152- ولا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بأحسن تصرف يحفظه وينمّيه ، واسْتَمِروا على ذلك حتى يصل اليتيم إلى حالة من الرشد يستطيع معها أن يستقل بالتصرف السليم ، وحينئذ ادفعوا إليه ماله . ولا تمسوا الكيل والميزان بالنقص إذا أعطيتم ، أو بالزيادة إذا أخذتم ، بل أوفوها بالعدل ما وسعكم ذلك ، فالله لا يكلف نفساً إلا ما تستطيعه دون حرج . وإذا قلتم قولا في حكم أو شهادة أو خبر أو نحو ذلك ، فلا تميلوا عن العدل والصدق ، بل تحروا ذلك دون مراعاة لصلة من صلات الجنس أو اللون أو القرابة أو المصاهرة ، ولا تنقضوا عهد الله الذي أخذه عليكم بالتكاليف ، ولا العهود التي تأخذونها بينكم ، فيما يتعلق بالمصالح المشروعة ، بل أوفوا بهذه العهود . أمركم الله أمراً مؤكداً باجتناب هذه المنهيات ، لتتذكروا أن التشريع لمصلحتكم .
قوله تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ، يعني : بما فيه صلاحه وتثميره . وقال مجاهد : هو التجارة فيه . وقال الضحاك : هو أن يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئاً .
قوله تعالى : { حتى يبلغ أشده } ، قال الشعبي ومالك : الأشد : الحلم ، حتى يكتب له الحسنات ، وتكتب عليه السيئات . قال أبو العالية : حتى يعقل وتجتمع قوته ، وقال الكلبي : الأشد ما بين الثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة . وقيل : إلى أربعين سنة . وقيل : إلى ستين سنة . وقال الضحاك : عشرون سنة . وقال السدي : ثلاثون سنة . وقال مجاهد : الأشد ثلاث وثلاثون سنة . والأشد جمع شد ، مثل قد وأقد ، وهو استحكام قوة شبابه وسنه ، ومنه شد النهار وهو ارتفاعه . وقيل : بلوغ الأشد أن يؤنس رشده بعد البلوغ . وتقدير الآية : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } على الأبد حتى يبلغ أشده ، فادفعوا إليه ماله إن كان رشيداً .
قوله تعالى : { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } ، بالعدل .
قوله تعالى : { لا نكلف نفساً إلا وسعها } ، أي : طاقتها في إيفاء الكيل والميزان ، لم يكلف المعطي أكثر مما وجب عليه ، ولم يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه ، حتى لا تضيق نفسه عنه ، بل أمر كل واحد منهما بما يسعه مما لا حرج عليه فيه . قوله تعالى : { وإذا قلتم فاعدلوا } ، فاصدقوا في الحكم والشهادة .
قوله تعالى : { ولو كان ذا قربى } ، ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قرابة .
قوله تعالى : { وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } ، تتعظون ، قرأ حمزة والكسائي وحفص تذكرون خفيفة الذال ، كل القرآن ، والآخرون بتشديدها . قال ابن عباس : هذه الآيات محكمات في جميع الكتب ، لم ينسخهن شيء وهن محرمات على بني آدم كلهم ، وهن أم الكتاب ، من عمل بهن دخل الجنة ، ومن تركهن دخل النار .
والوصية السادسة تأتى فى مطلع الآية الثانية فتقول : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } .
أى : لا تقربوا مال اليتيم الذى فقد الأب الحانى ، ولا تتعرضوا لما هو من حقه بوجه من الوجوه إلا بالوجه الذى ينفعه فى الحال أو المآل ، كتربيته وتعليمه ، وحفظ ماله واستثماره .
وإذن ، فكل تصرف مع اليتيم أو فى ماله لا يقع فى تلك الدائرة - دائرة الأنفع والأحسن - محظور ، ومنهى عنه .
قال بعض العلماء : وكثيرا ما يتعلق النهى فى القرآن بالقربان من الشىء ، وضابطه بالاستقراء : أن كل منهى عنه كان من شأنه أن تميل إليه النفوس وتدفع إليه الأهواء النهى فيه عن " القربان " ويكون القصد التحذير من أن يأخذ ذلك الميل فى النفس مكانة تصل بها إلى اقتراف المحرم ، وكان من ذلك فى الوصايا السابقة النهى عن الفواحش ، ومن هذا الباب { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى } { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } إلخ .
أما المحرمات التى لم يؤلف ميل النفوس إليها ولا إقتضاء الشهوات لها ، فإن الغالب فيها أن يتعلق النهى عنها بنفس الفعل لا بالقربان منه . ومن ذلك فى الوصايا السابقة الشرك بالله ، وقتل الأولاد ، وقتل النفس التى حرم الله قتلها ، فإنها وإن كان الفعل المنهى عنه فيها أشد قبحا وأعظم جرما عند الله من أكل مال اليتيم وفعل الفواحش ، إلا أنها ليست ذات دوافع نفسية يميل إليها الإنسان بشهوته ، وإنما هى فى نظر العقل على المقابل من ذلك ، يجد الإنسان فى نفسه مرارة من ارتكابها ، ولا يقدم عليها إلا وهو كاره لها أو فى حكم الكاره .
وقوله : { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } ليس غاية للنهى ، إذ ليس المعنى فإذا بلغ أشده فاقربوه لأن هذا يقتضى إباحة أكل الولى له بعد بلوغ الصبى ، بل هو غاية لما يفهم من النهى كأنه قيل : احفظوه حتى يصير بالغا رشيداً فحينئذ سلموا إليه ماله .
والخطاب للأولياء والأوصياء . أى : احفظوا ماله حتى يبلغ الحلم فإذا بلغه فادفعوه إليه .
والأشد : قوة الإنسان واشتعال حرارته : من الشدة بمعنى القوة والارتفاع . يقال : شد النهار إذا ارتفع . وهو مفرد جاء بصيغة الجمع . ولا واحد له .
والوصية السابعة : { وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } .
أى : أتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم ، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون أو لغيركم فيما تبيعون .
فالجملة الكريمة أمر من الله - تعالى - لعباده بإقامة العدل فى التعامل : بحيث يعطى صاحب الحق حقه من غير نقصان ولا بخس ، ويأخذ صاحب الحق حقه من غير طلب الزيادة .
والكيل والوزن : مصدران أريد بهما ما يكال وما يوزن ، كالعيش بمعنى ما يعاش به . وبالقسط حال من فاعل أوفوا أى : أوفوهما مقسطين أى : متلبسين بالقسط . ويجوز أن يكون حالا من الفعول أى : أوفوا الكيل والميزان بالقسط أى : تامّين .
وهذه الوصية هى مبدأ العدل والتعادل ، وكل مجتمع محتاج إليها ، فالناس لا بد لهم من التعامل ، ولا بد لهم من التبادل ، والكيل والوزن هما وسيلة ذلك ، فلا بد من أن يكونا منضبطين بالقسط .
والمجتمعات الأمينة التى لا تجد فيها أحدا يغبن عن جهل أو غفلة ، وهى أيضاً المجتمعات الأمينة التى لا تجد فيها من يحاول أن يأخذ أكثر من حقه . أو يعطى أقل مما يبج عليه .
وقوله { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أى : لا نكلف نفسها إلا ما يسعها ولا يعسر عليها . والجملة مستأنفة جىء بها عقيب الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالعدل ، للترخيص فيما خرج عن الطاقة ، ولبيان قاعدة من قواعد الإسلام الرافعة للحرج وذلك لأن التبادل التجاري لا يمكن أن يتحقق على وجه كامل من المساواة أو التعادل ، فلا بد من تقبل اليسير من الغبن فى هذا الجانب أو ذاك .
والوصية الثامنة تقول : { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } .
أى : وإذا قلتم قولا فاعدلوا فيه ولو كان المقول له أو عليه صاحب قرابة منكم .
إذ العدل هو أساس الحكم السليم : العدل فى القول ، والعدل فى الحكم ، والعدل فى كل فعل .
وإنما خصصت الآية العدل فى القول مع أن العدل مطلوب فى الأقوال والأفعال وفى كل شىء ، لأن أكثر ما يكون فيه العدل أقوال كالشهادة ، والحكم ، ثم الأقوال هى التى تراود النفوس فى كل حال . فالإنسان حين تصادفه قضية من القضايا القولية أو العملية يحدث نفسه فى شأنها ، ويراوده معنى العدل وكأنه يطالبه بأن ينطق به ويؤيده ، فيقول فى نفسه سأفعل كذا لأنه العدل ، فإذا لم يكن صادقا فى هذا القول فقد جافى العدل وقال زوراً وكذبا .
أما قوله { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } فهو أخذ بالإنسان عما جرت به عادته من التأثر بصلات القربى فى المحاباة للأقرباء والظلم لغيرهم .
فالقرآن يرتفع بالضمير البشرى إلى مستوى سامق رفيع ، على هدى من العقيدة فى الله ، بأن يكلفه بتحرى العدل فى كل أحواله ولو إزاء أقرب المقربين إليه .
أما الوصية التاسعة والأخيرة فى هذه الآية فهى قوله - تعالى - { وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ } أى : كونوا أوفياء مع الله فى كل ما عهد إليكم به من العبادات والمعاملات وغيرها .
إذ الوفاء أصل من الأصول التى يتحقق بها الخير والصلاح ، وتستقر عليها أمور الناس .
وقوله : { وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ } يفيد الحصر لتقديم المعمول ، وفى هذا إشعار بأن هناك عهوداً غير جديرة بأن تنسب إلى الله ، وهى العهود القائمة على الظلم أو الباطل ، أو الفساد ، فمثل هذه العهود غير جديرة بالاحترام ، ويجب العمل على التخلص منها .
ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أى : ذلكم المتلو عليكم فى هذه الآية من الأوامر والنواهى وصاكم الله به فى كتابه رجاء أن تتذكروا وتعتبروا وتعملوا بما أمرتم به وتجتنبوا ما نهيتم عنه أو رجاء أن يذكِّر بعضكم بعضا فإن التناصح واجب بين المسلمين .
{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره . { حتى يبلغ أشده } حتى يصير بالغا ، وهو جمع شدة كنعمة وأنعم أو شد كصر وأصر وقيل مفرد كأنك . { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } بالعدل والتسوية . { لا نكلف نفسا إلا وسعها } إلا ما يسعها ولا يعصر عليها ، وذكره عقيب الأمر معناه أن إيفاء الحق عسر عليكم فعليكم بما في وسعكم وما وراءه معفو عنكم . { وإذا قلتم } في حكومة ونحوها . { فاعدلوا } فيه . { ولو كان ذا قربى } ولو كان المقول له أو عليه من ذوي قرابتكم . { وبعهد الله أوفوا } يعني ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع . { ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } تتعظون به ، وقرأ حمزة وحفص والكسائي { تذكرون } بتخفيف الذال حيث وقع إذا كان بالتاء والباقون بتشديدها .
{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ اشده }
عطف جملة : { ولا تقربوا } على الجملة التي فَسَّرت فعل : { أتْلُ } [ الأنعام : 151 ] عطف محرّمات ترجع إلى حفظ قواع التّعامل بين النّاس لإقامة قواعد الجامعة الإسلاميّة ومدنيتها وتحقيق ثقة النّاس بعضهم ببعض .
وابتدأها بحفظ حقّ الضّعيف الذي لا يستطيع الدّفع عن حقّه في ماله ، وهو اليتيم ، فقال : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } والقِربان كناية عن ملابسة مال اليتيم . والتّصرّف فيه كما تقدّم آنفاً في قوله : { ولا تقربوا الفواحش } [ الأنعام : 151 ] . ولمَّا اقتضى هذا تحريم التصرّف في مال اليتيم ، ولو بالخزن والحفظ ، وذلك يعرّض ماله للتّلف ، استُثني منه قوله : { إلا بالتي هي أحسن } أي إلاّ بالحالة التي هي أحسن ، فاسم الموصول صفة لموصوف محذوف يقدّر مناسباً للموصول الذي هو اسم للمؤنَّث ، فيقدر بالحالة أو الخَصلة .
والباء للملابسة ، أي إلاّ ملابسين للخصلة أو الحالة التي هي أحسن حالات القرب ، ولك أن تقدّره بالمرّة من : { تقربوا } أي إلاّ بالقَربة التي هي أحسن . وقد التزم حذف الموصوف في مثل هذا التّركيب واعتباره مؤنَّثاً يجري مجرى المثل ، ومنه قوله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن السيئة } [ المؤمنون : 96 ] أي بالخصلة الحسنة ادفَعْ السيّئة ، ومن هذا القبيل أنَّهم أتوا بالموصول مؤنَّثاً وصفاً لمحذوف ملتزم الحذف وحذفوا صلته أيضاً في قولهم في المثل : « بعد اللَّتَيَّا والتي » ، أي بعد الدّاهية الحقيرة والدّاهية الجليلة كما قال سُلْمِيّ بنُ ربيعةَ الضبِّي :
ولقد رأبْتُ ثَأى العشيرة بينَها *** وكفيتُ جانبها اللَّتَيَّا والتِي
و{ أحسنُ } اسم تفضيل مسلوب المفاضلة ، أي الحسنة ، وهي النّافعة التي لا ضرّ فيها لليتيم ولا لِماله . وإنَّما قال هنا : { ولا تقربوا } تحذيراً من أخذ ماله ولو بأقلّ أحوال الأخذ لأنَّه لا يدفع عن نفسه ، ولذلك لم يقل هنا : { ولا تأكلوا } كما قال في سورة البقرة ( 188 ) : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } والأشُدّ : اسم يدلّ على قوّة الإنسان ، وهو مشتقّ من الشدّ وهو التوثّق ، والمراد به في هذه الآية ونظائرها ، ممّا الكلام فيه على اليتيم ، بلوغه القوّة التي يخرج بها من ضعف الصّبا ، وتلك هي البلوغ مع صحّة العقل ، لأنّ المقصود بلوغه أهليّة التصرّف في ماله . وما منع الصّبي من التصرّف في المال إلاّ لضعف في عقله بخلاف المراد منه في أوصاف الرّجال فإنَّه يُعنى به بلوغ الرجل منتهى حدّ القوّة في الرّجال وهو الأربعون سنة إلى الخمسين قال تعالى : { حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة } [ الأحقاف : 15 ] وقال سُحيم بن وَثيل :
أخُو خمسين مُجتمع أشُدّي *** وَنَجَّذني مداورة الشُّؤون
والبلوغ : الوصول ، وهو هنا مجاز في التدرّج في أطوار القوّة المخرِجة من وهن الصّبا .
و { حتى } غاية للمستثنى : وهو القربان بالتي هي أحسن ، أي التصرّف فيه إلى أن يبلغ صاحبه أشدّه أي فيسلم إليه ، كما قال تعالى في الآية الأخرى { فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] الآية .
ووجه تخصيص حقّ اليتيم في ماله بالحفظ : أنّ ذلك الحقّ مظنّة الاعتداء عليه من الولي ، وهو مظنة انعدام المدافع عنه ، لأنَّه ما من ضعيف عندهم إلاّ وله من الأقارب والموالي من يدفع عنه إذا استجاره أو استنجده ، فأمّا اليتيم فإنّ الاعتداء عليه إنَّما يكون من أقرب النّاس إليه ، وهو وليّه ، لأنَّه لم يكن يلي اليتيم عندهم إلاّ أقرب النّاس إليه ، وكان الأولياء يتوسّعون في أموال أيتامهم ، ويعتدُون عليها ، ويضيعون الأيتام لكيلا ينشأوا نشأة يعرفون بها حقوقهم ، ولذلك قال تعالى : { ألم يجدك يتيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] لأنّ اليتيم مظنّة الإضاعة فلذلك لم يوص الله تعالى بمال غير اليتيم ، لأنّ صاحبه يدفع عن نفسه ، أو يستدفع بأوليائه ومنجديه .
{ وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط } .
عطف الأمر بإيفاء الكيل والميزان ، وذلك في التّبايع ، فقد كانوا يبيعون التّمر والزّبيب كيلاً ، وكانوا يتوازنون الذّهب والفضّة ، فكانوا يُطَفّفون حرصاً على الرّبح ، فلذلك أمرهم بالوفاء . وعدل عن أن يأتي فيه بالنَّهي عن التّطفيف كما في قول شعيب : { ولا تَنقصوا المكيال والميزان } [ هود : 84 ] إشارة إلى أنَّهم مأمورون بالحدّ الذي يتحقّق فيه العدل وافياً ، وعدمُ النّقص يساوي الوفاء ، ولكن في اختيار الأمر بالإيفاء اهتماماً به لتكون النّفوس ملتفتة إلى جانب الوفاء لا إلى جانب ترك التّنقيص ، وفيه تذكير لهم بالسّخاء الذي يتمادحُون به كأنَّه قيل لهم : أين سخاؤكم الذي تتنافسون فيه فهلا تظهرونه إذا كِلْتم أو وزنتم فتزيدوا على العدل بأن توفّروا للمُكتال كرماً بله أن تسرقوه حقّه . وهذا تنبيه لهم على اختلال أخلاقهم وعدم توازنها .
والباء في قوله : { بالقسط } للملابسة والقسط العدل ، وتقدّم عند قوله تعالى : { قائماً بالقسط } في سورة آل عمران ( 18 ) ، أي أوفوا متلبّسين بالعدل بأن لا تظلموا المكتال حقّه .
{ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } .
ظاهر تعقيب جملة : { وأوفوا الكيل } إلخ بجملة : { لا نكلف نفساً إلا وسعها } أنَّها متعلّقة بالتي وليتها فتكون احتراساً ، أي لا نكلّفكم تمام القسط في الكيل والميزان بالحبّة والذرّة ولكنّا نكلّفكم ما تظنّون أنَّه عدل ووفاء . والمقصود من هذا الاحتراسِ أنّ لا يَترك النّاسُ التّعامل بينهم خشية الغلط أو الغفلة ، فيفضي ذلك إلى تعطيل منافع جمّة . وقد عدل في هذا الاحتراس عن طريق الغيبة الذي بُنيَ عليه المقول ابتداء في قوله : { ما حرم ربكم عليكم } [ الأنعام : 151 ] لِما في هذا الاحتراس من الامتنان ، فتولّى الله خطاب النّاس فيه بطريق التكلّم مباشرة زيادة في المنّة ، وتصديقاً للمبلّغ ، فالوصاية بإيفاء الكيل والميزان راجعة إلى حفظ مال المشتري في مظنّة الإضاعة ، لأنّ حالة الكيل والوزن حالة غفلة المشتري ، إذ البائع هو الذي بيده المكيال أو الميزان ، ولأنّ المشتري لرغبته في تحصيل المكيل أو الموزون قد يتحمّل التّطفيف ، فأوصِي البائع بإيفاء الكيل والميزان .
وهذا الأمر يدلّ بفحوى الخطاب على وجوب حفظ المال فيما هو أشدّ من التّطفيف ، فإنّ التّطفيف إن هو إلاّ مخالسة قَدْر يسير من المبيع ، وهو الذي لا يظهر حين التّقدير فأكل ما هو أكثر من ذلك من المال أوْلى بالحفظ ، وتجنّب الاعتداء عليه .
ويجوز أن تكون جملة : { لا نكلف نفساً إلا وسعها } تذييلاً للجمل التي قبلها ، تسجيلاً عليهم بأنّ جميع ما دُعوا إليه هو في طاقتهم ومكنتهم . وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } في آخر سورة البقرة ( 286 ) .
{ وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } .
هذا جامعٌ كلّ المعاملات بين النّاس بواسطة الكلام وهي الشّهادة ، والقضاء ، والتّعديل ، والتّجريح ، والمشاورة ، والصّلح بين النّاس ، والأخبار المخبِرة عن صفات الأشياء في المعاملات : من صفات المبيعات ، والمؤاجرات ، والعيوب ؛ وفي الوعود ، والوصايا ، والأيمان ؛ وكذلك المدائح والشّتائم كالقذف ، فكلّ ذلك داخل فيما يصدر عن القول .
والعدل في ذلك أن لا يكون في القول شيء من الاعتداء على الحقوق : بإبطالها ، أو إخفائها ، مثل كتمان عيوب المبيع ، وادّعاء العيوب في الأشياء السّليمة ، والكذب في الأثمان ، كأن يقول التّاجر : أُعطيت في هذه السلعة كذا ، لثمن لم يُعْطَه ، أو أنّ هذه السّلعة قامتْ علي بكذا . ومنه التزام الصّدق في التّعديل والتّجريح وإبداء النّصيحة في المشاورة ، وقول الحقّ في الصّلح . وأمّا الشّهادة والقضاء فأمر العدل فيهما ظاهر ، وإذا وَعَد القائل لا يُخلِف ، وإذا أوْصَى لا يظلم أصحابَ حقوق الميراث ، ولا يحلف على الباطل ، وإذا مدحَ أحداً مدحه بما فيه ، وأمَّا الشّتم فالإمساك عنه واجب ولو كان حقّاً فذلك الإمساك هو العدل لأنّ الله أمر به .
وفي التّعليق بأداة الشّرط في قوله : { وإذا قلتم } إشارة إلى أنّ المرء في سعة من السكوت إن خشي قولَ العدل . وأمَّا أن يقول الجور والظّلم والباطل فليس له سبيل إلى ذلك ، والكذب كلّه من القول بغير العدل ، على أنّ من السكوت ما هو واجب . وفي « الموطأ » أنّ رجلاً خطب إلى رجل أختَه فذكر الأخُ أنَّها قد كانت أحدثَتْ فبلغ ذلك عُمر بن الخطّاب فضربه أو كاد يضربه ثمّ قال : « مَالَك ولِلْخَبَر » .
والواو في قوله : { ولو كان } واو الحال ، ولو وصلية تفيد المبالغة في الحال التي من شأنها أن يظُنّ السّامع عدمَ شمولِ الحكم إيَّاها لاختصاصها من بين بقيّة الأحوال التي يشملها الحكم ، وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به } في سورة آل عمران ( 91 ) ، فإنّ حالة قرابة المقولِ لأجله القولُ قد تحمل القائل على أن يقول غير العدل ، لنفع قريبه أو مصانعته ، فنبّهوا على وجوب التزام العدل في القول في تلك الحالة ، فالضّمير المستتر في ( كان ) كائد إلى شيء معلوم من الكلام : أي ولو كان الذي تعلّق به القول ذا قربى .
والقربى : القرابة ويُعلم أنَّه ذو قرابة من القائل ، أي إذا قلتم قولاً لأجله أو عليه فاعدلوا ولا تقولوا غير الحقّ ، لا لدفع ضرّه بأن تغمصوا الحقّ الذي عليه ، ولا لنفعه بأن تختلقوا له حقّاً على غيره أو تبرءوه ممّا صدر منه على غيره ، وقد قال الله تعالى في العدل في الشّهادة والقضاء : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } [ النساء : 135 ] .
وقد جاء طلب الحقّ في القول بصيغة الأمر بالعدل ، دون النّهي عن الظلم أو الباطل : لأنَّه قيّده بأداة الشّرط المقتضي لصدور القول : فالقول إذا صدر لا يخلو عن أن يكون حقّاً أو باطلاً ، والأمر بأن يكون حقّاً أوفَى بمقصد الشّارع لوجهين : أحدهما : أنّ الله يحبّ إظهار الحقّ بالقول ، ففي الأمر بأن يكون عدلاً أمر بإظهاره ونهي عن السّكوت بدون موجب . الثّاني : أنّ النَّهي عن قول الباطل أو الزّور يصدق بالكلام الموجَّه الذي ظاهره ليس بحقّ ، وذلك مذموم إلاّ عند الخوف أو الملاينة ، أو فيما لا يرجع إلى إظهار حقّ ، وتلك هي المعاريض التي ورد فيها حديث : « إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب »{[235]} .
ختم هذه المتلوات بالأمر بإيفاء العهد بقوله : { وبعهد الله أوفوا } . وعهد الله المأمور بالإيفاء به هو كلّ عهد فيه معنى الانتساب إلى الله الذي اقتضته الإضافة ، إذ الإضافة هنا يصحّ أن تكون إضافة المصْدر إلى الفاعل ، أي ما عهد اللَّهُ به إليكم من الشّرائع ، ويصحّ أن تكون إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي ما عاهدتم الله أن تفعلوه ، والتزمتموه وتقلّدتموه ، ويصحّ أن تكون الإضافة لأدنى ملابسة ، أي العهد الذي أمر الله بحفظه ، وحذر من ختره ، وهو العهود التي تنعقد بين الناس بعضهم مع بعض سواء كان بين القبائل أم كان بين الآحاد . ولأجل مراعاة هذه المعاني النّاشئة عن صلاحيّة الإضافة لإفادتها عُدِل إلى طريق إسناد اسم العهد إلى اسم الجلالة بطريق الإضافة دون طريق الفعل ، بأن يقال : وبما عاهدتم الله عليه ، أو نحن ذلك ما لا يحتمل إلاّ معنى واحداً . وإذْ كان الخطاب بقوله : { تعالوا } [ الأنعام : 151 ] للمشركين تعيّن أن يكون العهد شيئاً قد تقرّرت معرفته بينهم ، وهو العهود التي يعقدونها بالموالاة والصّلح أو نحو ذلك فهو يدعوهم إلى الوفاء بما عاقدوا عليه . وأضيف إلى الله لأنَّهم كانوا يتحالفون عند التّعاقد ولذلك يسمّون العهد حِلْفاً ، قال الحارث بن حلِّزة :
اذْكروا حِلْف ذي المجاز وما *** قُدم فيه العهودُ والكفلاء
ونُوجد نحن أمنعَهم ذماراً *** وأوفاهم إذا عقَدوا يميناً
فالآية آمرة لهم بالوفاء ، وكان العرب يتمادحون به . ومن العهود المقرّرة بينهم : حلف الفضول ، وحلف المطيَّبين ، وكلاهما كان في الجاهليّة على نفي الظّلم والجور عن القاطنين بمكّة ، وذلك تحقيق لعهد الله لإبراهيم عليه السّلام أن يجعل مكّة بلداً آمناً ومن دخله كان آمناً ، وقد اعتدى المشركون على ضعفاء المؤمنين وظلموهم مثللِ عمار ، وبلال ، وعامر بن فهيرة ، ونحوهم ، فهو يقول لهم فيما يتلو عليهم أنّ خفر عهد الله بأمان مكّة ، وخفر عهودكم بذلك ، أولى بأن تحرّموه من مزاعمكم الكاذبة فيما حرّمتم وفصّلتم ، فهذا هو الوجه في تفسير قوله : { وبعهد الله أوفوا } .
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بأمر العهد وصرف ذهن السّامع عند ، ليتقرّر في ذهنه ما يرد بعده من الأمر بالوفاء ، أي إن كنتم تَرَون الوفاء بالعهد مدحة فعهد الله أولى بالوفاء وأنتم قد اخترتموه ، فهذا كقوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } ثمّ قال { وصَدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله } [ البقرة : 217 ]
{ ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
تكرار لقوله المماثل له قبله ، وقد علمت أنّ هذا التّذييل ختم به صنف من أصناف الأحكام . وجاء مع هذه الوصيّة بقوله : { لعلكم تذكرون } لأنّ هذه المطالب الأربعة عرف بين العرب أنَّها محامد ، فالأمر بها ، والتّحريض عليها تذكير بما عرفوه في شأنها ولكنّهم تناسوه بغلبة الهوى وغشاوة الشّرك على قلوبهم .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وأبو جعفر ، ويعقوبُ : تذّكرون بتشديد الذال لإدغام التّاء الثّانية في الذال بعد قلبها ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص ، وخلَف بتخفيف الذال على حذف التّاء الثّانية تخفيفاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}، إلا ليثمر لليتيم ماله بالأرباح، {حتى يبلغ أشده}، يعني ثماني عشرة سنة، {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط}، يعني بالعدل، {لا نكلف نفسا إلا وسعها}، يقول: لا نكلفها من العمل إلا طاقتها، {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}، يعني أولي قربى إذا تكلمتم فقولوا الحق، وإن كان ذو قرابتك فقل فيه الحق، {وبعهد الله أوفوا} فيما بينكم وبين الناس، {ذلكم وصّاكم به لعلكم}، يعني لكي {تذكرون} في أمره ونهيه...
.. ابن كثير: قال مالك: [{حتى يبلغ أشده}] يعني حتى يحتلم. 1681...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"ولاَ تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيم إلاّ بالتي هي أحْسَن": ولا تقربوا ماله إلا بما فيه صلاحه وتثميره...
وأما قوله:"حتى يَبْلُغَ أشُدّهُ "فإن الأشدّ جمع شدّ... والشدّ: القوّة، وهو استحكام قوّة شبابه وسنه...
"وأوْفُوا الكَيْلَ والمِيزَانَ بالقِسْطِ لا نُكَلّفُ نَفْسا إلاّ وُسعَها"؛
يقول تعالى ذكره: قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا، وأن أوفوا الكيل والميزان، يقول: لا تبخسوا الناس الكيل إذا كلتوهم والوزن إذا وزنتموهم، ولكن أوفوهم حقوقهم وإيفاؤهم ذلك: إعطاؤهم حقوقهم تامّة بالقسط، يعني: بالعدل...
وأما قوله: "لا نُكَلّفُ نَفْسا إلا وُسْعَها "فإنه يقول: لا نكلف نفسا من إيفاء الكيل والوزن إلا ما يسعها، فيحلّ لها، ولا تحرَج فيه، وذلك أن الله جلّ ثناؤه علم من عباده أن كثيرا منهم تضيق نفسه عن أن تطيب لغيره بما لا يجب عليها له، فأمر المعطي بإيفاء ربّ الحقّ حقه الذي هو له ولم يكلفه الزيادة لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها، وأمر الذي له الحقّ بأخذ حقه ولم يكلفه الرضا بأقلّ منه، لما في النقصان عنه من ضيق نفسه، فلم يكلف نفسا منهما إلا ما لا حرج فيه ولا ضيق، فلذلك قال: لا نُكَلّفُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها...
"وَإذَا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا: وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم، فقولوا الحقّ بينهم، واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا ولو كان الذي يتوجه الحقّ عليه والحكم ذا قرابة لكم، ولا يحملنكم قرابة قريب أو صداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره، أن تقولوا غير الحقّ فيما احتكم إليكم فيه.
"وَبِعَهْدِ اللّهِ أوْفُوا" يقول: وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا وإيفاء ذلك أن يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم، وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك هو الوفاء بعهد الله.
وأما قوله: "ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل للعادلين بالله الأوثان والأصنام من قومك: هذه الأمور التي ذكرت لكم في هاتين الآيتين، هي الأشياء التي عهد إلينا ربنا ووصاكم بها ربكم وأمركم بالعمل بها، لا بالبحائر والسوائب والوصائل والحام وقتل الأولاد ووأد البنات واتباع خطوات الشيطان.
"لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ" يقول: أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الآيتين ووصاكم بها وعهد إليكم فيها، لتتذكروا عواقب أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الآيتين، ووصاكم بها وعهد إليكم فيها، لتتذكروا عواقب أمركم وخطأ ما أنتم عليه مقيمون، فتنزجروا عنها وترتدعوا وتنيبوا إلى طاعة ربكم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
..هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة، ثم استثنى ما يحسن وهو التثمير والسعي في نمائه... و «الأشد» جمع شد وجمع شدة 1685، وهو هنا الحزم والنظر في الأمور وحسن التصرف فيها... وليس هذا بالأشد المقرون ببلوغ الأربعين، بل هذا يكون مع صغر السن في ناس كثير وتلك الأشد هي التجارب والعقل المحنك... وهو قول مالك رحمه الله: الرشد وزوال السفه مع البلوغ...
اعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى خمسة أنواع من التكاليف، وهي أمور ظاهرة جلية لا حاجة فيها إلى الفكر والاجتهاد، ثم ذكر تعالى في هذه الآية أربعة أنواع من التكاليف، وهي أمور خفية يحتاج المرء العاقل في معرفته بمقدارها إلى التفكر، والتأمل والاجتهاد.
فالنوع الأولى: من التكاليف المذكورة في هذه الآية قوله: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده}.
واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير} والمعنى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بأن يسعى في تنميته وتحصيل الربح به ورعاية وجوه الغبطة له، ثم إن كان القيم فقيرا محتاجا أخذ بالمعروف، وإن كان غنيا فاحترز عنه كان أولى فقوله: {إلا بالتي هي أحسن} معناه كمعنى قوله: {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف}.
وأما قوله: {حتى يبلغ أشده} فالمعنى احفظوا ماله حتى يبلغ أشده، فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله. وأما معنى الأشد وتفسيره: قال الليث: الأشد مبلغ الرجل الحكمة والمعرفة. قال الفراء: الأشد. وأحدها شد في القياس، ولم أسمع لها بواحد. وقال أبو الهيثم: واحدة الأشد شدة كما أن واحدة الأنعم نعمة، والشدة: القوة والجلادة، والشديد الرجل القوي، وفسروا بلوغ الأشد في هذه الآية بالاحتلام بشرط أن يؤنس منه الرشد، وقد استقصينا في هذا الفصل في أول سورة النساء.
والنوع الثاني: قوله تعالى: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط}
اعلم أن كل شيء بلغ تمام الكمال فقد وفى وتم. يقال: درهم واف، وكيل واف، وأوفيته حقه، ووفيته إذا أتممته، وأوفى الكيل إذا أتمه ولم ينقص منه شيئا وقوله: {والميزان} أي الوزن بالميزان وقوله: {بالقسط} أي بالعدل لا بخس ولا نقصان.
فإن قيل: إيفاء الكيل والميزان، هو عين القسط، فما الفائدة في هذا التكرير؟
قلنا: أمر الله المعطي بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصان، وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة.
واعلم أنه لما كان يجوز أن يتوهم الإنسان أنه يجب على التحقيق وذلك صعب شديد في العدل أتبعه الله تعالى بما يزيل هذا التشديد فقال: {لا نكلف نفسا إلا وسعها} أي الواجب في إيفاء الكيل والوزن هذا القدر الممكن في إيفاء الكيل والوزن. أما التحقيق فغير واجب...
النوع الثالث: من التكاليف المذكورة في هذه الآية، قوله تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} واعلم أن هذا أيضا من الأمور الخفية التي أوجب الله تعالى فيها أداء الأمانة، والمفسرون حملوه على أداء الشهادة فقط، والأمر والنهي فقط، قال القاضي وليس الأمر كذلك بل يدخل فيه كل ما يتصل بالقول، فيدخل فيه ما يقول المرء في الدعوة إلى الدين وتقرير الدلائل عليه بأن يذكر الدليل ملخصا عن الحشو والزيادة بألفاظ مفهومة معتادة، قريبة من الأفهام، ويدخل فيه أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقعا على وجه العدل من غير زيادة في الإيذاء والإيحاش، ونقصان عن القدر الواجب، ويدخل فيه الحكايات التي يذكرها الرجل حتى لا يزيد فيها ولا ينقص عنها، ومن جملتها تبليغ الرسالات عن الناس، فإنه يجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان، ويدخل فيه حكم الحاكم بالقول، ثم إنه تعالى بين أنه يجب أن يسوي فيه بين القريب والبعيد، لأنه لما كان المقصود منه طلب رضوان الله تعالى لم يختلف ذلك بالقريب والبعيد.
والنوع الرابع: من هذه التكاليف قوله تعالى: {وبعهد الله أوفوا} وهذا من خفيات الأمور لأن الرجل قد يحلف مع نفسه، فيكون ذلك الحلف خفيا، ويكون بره وحنثه أيضا خفيا.
ولما ذكر تعالى هذه الأقسام قال: {ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون}.
فإن قيل: فما السبب في أن جعل خاتمة الآية الأولى بقوله: {لعلكم تعقلون} وخاتمة هذه الآية بقوله: {لعلكم تذكرون}.
قلنا: لأن التكاليف الخمسة المذكورة في الأولى أمور ظاهرة جلية، فوجب تعقلها وتفهمها، وأما التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية فأمور خفية غامضة، لا بد فيها من الاجتهاد والفكر حتى يقف على موضع الاعتدال، فلهذا السبب قال: {لعلكم تذكرون}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي والسادس مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم فيما حرم وأوجب عليكم؛ أن لا تقربوا مال اليتيم إذا وليتم أمره أو تعاملتم به ولو بوساطة وصيه أو وليه إلا بالفعلة أو الأفعال التي هي أحسن ما يفعل بماله من حفظه وتثميره وتنميته ورجحان مصلحته والإنفاق منه على تربيته وتعليمه ما يصلح به معاشه ومعاده. والنهي عن قرب الشيء أبلغ من النهي عنه لأنه يتضمن النهي عن الأسباب والوسائل التي تؤدي إليه وتوقع فيه وعن الشبهات التي تحتمل التأويل فيه فيحذرها التقي إذ يعدها هضما لحق اليتيم ويقتحمها الطامع إذ يراها بالتأويل مما يحل له لعدم ضررها باليتيم أو لرجحان نفعها له على ضررها، كأن يأكل من ماله شيئا بوسيلة له فيه ربح من جهة أخرى في عمل لولاه لم يربح ولم يخسر. وقد تقدم في تفسير الآيات المفصلة في اليتامى من أول سورة النساء وتفسير {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم} (البقرة 220) من البقرة ما يغني عن التطويل هنا في تحرير مسألة مال اليتيم ومخالطته في المعيشة والمعاملة. (راجع ج 2 تفسير).
وقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} هو غاية للنهي عن هذا القرب لما له وما فيه من المبالغة في الترهيب عن التعامل فيه. أو غاية لما يتضمنه الاستثناء وهو ما يقابل النهي من إيجاب حفظ ماله حتى منه هو فإن الولي أو الوصي لا يجوز له أن يسمح ليتيم بتبديد شيء من ماله وإضاعته أو الإسراف فيه. وبلوغ الأشد عبارة عن بلوغه سن الرشد والقوة الذي يخرج به عن كونه يتيما أو سفيها أو ضعيفا. وقد اختلف أهل اللغة هل هو مفرد أو جمع لا واحد أو له واحد. قال في اللسان: الأشد مبلغ الرجل الحكمة والمعرفة. وهو موافق لتفسيرنا أو حجة له، ونقل عن ابن سيده: بلغ الرجل أشده إذا اكتهل، ونقل عن علماء اللغة والشرع أقوالا في لفظه ومعناه بلغت ثلثي ورقة منه، وملخص المعنى: أن له طرفين أدناهما الاحتلام الذي هو مبدأ سن القوة والرشد ونهايته سن الأربعين وهي الكهولة إذا اجتمعت للمرء حنكته وتمام عقله، قال فبلوغ الأشد محصور الأول محصور النهاية غير محصور ما بين ذلك. وقال الشعبي ومالك وآخرون من علماء السلف يعني حتى يحتلم، والاحتلام يكون غالبا بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة: وقال السدي الأشد سن الثلاثين وقيل سن الأربعين وقيل الستين. والأخير باطل وما قبله مأخوذ من قوله تعالى: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة} (الأحقاف 15) ولكن قال المفسرون هذا لا يظهر هنا.
وأقول: إن المراد بالنهي عن قرب مال اليتيم النهي عن كل تعد عليه وهضم له من الأوصياء وغيرهم من الناس خلافا لمن جعل الخطاب فيه للأولياء والأوصياء خاصة، وحينئذ يظهر جعل (حتى) غاية للنهي وجعل (الأشد) بمعناه اللغوي وهو سن القوة البدنية والعقلية بالتجارب، والحديث العهد بالاحتلام يكون ضعيف الرأي قليل التجارب فيخدع كثيرا. وقد كان الناس في الجاهلية كأهل هذا العصر من أصحاب الأفكار المادية لا يحترمون إلا القوة ولا يعرفون الحق إلا للأقوياء، فلذلك بالغ الشرع في الوصية بالضعيفين المرأة واليتيم. وإنما كانت القوة التي يحفظ بها المرء ماله في ذلك الزمن قوة البدن مع الرشد العقلي وهو قلما يحصل بمجرد البلوغ... وقد اشترط الشرع لإيتاء اليتامى أموالهم سن الحلم والرشد معا وظهور رشدهم في المعاملات المالية بالاختبار بقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} إلى قوله {فادفعوا إليهم أموالهم} (النساء 6) وهذا خطاب لأولياء والأوصياء.
{وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْط} أي والسابع مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم أن أوفوا الكيل إذا كلتم للناس أو أكتلتم عليهم لأنفسكم والميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون أو لغيركم فيما تبيعون، فليكن كل ذك وافيا تاما بالقسط أي العدل، لا تكونوا من المطففين {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} (المطففين 2- 3) أي ينقصون الكيل والوزن وهم الذين توعدهم الله بالويل والهلاك في أول السورة التي سميت باسمهم. فهذا هو النهي المقابل للأمر بالإيفاء وهو لازم له، فالجملة موجزة فكلمة بالقسط هي التي بينت أن الإيفاء يجب أن يكون من الجانبين في الحالين أي أوفوا مقسطين أو ملابسين للقسط متحرين له وهو يقتضي طرفين يقسط بينهما، فدل على أنه يجب على الإنسان أن يرضى لغيره ما يرضاه لنفسه...
{لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} هذه جملة مستأنفة لبيان حكم ما يعرض لأهل الدين والورع من الأمر بالقسط في الإيفاء فإن إقامة القسط أمر دقيق جدا لا يتحقق في كل مكيل وموزون إلا إذا كان بموازين كميزان الذهب الذي يضبط الوزن بالحبة وما دونها، وفي التزام ذلك في بيع الحبوب والخضر والفاكهة حرج عظيم يخطر في بال الورع السؤال عن حكمه، فكان جوابه أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا ما يسعها فعله بأن تأتيه بغير عسر ولا حرج، فهو لا يكلف من يشتري أو يبيع ما ذكر من الأقوات ونحوها أن يزنه ويكيله بحيث لا يزيد حبة ولا مثقالا بل يكلفه أن يضبط الوزن والكيل له أو عليه على حد سواء بحسب العرف، بحيث يكون معتقدا أنه لم يظلم بزيادة ولا نقص يعتد به عرفا.
وقاعدة اليسر وحصر التكليف بما وسع المكلف وما يقابله من رفع الحرج ونفي العسر، من أعظم قواعد هذا الشرع المبني على أقوى أساس من الحق والعدل فلا يساويه فيه قانون من قوانين الخلق، ولو عمل المسلمون بهذه الوصية لاستقامت أمور معاملتهم وعظمت الثقة والأمانة بينهم، وكانوا حجة على غيرهم من المطففين والمفسدين. وما فسدت أمورهم وقلّت ثقتهم بأنفسهم، وحل محلها ثقتهم بالأجانب الطامعين فيهم إلا بترك هذه الوصية وأمثالها، ثم تجد بعض المارقين الجاهلين منهم يهذون ويقولون إن ديننا هو الذي أخرنا وقدم غيرنا...
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي والثامن مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم هو أن تعدلوا في القول إذا قلتم قولا في شهادة أو حكم على أحد ولو كان المقول في حقه ذلك القول صاحب قرابة منكم فالعدل واجب في الأقوال كما أنه واجب في الأفعال كالوزن والكيل لأنه هو الذي تصلح به شؤون الناس فهو ركن العمران وأساس الملك وقطب رحى النظام للبشر في جميع أمورهم الاجتماعية، فلا يجوز لمؤمن أن يحابي فيه أحدا لقرابته ولا لغير ذلك، وقد فصل الله تعالى هذا الأمر الموجز بآيتين مدنيتين أولاهما قوله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} (النساء 134) إلخ والثانية قوله: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} (المائدة 8) إلخ فيراجع تفسيرهما في أواخر الجزء الخامس ومنتصف الجزء السادس من التفسير.
{وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا} أي والتاسع مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم أن توفوا بعهد الله دون ما خالفه، وهو يشمل ما عهده الله تعالى إلى الناس على ألسنة رسله وبما أتاهم من العقل من العقل والوجدان والفطرة السليمة وما يعاهده الناس عليه، وما يعاهد عليه بعضهم بعضا في الحق موافقا للشرع قال تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم} (طه 115) وقال: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان} (يس 60). وقال أيضا وهو من الثاني {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} (النحل 91) وقال: {أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم} (البقرة 100) وقال في صفات المؤمنين {والموفون بعهدهم إذ عاهدوا} (البقرة 177) فكل ما وصى الله به وشرعه للناس فهو من عهده إليهم. ومن آمن برسول من رسله فقد عاهد الله بالإيمان به أنه يمتثل أمره ونهيه. وما يلتزمه الإنسان من عمل البر بنذر أو يمين فهو عهد عاهد ربه عليه كما قال في بعض المنافقين: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به} (التوبة 75- 76) إلخ وكذلك من عاهد الإمام وبايعه على الطاعة في المعروف. أو عاهد غيره على القيام بعمل مشروع. والسلطان يعاهد الدول فكل ذلك مما يجب الوفاء به إذا لم يكن معصية، ولكن لا يعد من عهد الله شيء من ذلك إلا إذا عقد باسمه أو بالحلف به وكذا تنفيذ شرعه...
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون}... فالذكر يطلق في الأصل على إخطار معنى الشيء أو خطوره في الذهن ويسمى ذكر القلب، وعلى النطق باللفظ الدال عليه ويسمى ذكر اللسان، ويستعمل مجازا بمعنى الصيت والشرف وفسر به قوله تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك} (الزخرف 44) ويطلق بمعنى العلم وبه يسمى القرآن وغيره من الكتب الإلهية ذكرا، ومنه {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل 43) وأما التذكر فمعناه تكلف ذكر الشيء في القلب أو التدرج فيه بفعله المرة بعد المرة. ويطلق على الاتعاظ ومنه قوله تعالى: {وما يتذكر إلا من ينيب} (غافر 13) وقوله: {سيذكر من يخشى} (الأعلى 10) والشواهد عليه في الذكر كثيرة ومثله الإدكار {فهل من مدكر} (القمر 15) وهو افتعال من الذكر، والافتعال يقرب من التفعل...
والمعنى: ذلكم المتلو عليكم في هذه الآية من الأوامر والنواهي البعيدة مدى الفائدة ومسافة المنفعة لمن قام بها وصاكم الله به في كتابه رجاء أن تذكروا في أنفسكم ما فيها من الصلاح لكم فيحملكم ذلك على العمل بها أو رجاء أن يذكره بعضكم لبعض في التعليم والتواصي الذي أمر الله به بمثل قوله: {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (العصر 3).
ولكل من الذكر النفسي واللساني وجه هنا ولا مانع من الجمع بينهما على مذهب الشافعية وابن جرير المختار عندنا، وكذا الجمع بينهما وبين معاني التذكر في القراءة الأخرى، والمعنى على هذه القراءة وصاكم به رجاء أن يتكلف ذكر هذه الوصايا وما فيها من المصالح والمنافع من كان كثير النسيان والغفلة أو كثير الشواغل الدنيوية، أو رجاء أن يتذكرها المرة بعد المرة من أراد الانتفاع بها بتلاوة آياتها في الصلاة وغيرها وبغير ذلك، أو رجاء أن يتعظ بها من سمعها وقرأها أو ذكرها أو ذكر بها، وبعض هذه الوجوه عام يطلب من كل مسلم وبعضها خاص.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ اشده}
عطف جملة: {ولا تقربوا} على الجملة التي فَسَّرت فعل: {أتْلُ} [الأنعام: 151] عطف محرّمات ترجع إلى حفظ قواعد التّعامل بين النّاس لإقامة قواعد الجامعة الإسلاميّة ومدنيتها وتحقيق ثقة النّاس بعضهم ببعض.
وابتدأها بحفظ حقّ الضّعيف الذي لا يستطيع الدّفع عن حقّه في ماله، وهو اليتيم، فقال: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} والقِربان كناية عن ملابسة مال اليتيم. والتّصرّف فيه كما تقدّم آنفاً في قوله: {ولا تقربوا الفواحش} [الأنعام: 151]. ولمَّا اقتضى هذا تحريم التصرّف في مال اليتيم، ولو بالخزن والحفظ، وذلك يعرّض ماله للتّلف، استُثني منه قوله: {إلا بالتي هي أحسن} أي إلاّ بالحالة التي هي أحسن... و {أحسنُ} اسم تفضيل مسلوب المفاضلة، أي الحسنة، وهي النّافعة التي لا ضرّ فيها لليتيم ولا لِماله. وإنَّما قال هنا: {ولا تقربوا} تحذيراً من أخذ ماله ولو بأقلّ أحوال الأخذ لأنَّه لا يدفع عن نفسه، ولذلك لم يقل هنا: {ولا تأكلوا} كما قال في سورة البقرة (188): {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}. والأشُدّ: اسم يدلّ على قوّة الإنسان، وهو مشتقّ من الشدّ وهو التوثّق، والمراد به في هذه الآية ونظائرها، ممّا الكلام فيه على اليتيم، بلوغه القوّة التي يخرج بها من ضعف الصّبا، وتلك هي البلوغ مع صحّة العقل، لأنّ المقصود بلوغه أهليّة التصرّف في ماله. وما منع الصّبي من التصرّف في المال إلاّ لضعف في عقله بخلاف المراد منه في أوصاف الرّجال فإنَّه يُعنى به بلوغ الرجل منتهى حدّ القوّة في الرّجال وهو الأربعون سنة إلى الخمسين قال تعالى: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة} [الأحقاف: 15]
والبلوغ: الوصول، وهو هنا مجاز في التدرّج في أطوار القوّة المخرِجة من وهن الصّبا.
و {حتى} غاية للمستثنى: وهو القربان بالتي هي أحسن، أي التصرّف فيه إلى أن يبلغ صاحبه أشدّه أي فيسلم إليه، كما قال تعالى في الآية الأخرى {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] الآية.
ووجه تخصيص حقّ اليتيم في ماله بالحفظ: أنّ ذلك الحقّ مظنّة الاعتداء عليه من الولي، وهو مظنة انعدام المدافع عنه، لأنَّه ما من ضعيف عندهم إلاّ وله من الأقارب والموالي من يدفع عنه إذا استجاره أو استنجده، فأمّا اليتيم فإنّ الاعتداء عليه إنَّما يكون من أقرب النّاس إليه، وهو وليّه، لأنَّه لم يكن يلي اليتيم عندهم إلاّ أقرب النّاس إليه، وكان الأولياء يتوسّعون في أموال أيتامهم، ويعتدُون عليها، ويضيعون الأيتام لكيلا ينشأوا نشأة يعرفون بها حقوقهم، ولذلك قال تعالى: {ألم يجدك يتيماً فآوى} [الضحى: 6] لأنّ اليتيم مظنّة الإضاعة فلذلك لم يوص الله تعالى بمال غير اليتيم، لأنّ صاحبه يدفع عن نفسه، أو يستدفع بأوليائه ومنجديه.
{وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط}.
عطف الأمر بإيفاء الكيل والميزان، وذلك في التّبايع، فقد كانوا يبيعون التّمر والزّبيب كيلاً، وكانوا يتوازنون الذّهب والفضّة، فكانوا يُطَفّفون حرصاً على الرّبح، فلذلك أمرهم بالوفاء. وعدل عن أن يأتي فيه بالنَّهي عن التّطفيف كما في قول شعيب: {ولا تَنقصوا المكيال والميزان} [هود: 84] إشارة إلى أنَّهم مأمورون بالحدّ الذي يتحقّق فيه العدل وافياً، وعدمُ النّقص يساوي الوفاء، ولكن في اختيار الأمر بالإيفاء اهتماماً به لتكون النّفوس ملتفتة إلى جانب الوفاء لا إلى جانب ترك التّنقيص، وفيه تذكير لهم بالسّخاء الذي يتمادحُون به كأنَّه قيل لهم: أين سخاؤكم الذي تتنافسون فيه فهلا تظهرونه إذا كِلْتم أو وزنتم فتزيدوا على العدل بأن توفّروا للمُكتال كرماً بله أن تسرقوه حقّه. وهذا تنبيه لهم على اختلال أخلاقهم وعدم توازنها.
والباء في قوله: {بالقسط} للملابسة والقسط العدل، وتقدّم عند قوله تعالى: {قائماً بالقسط} في سورة آل عمران (18)، أي أوفوا متلبّسين بالعدل بأن لا تظلموا المكتال حقّه.
{لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
ظاهر تعقيب جملة: {وأوفوا الكيل} إلخ بجملة: {لا نكلف نفساً إلا وسعها} أنَّها متعلّقة بالتي وليتها فتكون احتراساً، أي لا نكلّفكم تمام القسط في الكيل والميزان بالحبّة والذرّة ولكنّا نكلّفكم ما تظنّون أنَّه عدل ووفاء. والمقصود من هذا الاحتراسِ أنّ لا يَترك النّاسُ التّعامل بينهم خشية الغلط أو الغفلة، فيفضي ذلك إلى تعطيل منافع جمّة. وقد عدل في هذا الاحتراس عن طريق الغيبة الذي بُنيَ عليه المقول ابتداء في قوله: {ما حرم ربكم عليكم} [الأنعام: 151] لِما في هذا الاحتراس من الامتنان، فتولّى الله خطاب النّاس فيه بطريق التكلّم مباشرة زيادة في المنّة، وتصديقاً للمبلّغ، فالوصاية بإيفاء الكيل والميزان راجعة إلى حفظ مال المشتري في مظنّة الإضاعة، لأنّ حالة الكيل والوزن حالة غفلة المشتري، إذ البائع هو الذي بيده المكيال أو الميزان، ولأنّ المشتري لرغبته في تحصيل المكيل أو الموزون قد يتحمّل التّطفيف، فأوصِي البائع بإيفاء الكيل والميزان.
وهذا الأمر يدلّ بفحوى الخطاب على وجوب حفظ المال فيما هو أشدّ من التّطفيف، فإنّ التّطفيف إن هو إلاّ مخالسة قَدْر يسير من المبيع، وهو الذي لا يظهر حين التّقدير فأكل ما هو أكثر من ذلك من المال أوْلى بالحفظ، وتجنّب الاعتداء عليه.
ويجوز أن تكون جملة: {لا نكلف نفساً إلا وسعها} تذييلاً للجمل التي قبلها، تسجيلاً عليهم بأنّ جميع ما دُعوا إليه هو في طاقتهم ومكنتهم. وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} في آخر سورة البقرة (286).
{وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى}.
هذا جامعٌ كلّ المعاملات بين النّاس بواسطة الكلام وهي الشّهادة، والقضاء، والتّعديل، والتّجريح، والمشاورة، والصّلح بين النّاس، والأخبار المخبِرة عن صفات الأشياء في المعاملات: من صفات المبيعات، والمؤاجرات، والعيوب؛ وفي الوعود، والوصايا، والأيمان؛ وكذلك المدائح والشّتائم كالقذف، فكلّ ذلك داخل فيما يصدر عن القول.
والعدل في ذلك أن لا يكون في القول شيء من الاعتداء على الحقوق: بإبطالها، أو إخفائها، مثل كتمان عيوب المبيع، وادّعاء العيوب في الأشياء السّليمة، والكذب في الأثمان، كأن يقول التّاجر: أُعطيت في هذه السلعة كذا، لثمن لم يُعْطَه، أو أنّ هذه السّلعة قامتْ علي بكذا. ومنه التزام الصّدق في التّعديل والتّجريح وإبداء النّصيحة في المشاورة، وقول الحقّ في الصّلح. وأمّا الشّهادة والقضاء فأمر العدل فيهما ظاهر، وإذا وَعَد القائل لا يُخلِف، وإذا أوْصَى لا يظلم أصحابَ حقوق الميراث، ولا يحلف على الباطل، وإذا مدحَ أحداً مدحه بما فيه، وأمَّا الشّتم فالإمساك عنه واجب ولو كان حقّاً فذلك الإمساك هو العدل لأنّ الله أمر به.
وفي التّعليق بأداة الشّرط في قوله: {وإذا قلتم} إشارة إلى أنّ المرء في سعة من السكوت إن خشي قولَ العدل. وأمَّا أن يقول الجور والظّلم والباطل فليس له سبيل إلى ذلك، والكذب كلّه من القول بغير العدل، على أنّ من السكوت ما هو واجب...
والواو في قوله: {ولو كان} واو الحال، و"لو" وصلية تفيد المبالغة في الحال التي من شأنها أن يظُنّ السّامع عدمَ شمولِ الحكم إيَّاها لاختصاصها من بين بقيّة الأحوال التي يشملها الحكم، وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به} في سورة آل عمران (91)، فإنّ حالة قرابة المقولِ لأجله القولُ قد تحمل القائل على أن يقول غير العدل، لنفع قريبه أو مصانعته، فنبّهوا على وجوب التزام العدل في القول في تلك الحالة، فالضّمير المستتر في (كان) كائد إلى شيء معلوم من الكلام: أي ولو كان الذي تعلّق به القول ذا قربى.
والقربى: القرابة ويُعلم أنَّه ذو قرابة من القائل، أي إذا قلتم قولاً لأجله أو عليه فاعدلوا ولا تقولوا غير الحقّ، لا لدفع ضرّه بأن تغمصوا الحقّ الذي عليه، ولا لنفعه بأن تختلقوا له حقّاً على غيره أو تبرؤوه ممّا صدر منه على غيره، وقد قال الله تعالى في العدل في الشّهادة والقضاء: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء: 135].
وقد جاء طلب الحقّ في القول بصيغة الأمر بالعدل، دون النّهي عن الظلم أو الباطل: لأنَّه قيّده بأداة الشّرط المقتضي لصدور القول: فالقول إذا صدر لا يخلو عن أن يكون حقّاً أو باطلاً، والأمر بأن يكون حقّاً أوفَى بمقصد الشّارع لوجهين: أحدهما: أنّ الله يحبّ إظهار الحقّ بالقول، ففي الأمر بأن يكون عدلاً أمر بإظهاره ونهي عن السّكوت بدون موجب. الثّاني: أنّ النَّهي عن قول الباطل أو الزّور يصدق بالكلام الموجَّه الذي ظاهره ليس بحقّ، وذلك مذموم إلاّ عند الخوف أو الملاينة، أو فيما لا يرجع إلى إظهار حقّ، وتلك هي المعاريض التي ورد فيها حديث: « إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب» 12.
ختم هذه المتلوات بالأمر بإيفاء العهد بقوله: {وبعهد الله أوفوا}. وعهد الله المأمور بالإيفاء به هو كلّ عهد فيه معنى الانتساب إلى الله الذي اقتضته الإضافة، إذ الإضافة هنا يصحّ أن تكون إضافة المصْدر إلى الفاعل، أي ما عهد اللَّهُ به إليكم من الشّرائع، ويصحّ أن تكون إضافة المصدر إلى مفعوله، أي ما عاهدتم الله أن تفعلوه، والتزمتموه وتقلّدتموه، ويصحّ أن تكون الإضافة لأدنى ملابسة، أي العهد الذي أمر الله بحفظه، وحذر من ختره، وهو العهود التي تنعقد بين الناس بعضهم مع بعض سواء كان بين القبائل أم كان بين الآحاد. ولأجل مراعاة هذه المعاني النّاشئة عن صلاحيّة الإضافة لإفادتها عُدِل إلى طريق إسناد اسم العهد إلى اسم الجلالة بطريق الإضافة دون طريق الفعل، بأن يقال: وبما عاهدتم الله عليه، أو نحن ذلك ما لا يحتمل إلاّ معنى واحداً. وإذْ كان الخطاب بقوله: {تعالوا} [الأنعام: 151] للمشركين تعيّن أن يكون العهد شيئاً قد تقرّرت معرفته بينهم، وهو العهود التي يعقدونها بالموالاة والصّلح أو نحو ذلك فهو يدعوهم إلى الوفاء بما عاقدوا عليه. وأضيف إلى الله لأنَّهم كانوا يتحالفون عند التّعاقد ولذلك يسمّون العهد حِلْفاً ...
فالآية آمرة لهم بالوفاء، وكان العرب يتمادحون به. ومن العهود المقرّرة بينهم: حلف الفضول، وحلف المطيَّبين، وكلاهما كان في الجاهليّة على نفي الظّلم والجور عن القاطنين بمكّة، وذلك تحقيق لعهد الله لإبراهيم عليه السّلام أن يجعل مكّة بلداً آمناً ومن دخله كان آمناً، وقد اعتدى المشركون على ضعفاء المؤمنين وظلموهم مثللِ عمار، وبلال، وعامر بن فهيرة، ونحوهم، فهو يقول لهم فيما يتلو عليهم أنّ خفر عهد الله بأمان مكّة، وخفر عهودكم بذلك، أولى بأن تحرّموه من مزاعمكم الكاذبة فيما حرّمتم وفصّلتم، فهذا هو الوجه في تفسير قوله: {وبعهد الله أوفوا}.
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بأمر العهد وصرف ذهن السّامع عند، ليتقرّر في ذهنه ما يرد بعده من الأمر بالوفاء، أي إن كنتم تَرَون الوفاء بالعهد مدحة فعهد الله أولى بالوفاء وأنتم قد اخترتموه، فهذا كقوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير} ثمّ قال {وصَدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله} [البقرة: 217]
{ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
تكرار لقوله المماثل له قبله، وقد علمت أنّ هذا التّذييل ختم به صنف من أصناف الأحكام. وجاء مع هذه الوصيّة بقوله: {لعلكم تذكرون} لأنّ هذه المطالب الأربعة عرف بين العرب أنَّها محامد، فالأمر بها، والتّحريض عليها تذكير بما عرفوه في شأنها ولكنّهم تناسوه بغلبة الهوى وغشاوة الشّرك على قلوبهم...