكل الربا .
قوله تعالى : { فله ما سلف } . أي ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له .
قوله تعالى : { وأمره إلى الله } . بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الانتهاء ، وإن شاء خذله حتى يعود ، وقيل : أمره إلى الله فيما يأمره وينهاه ويحل له وحرم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء .
قوله تعالى : { ومن عاد } . بعد التحريم إلى أكل الربا مستحلاً له .
قوله تعالى : { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن المثنى حدثني غندر ، أخبرنا شعبة عن عوف بن أبي جحيفة ، عن أبيه أنه قال : " إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم ، وثمن الكلب وكسب البغي ، ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا زهير بن حرب ، أخبرنا هشيم أخبرنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه ، وقال : هم سواء " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو محمد المخلدي ، أنا أبو حامد بن الشرقي ، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا النضر بن محمد ، أخبرنا عكرمة بن عمار ، أخبرنا يحيى هو ابن أبي كثير قال : حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الربا سبعون باباً ، أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمه } .
{ الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوَاْ إِنّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَا وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رّبّهِ فَانْتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
يعني ذلك جل ثناؤه : الذين يربون ، والإرباء : الزيادة على الشيء ، يقال فيه : أربى فلان على فلان إذا زاد عليه يربي إرباء ، والزيادة هي الربا ، ورباالشيء : إذا زاد على ما كان عليه فعظم ، فهو يربو رَبْوا . وإنما قيل للرابية لزيادتها في العظم والإشراف على مااستوى من الأرض مما حولها من قولهم ربا يربو ، ومن ذلك قيل : فلان في ربا قومه يراد أنه في رفعة وشرف منهم ، فأصل الربا الإنافة والزيادة ، ثم يقال : أَرْبَى فلان : أي أناف صيره زائدا . وإنما قيل للمربي مريب لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالاً ، أو لزيادته عليه فيه ، لسبب الأجل الذي يؤخره إليه ، فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حلّ دينه عليه ، ولذلك قال جلّ ثناؤه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرّبا أضْعافا مُضَاعَفَةً } .
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال في الربا الذي نهى الله عنه : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين ، فيقول : لك كذا وكذا وتؤخر عني ، فيؤخر عنه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن ربا الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى ، فإذا حلّ الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخّر عنه .
فقال جل ثناؤه للذين يربون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا ، لا يقومون في الاَخرة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ¹ يعني بذلك : يتخبّله الشيطان في الدنيا ، وهو الذي يتخبطه فيصرعه من المسّ ، يعني من الجنون . وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { الّذِينَ يأكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطَهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } يوم القيامة في أكل الربا في الدنيا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { الّذِينَ يَأَكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : ذلك حين يبعث من قبره .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : يقال يوم القيامة لاَكل الربا : خذ سلاحك للحرب . وقرأ : { لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : ذلك حين يبعث من قبره .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير : { الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } . . . الآية . قال : يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونا يخنق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ } الآية ، وتلك علامة أهل الربا يوم القيامة ، بعثوا بهم خبل من الشيطان .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لا يَقُومُونَ إِلاّ كما يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : هو التخبّل الذي يتخبّله الشيطان من الجنون .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : يبعثون يوم القيامة وبهم خبل من الشيطان . وهي في بعض القراءة : «لا يقومون يوم القيامة » .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : من مات وهو يأكل الربا بعث يوم القيامة متخبطا كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { الّذِينَ يَأَكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } يعني من الجنون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { الّذِينَ يَأَكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } قال : هذا مثلهم يوم القيامة لا يقومون يوم القيامة مع الناس ، إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس يوم القيامة كأنه خنق كأنه مجنون .
ومعنى قوله : { يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ المَسّ } يتخبله من مسه إياه ، يقال منه : قد مُسّ الرجل وأُلِقَ فهو ممسوس ومألوق ، كل ذلك إذا ألمّ به اللمم فجنّ ، ومنه قول الله عزّ وجلّ : { إِنّ الّذِينَ اتّقَوْا إذا مَسّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُوا } . ومنه قول الأعشى :
وَتُصْبِحُ عن غِبّ السّرَى وكأنما *** أَلَمّ بِها من طائفِ الجنّ أوْلَقُ
فإن قال لنا قائل : أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الربا في تجارته ولم يأكله ، أيستحقّ هذا الوعيد من الله ؟ قيل : نعم ، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكل ، إلا أن الذين نزلت فيهم هذه الاَيات يوم نزلت كانت طعمتهم ومأكلهم من الربا ، فذكرهم بصفتهم معظما بذلك عليهم أمر الربا ، ومقبحا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم ، وفي قوله جل ثناؤه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بِقَيَ مِنَ الرّبا إِنْ كُنْتُمْ مُوءْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأذْنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } . . . الآية ما ينبىء عن صحة ما قلنا في ذلك ، وأن التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الربا ، وأنْ سواء العمل به وأكلُه وأخذه وإعطاؤه ، كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : «لَعَنَ اللّهُ آكِلَ الرّبا ، وَمُوءْكِلَهُ ، وَكاتِبَهُ ، وَشَاهِدَيْهِ إِذَا عَلِمُوا بِهِ » .
( القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوا إِنّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرّبا } .
يعني بذلك جل ثناؤه : ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المسّ من الجنون ، فقال تعالى ذكره هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم ووحشة قيامهم من قبورهم وسوء ما حلّ بهم من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون إنما البيع الذي أحله الله لعباده مثل الربا ، وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الربا من أهل الجاهلية ، كان إذا حلّ مال أحدهم على غريمه يقول الغريم لغريم الحقّ زدني في الأجل وأزيدك في مالك ، فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك : هذا ربا لا يحلّ ، فإذا قيل لهما ذلك ، قالا : سواء علينا زدنا في أوّل البيع أو عند محلّ المال فكذّبهم الله في قيلهم ، فقال : { وَأحَلّ اللّهُ البَيْعَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأحَلّ اللّهُ البَيْعَ وَحَرّمَ الرّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وأمْرُهُ إِلى اللّهِ وَمَنْ عادَ فأُولَئِكَ أصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خَالِدُونَ } .
يعني جل ثناؤه : وأحلّ الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع ، وحرّم الربا يعني الزيادة التي يزاد ربّ المال بسبب زيادته غريمه في الأجل ، وتأخيره دينه عليه . يقول عزّ وجلّ : وليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع ، والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل سواء ، وذلك أني حرمت إحدى الزيادتين ، وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل¹ وأحللت الأخرى منهما ، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها فيستفضل فضلها ، فقال الله عزّ وجلّ ليست الزيادة من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا ، لأني أحللت البيع ، وحرّمت الربا ، والأمر أمري والخلق خلقي ، أقضي فيهم ما أشاء ، وأستعبدهم بما أريد ، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي ، ولا أن يخالف في أمري ، وإنما عليهم طاعتي والتسليم لحكمي . ثم قال جل ثناؤه : { فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فانْتَهَى } يعني بالموعظة : التذكير والتخويف الذي ذكرهم وخوّفهم به في آي القرآن ، وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب ، يقول جل ثناؤه : فمن جاءه ذلك فانتهى عن أكل الربا ، وارتدع عن العمل به ، وانزجر عنه { فَلَهُ ما سلَفَ } يعني ما أكل ، وأخذ فمضى قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك { وأمرهُ إلى اللّهِ } يعني وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم ، وبعد انتهاء آكله عن أكله إلى الله في عصمته وتوفيقه ، إن شاء عصمه عن أكله وثبته في انتهائه عنه ، وإن شاء خذله عن ذلك . { وَمَنْ عادَ } يقول : ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم ، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم من قوله : { إِنّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرّبا } { فأولئكَ أصحابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يعني ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار ، يعني نار جهنم فيها خالدون . )
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال¹ حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأمْرُهُ إِلى اللّهِ } أما الموعظة فالقرآن ، وأما ما سلف فله ما أكل من الربا .