في هذه السورة وعيد شديد لمن اعتاد أن يعيب الناس بالإشارة أو بالعبارة ، الذي جمع مالا كثيرا وعدده افتخارا به ، يظن أن ماله يبقيه في الدنيا .
وفيها تهديد عظيم لهؤلاء بإلقائهم في نار موقدة تحطم أجسامهم وقلوبهم ، وتغلق عليهم أبوابها ، ويوثقون فيها مع ذلك ، فلا يستطيعون التحرك ولا الخلاص .
1- عذاب شديد وهلاك لمن دأبه أن يعيب الناس بالقول أو بالإشارة أو يتكلم في أعراضهم .
{ ويل لكل همزة لمزة } قال ابن عباس : هم المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العيب ، ومعناهما واحد ، وهو العياب . وقال مقاتل : الهمزة : الذي يعيبك في الغيب ، واللمزة : الذي يعيبك في الوجه . وقال أبو العالية والحسن بضده . وقال سعيد بن جبير ، وقتادة : الهمزة الذي يأكل لحوم الناس ويغتابهم ، واللمزة : الطعان عليهم . وقال ابن زيد : الهمزة : الذي يهمز الناس بيده ويضربهم ، واللمزة : الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم . وقال سفيان الثوري : ويهمز بلسانه ويلمز بعينه . ومثله قال ابن كيسان : الهمزة : الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ واللمزة : الذي يومض بعينه ، ويشير برأسه ، ويرمز بحاجبه ، وهما نعتان للفاعل ، نحو سخرة وضحكة : للذي يسخر ويضحك من الناس ، وأصل الهمز : الكسر والعض على الشيء بالعنف . واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية ؟ قال الكلبي : نزلت في الأخنس بن شريق بن وهب الثقفي كان يقع في الناس ويغتابهم . وقال محمد بن إسحاق : ما زلنا نسمع أن سورة الهمزة نزلت في أمية بن خلف الجمحي . وقال مقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه ، ويطعن عليه في وجهه . وقال مجاهد : هي عامة في حق كل من هذه صفته .
1- سورة " الهُمَزة " من السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة " القيامة " وقبل سورة " المرسلات " ، وعدد آياتها تسع آيات .
2- ومن أهم أغراضها : التهديد الشديد لمن يعيب الناس ، ويتهكم بهم ، ويتطاول عليهم ، بسبب كثرة ماله ، وجحوده للحق .
وقد ذكروا أن هذه السورة الكريمة نزلت في شأن جماعة من أغنياء المشركين ، منهم : الوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، وأبي بن خلف . . كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ويشيعون الأقوال السيئة عنهم .
وهذا لا يمنع أن السورة الكريمة تشمل أحكامها كل من فعل مثل هؤلاء المشركين ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب .
الويل : لفظ يدل على الذم وعلى طلب العذاب والهلكة . . وقيل : اسم لواد فى جهنم .
والهُمَزة من الهَمْز ، بمعنى الطعن فى أعراض الناس ، ورميهم بما يؤذيهم . .
واللُّمَزة من اللمز ، بمعنى السخرية من الغير ، عن طريق الإِشارة باليد أو العين أو غيرهما .
قال الجمل : الهمزة واللمزة : هم المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الباغون العيب للبريء ، فعلى هذا هما بمعنى واحد .
وقيل : الهمزة الذي يعيبك فى الغيب ، واللمزة الذي يعيبك فى الوجه ، وقيل : العكس .
وحاصل هذه الأقوال يرجع إلى أصل واحد ، وهو الطعن وإظهار العيب ، ويدخل فى ذلك من يحاكي الناس في أقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا منه . .
ولفظ " ويل " مبتدأ ، وساغ الابتداء مع كونه نكرة ؛ لأنه دعاء عليهم ، وقوله : { لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } خبره ، وهمزة ولمزة وصفان لموصوف محذوف .
أي : عذاب شديد ، وخزي عظيم ، لكل من يطعن فى أعراض الناس ، ويغض من شأنهم ، ويحقر أعمالهم وصفاتهم ، وينسب إليهم ما هم برآء منه من عيوب .
والتعبير بقوله : { هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } يدل على أن تلك الصفات القبيحة ، كانت عادة متأصلة فيهم ؛ لأن اللفظ الذي بزنة فُعَلَة - بضم الفاء وفتح العين - يؤتى به للدلالة على أن الموصوف به ديدنه ودأبه الإِتيان بهذا الوصف ، ومنه قولهم : فلان ضُحَكة : إذا كان يكثر من الضحك .
كما أن لفظ " فُعْلَة " - بضم الفاء وسكون العين - يؤتى به للدلالة على أن الموصوف به ، يكثر أن يفعل به ذلك ، ومنه قولهم : فلان ضُحْكة ، إذا كان الناس يكثرون الضحك منه .
سميت هذه السورة في المصاحف ومعظم التفاسير { سورة الهمزة } بلام التعريف . وعنونها في صحيح البخاري وبعض التفاسير { سورة ويل لكل همزة } . وذكر الفيروز آبادي في بصائر ذوي التمييز أنها تسمى { سورة الحطمة } لوقوع هذه الكلمة فيها .
وعدت الثانية والثلاثين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة القيامة وقبل سورة المرسلات .
روي أنها نزلت في جماعة من المشركين كانوا أقاموا أنفسهم للمز المسلمين وسبهم واختلاق الأحدوثات السيئة عنهم . وسمي من هؤلاء المشركين : الوليد بن المغيرة المخزومي ، وأمية بن خلف ، وأبي بن خلف وجميل بن معمر بن بني جمح { وهذا أسلم يوم الفتح وشهد حنينا } والعاص بن وائل من بني سهم . وكلهم من سادة قريش . وسمي الأسود بن عبد يغوث ، والأخنس بن شريق الثقفيان من سادة ثقيف من أهل الطائف . وكل هؤلاء من أهل الثراء في الجاهلية والازدهار بثرائهم وسؤددهم . وجاءت آية السورة عامة فعم حكمها المسمين ومن كان على شاكلتهم من المشركين ولم تذكر أسماءهم .
فغرض هذه السورة وعيد جماعة من المشركين جعلوا همز المسلمين ولمزهم ضربا من ضروب أذاهم طمعا في أن يلجئهم الملل من أصناف الأذى ، إلى الانصراف عن الإسلام والرجوع إلى الشرك .
كلمة ( ويل له ) دُعاء على المجرور اسمُه باللام بأن يناله الويل وهو سوء الحال كما تقدم غير مرة منها قوله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند اللَّه } في سورة البقرة ( 79 ) .
والدعاء هنا مستعمل في الوعيد بالعقاب .
وكلمة ( كُلّ ) تشعر بأن المهددين بهذا الوعيد جماعة وهم الذين اتخذوا همز المسلمين ولمزهم ديدناً لهم أولئك الذين تقدم ذكرهم في سبب نزول السورة .
وهُمَزَة ولُمزة : بوزن فُعَلَة صيغة تدل على كثرة صدور الفعل المصاغ منه . وأنه صار عادة لصاحبه كقولهم : ضُحَكَة لكثير الضحك ، ولُعَنَة لكثير اللعن ، وأصلها : أن صيغة فُعَل بضم ففتح ترد للمبالغة في فَاعل كما صرح به الرضيّ في شرح « الكافية » يقال : رجل حُطَم إذا كان قليل الرحمة للماشية ، أي والدواب .
ومنه قولهم : خُتع ( بخاء معجمة ومثناة فوقية ) وهو الدليل الماهر بالدلالة على الطريق فإذا أريدت زيادة المبالغة في الوصف أُلحق به الهاء كما أُلحقت في : علاّمة ورحَّالة ، فيقولون : رجل حُطمة وضُحكة ومنه هُمزة ، وبتلك المبالغة الثانية يفيد أن ذلك تفاقم منه حتى صار له عادة قد ضري بها كما في « الكشاف » ، وقد قالوا : إن عُيَبَة مساوٍ لعيابة ، فمن الأمثلة ما سمع فيه الوصف بصيغتي فُعَل وفُعَلَة نحو حُطم وحطمة بدون هاء وبهاء ، ومن الأمثلة ما سمع فيه فُعلة دون فُعل نحو رجل ضُحَكة ، ومن الأمثلة ما سمع فيه فُعَل دون فُعَلَة وذلك في الشتم مع حرف النداء يا غُدَر ويا فُسق ويا خُبَث ويا لُكع .
قال المرادي في « شرح التسهيل » قال : بعضهم ولم يسمع غيرها ولا يقاس عليها ، وعن سيبويه أنه أجاز القياس عليها في النداء اه . قلت : وعلى قول سيبويه بنى الحريري قوله في « المقامة السابعة والثلاثين » : « صَهْ يا عُقَق ، يا من هو الشّجَا والشَرَق » .
وهُمزة : وصف مشتق من الهَمز . وهو أن يعيب أحدٌ أحداً بالإِشارة بالعين أو بالشِّدق أو بالرأس بحضرته أو عند توليه ، ويقال : هَامز وهمَّاز ، وصيغة فُعلة يدل على تمكن الوصف من الموصوف .
ووقع { همزة } وصفاً لمحذوف تقديره : ويل لكل شَخْص هُمزة ، فلما حذف موصُوفه صار الوصف قائماً مقامه فأضيف إليه ( كُلّ ) .
ولمزة : وصف مشتق من اللمز وهو المواجعة بالعيب ، وصيغته دالة على أن ذلك الوصف ملكة لصاحبه كما في هُمزة .
وهذان الوصفان من معاملة أهل الشرك للمؤمنين يومئذ ، ومَن عامَلَ من المسلمين أحداً من أهل دينه بمثل ذلك كان له نصيب من هذا الوعيد .
فمن اتصف بشيء من هذا الخُلق الذميم من المسلمين مع أهل دينه فإنها خصلة من خصال أهل الشرك . وهي ذميمة تدخل في أذى المسلم وله مراتب كثيرة بحسب قوة الأذى وتكرره ولم يُعد من الكبائر إلا ضربُ المسلم .
وسبُّ الصحابة رضي الله عنهم وإدمان هذا الأذى بأن يتخذه ديدناً فهو راجع إلى إدمان الصغائر وهو معدود من الكبائر .