قوله تعالى : { إن تمسسكم } . أي تصبكم أيها المؤمنون .
قوله تعالى : { حسنة } . بظهوركم على عدوكم ، وغنيمة تنالونها منهم ، وتتابع الناس في الدخول في دينكم ، وخصب في معايشكم .
قوله تعالى : { تسؤهم } . تحزنهم .
قوله تعالى : { وإن تصبكم سيئة } . مساءة بإخفاق سرية لكم ، أو إصابة عدو منكم ، أو اختلاف يكون بينكم ، أو جدب أو نكبة .
قوله تعالى : { يفرحوا بها وإن تصبروا } . على أذاهم .
قوله تعالى : { وتتقوا } . تخافوا ربكم .
قوله تعالى : { لا يضركم } . أي : لا ينقصكم .
قوله تعالى : { كيدهم شيئاً } . قرأ ابن عامر وابن كثير ونافع وأهل البصرة لا يضركم بكسر الضاد خفيفة ، يقال : ضار يضير ضيراً ، وهو جزم على جواب الجزاء ، وقرأ الباقون بضم الضاد وتشديد الراء ، من ضر يضر ضراً ، مثل رد يرد رداً ، وفي رفعه وجهان : أحدهما أنه أراد الجزم ، وأصله يضرركم فأدغمت الراء في الراء ، ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الثانية إتباعا ، والثاني : أن يكون لا بمعنى ليس ، ويضمر فيه الفاء ، تقديره : وإن تصبروا وتتقوا فليس يضركم كيدهم شيئاً .
ثم ذكر - سبحانه - لونا آخر من ألوان بغض هؤلاء الكافرين للمؤمنين فقال - سبحانه - : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } والمس : أصله الجس باليد . أطلق على كل ما يصل إلى الشىء على سبيل التشبيه ، فيقال : فلان مسه النصب أو التعب ، أى أصابه .
والمراد بالحسنة هنا منافع الدنيا على اختلاف ألوانها ، كصحة البدن ، وحصول النصر ، ووجود الألفة والمحبة بين المؤمنين .
أى إن تمسسكم - أيها المؤمنون - حسنة كنصركم على أعدائكم . وإصلاح ذات بينكم ، { تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ } كنزول مصيبة بكم ، يفرحوا بها . أى يبتهجوا بها ، وتستطار ألبابهم سرورا وحبورا بسبب ما نزل بكم من مكاره .
فالجملة الكريمة بيان لفرط عداوة هؤلاء المنافقين للمؤمنين ، حيث يحسدونهم على ما ينالهم من خيرن ويشمتون بهم عندما ينزل بهم شر .
وعبر فى جانب الحسنة بالمس ، وفى جانب السيئة بالإصابة ، للإشارة إلى تمكن الأحقاد من قلوبهم ، بحيث إن أى حسنة حتى ولو كان مسها للمؤمنين خفيفاً وليس غامراً عاما فإن هؤلاء المنافقين يحزنون لذلك ، لأنهم يستكثرون كل خير للمؤمنين حتى ولو كان هذا الخير ضئيلا .
أما بالنسبة لما يصيب المؤمنين من مكاره ، فإن هؤلاء المنافقين لا يفرحون بالمصيبة التى تمس المؤمنين مساً خفيفاً ، فإنها لا تشفى غيظهم وحقدهم ، وإنما يفرحون بالمصائب الشديدة الت تؤذى المؤمنين فى دينهم ودنياهم أذى شديدا ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بغرشاد المؤمنين إلى الدواء الذى يتقون به كيد أعدائهم وأعدائه فقال - تعالى - : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } .
وقوله : { تَصْبِرُواْ } من الصبر وهو حبس النفس على ما يقتضيه الشرع والعقل .
وقوله : { وَتَتَّقُواْ } من التقوى وهى صيانة الإنسان نفسه عن محارم الله .
وقوله : { كَيْدُهُمْ } من الكيد وهو أن يحتال الشخص ليوقع غيره في مكروه .
والمعنى : { وَإِن تَصْبِرُواْ } أيها المؤمنون على طاعة الله ، فتضبطوا أنفسكم ولا تنساقوا فى مبحة من لا يستحق المحبة ، وتتحملوا بعزيمة صادقة مشاق التكاليف التى كلفكم الله بها ، وتقاوموا العداوة بمثلها { وَتَتَّقُواْ } الله - تعالى - فى كل ما نهاكم عنه ، وتمتثلوا أمره فى كل ما أمركم به ، إن فعلتم ذلك { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ } وتدبيرهم السىء { شَيْئاً } من الضرر ببركة هاتين الفضيلتين : الصبر والتقوى ، فإنهما جامعتان لمحاسن الطاعات ، ومكارم الأخلاق .
وإن لم تفعلوا ذلك اصابكم الضرر ، واستمكنوا منكم بكيدهم ومكرهم ، قال الجمل ما ملخصه : وقوله : { لاَ يَضُرُّكُمْ } وردت فيه قراءتان سبعيتان :
إحداهما : بضم الضاد وضم الراء مع التسديد - من ضر يضر .
والثانية : { لاَ يَضِرْكُمْ } بكسر الضاد وسكون الراء - من ضار يضير . والفعل فى كليهما مجزوم جواباً للشرط ، وجزمه على القراءة الثانية " يضركم " ظاهر ، وعلى القراءة الأولى " يضركم " يكون مجزوماً بسكون مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة الإتباع للتخلص من التقاء الساكنين ، وأصل الفعل يضرركم - بوزن ينصركم - نقلت حركة الراء الأولى إلى الضاد ثم أدغمت فى الثانية ، وحركت الثانية بالضم إتباعاً لحركة الضاد " .
وقوله : { شَيْئاً } نصب على المصدرية . أى لا يضركم كيدهم شيئاً من الضرر لا قليلا ولا كثيرا بسبب اعتصامكم بالصبر والتقوى .
وقوله : { إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } تذييل قصد به إدخال الطمأنينة على قلوب المؤمنين ، والرعب فى قلوب أعدائهم . . أى إنه - سبحانه - محيط بأعمالهم وبكل أحوالهم ، ولا تخفى عليه خافية منها ، وسيجازيهم عليها بما يستحقونه من عذاب أليم بسبب نياتهم الخبيثة ، وأقوالهم الذميمة . وأفعالهم القبيحة .
وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد نهت المؤمنين بأسلوب بليغ حكيم عن مصافاة من يخالفونهم فى الدين ، وذكرت لهم من صفات وأحوال هؤلاء المخالفين ما يحملهم على منابذتهم والحذر منهم والبعد عنهم ، وأرشدتهم إلى ما يعينهم على النصر عليهم وعلى التخلص من آثار مكرهم وكيدهم .
وإنها لوصايا حكيمة وتوجيهات سديدة ، وإرشادات عالية ، ما أحوج المسلمين فى كل زمان ومكان إلى العمل بها لكى يفلحوا فى دنياهم وآخرتهم .
تدبر معى - أخى القارىء - هذه الآيات مرة أخرى فماذا ترى ؟
إنك تراها توجه إلى المؤمنين نداء محببا إلى نفوسهم ، محركا لحرارة العقيدة فى قلوبهم . . حيث نادتهم بصفة الإيمان ، ونهتهم فى هذا النداء عن اتخاذ أولياء وأصفياء لهم من غير إخوانهم المؤمنين . ولكن هل اكتفت بهذا النهى مع أنه كفيل بحجز المؤمنين علما نهتهم عنه ؟
كلا ، إنها لم تكتف بذلك ، بل ساقت لهم صورة كاملة السمات لأحوال أعدائهم ، صورة ناطقة بدخائل نفوسهم ، وبمشاعرهم الظاهرة والخفية ، وبانفعالاتهم القلبية والجسدية ، وبحركاتهم الذاهبة والآيبة ، صورة ناطقة بحالهم عندما يلتقون بالمؤمنين ، وبحالهم عندما يفارقونهم ويخلون بأنفسهم ، أو عندما يلتقون بأمثالهم من الضالين . صورة ناطقة بسرورهم عند ما تصيب المسلمين مصيبة ، وبحزنهم عندما يرون المؤمنين فى نعمة يسيرة .
صورة ناطقة بموقف المؤمنين منهم وبموقفهم هم من المؤمنين ثم بعد رسم هذه الصورة العجيبة المتكاملة لهم ، يسوق القرآن للمؤمنين أسمى وأحكم ألوان التوجيه والإرشاد الذى يجعلهم فى مأمن من كيدهم ومكرهم { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } .
أرأيت - يا أخى - كيف ربى القرآن أتباعه أكمل تربية وأحكمها وأسماها ؟ إنه نهاهم أولا عن مباطنة أعدائهم ، ثم ساق لهم بعد ذلك من أوصافهم وأحوالهم ما يقنعهم ويحملهم على البعد عنهم ، ثم أرشدهم إلى الدواء الذى ينجيهم من مكرهم .
فما أحكمه من توجيه . وما أسماه من إرشاد ، وإن ذلك ليدل على أن هذا القرآن من عند الله { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } وإلى هنا تكون سورة آل عمران قد حدثتنا - من بين ما حدثتنا - فى مائة وعشرون آية منها ، عن بعض الأدلة على وحدانية الله - تعالى - ، وعن مظاهر قدرته ورحمته ، وعن كتبه التى أنزلها على أنبيائه لسعادة الناس وهدايتهم وعن حب الناس للشهوات وعما هو أسمى وأفضل من هذه الشهوات الزائلة ، وعن المجادلات التى حدثت بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أهل الكتاب فيما يتعلق بوحدانية الله - تعالى - وبصحة دين الإسلام ، وعن جوانب من قصة آل عمران وما اشتملت عليه من عظات وعبر ، وعن الشبهات التى آثارها اليهود حول الدعوة الإسلامية والمسالك الخبيثة التى سلكوها فى حربهم لها وكيف رد القرآن عليهم بما يفضحهم ويكشف عن كذبهم ، ويجعل المؤمنين يزدادون إيمانا على إيمانهم .
والخلاصة أن السورة الكريمة من مطلعها إلى هنا قد ساقت - من بين ما ساقت - ألوانا من الحرب النفسية التى شنها أهل الكتاب على الدعوة الإسلامية ، وردت عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويبصرهم بالحق - إن كانوا طلاب حق - وساقت للمؤمنين من التوجيهات والعظات ، ما يهدى قلوبهم ، ويصلح بالهم ويكفل لهم النصر على أعدائهم .
وبعد هذا السبح الطويل فى الحديث عما دار بين المسلمين وبين أعدائهم من حرب كلامية وفكرية ونفسية . . . انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن حروب السيف والسنان ، وما صاحبها من أفكار وأقوال وأفعال .
فقد حدثتنا السورة الكريمة فى حوالي ستين آية عن جوانب متعددة من غزوة " أحد " تلك الغزوة التى كانت لها آثارها الهامة في حياة المسلمين وأحوالهم .
ولعل من الخير - قبل أن نبدأ فى تفسير الآيات الكريمة التى وردت فى سورة آل عمران بشأن هذه الغزوة - أن نسوق خلاصة تاريخية لهذه الغزوة تعين على فهم الآيات المتعلقة بها ، فنقول :
كانت غزوة بدر من الغزوات المشهورة فى تاريخ الدعوة الإسلامية ، فقد انتصر المسلمون فيها انتصارا مؤزرا على كفار قريش .
وصمم المشركون على أن يأخذوا بثأرهم من المسلمين ، فجمعوا جموعهم ، وخرجوا فى جيش كبير ، ومعهم بعض نسائهم حت يكون ذلك أبلغ فى استماتة الرجال فى القتال .
ووصل مشركو قريش ومعهم حلفاؤهم إلى أطراف المدينة فى أوائل شوال من السنة الثالثة ، وكان عددهم يربو على ثلاثة آلاف رجل .
واستشار النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى شان هؤلاء المشركين الزاحفين إلى المدينة .
فكان رأى بعضهم - ومعظمهم من الشباب - الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة .
وكان من رأى فريق آخر من الصحابة ، استدراج المشركين إلى أزقة المدينة ومقاتلتهم بداخلها ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يميل إلى رأى هذا الفريق ، إلا أنه آثر الأخذ برأى الفريق الأول الذى يرى أصحابه الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة ، نظراً لكثرة عدد القائلين بذلك .
ثم دخل النبى صلى الله عليه وسلم بيته ، ثم خرج منه وقد لبس آلة حربه ، وشعر بعض المسلمين أنهم قد استكرهوا النبى صلى الله عليه وسلم على القتال ، فأظهروا له الرغبة فى النزول على رأيه ، إلا أنه لم يستجب لهم ، وقال كلمته التى تعمل الناس الحزم وعدم التردد : " ما ينبغى لنبى لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ، لقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج ، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس . وانظروا ما أمركم الله به فافعلوه " .
ثم خرج النبى صلى الله عليه وسلم فى ألف مقاتل من المسلمين حتى نزل قريباً من جبل " أحد " إلا أن " عبد الله بن أبى بن سلول " انسحب في الطريق بثلث الناس محتجا بأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه ، بل أخذ برأى غيره .
وعكسر المسلمون بالشعب من أحد ، جاعلين ظهرهم إلى الجبل ، ورسم النبى صلى الله عليه وسلم الخطة لكسب المعركة ، فجاءت خطة محكمة رائعة . فقد وزع الرماة على أماكنهم - وكانوا خمسين راميا- ، وقال لهم : " انضحوا الخيل عنا بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا فالزموا أماكنكم لا نؤتين من قبلكم " .
وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم : " أحموا ظهورنا ، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا . وإن رأيتمونا نغنم فلا تُشركونا " .
وأخيراً التقى الجمعان ، وأذن النبى صلى الله عليه وسلم لأتباعه أن يجالدوا أعداءهم ، وأظهر المسلمون أسمى صور البطولة والإقدام ، وكان شعارهم فى هذا الالتحام " أمت أمت " .
وما هى إلى جولات فى أوائل المعركة ، حتى ولى المشركون المسلمين الأدبار ، ولم يغن عن المشركين شيئاً ما كانت تقوم به نسوتهم من تحريض واستنهاض للعزائم .
قال ابن إسحاق : ثم أنزل الله - تعالى - نصره ، وصدق وعده ، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعكسر ، وكانت الهزيمة لا شك فيها .
ورأى الرماة الهزيمة وهى تحل بقريش ، فتطلعت نفوسهم إلى الغنائم ، وحاول أميرهم ، عبد الله بن جبير أن يمنعهم من ترك أماكنهم عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن معظهم تركوا أماكنهم ونزلوا إلى ساحة المعركة ليشاركوا فى جمع الغنائم والأسلاب .
وأدرك خالد بن الوليد - وكان ما زال مشركا - أن ظهور المسلمين قد انكشفت بترك الرماة لأماكنهم ، فاهتبل الفرصة على عجل ، واستدار بمن معه من خيل المشركين خلف المسلمين فأحدق بهم ، وأخذ فى مهاجمتهم من مكان ما كانوا ليظنوا أنهم سيهاجمون منه ، فقد كانوا يعتمدون على الرماة فى حماية ظهورهم .
وعاد المشركون المنهزمون إلى مقاتلة المسلمين ، بعد أن رأوا ما فعله خالد ومن معه . واضطربت صفوف المسلمين للتحول المفاجىء الذى حدث لهم ، إلا أن فريقا منهم أخذ يقاتل ببسالة وصبر . واستشهد عدد كبير منهم وهم يحاولون شق طريقهم .
وأصيب النبى صلى الله عليه وسلم خلال ذلك بجروح بالغة ، وأشيع أنه قد قتل ، إلا أنه صلى الله عليه وسلم جعل يصيح بالمسلمين : إلى عباد الله ، إلى عباد الله . . . فاجتمع إليه نحو ثلاثين رجلا ، ودافعوا عنه دفاع الأبطال المخلصين .
ومرت على المسلمين ساعة من أحرج الساعات فى تاريخ الدعوة الإسلامية فقد كان المشركون يهاجمون النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعناد وحقد ، وكان المسلمون مستميتين فى الدفاع عن رسولهم صلى الله عليه وسلم وعن أنفسهم .
وكان لهذه الاستماتة آثارها فى تراجع المشركين ، وقد ظنوا أنهم قد أخذوا بثأرهم من المسلمين . .
وخشى النبى صلى الله عليه وسلم أن يكون تراجع المشركين من أجل مهاجمة المدينة ، فقال لعلى بن أبى طالب : " اخرج فى آثار القوم فانظر ماذا يصنعون ؟ فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة . وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل ، فهم يريدون المدينة . فوالذى نفسى بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم ، ثم لأناجزنهم فيها " .
قال على : فخرجت فى آثارهم فرأيتهم جنبوا الخيل ، وامتطوا الإبل ، واتجهوا إلى مكة .
وعندما انصرف أبو سفيان نادى : إن موعدكم بدر العام المقبل ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه : قل لهم : نعم بيننا وبينك موعد .
وانتهت غزوة أحد باستشهاد حوالى سبعين صحابيا من بينهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ، وسعد بن الربيع . وغيرهم من الأبطال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه .
ثم قال : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } وهذه الحال دالة{[5608]} على شدة العداوة منهم للمؤمنين وهو أنه{[5609]} إذا أصاب المؤمنين خصب ، ونصر وتأييد ، وكثروا وعزّ أنصارهم ، ساء ذلك المنافقين ، وإن أصاب المسلمين سَنَة{[5610]} - أي : جَدْب - أو أُديل عليهم الأعداء ، لما لله في ذلك من الحكمة ، كما جرى يوم أُحُد ، فَرح المنافقون بذلك ، قال الله تعالى مخاطبا عباده المؤمنين : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ]{[5611]} } يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكَيْدِ الفُجّار ، باستعمال الصبر والتقوى ، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم ، فلا حول ولا قوة لهم إلا به ، وهو الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته ، ومن توكل عليه كفاه .
{ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } بيان لتناهي عداوتهم إلى حد حسدوا ما نالهم من خير ومنفعة ، وشمتوا بما أصابهم من ضر وشدة ، والمس مستعار للإصابة { وإن تصبروا } على عداوتهم ، أو على مشاق التكاليف . { وتتقوا } موالاتهم ، أو ما حرم الله جل جلاله عليكم . { لا يضركم كيدهم شيئا } بفضل الله عز وجل وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولأن المجد في الأمر ، المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال جريا على الخصم ، وضمه الراء للاتباع كضمه مد . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب { لا يضركم } من ضاره يضيره . { إن الله بما يعملون } من الصبر والتقوى وغيرهما . { محيط } أي محيط علمه فيجازيكم مما أنتم أهله . وقرئ بالياء أي { بما يعملون } ، في عداوتكم عليم فيعاقبهم عليه .
«الحسنة والسيئة » في هذه الآية لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء ، وما ذكر المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم وغير ذلك من الأقوال ، فإنما هي أمثلة وليس ذلك باختلاف وذكر تعالى «المس في الحسنة » ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ، ثم عادل ذلك بالسيئة بلفظ الإصابة وهي عبارة عن التمكن ، لأن الشيء المصيب لشيء فهو متمكن منه أو فيه ، فدل هذا المنزع البليغ على شدة العداوة ، إذ هو حقد لا يذهب عند الشدائد ، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين ، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب ، ولا سيما في مثل هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة وقد قال الشاعر : [ البسيط ]
كلٌّ العداوةِ قَدْ تُرجى إزالَتُها . . . إلاّ عداوةَ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ{[3468]}
ولما قرر تعالى هذا الحال لهؤلاء المذكورين ، ووجبت الآية أن يعتقدهم المؤمنون بهذه الصفة ، جاء قوله تعالى : { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً } تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم ، وشرط ذلك بالصبر والتقوى ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : «لا يضِرْكم » بكسر الضاد وجزم الراء وهو من ضار يضير بمعنى ضر يضر وهي لغة فصيحة ، وحكى الكسائي : ضار يضور ، ولم يقرأ على هذه اللغة ، ومن ضار يضير في كتاب الله { لا ضير }{[3469]} ومنه قول أبي ذؤيب الهذلى :
فَقِيلَ تَحْمَّلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إنّها . . . مُطَبَّعَةٌ مَنْ يأتِها لا يَضِيرُها{[3470]}
يصف مدينة ، والمعنى فليس يضيرها ، وفي هذا النفي المقدر بالفاء هو جواب الشرط ، ومن اللفظ قول توبة بن الحمير :
وَقالَ أُنَاسٌ لا يُضِيرُكَ نَأْيُها . . . بَلَى كلُّ ما شقَّ النُّفوسَ يَضِيرُها{[3471]}
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : «لا يضُرُّكم » بضم الضاد والراء والتشديد في الراء ، وهذا من ضر يضر ، وروي عن حمزة مثل قراءة أبي عمرو ، وأما إعراب هذه القراءة فجزم ، وضمت الراء للالتقاء ، وهو اختيار سيبويه في مثل هذا إتباعاً لضمة الضاد ، ويجوز فتح الراء وكسرها مع إرادة الجزم ، فما الكسر فلا أعرفها قراءة ، وعبارة الزجّاج في هذا متجوز فيها ، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة ، وأما فتح الراء من قوله «لا يضرَّكم » فقرأ به عاصم فيما رواه أبو زيد عن المفضل عنه ، ويجوز أيضاً أن يكون إعراب قوله ، «لا يضركم » ، رفعاً إما على تقدير ، فليس يضركم ، على نحو تقدم في بيت أبي ذؤيب ، وإما على نية التقدم على «وإن تصبروا » كما قال [ جرير بن عبد الله ] : [ الرجز ]
يَا أقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أَقْرَعُ . . . إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أَخْوكَ تُصْرَعُ{[3472]}
المراد أنك تصرع ، وقرأ أبي بن كعب : «لا يضرركم » براءين وذلك على فك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز وعليها تعالى في الآية { إن تمسسكم } ولغة سائر العرب الإدغام في مثل هذا كله ، و «الكيد » الاحتيال بالأباطيل وقوله تعالى : { وأكيد كيداً }{[3473]} إنما هي تسمية العقوبة باسم الذنب ، وقوله تعالى : { إن الله بما يعملون محيط } وعيد ، والمعنى محيط جزاؤه وعقابه وبالقدرة والسلطان ، وقرأ الحسن : «بما تعملون » بالتاء ، وهذا إما على توعد المؤمنين في اتخاذ هؤلاء بطانة ، وإما على توعد هؤلاء المنافقين بتقدير : قل لهم يا محمد .
{ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها }
زاد الله كشفا لِما في صدورهم بقوله : { إن تمسسكم حسنة نسؤهم } أي تصبكم حسنة والمسّ الإصابة ، ولا يختصّ أحدهما بالخير والآخر بالشرّ ، فالتَّعبير بأحدهما في جانب الحسنة ، وبالآخر في جانب السيِّئة ، تفنّن ، وتقدّم عند قوله تعالى : { كالذي يتخبطه الشيطان } من المس في سورة البقرة ( 275 ) .
والحسنة والسيِّئة هنا الحادثة أو الحالة الَّتي تحسن عند صاحبها أو تسوء وليس المراد بهما هنا الاصطلاح الشَّرعي .
وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضِرْكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } .
أرشد الله المؤمنين إلى كيفية تلقّي أذى العدوّ : بأن يتلقّوه بالصّبر والحذر ، وعبّر عن الحذر بالاتّقاء أي اتّقاء كيدهم وخداعهم ، وقوله { لا يَضِركم كيدهم شيئاً } أي بذلك ينتفي الضرّ كلّه لأنّه أثبت في أوّل الآيات أنّهم لا يضرّون المؤمنين إلاّ أذى ، فالأذى ضرّ خفيف ، فلمَّا انتفى الضرّ الأعظم الَّذي يحتاج في دفعه إلى شديدِ مقاومة من القتال وحراسة وإنفاق ، كان انتفاء ما بَقي من الضرّ هيّناً ، وذلك بالصّبر على الأذى ، وقلّة الاكتراث به ، مع الحذر منهم أن يتوسّلوا بذلك الأذى إلى ما يوصل ضرّاً عظيماً . وفي الحديث : « لا أحد أصبر على أذى يسمعه من اللَّهِ يدعون له نِدّاً وهو يرزقهم » .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : { لا يضركم } بكسر الضاد وسكون الراء من ضارُه يضيره بمعنى أضرّه . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف بضم الضاد وضم الراء مشدّدة مِن ضرّهُ يضُرّه ، والضمّة ضمّة إتباع لحركة العين عند الإدغام للتخلّص من التقاء الساكنين : سكون الجزم وسكونِ الإدغام ، ويجوز في مثله من المضموم العين في المضارع ثلاثةُ وجوه في العربية : الضمّ لإتباع حركة العين ، والفتح لخفّته ، والكسر لأنَّه الأصل في التخلّص من التقاء الساكنين ، ولم يُقرأ إلاّ بالضمّ في المتواتر .