16- وقد آل الملك والحكم من داود إلى سليمان ابنه ، وقال : يا أيها الناس عُلِّمنا لغة الطير ، وأوتينا كثيرا مما نحتاج إليه في سلطاننا : إن هذه النعم لهي الفضل الواضح الذي خصنا الله به{[165]} .
قوله تعالى : { وورث سليمان داود } ، نبوته وعلمه وملكه دون سائر أولاده ، وكان لداود تسعة عشر ابناً ، وأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك ، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين . وقال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبداً من سليمان ، وكان سليمان شاكراً لنعم الله تعالى . { وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير } سمى صوت الطير منطقاً لحصول الفهم منه ، كما يفهم من كلام الناس . روي عن كعب قال : صاح ورشان عند سليمان عليه السلام ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : إنه يقول لدوا للموت وابنوا للخراب ، وصاحت فاختة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا ، قال : إنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح طاووس ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : كما تدين تدان ، وصاح هدهد ، فقال : أتدرون ما يقول هذا ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : من لا يرحم لا يرحم ، وصاح صرد ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، قال : وصاحت طوطوى ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنها تقول : كل حي ميت وكل جديد بال ، وصاح خطاف ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : قدموا خيراً تجدوه ، وهدرت حمامة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه ، وصاح قمري ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : سبحان ربي الأعلى ، قال : والغراب يدعو على العشار ، والحدأة تقول : كل شيء هالك إلا الله ، والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه ، والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس ، والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده ، والضفدعة تقول : سبحان المذكور بكل لسان . وعن مكحول قال : صاح دراج عند سليمان ، فقال : هل تدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ، قال : فإنه يقول : الرحمن على العرش استوى . وعن فرقد السنجي قال مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ فقالوا الله ونبيه أعلم ، قال يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء . وروي أن جماعة من اليهود قالوا لابن عباس : إنا سائلوك عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمنا وصدقنا ، قال : سلوا تفقهاً ولا تسألوا تعنتاً ، قالوا : أنبأناما يقول القنبر في صفيره ، والديك في صعيقه ، والضفدع في نقيقه ، والحمار في نهيقه ، والفرس في صهيله ، وماذا يقول الزرزور والدراج . قال : نعم ، أما القنبر فيقول : اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد ، وأما الديك فيقول : اذكروا الله يا غافلين ، وأما الضفدع فيقول : سبحان المعبود في لجج البحار ، وأما الحمار فيقول : اللهم العن العشار ، وأما الفرس فيقول : إذا التقى الصفان : سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، وأما الزرزور فيقول : اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق ، وأما الدراج فيقول : الرحمن على العرش استوى ، قال : فأسلم اليهود وحسن إسلامهم . وروي عن عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي قال : " إذا صاح النسر قال : يا ابن آدم ، عش ما شئت آخره الموت ، وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس أنس ، وإذا صاح القنبر قال : إلهي العن مبغضي آل محمد ، وإذا صاح الخطاف ، قرأ : الحمد لله رب العالمين ، ويمد الضالين كما يمد القارئ " . قوله تعالى : { وأوتينا من كل شيء } يؤتى الأنبياء والملوك ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا والآخرة . وقال مقاتل : يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والرياح ، { إن هذا لهو الفضل المبين } الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا .
وروى أن سليمان عليه السلام أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر ، ملك جميع أهل الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع ، وأعطي على ذلك منطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة .
والمراد بالوراثة فى قوله - تعالى - : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ . . . } وراثة العلم والنبوة والملك . أى : وورث سليمان داود فى نبوته وعلمه وملكه .
قال ابن كثير : " وقوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } : أى : فى الملك والنبوة وليس المراد وراثة المال ، إذ لو كان كذلك ، لم يخص سليمان وحده من ين سائر أولاد داود .
. . ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة فإن الأنبياء لا تورث أموالهم ، أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " .
ثم حكى - سبحانه - ما قاله سليمان على سبيل التحدث بنعم الله عليه ، فقال - تعالى - : { وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ . . } .
أى : وقال سليمان - عليه السلام - على سبيل الشكر لله - تعالى - : يأيها الناس : علمنا الله - تعالى - بفضله وإحسانه فهم ما يريده كل طائر إذا صوت أو صاح ، وأعطانا - سبحانه - من كل شىء نحتاجه وننتفع به فى ديننا أو دنيانا .
وقدم نعمة تعليمه منطق الطير ، لأنها نعمة خاصة لا يشاركه فيها غيره ، وتعتبر من معجزاته - عليه السلام - .
وقيل : إنه علم منطق جميع الحيوانات ، وإنما ذكر الطير لأنه أظهر فى النعمة ، ولأن الطير كان جندا من جنده ، يسير معه لتظليله من الشمس .
قال الآلوسى : " والجملتان - علمنا منطق الطير ، وأوتينا من كل شىء - كالشرح للميراث .
وعن مقاتل : أنه أريد بما أوتيه النبوة والملك وتسخير الجن والإنس والشياطين والريح .
وعن ابن عباس : هو ما يريده من أمر الدنيا والآخرة " .
وعبر عن نعم الله - تعالى - عليه بنون العظمة فقال { أُوتِينَا } ولم يقل أوتيت ، للإشعار بأنه عبد من عباد الله المطاعين ، الذين سخر لهم جنوداً من الجن والإنس والطير ، ليكونوا فى خدمته ، وليستعملهم فى وجوه الخير فى فى وجوه الشر ، فهو لم يقل ذلك على سبيل التباهى والتعالى ، وإنما قاله على سبيل التحدث بنعمى الله .
وإسم الإشارة فى قوله - تعالى - : { إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } يعود إلى ما أعطاه الله - تعالى - إياه من العلم والملك وغيرهما .
أى : إن هذا الذى أعطانا إياه من العلم والملك ، وكل شىء تدعو إليه الحاجة ، لهو الفضل الواضح ، والإحسان الظاهر منه - عز وجل - .
طوى خبر ملك داود وبعض أحواله إلى وفاته لأن المقصود هو قصة سليمان كما قدمناه آنفاً . وقد كان داود ملكاً على بني إسرائيل ودام ملكه أربعين سنة وتوفي وهو ابن سبعين سنة .
فخلفه سليمان فهو وارث ملكه والقائم في مقامه في سياسة الأمة وظهور الحكمة ونبوءة بني إسرائيل والسمعة العظيمة بينهم . فالإرث هنا مستعمل في معناه المجازي وهو تشبيه الأحوال الجليلة بالمال وتشبيه الخلفة بانتقال ملك الأموال لظهور أن ليس غرض الآية إفادة من انتقلت إليه أموال داود بعد قوله : { ولقد آتينا داوود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضَّلنا } [ النمل : 15 ] فتعين أن إرث المال غير مقصود فإنه غرض تافه .
وقد كان لداود أحدَ عشر ولداً فلا يختص إرثُ ماله بسليمان وليس هو أكبرهم ، وكان داود قد أقام سليمان ملكاً على إسرائيل . وبهذا يظهر أن ليس في الآية ما يحتج به لجواز أن يورث مال النبي ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا نُورث ما تركنَا صدقة " ، وظاهره أنه أراد من الضمير جماعة الأنبياء وشاع على ألسنة العلماء : إنا أو نَحن معاشرَ الأنبياء لا نورث ، ولا يعرف بهذا اللفظ ، ووقع في كلام عمر بن الخطاب مع العباس وعلي في شأن صدقة النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر : « أنشدكما الله هل تعلمان أن رسول الله قال : لا نُورث ما تركنا صدقة ، يريد رسولُ الله نفسَه » وكذلك قالت عائشة ، فإذا أخذنا بظاهر الآية كان هذا حكماً في شرع من قبلنا فينسخ بالإسلام ، وإذا أخذنا بالتأويل فظاهر . وقد أجمع الخلفاء الراشدون وغيرهم على ذلك ، خلافاً للعباس وعلي ، ثم رجعا حين حاجهما عمر . والعلة هي سدّ ذريعة خطور تمني موت النبي في نفس بعض ورثته .
{ وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين }
قال سليمان هذه المقالة في مجمع عظيم لأن لهجة هذا الكلام لهجة خطبته في مجمع من الناس الحاضرين مجلسه من الخاصة والسامعين من العامة . فهذه الجملة متضمنة شكر الله تعالى ما منحه من علم ومُلك ، وليقدر الناس قدره ويعلموا واجب طاعته إذ كان الله قد اصطفاه لذلك ، وأطلعه على نوايا أنفر الحيوان وأبعده عن إلف الإنسان وهو الطير ، فما ظنك بمعرفة نوايا الناس من رعيته وجنده فإن تخطيط رسوم الملك وواجباته من المقاصد لصلاح المملكة بالتفاف الناس حول ملكهم وصفاء النيات نحوه ، وبمقدار ما يحصل ذلك من جانبهم يكون التعاون على الخير وتنزل السكينة الربانية ، فلما حصل من جانب سليمان الاعتراف بهذا الفضل لله تعالى فقد أدى واجبه نحو أمته فلم يبق إلا أن تؤدي الأمة واجبها نحو مَلِكها ، كما كان تعليم فضائل النبوة من مقاصد الشارع ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
« أنا سيِّد ولدِ آدم ولا فخر » أي أقوله لقصد الإعلام بواجب التقادير لا لقصد الفخر على الناس ، ويعلموا واجب طاعته .
وعِلم منطق الطير أوتيه سليمان من طريق الوحي بأن أطلعه الله على ما في تقاطيع وتخاليف صفير الطيور أو نعيقها من دلالة على ما في إدراكها وإرادتها . وفائدة هذا العلم أن الله جعله سبيلاً له يهتدي به إلى تعرف أحوال عالمية يسبق الطير إلى إدراكها بما أودع فيه من القُوى الكثيرة ، وللطير دلالة في تخاطب أجناسها واستدعاء أصنافها والإنباء بما حولها ما فيه عون على تدبير ملكه وسياسة أمته ، مثل استخدام نوع الهدهد في إبلاغ الأخبار وردها ونحو ذلك .
ووراء ذلك كله انشراحُ الصدر بالحكمة والمعرِفة لكثير من طبائع الموجودات وخصائصها . ودلالة أصوات الطير على ما في ضمائرها : بعضُها مشهور كدلالة بعض أصواته على نداء الذكور لإناثها ، ودلالة بعضها على اضطراب الخوف حين يمسكه مُمسك أو يهاجمه كاسر ، ووراء ذلك دلالات فيها تفصيل ، فكل كيفية من تلك الدلالات الإجمالية تنطوي على تقاطيع خفية من كيفيات صوتية يخالف بعضها بعضاً فيها دلالات على أحوال فيها تفضيل لما أجملته الأحوال المجملة ، فتلك التقاطيع لا يهتدي إليها الناس ولا يطلع عليها إلا خالقها ، وهذا قريب من دلالة مخارج الحروف وصفاتها في لغة من اللغات وفكّها وإدغامها واختلاف حركاتها على معاننٍ لا يهتدي إليها مَن يعرف تلك اللغة معرفة ضعيفة ولم يتقن دقائقها . مثل أن يسمع ضَلَلْت وظَللت ، فالله تعالى اطلع سليمان بوحي على مختلف التقاطيع الصوتية التي في صفير الطير وأعلمه بأحوال نفوس الطير عندما تصفر بتلك التقاطيع ، وقد كان الناس في حيرة من ذلك كما قال المعري :
أَبَكَتْ تِلكمُ الحمامةُ أمْ غَنّ *** تْ على غصن دوحها الميَّاد
وقال صاحبنا الشاعر البليغ الشيخ عبد العزيز المسعودي من أبيات في هذا المعنى :
فمن كان مسروراً يراه تَغنياً *** ومن كان محزوناً يقول ينوح
والاقتصار على منطق الطير إيجاز لأنه إذا عَلِم منطق الطير وهي أبعد الحيوان عن الركون إلى الإنسان وأسرعها نفوراً منه ، علم أن منطق ما هو أكثر اختلاطاً بالإنسان حاصل له بالأحرى كما يدل عليه قوله تعالى فيما يأتي قريباً : { فتبسّم ضَاحكاً من قولها } [ النمل : 19 ] ، فتدل هذه الآية على أنه علِّم منطق كل صنف من أصناف الحيوان . وهذا العلم سماه العرب علم الحُكْل ( بضم الحاء المهملة وسكون الكاف ) قال العجاج وقيل ابنه رؤبة :
لو أَنني أوتيتُ علم الحُكْل *** عِلْم سليمان كَلامَ النمل
أو أنني عُمِّرت عُمْر الحِسْل *** أو عُمر نُوح زَمَن الفِطَحْل
وعُبر عن أصوات الطير بلفظ { منطق } تشبيهاً له بنطق الإنسان من حيث هو ذو دلالة لسليمان على ما في ضمائر الطير ، فحقيقة المنطق الصوتُ المشتمل على حروف تدل على معان .
وضمير { عُلِّمنا أُوتينا } مراد به نفسه ، جاء به على صيغة المتكلم المشارك ؛ إما لقصد التواضع كأنَّ جماعة عُلموا وأُوتوا وليس هو وحده كما تقدم في بعض احتمالات قوله تعالى آنفاً : { وقالا الحمد لله الذي فضّلنا } [ النمل : 15 ] ، وإما لأنه المناسب لإظهار عظمة الملك ، وفي ذلك تهويل لأمر السلطان عند الرعية ، وقد يكون ذلك من مقتضى السياسة في بعض الأحوال كما أجاب معاوية عُمر رضي الله عنهما حين لقيه في جند ( وأبهة ) ببلاد الشام فقال عمر لمعاوية « أَكِسْرَوِيَّةً يا معاوية ؟ فقال معاوية : إنا في بلاد من ثغور العدوّ فلا يرهبون إلا مثل هذا . فقال عمر : خَدعة أريب أو اجتهادُ مصيب لا آمرك ولا أنهاك » فترك الأمرَ لعهدة معاوية وما يتوسمه من أساليب سياسة الأقوام .
والمراد ب { كل شيء } كل شيء من الأشياء المهمة ففي { كل شيء } عمومان عموم { كلّ } وعموم النكرة وكلاهما هنا عموم عرفي ، ف { كلّ } مستعملة في الكثرة و { شيء } مستعمل في الأشياء المهمة مما له علاقة بمقام سليمان ، وهو كقوله تعالى فيما حكى عن أخبار الهدهد . { وأوتِيَتْ من كل شيء } [ النمل : 23 ] ، أي كثيراً من النفائس والأموال . وفي كل مقام يحمل على ما يناسب المتحدث عنه .
والتأكيد في { إن هذا لهو الفضل المبين } بحرف التوكيد ولامه الذي هو في الأصل لام قسم وبضمير الفصل مقصود به تعظيم النعمة أداء للشكر عليها بالمستطاع من العبارة .
و { الفضل } : الزيادة من الخير والنفع . و { المبين } : الظاهر الواضح .